القسم الأول: وثائق القضية من المصادرة إلى الإفراج
كلام خارج السياق
القسم الثاني: رب الزمان
إهداء
مقدمة الطبعة الأولى
إسرائيليات
الرد على خطاب شامير في مدريد1
الدين والتطبيع في فيلم المهاجر1
المصريون والإسرائيليون في التوراة وفي التاريخ1
فلسطين وإسرائيل: الخلل في التوراة أم في التاريخ؟1
ناپیژندل شوی مخ
قدماء العرب والإسرائيليين1
معارك فكرية
هل بنى الفراعنة الكعبة؟!1
عفاريت التراث، وتراث العفاريت1
الرد اليسير على توراة عسير1
حتى لا نفسد تاريخنا: قليل من العقل وبعض من الضمير1
محمد الغزالي وسقوط الأقنعة!1
يا أبا العزائم نظرة!1
ما بين «القمني» وهذا المترجم!1
الصهاينة مرة أخرى1
ناپیژندل شوی مخ
مقالات ودراسات
حول الحاجة لتحديد المفاهيم1
حول مفهوم التراث1 «النص» بين الأزلية والتاريخية1
كشف الخدع فيما جاء به الخطاب الديني من بدع1
ذبح المفكرين على الطريقة الإسلامية1
منذ فجر التاريخ والحج فريضة دينية1
العرب قبل الإسلام: العقائد، والتعدد، والأسلاف1
متى ظهر العرب في التاريخ؟1
رب الزمان1
قصة الخلق بين ثقافة الصحراء وثقافة النهر1
ناپیژندل شوی مخ
المرأة في المأثور الديني والأسطورة1
سر الأسماء المقدسة1
القسم الأول: وثائق القضية من المصادرة إلى الإفراج
كلام خارج السياق
القسم الثاني: رب الزمان
إهداء
مقدمة الطبعة الأولى
إسرائيليات
الرد على خطاب شامير في مدريد1
الدين والتطبيع في فيلم المهاجر1
ناپیژندل شوی مخ
المصريون والإسرائيليون في التوراة وفي التاريخ1
فلسطين وإسرائيل: الخلل في التوراة أم في التاريخ؟1
قدماء العرب والإسرائيليين1
معارك فكرية
هل بنى الفراعنة الكعبة؟!1
عفاريت التراث، وتراث العفاريت1
الرد اليسير على توراة عسير1
حتى لا نفسد تاريخنا: قليل من العقل وبعض من الضمير1
محمد الغزالي وسقوط الأقنعة!1
يا أبا العزائم نظرة!1
ناپیژندل شوی مخ
ما بين «القمني» وهذا المترجم!1
الصهاينة مرة أخرى1
مقالات ودراسات
حول الحاجة لتحديد المفاهيم1
حول مفهوم التراث1 «النص» بين الأزلية والتاريخية1
كشف الخدع فيما جاء به الخطاب الديني من بدع1
ذبح المفكرين على الطريقة الإسلامية1
منذ فجر التاريخ والحج فريضة دينية1
العرب قبل الإسلام: العقائد، والتعدد، والأسلاف1
متى ظهر العرب في التاريخ؟1
ناپیژندل شوی مخ
رب الزمان1
قصة الخلق بين ثقافة الصحراء وثقافة النهر1
المرأة في المأثور الديني والأسطورة1
سر الأسماء المقدسة1
رب الزمان
رب الزمان
الكتاب وملف القضية
تأليف
سيد القمني
القسم الأول
ناپیژندل شوی مخ
وثائق القضية من المصادرة إلى الإفراج
كلام خارج السياق
من نبوءات المتنبي وتنبيهاته
لتعلم مصر ومن بالعراق
ومن بالعواصم أني الفتى
وأني وفيت وأني أبيت
وأني عتوت على من عتا •••
على قدر أهل العزم تأتي العزائم
وتأتي على قدر الكرام المكارم
وتعظم في عين الصغير صغارها
ناپیژندل شوی مخ
وتصغر في عين العظيم العظائم •••
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
وأسمعت كلماتي من به صمم
أنام ملء جفوني عن شواردها
ويسهر الخلق جراها ويختصم •••
علي نحت القوافي من مقاطعها
ليس علي إذا لم تفهم البقر
القسم الثاني
رب الزمان
ودراسات أخرى
ناپیژندل شوی مخ
إهداء
صديقي
أحمد صبري إبراهيم أغا
كنت متشددا في أمور الدين، وكثيرا ما كنت تعترض على منهجي في تجديد قراءة التراث، وتتوقع لما أكتب هزيمة منكرة، لكنك رحلت قبل أن ترى المنهج يصبح مدرسة، ولو كنت حيا لفرحت من قلبك، فأنا أعرف الناس بك، أعرف كيف كنت تحب الله والزهور وأفلام الكارتون، والنبي وسيدي «أبو العباس» والروايات الكلاسيكية، أعرف كيف كنت تحب طين مصر وشم النسيم ورياح الخماسين والحديقة اليابانية، والمتحف المصري وأم كلثوم وصديقنا التشكيلي «توران» البوذي، كذلك «بيكار».
برحيلك أيها الإنسان رحل صديقي الطفل الرائع، الأبيض الناصع، الذي آمن بالله صدقا فأحب الأرض والناس، وعاش من أجل الناس، طبق الأصل: مصري حقيقي ممن كنا نعرفهم أيام زمان.
كنت تكره منظر الدماء حتى لو كانت ذبحا حلالا، وتفرح من قلبك عندما ترى عاشقين، وتحزن بعمق لخبر عن كارثة أصابت بشرا على الشاطئ الآخر من بحر الظلمات، ثم كنت تنصت بكل جوارحك لمحدثك رغم أنك كنت تخالفه حتى النخاع، ولم ترد على من لا يعلم إساءته؛ لأنك كنت أعلم بقيمة الإنسان.
أخي يا إنسان، اسمح لي أن أقترب منك بهذا الكتاب كتبت نصفه وأنا بمستشفى القلب بين الموت والحياة، أحاول به التماس الدفء بالتماس مع ذكراك حتى آتيك أنيسا ورفيقا.
سيد
مقدمة الطبعة الأولى
قارئي!
ناپیژندل شوی مخ
أيها الصديق الرائع!
بك أمتلئ وأشعر صادقا أني كثير وقوي.
لقد قدر زماننا أن يفرزنا، فنحن فرز حراك واقع تلك الأيام؛ لذلك كان حتميا أن نلتقي هذه الحقبة تحديدا، وهو الفرز المطمئن الذي يدفع إلى التفاؤل، رغم الفرز غير المطمئن على الجانب الآخر ؛ لذلك أؤكد لك أنك وراء استمرار هذا المشروع، وبك، وبأصدقائنا - أنا وأنت - من المهمومين بقضايا الأمة والحاضر والمستقبل، الذين يتابعون معك ومعي خطواتنا الثابتة الواثقة، أقول: بكم جميعا يستمر العمل على دأبه دءوبا.
أصدقاؤك رفاق تلك السطور، يلتقون بي في كل موطن؛ في الندوة، في الشارع، في عواصم عربية متعددة، كثيرا ما تحدثنا، واستمعت بالشغف ذاته لما يطرحونه، لكنهم كانوا جميعا يحملون لي سؤالك: أين كتاب النبي موسى؟ وماذا تم بشأنه؟ بعدما انصرمت سبع سنوات على الإعلان عن بدء البحث فيه، ولما يظهر بعد؟
نعم أيها الصديق، لقد طالت الشقة، لكني أصدقك القول أن العمل لم يتوقف فيه لحظة، إلا عندما سقط الجسد صريعا منهوك القلب، ورغم الظروف الصحية التي تلابسني دون رحمة، فقد عدت إلى النبي موسى متابعا العمل لأوفيك وعدا تواعدناه، ومع تلك المصارحة، يجب إحاطتك علما أن هناك عددا من المشاكل لم تحل بعد، ويحتاج كشف آلياتها واكتشاف حلولها بعض الوقت، وبعض الصبر من جانبك.
