لكن اتساع رقعة الجزيرة على خطوط عرض واسعة، أدى إلى تباين ظروف البيئة والمناخ، مما أدى إلى تعدد مماثل في الظواهر، وبالتالي تعددية في العبادات، هذا ناهيك عن وعورة المسالك في الجزيرة، والتي أدت إلى ما يشبه العزلة لمواطن دون مواطن، خاصة تلك التي في الباطن، مما أدى إلى احتفاظها بألوان من العقائد الموغلة في قدمها وبدائيتها، نتيجة عدم الاحتكاك بالثقافات الأخرى التي تساعد على تطور الراسب المعرفي ومن ثم العقائدي.
التعدد في العبادة
وهكذا يمكنك أن تجد، إضافة لعبادة أجرام السماء وعبادة الأحجار والصخور، بقايا من ديانات بدائية كالفيتشية والطوطمية، وعبادة الأوثان وعبادة الأسلاف.
والفيتشية أكثر ديانات الجزيرة انتشارا بين أهلها، وهي تقدس الأشياء المادية كالأحجار، للاعتقاد بوجود قوى سحرية خفية بداخلها، أو لأنها قادمة من عالم الآلهة في السماء أو من باطن الأرض حيث عالم الموتى، وقد ظلت تلك العقائد قائمة حتى ظهور الإسلام.
أما الطوطمية، التي تعتقد بوجود صلة لأفراد القبيلة بحيوان ما مقدس، فتظهر في مسميات قبائل العرب، مثل «أسد، فهد، يربوع، ضبة، كلب، ظبيان ... إلخ»؛ لذلك كانوا يحرمون لمس الطوطم أو حتى التلفظ باسمه؛ لذلك كانوا يكنون عنه، فالملدوغ يقولون عنه السليم، والنعامة يكنى عنها المجلم، والأسد أبو حارث ، والثعلب ابن آوى، والضبع أم عامر، وهكذا. هذا إضافة إلى تقديس الأشجار، مثل ذات أنواط التي كانوا يعظمونها، ويأتونها كل سنة فيذبحون عندها ويعلقون عليها أسلحتهم وأرديتهم.
كذلك عبد العرب كائنات أسموها «الجن» خوفا ورهبة، ودفعا لأذاها، وظنوها تقطن الأماكن الموحشة والمواضع المقفرة والمقابر، وكان العربي إذا دخل إلى موطن قفر حيا سكانه من الجن بقوله، عموا ظلاما، ويقف قائد الجماعة ينادي: إنا عائذون بسيد هذا الوادي، وتصوروا الجن كحال العرب، فهم قبائل وعشائر تربط بينهم صلات الرحم، يتقاتلون ويغزو بعضهم بعضا، ولهم سادة وشيوخ وعصبيات، ولهم من صفات العربان كثير، فهم يرعون حرمة الجوار ويحفظون الذمم ويعقدون الأحلاف، وقد يتقاتلون فيثيرون العواصف، ويصيبون البشر بالأوبئة والجنون. وقد نسبوا إلى الجن الهتف قبل الدعوة مباشرة، حيث كثرت الهواتف أي الأصوات التي تنادي بأمور وتنبئ بأخرى بصوت مسموع وجسم غير مرئي. وقد اعتمد الكهان على تلك الاعتقادات فزعموا أنهم يتلقون وحيهم عن الجن، وأن الجن بإمكانها الصعود إلى السماء والتنصت على مصائر البشر في حكايات الملأ الأعلى مع بعضهم عمن في الأرض، وأن الكاهن بإمكانه معرفة مصائر البشر عبر رفيقه من الجان.
عبادة الأسلاف
أما أشد العبادات انتشارا وأقربها إلى الظرف المكاني والمجتمعي، فهي عبادة الأسلاف الراحلين، ويبدو لنا أن تلك العبادة كانت غاية التطور في العبادة في العصر قبل الجاهلي الأخير، حيث كان ظرف القبيلة لا يسمح بأي تفكك نظرا لانتقالها الدائم وحركتها الواسعة وراء الكلأ، وهو التنقل الذي كان يلزمه لزوجة جامعة لأفرادها، تم تمثله في سلف القبيلة وسيدها الراحل الغابر، فأصبح هو الرب المعبود وهو الكافل لها الحماية والتماسك، بوصفها وحدة عسكرية مقاتلة متحركة دوما، فاستبدلت بمفهوم الوطن مفهوم الحمى، والذي يشرف عليه سيدهم وأبوهم القديم وربهم المعبود، حيث تماهى جميع أفراد القبيلة فيه، ومن هنا كان الرب هو سيد القبيلة الراحل القديم، الذي تمثلوه بطلا مقاتلا أو حكيما لا يضارع، ومن ثم تعددت الأرباب بتعدد القبائل، ونزعت القبائل مع ذلك نحو التوحيد، وهي المعادلة التي تبدو غير مفهومة للوهلة الأولى، لكن بساطة الأمر تكمن في أن البدوي في قبيلته كان لا يعبد في العادة ولا يبجل سوى ربه الذي هو رمز عزته ورابط قبيلته، ولا يعترف بأرباب القبائل الأخرى، وهو الأمر الذي نشهد له نموذجا واضحا في المدون الإسرائيلي المقدس، حيث عاش بنو إسرائيل ظروف قبلية شبيهة، فيقول سفر الخروج: «من مثلك بين الآلهة يا رب؟» أي أن القبلي كان يعرف أربابا أخرى لقبائل أخرى، لكن ربه هو الأعظم من بينها؛ لذلك كان البدوي في قبيلته يأنف أن يحكمه أحد من خارج نسبه؛ لأن نسبه هو ربه، هو سلفه، هو ذاته، هو كرامته وعزته؛ لذلك كانت عبادة الأسلاف أحد أهم العوامل في تفرق العرب القبلي، وعدم توحدهم في وحدة مركزية تجمعهم.
ولم يأت الاعتراف بآلهة أخرى لقبائل أخرى إلا فيما بعد، بعد دخول المصالح التجارية للمنطقة، واستعمال النقد، وظهور مصالح لأفراد في قبيلة ترتبط بمصالح لأفراد في قبيلة أخرى، مما أدى لاعتراف متبادل بالأرباب، وهو الأمر الذي بدأ يظهر خاصة في المدن الكبرى بالجزيرة على خط التجارة، في العصر الجاهلي الأخير، كما حدث في مكة والطائف ويثرب وغيرها.
المستوى المعرفي
ناپیژندل شوی مخ