فالتفت كاهن بتاح إلى الرسول وقال: متى غادرت بلاد النوبة؟
فقال الرجل: منذ أسبوعين. - ومتى بلغت آبو؟ - مساء أمس.
فاتجه الكاهن نحو فرعون وقال: أيها الملك المعبود، إن الأمر يدعو إلى الحيرة الشديدة؛ فبالأمس جاء هذا الرسول المبجل من الجنوب بأنباء تمرد زعماء المعصايو، وبالأمس نفسه جاء وفد من زعماء المعصايو من أقصى الجنوب ليقدموا فروض الطاعة لمولاهم فرعون، ويرفعوا إلى أعتابه المقدسة آي الشكر على ما أولاهم من نعمة وسلام، فما أشد حاجتنا إلى من يميط اللثام عن هذه المعميات!
فكان تصريحا غريبا لم يتوقعه إنسان، فأحدث دهشة كبرى وعجبا، فشملت الرءوس حركة عنيفة، وتبادل الحكام والكهنة نظرات التساؤل والحيرة، وتهامس الأمراء. أما سوفخاتب فقد انخلع صدره ونظر إلى مولاه في ارتياع، فرآه يقبض بيده على الصولجان بشدة، وتشد عليه بقسوة حتى انتفخت عروق ساعده وانكفأ لونه، فخشي الرجل من تسلط الغضب على الملك، فسأل الكاهن قائلا: ومن أنبأك بهذا يا صاحب القداسة؟
فقال الرجل بهدوء: رأيتهم بعيني رأسي يا سيدي الرئيس؛ فقد زرت أمس معبد سوتيس، وقدم كاهنه إلي وفدا من السود قالوا إنهم من زعماء المعصايو، وإنهم جاءوا يقدمون فروض الطاعة لفرعون، وقد باتوا ليلتهم ضيوفا على رئيسه.
فقال سوفخاتب: ألا يصح أن يكونوا من النوبة؟
ولكن الرجل قال بيقين: قالوا إنهم من المعصايو، وعلى أية حال فها هنا رجل - هو القائد طاهو - اشتبك مع المعصايو في حروب كثيرة، وعرف جميع زعمائهم، فهل يتفضل جلالة الملك ويأمر بدعوة هؤلاء الزعماء إلى ساحته المقدسة، وعسى أن تزيل أقوالهم عن أعيننا غشاوة الحيرة؟
وكان الملك في حالة شديدة من القهر والغضب، ولكنه لم يدر كيف يمكن أن يرفض ما يقترحه الكاهن، وأحس الوجوه تتطلع إليه في لهفة ورغبة ورجاء، فقال لأحد الحجاب: اذهب إلى معبد سوتيس، وادع زعماء السود.
وصدع الحاجب بالأمر، ولبث الجميع ينتظرون وكأن على رءوسهم الطير. وكان الذهول باديا على وجوه الجميع. وكانوا يكظمون ما بنفوسهم وإن ود كل منهم أن يسأل رفيقه ويستمع إليه. ولبث سوفخاتب قلقا مهموما دائم التفكر يختلس من مولاه نظرات حائرة مشفقا عليه من هول الساعة، ومرت عليهم الدقائق ثقيلة ومؤلمة، كأنما تنتزع من جلودهم، والملك على عرشه يشاهد الحكام القلقين والكهنة المطرقين، لا تكاد تخفي عيناه ما يعترك في نفسه من العواطف، ثم خال الجميع أنهم يسمعون ضوضاء يحملها الهواء من بعيد، فخلصوا من نفوسهم، وأرهفوا السمع، فإذا بالضوضاء تقترب من ميدان القصر، وإذا بها أصوات تتصاعد بالهتاف، ومضت بالقرب تشتد وتقوى شيئا فشيئا حتى طبقت الآفاق. وكانت مختلطة غير متمايزة، ويفصل بينها وبين المجتمعين فناء القصر الطويل، فأمر الملك حاجبا بالذهاب إلى الشرفة ليرى ما هناك، فغاب الرجل برهة ثم عاد مسرعا، ومال على أذن فرعون وقال: إن جموع الشعب تملأ الميدان، تحيط بالعربات التي تحمل زعماء السود. - وما هتافهم؟ - يهتفون لأصدقاء الجنوب المخلصين ، ومعاهدة السلام.
ثم تردد الرجل لحظة واستدرك هامسا: ويهتفون يا مولاي لصاحب المعاهدة خنوم حتب!
ناپیژندل شوی مخ