ومن هنا - وكي أحافظ على حرارة التواصل بيني وبينك - فقد ارتأيت أن أواصلك بكتابين، أولهما هو الجزء الثاني من «حروب دولة الرسول»، والكتاب الذي تحمله بين يديك الآن ويحمل عنوان «رب الزمان».
و«رب الزمان» هو عنوان لواحدة من الدراسات التي تضمها دفتا هذا العمل، حيث يحتوي كتابنا هذا على أقسام ثلاثة: القسم الأول منها مجموعة دراسات يمكن أن تحمل جميعا عنوان «إسرائيليات»؛ لتعاملها مع المنظومة الإسرائيلية وثقافتها وخطابها المعلن، أما القسم الثاني فيضم بعض المعارك الفكرية، ارتأيت أن أجعلها متاحة لك من باب التوثيق ليس إلا، حيث انتهيت مؤخرا إلى قرار بعد الدخول في ذلك النوع من المعارك الذي يثيره أصحاب الأدلوجة السلفية، مستفيدين في ذلك مما آذى رفاقا لنا كبارا، فاكتمال المشروع أو المحاولة المستمرة في الإضافة إليه، هدف يجب ألا يضيع في صراعات قد تقبر الأمر كله.
وما دمنا بصدد التوثيق، فقد غامرنا بنشر بعض الدراسات الأولى الابتدائية هنا، وهي من محاولاتنا المبكرة التي لا شك تحمل سمات الحالة الأولية، ونماذج لها دراسة «منذ فجر التاريخ والحج فريضة دينية»، ودراسة «رب الزمان»، وغيرهما.
ثم قسم ثالث يضم مقالات ودراسات تتضافر مع منهجنا وخطواتنا التي ارتسمناها وتوافقنا عليها منذ البدء.
وغني عن التنويه، أن بعض ما ستقرأه هنا قد سبق نشره في دوريات عربية متباينة، وبعضه الآخر لم يسبق نشره، وقد كتبته إبان تواجدي في جناح القلب بمستشفى الهرم، واعتمدت في معلوماته على ذاكرتي وحدها؛ لذلك لن تجد لمثل تلك النماذج هوامش أو مراجع مدونة.
ناپیژندل شوی مخ
أضع هذا الحشد بين يديك أيها الصديق، من أجل مزيد من التلاحم بيننا، راجيا أن أكون قد عوضتك عن انتظارك - ظهور كتاب «النبي موسى» - بوقت مشحون بالقضايا التي يثيرها هذا الكتاب.
سيد القمني
إسرائيليات
الرد على خطاب شامير في مدريد1
يعنينا هنا أن نؤكد، أن كلمة «شامير» التي ألقاها على المؤتمرين بمدريد في 31 / 10 / 1991م، تشكل نموذجا - لا شك - مثاليا تماما للخطاب الصهيوني عامة بمنطقه ومحاوره الأساسية، فرغم الظروف التي ألقيت فيها كلمة إسرائيل، في ظل ضعف عربي عام وشامل، مهما سار العربان متبخترين، وتحت مظلة من السيطرة الأمريكية شبه الكاملة، ومع الاقتدار الإسرائيلي المتفوق على كافة المستويات، والذي لا يجادل فيه إلا مكابر، فإن كلمة شامير كانت على ذات الخط، وذات الدرجة، وذات القدر الذي كان الخطاب الصهيوني يراعيه دوما، ودون أن يحيد عنه أنملة. فراعت الكلمة بشكل ذكي وليس جديدا، أنها تلقى في ظرف عالمي، يتحدث عن نظام جديد، يزعم للدنيا أنه يسعى لإرساء قواعد السلام والأمن والمحبة على الكوكب الأرضي. وإن شاء فرض ذلك فرضا، وبخاصة في أشد مناطق العالم سخونة، حتى لو ثوى الجمر مؤقتا تحت رماد ظاهري، تصنعه أنظمة تابعة. كما لم يغب عن بال الخطاب أنه يتحدث إلى العالم كله، وأمام كل الشبكات الإعلامية الدولية. فوضع بحسبانه مشاعر الجماهير العريضة على تنوعها واختلاف توجهاتها، فجاءت صياغة الخطاب واضعة باعتبارها أنها كما لو كانت تخاطب كل فرد على حدة. ومن ثم فإننا نفترض أن الخطاب قد أحاط تماما بكل الاغراض المطلوبة منه، واستخدم كل الممكنات من أساليب متاحة تتناسب مع المقام، وعمد إلى كل طرق الإقناع وعرض قضيته كاملة تامة شاملة مانعة، بهدف كسب أكبر تأييد جماهيري ممكن، حيث إنه حاصل سلفا على تأييد النظام الجديد بزعامة الولايات المتحدة
الصهيوني، وسنحاول قراءة طبيعة هذا الخطاب ومكوناته وأغراضه ومناهجه، بعرض سريع قدر ما تسمح به المساحة المتاحة لعرض تلك القراءة.
والمدقق في الخطاب يمكنه أن يلحظه وهو يتحرك على عدة محاور، تم ربطها ببعضها في منظومة شديدة الجودة، ثم تركيبها معا بتقنية ومهارة عالية، فكان المحور الأساسي للحركة جيئة وذهابا. ومركز الحركة هو التركيز على الاستجابة النفسية للجماهير، فقدم افتراضه المسبق لهذه الجماهير بأنه يخاطب كل واحد منهم كشخص متحضر، بلغ من الحضارة قمتها، وهذا وحده لون من تملق المستمع، لكن بحيث يترك في نفسه أثرا مطلوبا، هو أن الخطاب يتعامل معه بكل احترام؛ لأنه شخص متحضر حتى لو لم يكن المستمع يستحق هذا الاحترام، أو يحوز تلك الدرجة الحضارية، لكنها على أية حال الطريقة المثلى لجعل المستمع يتجاوب مع كم الاحترام وكم الحضارة المفترض فيه! وهكذا فقد سلم الخطاب للمستمع أنه رجل متحضر، مسالم، ينفر من الحروب، يريد الرفاة لجميع الأمم وكل الشعوب، بلا استثناء، يرفض التعصب بكافة أشكاله، وينفر من الاضطهاد على أسس عرقية أو دينية، بسبب اللون أو الجنس أو العقيدة.
وبإيجاز، فالخطاب يفترض في المتلقي ليبرالية ملائكية، ومن هنا كان الكسب الأول المطلوب، على المستوى السيكولوجي، هو أن يقول للمتلقي أنت متحضر؛ ولهذا نحن نحترمك ونثق في حكمك على ما سنقول، حتى لو كان هذا المتلقي وغدا أمريكيا، استمتع يوما بحرق الأطفال في ملجأ العامرية في بغداد، وتعامل مع أزرار طائرته وقنابله وضحاياه، بحسبانها من ألعاب «الآتاري» التليفزيونية. هذا ما كان عن المحور الأساسي «التأثير النفسي» في طبيعة الخطاب الإسرائيلي، واستثماره أدوات منهجية، أهمها المعاني النظرية البحتة للتحضر، بغض النظر عن كون هذه المعاني حقيقة فعلية أم لا. «وهو ما يذكرنا برئيس دولة عربية يجد غاية لذته في السخرية من مستمعيه، ومن سلوك أبناء شعبه!»
