111

إنه يريد أن يرى الوجه الصبيح المتألق بالغبطة والسعادة ليختم بصورته الفاتنة حياته، أما هي فكانت تعاني آلاما لا قبل لإنسان بها، وكانت تود لو تنفس عن صدرها المضطرم بالصراخ والعويل والهذيان، أو تلتمس الشفاء في الجنون العنيف واصطلاء نيران الجحيم، فكيف تصفو وتهدأ وتطالعه بالوجه الذي أحبه وسكن إليه دون العالمين؟ .. وكان يتابع النظر إليه برجاء، فقال بحزن: ليست هاتان العينان عينيك يا رادوبيس.

فقالت بأسى وحزن: هما عيناي يا مولاي، ولكن جف ما يمدهما بالنور والحياة. - أواه يا رادوبيس! ألا تريدين أن تنسي آلامك هذه الساعة إكراما لي؟ .. أريد أن أرى وجه رادوبيس حبيبتي، وأن أستمع إلى صوتها العذب.

ونفذ رجاؤه إلى قلبها، فكبر عليها أن تحرمه من شيء يريده في تلك الساعة السوداء، وقست على نفسها قسوة شديدة، فبسطت صفحة وجهها واغتصبت من شفتيها المرتعشتين ابتسامة وحنت عليه في سكون واطمئنان كأنما تحنو عليه، وهو يرقد رقاد غرام، فتبدى على وجهه الشاحب الذابل الرضا، وانفرجت شفتاه الباهتتان عن ابتسامة.

ولو أنها تركت لعواطفها لما وسعتها الدنيا هذيانا وجنونا، ولكنها نزلت على إرادته العزيزة، وملأت عينيها من وجهه، وهي لا تصدق أن هذا الوجه سيغيب عنها بعد لحظات قصيرة إلى الأبد، وأنها لن تراه في هذه الدنيا مهما تألمت أو تأوهت أو سكبت الدمع الحزين، وأن صورته وحياته وحبه ستغدو ذكريات ماض غريب، هيهات أن يصدق قلبها المكلوم أنه كان يوما حاضرها واستقبالها. كل هذا لأن سهما مجنونا استقر في هذا الموضع من صدره .. كيف يستطيع هذا السهم الحقير أن يقضي على آمال ضاقت عنها الدنيا بأسرها؟! .. وتنهدت المرأة تنهدا حارا صعد فتات قلبها، وكان الملك يستفرغ بقية الحياة القلقة في صدره، المضطربة في أنفاسه، وقد خارت قواه ووهنت أعضاؤه، وماتت حواسه، وأظلمت عيناه، ولم يبق منه إلا صدر يضطرب اضطرابا عنيفا، ويقتتل به الموت والحياة اقتتال القهر واليأس. وتجلى بغتة على وجهه الألم وفتح فاه كأنما يريد أن يصرخ أو يستغيث، وأمسك بيدها التي امتدت إليه في فزع لا يوصف، وصاح بقوة: رادوبيس أسندي رأسي .. أسندي رأسي.

وأحاطت رأسه بيديها المرتجفتين وهمت أن تجلسه، ولكنه شهق شهقة قوية، وأسقطت يده إلى جانبه، وانتهت عند ذاك المعركة الناشبة بين الحياة والموت. وأعادت رأسه إلى وضعه الأول بسرعة، وصرخت صرخة فزع شديدة عالية، ولكنها كانت قصيرة، ثم انقطع صوتها كأنما مزقت مسالكه، وتصلب لسانها، والتحم فكاها بشدة، وحملقت في وجه الذي كان إنسانا بعينين جامدتين، ثم لم تبد حراكا.

وأذاعت صرختها الخبر الأليم، فهرع الرجال الثلاثة إلى الحجرة دون أن تحس بهم ووقفوا أمام الهودج، وألقى طاهو على وجه الملك نظرة ذاهلة، وعلت وجهه صفرة الموت، ولم ينبس بكلمة، وتقدم سوفخاتب من الجثة، وانحنى في إجلال عظيم وقد أخفاها عنه دمع جرى على خديه وتساقط على الأرض، وقال بصوت متهدج مزقت نبراته الباكية الصمت المخيم: سيدي ومولاي، وابن سيدي ومولاي، نستودعك الآلهة العلية التي اقتضت مشيئتها أن يكون اليوم بدء رحلتك إلى عالم الأبدية. وددت لو أفتدي شبابك الغض بشيخوختي الفانية، ولكنها إرادة الرب التي لا ترد، فالوداع يا مولاي الكريم.

ومد سوفخاتب يده الهزيلة إلى الغطاء، وسجى الجثة في أناة، وانحنى مرة أخرى، وعاد إلى مكانه بقدمين ثقيلتين.

وظلت رادوبيس جاثية، في غفوة من الذهول، لا تفيق ولا تتحول عيناها عن الجثة، وقد سرى في جسمها جمود غريب كالموت، فلم تبد حراكا، ولا بكت، ولا صرخت، ظل الرجال في وقفتهم منكسي الرءوس .. إلى أن دخل أحد العبيد الذين حملوا الهودج، وقال: وصيفة جلالة الملكة.

والتفت الرجال إلى الباب، فرأوا الوصيفة تدخل يبدو على وجهها أثر الحزن الشديد، فانحنوا لها تحية، فردت التحية بإيماءة من رأسها، وألقت نظرة على الجثة المسجاة، ثم ردت ناظريها إلى سوفخاتب، فقال الرجل بصوت حزين: انتهى الأمر أيتها السيدة الجليلة.

فصمتت المرأة برهة كالذاهلة، ثم قالت: ينبغي إذن أن تحمل الجثة الكريمة إلى القصر الفرعوني، هذه إرادة جلالة الملكة أيها الوزير.

ناپیژندل شوی مخ