أما المحور الثاني، الذي ترتبط حركته بحركة المحور الأول، فهو الذي يركز على الجانب الحقوقي، وهو لا شك أهم أعمدة التعامل بين المتحضرين، ويتم فيه تأكيد الحقوق التاريخية الثابتة لليهود في أرض فلسطين منذ آلاف السنين. وهنا يتداخل المحور الثالث على نفس الميكانيك، لينقل الأمر الحقوقي المسلم به حضاريا إلى اليد الإلهية، منتقلا بذلك إلى المحور الديني، فتلك الحقوق قرارات إلهية، وهبة سماوية، واختيار أحكم الحاكمين الذي فضلهم على العالمين، وهو القرار الذي يؤمن به إلى جانب اليهود، العالم المسيحي الغربي كله؛ وذلك باحتساب التوراة صاحبة ذلك القرار الحقوقي القدسي، بعهديه «القديم أو التوراة، والعهد الجديد أو الأناجيل» مع البصمة التأكيدية، والقول التوثيقي على الناموس التوراتي، بلسان المسيح: «ما جئت لأنقض الناموس. ما جئت لأنقض، بل جئت لأكمل.» وهنا، وبسرعة يتم إدخال المحورين الحقوقي والتاريخي، مع المحور الإيماني الديني على ميكانيك الحركة المحورية الأساسية «النفساني» لتتشابك الحلقات التي تؤدي إلى راحة ضمير المؤمن المسيحي الغربي تماما، والمتحضر جدا، إزاء مساهمته بالموافقة على تأمين حياة هؤلاء المؤمنين، لتحقيق كلمة الله الصادقة الثابتة، مع ما يفترض في المستمع المتحضر من رغبة في إثبات تحضره، بتأمين كل الحقوق لكل العقائد والديانات مهما اختلف معها.
ضمير العالم
ناپیژندل شوی مخ
ولإحداث الأثر المطلوب من المحور الأساسي «النفساني» فقد ترك الرجل أثرا طيبا فعلا؛ فكان رقيق الحاشية، عف اللسان، وديعا كالحملان، يمد يده إلى جيرانه يستجديهم الصداقة والأمان، رغم أنه الأقدر والأقوى، لكنه من جانب آخر قام يردد: «إن الموضوع ليس موضوع أرض، إنه موضوع وجودنا ذاته.» فأي لون من التنازل يعني دمار شعب إسرائيل المسالم وإزالته من الوجود. وذلك في ضوء المقارنة التي قدمها لتعداد شعب إسرائيل «4 ملايين»، مع من حولهم من عتاة القتلة المتعطشين للدماء، وعددهم «170 مليون عربي» مع ضآلة مساحة أرض إسرائيل التي تستدعي الشفقة «27 ألف كم»، وسط محيط عربي شرس يبلغ «24 مليون كم». والحجة على المستوى النفسي مع تغييب الحقائق الأخرى، تبدو غاية في الوجاهة، يبدو فيها شعب إسرائيل بطلا للخير يدافع عن وجوده وسط غابة من البشر، مما يستدعي مشاعر الاشمئزاز من العرب الذين يستأسدون على الدولة الوديعة!
وقد عمد الخطاب - بذكاء - إلى استحضار مشاعر أخرى تمتزج مع مشاعر الاشمئزاز، عندما ذكر أن كل عدوان عربي على إسرائيل تم دحره! فتمتزج مع المشاعر الأولى مشاعر الاحتقار أيضا مع الاستهانة والاستخفاف، من شأن أجلاف البوادي، الذين يتحينون فرصة لا يجيدون حتى صنعها والوصول إليها. رغم ذلك فالرجل يمد يده إلى جيرانه أمام كل العالم ويشرح ما وقع على شعبه من مظالم، وذلك في قوله: «وللأسف فإن الزعماء العرب الذين كنا نود مصادقتهم، رفضوا الدولة اليهودية في المنطقة، وادعوا أن أرض إسرائيل هي جزء من الأرض العربية! وانطلاقا من تحدي الشرعية الدولية، فقد حاولت الدول العربية احتلال وهدم الدولة اليهودية.»
وهكذا يختفي الفلسطينيون تماما ويصبح العرب - بلا سبب مفهوم أو واضح - يريدون تدمير إسرائيل المسالمة، التي تسعى لصداقتهم وحسن جيرتهم؛ لذلك أصبحت المسألة ليست مسألة أرض، إنما مسألة وجود شعب إسرائيل، وسط الحشد العربي الشرير! ومن ثم عمد الخطاب مباشرة إلى الضغط على ضمير العالم بمأساة الشعب اليهودي، الذي لاقى صنوف الاضطهاد، وأنه قد آن الأوان كي يصحو ضمير العالم، ليرد لهذا الشعب أبسط الحقوق، وهي الأمن، بل ويطلب من اليهود الصفح والمغفرة، «ألسنا عالما يدعي التحضر؟» ومن هنا أخذ يوجه حديثه إلى كل فرد في هذا العالم الخاطئ ويقول: «لقد تمت ملاحقة اليهود عبر التاريخ في كل القارات تقريبا، وتعرض اليهود للاضطهاد والتعذيب والذبح، وشهد هذا القرن خطة إبادة نفذت على أيدي النظام النازي، وهذه الكارثة والإبادة الجماعية المنقطعة النظير، والتي قضت على ثلث شعبنا، تمت في واقع الأمر، وأمكن تنفيذها؛ لأن أحدا لم يدافع عنا، فقد كنا بلا وطن، ولكن هذه الكارثة هي التي جعلت المجتمع الدولي يعترف بمطالبنا، القائمة على حقنا في أرض إسرائيل.» وهنا تجدنا مضطرين إلى تأجيل تناول المحورين «التاريخي والديني» لنحاول أن نفهم الآن: كيف أمكن للمذابح النازية ضد اليهود أن تؤدي إلى اعتراف العالم بحق إسرائيل في فلسطين، وقيام الدولة الصهيونية على أرضها؟ ونلاحظ أن الخطاب - بعد تهيئة المستمع نفسيا وعاطفيا - مع إشعال جذوة الضمير الحضاري وعقدة الذنب - ينتقل فورا إلى إعلان أنه رغم ظلم العالم لليهود، فليس لأحد حق الادعاء بقيام دولة إسرائيل؛ لأن ضحايا اليهود أيام النازي كانوا الثمن المدفوع سلفا، فقدموا أنفسهم قربانا على مذبح قيام الدولة. هذا بالطبع حق اليهود التاريخي الديني المعلوم في تلك الأرض، وكل ما في الأمر أن العالم ربما نسي تلك الحقيقة بعد طول اغتراب اليهود عن فلسطين، وما حدث من النازي كان فقط عامل الإنعاش للضمير العالمي الخاطئ.
الخطاب الصهيوني بذلك يعمد إلى لون فاضح من التزوير والتلفيق، فرغم أن المذنب هو النازي، فهو لا يذكر أبدا أنه ليس من المقبول حضاريا وحقوقيا وإنسانيا أن يدفع الفلسطينيون وزر الجريمة النازية، والمعلوم أنه في فلسطين تحديدا، وعندما وقع اضطهاد على اليهود كان بداية من جانب الرومان الذين دمروا الهيكل الثاني، وشتتوا اليهود في بقاع الدنيا، لأسباب تاريخية معلومة. أما الاضطهاد الثاني فقد جاء على يد الصليبيين، عندما استولوا على القدس عام 1099م، وقاموا بحرق اليهود داخل معابدهم؛ مما أدى إلى هروبهم الجماعي من فلسطين، وهو ما وضح في سقطة لسانية بخطاب شامير عندما قال: «إن اليهود كانوا موجودين باستمرار في فلسطين باستثناء فترة المملكة الصليبية القصيرة.» لكنه بالطبع لم يذكر السبب، كما لم يذكر أن سبب تواجدهم بعد ذلك في فلسطين، كان نتيجة سماح صلاح الدين لهم بالعودة بعد استعادة العرب لها من يد الصليبيين.
أما إشارة الخطاب إلى أن كل شعوب العالم قد اضطهدت اليهود الذين عاشوا بين ظهرانيهم ، فهو أمر يستحق الدهشة والتساؤل؟! لماذا تجمع شعوب مختلفة المواطن، متباينة المشارب والعقائد، على كراهية مواطنين مثلهم، ولكن من ملة اليهود؟! هذه فزورة لا يحلها إلا السيد شامير.
العلاج النفسي
واللافت للنظر هو تركيز الخطاب الصهيوني الدائم على الجريمة الهتلرية ضد اليهود، ففي كل «حدوته» وفي أي مناسبة (وبدون مناسبة) يتكرر ذكر المذبحة النازية لليهود التي اكتست بطابع ديني. بحيث لا يذكر هتلر، إلا وتذكر كراهيته للدين اليهودي وأتباعه. وأنه ما ذبح هؤلاء إلا لكونهم يهودا! حتى نسي العالم أن ضحايا النازية من غير اليهود قد بلغ ستين مليون إنسان، وأن الضحايا المدنيين فقط وصل عددهم إلى ثلاثة ملايين بولوني، وستة ملايين سلافي، وضاع ذكرهم وسط الضجيج والصخب الصهيوني، والندب والعويل على شهداء البشاعة البشرية من اليهود، والذين اتخذ موتهم طابعا قدسيا، كما لو كانت ضحايا هتلر من اليهود فقط! وأنهم فقط أصحاب حق في القداسة، وأصحاب حق في جلد ضمير الدنيا بالسياط، ووسيلة لكسب التأييد المادي والمعنوي. وإذا كانت هذه الجريمة كما يقول خطاب شامير بسبب صحوة الضمير العالمي لإقامة دولة إسرائيل، فلا شك أن الخطاب العربي الفاشل، كان وراء خمود ذات الضمير أمام إبادة وتشريد الفلسطينيين! إضافة إلى العوامل الأخرى المتعددة، البعيدة عن موضوعنا هنا بشأن طبيعة الخطاب الصهيوني. لكنها على أية حال توضح لنا لماذا لم تقم دولة إسرائيل على أشلاء ألمانيا المنهزمة، وقامت في فلسطين؟
ثم يعمد الخطاب الصهيوني مرة أخرى إلى تشغيل المحور السيكولوجي، فبعد أن يعدد خطايا العالم في حق شعب الرب المختار، ويضع الضمير العالمي في حالة أرق، وشعور حاد بالذنب والخطيئة، فإنه يسارع متبرعا بتقديم العلاج النفسي والبلسم الشافي لذلك الضمير المعذب، حتى يكون الجميع ممتنين وشاكرين، فيربط الخطاب بين الاضطهاد النازي وبين الأشرار العرب الذين يكيدون للدولة الوليدة، ليضع النازي والعرب داخل إطار واحد، فيمتزج الشر العربي بالشر النازي، ويصبح العالم مسئولا تمام المسئولية إزاء الشروع في الجريمة الجديدة، وأن يمنعها قبل أن تقع، وعلى الإنسانية أن تقوم بواجبها إزاء ما يمكن حدوثه، وهو ما يلقى صداه مع العقيدة المسيحية التي تقبل بفكرة الضحية، مقابل الفداء والخلاص، أو بالنص الإنجيلي الذي يضع مشروعية رفع الخطيئة: «بدون دم وسفك دم لا تحصل مغفرة.»
والضحية موجودة والحمد لله، وعلى الفلسطينيين أن يقدموا الفداء لخطايا العالم، ويرفعوا الإصر عن ضميره اليقظ؛ لأن المسيح نفسه، وهو الإله، قد تمت تضحيته على الصليب من أجل راحة ضمير البشرية ورفع الخطيئة عن بني آدم، فهل الفلسطينيون أحسن من الله؟
وهكذا تجد البشرية الغربية المتحضرة المعذبة، التواقة إلى التكفير عن ذنبها - لكن بعيدا عن جلدها - خروفا يذبح بدلا منها، لتعود لتلك النفس راحتها، واتزانها وتماسكها، وهو ما أجاد الخطاب الصهيوني صناعته على الدوام، وباقتدار. ومن ثم تبرز إلى جوار طبيعة الخطاب التي تستهدف الجانب النفسي، مع استثمار المعاني النظرية لمفهوم التحضر، التي لا بد أن تنفر من الاضطهاد بسبب اللون أو الجنس أو العقيدة، طبيعة أخرى تستثمر البعد الديني. فاليهود لم يضطهدوا إلا لأنهم يهود، ويصبح من المنطقي ألا يطلبوا التعويض ممن اضطهدوهم بأرض في أوروبا، لسبب ديني بسيط معلوم، هو أن أوروبا ليست أرض اليهود، أو كما قال موشى ديان لصحيفة لوموند في 5 / 10 / 1971م: «بما أننا نملك التوراة، وأننا شعب التوراة، فلا بد أن نملك أيضا أرض التوراة.»
ناپیژندل شوی مخ
وتتم المغالطة الكبرى بالخلط السريع للأوراق، ولا يبقى مكان في العالم يصلح لليهود، ومن حق اليهود، وترضى به النفس الأوروبية المعذبة دون أن تخسر أرضا، سوى الوطن اليهودي الذي سلبه الفلسطينيون، والأمر مشروع قدسيا بقرار إلهي بالكتاب المقدس المصدق وتلك إرادة الله الذي لا راد لقضائه!
التزوير في الخطاب
والوقوف مع الترنيمة المعذبة لليهود حول الجريمة النازية، يكشف لنا بعدا آخر بالخطاب الصهيوني، وهي وقفة للتذكير بمجموعة حقائق، تساعد على حل اللغز الذي طرحه السيد شامير، في قوله إن المذبحة الهتلرية، كانت السبب الحقيقي وراء قيام دولة إسرائيل!
ربما مازلنا نذكر ما حدث في بغداد مع بدء الهجرة اليهودية المنظمة إلى إسرائيل، بتخطيط وإشراف الصهاينة، عندما تردد يهود العراق في قيد أسمائهم بكشوف الهجرة، فلجأت العصابات الصهيونية المسلحة إلى إلقاء القنابل على مركز التجمع اليهودي لإشعارهم أنهم في خطر، لدفعهم للهجرة إلى إسرائيل. وهو الحدث الذي تزامن مع حالات أخرى شبيهة في مواقع أخرى من العالم. كما تزامن مع بداية النشاط الفعلي للصهيونية العالمية. وكان أخطر تلك الأساليب هو ما حدث في ألمانيا النازية، في قضية إنجمان المعروفة. وما كشفت عنه د. حنا أرندت في كتابها «إنجمان في القدس»، وأوردت به مجموعة وثائق تثبت وجود تعاون وثيق بين السلطات النازية، وبين المؤسسة الصهيونية في فلسطين، وأن من بنود ذلك التعاون، أنه كان بإمكان أي يهودي ألماني أن يهاجر إلى إسرائيل، شريطة أن يحول أمواله إلى بضائع ألمانية. وقد قدم إنجمان مساحات من الأرض للصهاينة كمعسكرات تجمع لليهود ولتهجيرهم بالإكراه إلى فلسطين.
أما ما حدث ليهود تلك المعسكرات، فهو البشاعات التي كشفت عنها قضية كاستنر، الذي باع يهود تلك المعسكرات للنازي، بالتعاون مع إنجمان، وهي من القضايا التي هزت إسرائيل، وكشفت أن زعماء الصهاينة وقياداتهم قاموا بتجهيز أغنياء اليهود إلى فلسطين للحصول على الأموال، إضافة للعناصر الفعالة كالعلماء والشباب، بينما تركت في المعسكرات بقية اليهود من عناصر غير مرغوب فيها، وهو من تمت إبادتهم على يد النازي، بعلم القيادات الصهيونية وتعاونها، لكسب العطف والتأييد العالمي، وهو ما أدى بعد ذلك وبالفعل إلى قيام دولة إسرائيل.
وبموجب الاتفاق، قام إنجمان بتأمين قطار خاص لحمل المهاجرين من النخبة المختارة الممتازة، ورافقهم بعض النازيين إلى الحدود لضمان سلامتهم، وقد قال كاستنر أن عددهم كان 1684 شخصا غادروا إلى إسرائيل، مقابل 476000 تمت التضحية بهم في المجزرة، وهو الأمر الذي يفسر لنا تأكيد شامير على أن تلك المجزرة كانت السبب وراء قيام إسرائيل.
وقد شهد على تلك المؤامرة الكبرى أحد القلائل الذين تمكنوا من الفرار من معسكر «أوشيتز»، هو «رودلف فربا»، وذلك في جريدة لندن ديلي هيرالد، عام 1961م، بقوله: «نعم أنا يهودي، لكني أتهم قادة اليهود بأنهم أبشع ممارسي الحروب، فتلك المجموعة كانت على علم مسبق بما سيحدث لإخوانهم في غرف الغاز النازية، ومن بينهم كاستنر رئيس مجلس يهود هنغاريا، وقد استقل عدد كبير من يهود هنغاريا الفقراء قطارات النقل طائعين دون مقاومة؛ لأنهم كانوا قد أخذوا تطمينات من القادة الصهاينة أنهم في طريقهم إلى الحرية، بينما كانوا يساقون إلى الإعدام.» أما جريدة صوت الشعب الإسرائيلية فقد قالت في عام 1955م: «إن كل أولئك الأشخاص، الذين ذبح الألمان أقرباءهم في هنغاريا، يعلمون الآن وبوضوح أن قيادات الصهاينة هي التي دبرت الجريمة مع النازي.»
ولما فاحت الفضيحة، وقدم كاستنر للمحاكمة في إسرائيل بضغط الرأي العام لكشف الحقائق، عقبت صحيفة يديعوت أحرونوت في 1955م بقولها: «إنه إذا تم تقديم كاستنر للمحاكمة فإن الدولة برمتها ستنهار، سياسيا ووطنيا، نتيجة ما ستكشف عنه تلك المحاكمة.» ولم يمض قليل على بدء المحاكمة، حتى سقط كاستنر صريعا رميا بالرصاص من مجهول، وكشف بعد ذلك أن قاتله هو إكشتاين العميل السري في جهاز الموساد.
وكان السؤال هل من المعقول أن تقدم القيادة الصهيونية هذا العدد الهائل من اليهود للذبح؟ يجد إجابته أولا في قيام الدولة، وثانيا شهادات منها شهادة «موشى شوايفر» مساعد كاستنر الذي قال بهدوء: نعم كان يهود هنغاريا عددا كبيرا، لكنهم للأسف لم يكونوا يتمتعون بأي أيديولوجية يهودية.
أما قائد الهاجاناه «فايفل بولكس»، فقد التقى بانجمان في جروبي القاهرة، وأبدى رضاه التام عن سير التعاون اليهودي مع النازي كما هو مرسوم له (انظر مجموعة وثائق التعاون النازي الصهيوني، كالتون، أستراليا).
ناپیژندل شوی مخ
لكن السؤال الأكثر منطقية هو إذا كانت الجريمة النازية قد حدثت بالفعل، فلماذا تطوع النازي وسمح للنخبة اليهودية بالهجرة؟ والسؤال وجيه، لكن الوقائع تقول ما يفيدنا بإجابة مقنعة، فلعلنا نذكر أن منظمة الأورجون اليهودية في فلسطين، قد قامت بإعلان الحرب رسميا ضد حكومة الانتداب البريطانية عام 1944م. ونظمت نشاطات إرهابية متتالية ضد القوات البريطانية في فلسطين، وهو ما جاء في سقطة أخرى بخطاب السيد شامير في مدريد، في قوله: «لقد قامت الدولة اليهودية وتكونت؛ لأن الطائفة اليهودية الصغيرة بفلسطين أيام الانتداب ثارت على الاحتلال الإمبريالي!» وسقطة السيد شامير هنا فاضحة، ففي الوقت المفترض فيه، أن اليهود يحاربون الألمان، وأنهم ضحية المجازر النازية، كان اليهود في فلسطين يقومون بنشاطات إرهابية ضد بريطانيا! الأمر واضح تماما، تؤيده العلاقات غير الخفية التي قامت بين عصابة «شيترن» اليهودية بفلسطين، وبين إيطاليا الفاشية، وشنت بموجبها عددا من الهجمات الإرهابية على البريطانيين بفلسطين، أما مناحيم بيجن زعيم عصابة الأورجون، فقد وصل لفلسطين كجندي في الجيش البولوني لمقاتله النازية، ثم فر من الجندية، ونظم عصابته لقتال البريطانيين وقتل الفلسطينيين.
هكذا تمت الخطة الصهيونية على ثلاث محاور: محور يهود أوروبا، ومهمته قتال النازية لكسب تأييد الحلفاء، ومحور ألمانيا للتخلص من نفايات يهودية لا تؤمن باليهودية وحقوقها التاريخية، ليتم بها كسب عطف العالم والضغط على ضميره في أشد الظروف العالمية توترا. ومحور ثالث كان فيه صهاينة فلسطين يقدمون للنازي خدماتهم الجليلة، ويقاتلون بريطانيا لصالح دول المحور، تنفيذا للاتفاق غير المعلن.
وهكذا تنكشف لنا أهم جوانب طبيعة الخطاب الصهيوني، وهو التزوير الفاضح، وتهديد ضمير العالم دوما بدم اليهود المسفوك، لأنه إذا كان بدون دم وسفك دم لا تحصل مغفرة، فإن ناموس الصهيونية قد أكد أنه بدون دم وسفك دم لا تقوم لإسرائيل دولة.
الدين والعنصر
وقد كان مناط احتجاج الخطاب الصهيوني في مدريد، هو أن الزعماء العرب الذين كنا نود أن نصادقهم رفضوا الدولة اليهودية في المنطقة، وادعوا أن أرض إسرائيل هي جزء من الأرض العربية. وهنا تحتشد مجموعة من المغالطات والتلفيقات، فالخطاب لا يذكر الأرض باسمها التاريخي الصادق «فلسطين»، إنما يشير إليها بوصفها «أرض إسرائيل»، هو ما يستدعي مجموعة تداعيات تاريخية، مع مداخلات تلفيقية تربط تلك الأرض بشعب واحد فقط، عاش مع مجموعة شعوب أخرى على تلك الأرض على مر العصور التاريخية، لكن بحيث يبدو أنه لم يكن هناك سوى شعب واحد هو الشعب الإسرائيلي.
والخلط مقصود، وينطلق من خلط أساسي في مفهوم الخطاب الصهيوني وأدلوجته، ما بين مفهوم العرق أو الجنس وبين مفهوم الدين، بحيث يتداخلان ويصبح العرق دينا، والدين عرقا. كما يسمح بتداخل آخر مع التراث الديني للمسيحيين، بإجراء التطابق في الخطاب بمهارة علاقات التطابق الدائري في علم المنطق، أو أنظمة التكافؤ الرياضية، فالخطاب يتحدث عن رفض العرب «للدولة اليهودية»، وادعائهم أن أرض إسرائيل عربية فتتطابق هنا الدائرة الكلية لمفهوم الدين اليهودي، وتتكافأ مع الدائرة الكلية لأرض فلسطين. لكن بعد حذف «فلسطين» ووضع «إسرائيل»، لتصبح فلسطين إسرائيل، ويصبح شعبها الوحيد هو الشعب الإسرائيلي، والدين الوحيد الذي تواجد فيها على مر العصور، هو الدين اليهودي وحده دون بقية الأديان.
والمغالطة الثانية تتضح في إشارته إلى من ناصبوا الدولة الإسرائيلية العداء، هم «الزعماء العرب». المسألة هنا طموحات من الزعامات، مع غزل رقيق للشعوب العربية، فنحن أصدقاء؛ كشعبين، وأهل، وبنو عمومة. المشكلة فقط في طموحات الزعماء للتوسع.
أما المغالطة الثالثة فهي إجراء المطابقة السريعة بين مفهوم الدين اليهودي، وبين العنصر أو الجنس الإسرائيلي، الذي عاش كقبيلة ضمن عدد كبير من الشعوب الأخرى - التي ذكرتها التوراة - في فلسطين، مثل الكنعانيين «الفلسطينيين»، والحيثيين، والعمونيين والأدوميين، والموابيين، والفرزيين، واليبوسيين ... إلى آخر القائمة المعروفة. ثم تجري المطابقة الدائرية مرة أخرى بين اليهودية كدين بعد أن أصبحت جنسا، وبين يهود اليوم المتناثرين بين جنسيات العالم على تفرقها، بحيث يظهر هذا الشتات غير المؤتلف كما لو كان جنسا واحدا، وعرقا بذاته، لمجرد أنهم يدينون بدين واحد هو اليهودي، بحيث تنطلي الأكذوبة الكبرى على جماهير الدنيا، تأسيسا على مدخل منطقي سافر التزوير، وعلى أساس ديني عقائدي، ينهض على أسس أسطورية، خلقت تتابعا عرقيا عنصريا بالكتاب المقدس لشعب إسرائيل القديم، بحيث يبدو يهود اليوم كما لو كانوا ينحدرون عن الآباء التوراتيين الأوائل، إبراهيم وإسحاق ويعقوب.
وربما ساهم في ابتلاع البعض لتلك الفرية، خاصة المتدينين، هو انعزال أصحاب الديانة اليهودية عن غيرهم في كل المواطن التي عاشوا فيها، بحيث بدوا كما لو كانوا محافظين تماما على نقاء البذرة الإبراهيمية منذ ألوف السنين في أصلابهم الطاهرة، وهو افتراض يقوم على التسليم بلون خارق من العفاف الجنسي المنقطع النظير، وهو ما لا تنطق به سيرة بنات اليهود، لا اليوم، ولا حتى في العصور التوراتية
وبنظرة سريعة عجلى على إصحاحات الكتاب المقدس يمكنك أن تجده يموج بالصخب الجنسي. ونموذجا لذلك ما جاء به مع الرجل الأول في تاريخهم، البطرك إبراهيم، الذي حكى الكتاب عنه: «فانحدر إبرام إلى مصر، وقال لساراي امرأته: إني قد علمت أنك امرأة حسنة
ناپیژندل شوی مخ
فرعون، فصنع إبرام خيرا بسببها، وصار له غنم وبقر وحمير وعبيد وإماء وأتن وجمال» (سفر التكوين، 21).
وهكذا نجد البداية لا تبشر بخير، مع هذا الادعاء بالنقاء الجنسي على مر العصور. ولسنا هنا في مقام الدفاع عن نبي جليل، لكن المتابع للأسفار يجد النبي «إرميا» ينوح على تفشي الزنا بين بنات مملكتي يهوذا وإسرائيل، ويقول: «هل رأيت ما فعلت العاصية إسرائيل، انطلقت إلى كل جبل عال وإلى كل شجرة خضراء، وزنت هناك، ولم تخف الخائنة يهوذا أختها، ولم تخف الخائنة يهوذا أختها، بل مضت وزنت هي أيضا» (سفر إرميا، 30). «وصهلوا كل واحد على امرأة صاحبة» (إرميا، 50). بل إن الرب يهوه أخذ ينادي نساء شعبه المختار: «أرفع ذيلك على وجهك فيرى خزيك، فسقك وصهيلك، ورذالة زناك على الآكام، في الحقل رأيت مكرهاتك، ويل لك أورشليم، لا تطهرين حتى متى؟» (إرميا، 13) ثم ينادي مملكة يهوذا: «زنيت على اسمك وسكبت زناك على كل عابر، وصنعت لنفسك مرتفعات موشاة وزنيت عليها، وصنعت لنفسك صور ذكور وزنيت بها، وفرجت رجليك لكل عابر، وأكثر زناك، وزنيت مع جيرانك بني مصر الغلاظ اللحم الذين منيهم كمني الحمير، وزدت في زناك لإغاظتي، وأسلمتك لمرام مبغضاتك بنات الفلسطينيين، اللائي يخجلن من طريقك الرذيلة، أعطيت كل محبيك هداياك ورشيتهم ليأتوك من كل جانب للزنا بك، وصار فيك عكس عادة النساء في زناك؛ إذ لم يزن وراءك، بل أنت تعطين أجرة، ولا أجرة تعطى لك، فصرت بالعكس» (سفر حزقيال، 16).
وهذا قليل من كثير. وربما كان شبق بنات صهيون، الذي كان يدفعهن إلى الصهيل عند الوصال «بتعبير الكتاب المقدس»، وإلى صناعة ذكور صناعية لمزيد من الإشباع، ودفع الأجور للرجال، وهو الذي دفع دولة إسرائيل الحالية، إلى وضع قانون لا يعتبر الفرد بموجبه يهوديا، إلا إذا كانت أمه يهودية، ومن ثم أصبح النسب اليهودي للأم لا للأب. ولو طبقنا ذلك القانون على «داود» مؤسس المملكة التوراتية القديمة، وعلى ولده «سليمان» أشهر ملوكهم، فسنجد الأول حفيدا لامرأة تدعى «راعوث» لم تكن من بني إسرائيل جنسا ولا تدين باليهودية. بل كانت موآبية، أما سليمان فقد رزق به أبوه «داود» من امرأة حيثية، لا يهودية ولا إسرائيلية، وطبقا للقانون، فإن كليهما ليس يهوديا ولا إسرائيليا، وإنما فلسطينيان، لأن الأمهات فلسطينيات.
الجانب الحقوقي
أما المغالطة الكبرى في كلمة السيد شامير فكانت في قوله إن الزعم بأن أرض إسرائيل أرض عربية مجرد ادعاء، فينتقل الخطاب إلى المحور التاريخي، أو «الحقوقي الديني التاريخي معا»، ليقول دون أن يرف له جفن: «إننا الشعب الوحيد الذي ظل على أرض إسرائيل بدون توقف لمدة أربعة آلاف عام متصلة، ونحن الشعب الوحيد الذي كانت أورشليم عاصمته، ونحن الشعب الوحيد الذي توجد أماكنه المقدسة فقط في أرض إسرائيل.» ورغم ما في مقولة الأربع آلاف سنة من مغالطة تاريخية صارخة، ولا تمت للأمانة بصلة، ولأننا هنا في مقام قراءة طبيعة الخطاب وليس الرد بالوثائق، فإن الخطاب يريد أن يقول للجماهير ببساطة: إن بني إسرائيل «متطابقا معهم يهود اليوم» كانوا أصحاب أرض فلسطين من أقدم العصور التاريخية.
وما دام الرجل يتحدث كمؤمن صادق الإيمان، حريص على عقيدته ومحارم دينه. صادق العلاقة بتوراته إلى الحد الذي دفعه إلى ترك المؤتمرين في مدريد، ليقضي عطلة السبت متهجدا مع بني جلدته، فلا مشاحة في أن اختبار صدق الخطاب بالمطابقة مع الكتاب المقدس، يمكن أن يضع طبيعة ذلك الخطاب على محك المصداقية من عدمها.
وبالعودة إلى الكتاب المقدس نجده يحكي لنا أن إبراهيم أرومة اليهود، وأول رجل ذا شأن في تاريخهم، لم يكن فلسطينيا ، إنما جاء فلسطين غريبا من بلد بعيد يدعى «أور الكلدانيين» في رحلة استغرقت خمسة عشر عاما. وعندما وصل فلسطين مع عائلته الصغيرة، يقول الكتاب المقدس: «كان الكنعانيون حينئذ في الأرض» (سفر التكوين، 12)، وإن إبراهيم قد هبط ضيفا على ملك مدينة جرار المدعو أبيمالك، ويصف المقدس تلك الأرض بأنها «أرض الفلسطينيين» (تكوين، 21)، وإن أبيمالك كان «مالك الفلسطينيين» (تكوين، 26)، وعندما قتل أبناء يعقوب حفيد إبراهيم بعض الفلسطينيين بعد حالة زنى مع شقيقتهم، قال لهم يعقوب المعروف باسم إسرائيل «كدرتماني بتكريهكما إياي عند سكان الأرض الكنعانيين، وأنا نفر قليل» (تكوين، 34). وعليه لو سلمنا للرجل الحريص على محارم دينه يوم سبته بأن الآباء التوراتيين الأوائل كانوا في فلسطين منذ أربعة آلاف عام، فإن مقدسه يؤكد أنهم دخلوها ضيوفا قليلي العدد على أهلها الكنعانيين «الفلسطينيين» بل كانت فلسطين عندما وصولها ممالك ذات حضارة ونظام اجتماعي وسياسي، أما مهجر الأب الأول إبراهيم، وموطنه الأصلي، فقد أثبتنا أنه لا يقع ضمن المنطقة بكاملها وعلى الإطلاق، وإنما يقع في جبال أرارات بأرمينيا، وذلك في كتابنا «النبي إبراهيم والتاريخ المجهول»، وقدمنا بسبيل ذلك مجموعة من القرائن والبراهين، التي ستظل صادقة حتى تجد من يرد عليها ويدحضها بأدلة أقوى وقرائن تثقل كفتها، وحتى الآن لم يحدث ذلك، ولا نظنه بحادث في المستقبل المنظور.
يهود فلسطين
وإعمالا لما قلناه، فإن طبيعة الخطاب الصهيوني كما هو واضح جلي، طبيعة قبلية، لا ترى قبيلة غير قبيلتها، ولا تراثا مقبولا غير تراثها، ولا دينا صحيحا غير دينها، ولا صدقا إلا في توراتها، وكأن تراث الآخرين غير موجود لشعوب عديدة عاشت في فلسطين، كان لها مقومات الشعب والعنصر والدين والحضارة والنظام الاجتماعي والسياسي، قبل قيام مملكة داود بأكثر من ألفي عام.
ولمجرد التذكرة، ومنعا للإطالة، يكفينا ذكر أن الملك «داود» المؤسس الحقيقي لدولة إسرائيل التوراتية، حوالي 1000 قبل الميلاد، أقام دولته مستفيدا من توازن القوى بين القوتين العظميين حينذاك «مصر والرافدين»، فكون جيشا من أهل الأرض الفلسطينيين، وأقام لونا من الائتلاف ووحد القبائل في وحدة سياسية ، وصهر الممالك الصغيرة معا، بل كان حراس «داود» أيضا من الفلسطينيين، كذلك قائد جيشه، وسواء هو أو ابنه «سليمان»، فقد أقاما الدولة على أساس تعدد القوميات، ولم تقم أبدا كدولة ذات جنس واحد ودين واحد، والكتاب المقدس شاهد بذلك، وحتى لو أغفلنا كل ما سبق، وسلمنا للخطاب الصهيوني بالصدق التام، فإن مسألة جمع روس وألمان وبلغار وأمريكان وأحباش ... إلخ من مواطنهم، للإقامة في فلسطين بالحق التاريخي، لمجرد أنهم يهود، يجعل الأمر مزحة بشعة، ستظل وصمة، وربما بصقة في جبين هذا العصر إلى ما يشاء الله، لأنه بمقارنة شديدة البساطة، سنجد أن الحقوق التاريخية للهنود الحمر في أمريكا، أوضح من ادعاءات الخطاب الصهيوني في فلسطين؛ لأن الهنود لم يكونوا أول من استوطن أمريكا منذ فجر التاريخ، بل كانوا الشعب الوحيد فيها.
ناپیژندل شوی مخ
إن طبيعة الخطاب الصهيوني إذن، تعتمد على عدد هائل من المغالطات والتمريرات، التي تبدو في ظاهرها صادقة الحقوقية «مع الخلط لمفهوم العنصر بمفهوم العقيدة»، وحتى لا يتيح الخطاب الفرصة لمقارنة يهود اليوم بآباء العصر التوراتي، فإنه يقفز فورا إلى تأكيد «أننا الشعب الوحيد الذي ظل على أرض إسرائيل بدون توقف نحو أربعة آلاف عام.» لتستمر المطابقة بين مفهوم الدين والعنصر، لدعم محور الحق التاريخي، ليظهر الأمر كما لو أن اليهود فقط هم من عاشوا في فلسطين على مر العصور، أو على الأقل الجماعة الأكثر عددا، لكن السائح اليهودي بنيامين الطليطلي الذي زار القدس عام 1170 ميلادية، سجل أنه لم يجد في فلسطين بكاملها سوى 1440 يهوديا! كما لم يعثر اليهودي «ناحوم جيروندي» في زيارته لفلسطين عام 1257م إلا على عائلتين يهوديتين. أما الأطرف فعلا أنه حتى هذا القرن نجد الشهادة في خطاب شامير تقول: «لقد قامت الطائفة اليهودية الصغيرة - ولاحظ الصغيرة - التي كانت تقيم بفلسطين تحت الانتداب، بالثورة على الاستعمار الإمبريالي.»
شالوم
وأمام عدسات الإعلام العالمي في مدريد، لم ينس الرجل الشهم أن يبدي مروءته وأسفه وأساه على الفلسطينيين المشردين، بينما قنابله الجهنمية تدك مخيماتهم في لبنان، حيث قال بكل تراحم وحنان : «إنه لا يوجد يهودي واحد في هذا الزمان، يستطيع أن يكون غير مبال بمعاناة الفلسطينيين.» هذا رغم سرده لبشاعات العرب مدمجة ببشاعات النازي ضد اليهود، لكنه رأى من واجبه كرجل متحضر أن يعلن ذلك الأسى والحزن مع ندائه لجيرانه البرابرة حتى يظهروا كسبب فيما حدث للفلسطينيين: «أظهروا استعدادكم لقبول إسرائيل، إن التخاطب أفضل بكثير من سفك الدماء، فالحروب لن تحل قضية في منطقتنا، لكنها تسببت في المآسي والمعاناة والقتل والكراهية.» وهكذا فطبيعة الخطاب تشهد العالم أن العرب يشردون الفلسطينيين بحروبهم؛ لأنهم يريدون قتلنا لمجرد أننا متدينون، إنهم يريدون أن يقتلوا رجلا يقول: «ربي الله.»
الخطاب مستمر - كما هو واضح - في التركيز على المحور النفسي والمشاعر الدينية المسيحية الأوروبية، التي تشهد بالحقوق التاريخية على أساس الشهادة المقدسة بالتوراة، هذا بالطبع مع صورة العربي المعلومة لدى الرجل الأوروبي، منذ تزييف تاريخ الأندلس والحروب الصليبية حتى صورة العربي الخليجي في حانات ومواخير أوروبا.
ومرة أخرى نعود للكتاب المقدس لنرى مدى المصداقية في الخطاب، وإلى أي حد يتطابق مع المقدس، ومع ما يحدث بالفعل بل بالقول، مسايرة للخطاب المتدين الحريص على محارم الدين، والحريص في الوقت ذاته على إقناع عقل العالم وضميره بحقوقه التاريخية.
يقول الرب «يهوه» في شريعته، مفصحا عن طبيعته وهويته، التي لا تلتقي بحال مع طبيعة الخطاب الصهيوني، قدر ما تلتقي مع ما يحدث بالفعل: «الرب رجل حرب» (سفر الخروج، 15). لذلك كانت شريعة هذا المحارب السماوي تأمر عبيده الأتقياء بالأسلوب الأمثل للتعامل مع شعوب المنطقة، ومن تلك الشرائع إليك المقاطع اللطيفة الآتية: «أحرقوا جميع مدنهم بمساكنهم وجميع حصونهم بالنار» (سفر العدد، 13). «اقتلوا كل ذكر من الأطفال وكل امرأة» (سفر العدد، 31). «أحرقوا حتى بنيهم وبناتهم بالنار» (سفر التثنية، 12).
أما الخطة المثلى في أوامر الرب، فهي أن يبدأ شعبه بدعوة الشعوب الأخرى إلى السلام والصلح، أو بالنص: «حين تقترب من مدينة، استدعها للصلح. فإن أجابتك، فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير، ويستعبد لك، وإن لم تسالمك بل عملت معك حربا، فحاصرها. وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف. وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة، كلها غنيمة تغتنمها لنفسك، وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك. هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة منك جدا، التي ليست مدن هؤلاء الأمم هنا» (تثنية، 20).
هذا عن المدن البعيدة ، أما المدن القريبة: «فضربا تضرب سكان تلك المدينة بحد السيف، وتحرقها بكل ما فيها مع بهائمها. تجمع أمتعتها إلى وسطها وتحرق بالنار المدينة وكل أمتعتها» (تثنية، 13).
أما المدن الفلسطينية فلها شأن آخر، إذ يأمر يهوه قائلا: «أما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيبا، فلا تستبق منه نسمة ما» (تثنية، 20).
ومن هنا، وبمطابقة المقدس، فهو يتطابق تماما مع الفعل الصهيوني، لكنه لا يطابق الخطاب بحال، لكن الفعل بمطابقة المقدس إنما يصبح فعلا مقدسا ويصبح من تلك المقدسات تدمير صور وصيدا ومذابح صبرا وشاتيلا وقبية وكفر قاسم ودير ياسين، ومجازر منظمة الأورجون البيجنية، وسفاحي الوحدة 101 التابعة لأريل شارون، فالأمر مقدس؛ لذلك هو نبيل وسامي، وباسم رسالة إسرائيل التوراتية يتم التعامل مع عرب اليوم، كما تم التعامل مع الكنعانيين بالأمس، فقط تغيرت لغة الخطاب أما الفعل فمقدس، والمقدس خير وأبقى!
ناپیژندل شوی مخ
العصر السعيد
ثم يختم شامير خطابه وهو يبتسم سعيدا، استطلاعا للعصر السعيد الآتي، عصر الأمان والسلام لكل الشعوب الذي تنبأ به إشعيا، وردد شامير نبوءته وهو يقول: «فيطبعون سيوفهم سككا ورماحهم مناجل، ولا ترفع أمة على أمة سيفا، ولا يتعلمون الحرب فيما بعد» (إشعيا، 2).
هذا فقط ما ذكره الرجل من كتابه المقدس، ليتطابق مع خطاب السلام؛ كي يبرز التطابق في الخطاب مع العنصر المقدس مع الحق التاريخي، إتباعا لكتاب يأمر بالسلام وينبئ بالسلام، فإشعيا النبي يتحدث عن اليوم الذي سيتم فيه صهر السيوف لتحول إلى محاريث ومناجل، ولا تكون هناك حرب بين الأمم إنما تعاون وسلام وإنتاج ورفاهية، لكن في أي مقام قال إشعيا نبوءته؟ الخطاب يصمت، وهنا فقط يذكر النبوءة منزوعة من سياقها، ليقدم مقدساته للعالم وهي تدعو للسلام، وبحيث يكون الرجل مستمرا على الدرب، ومكررا لدعوة أبطال العهد القديم من أجل السلام.
ومن المستحب في هذا المقام أن نتأسى برغبة شامير في استدعاء نبوءة إشعيا فنجدها تتحدث عن يوم يثبت فيه دين يهوه وحده في قمة جبل صهيون «وتجري إليه كل الأمم» (إشعيا، 2)، لكن ذلك لن يكون قبل أن يحدث الآتي لبلدان المنطقة:
لسوريا: «هو ذا دمشق تزال من بين المدن وتكون رجمة ردم» (إشعيا، 17).
لمصر: «في ذلك اليوم تكون مصر كالنساء، فترتعد وترتجف من هزة يد رب الجنود، وتكون أرض يهوذا رعبا لمصر» (إشعيا، 17: 19).
لجزيرة العرب: «بلاد العرب من أمام السيوف قد هربوا، يفنى كل مجد قيدار؛ لأن الرب إله إسرائيل قد تكلم» (إشعيا، 21).
للبنان: «وحي من وجهة صور، ولولي يا سفن ترشيش؛ لأنها خربت، ولولوا يا سكان الساحل، ورب الجنود قضى به ليدنس كبرياء كل مجد، أرضك كالنيل يا بنت ترشيش، أيتها العذراء المتهتكة بنت صيدون، ولبنان ليس كافيا للإيقاد، وحيوانه ليس كافيا للمحرقة» (إشعيا، 23: 40).
للعراق: «انزلي واجلسي على التراب أيتها العذراء ابنة بابل، اجلسي على الأرض بلا كرسي يا ابنة الكلدانيين؛ لأنك لا تعودين تدعين ناعمة ومترفة، تنكشف عورتك وترى معاريك، اجلسي صامتة وادخلي في الظلام يا ابنة الكلدانيين؛ لأنك لا تعودين تدعين سيدة الممالك» (إشعيا، 47).
والآن، ترى هل حقق الخطاب الصهيوني القديم أغراضه بفعل أصحاب الخطاب الصهيوني الجديد؟ سؤال لا يجيب عليه إلا الزعماء العرب المؤتمرون في مدريد، يحلمون بنبوءة إشعيا بالعصر السعيد.
ناپیژندل شوی مخ
الدين والتطبيع في فيلم المهاجر1
بينما كنت أجري جراحة القلب بأمريكا، بدأ عرض فيلم المهاجر، وبدأت أيضا التداعيات حوله، ووصلني بعض ما كتب حول الفيلم، وفاتني الكثير، وتابعت القضية حتى انجلى الأمر وتمكنت من مشاهدة الفيلم بعد إعادة عرضه، وآثرت التريث قليلا حتى تهدأ العاصفة لتفسح مكانا للعقل. وإبان متابعتي لما تكبته الصحف السيارة والمجلات، طالعت عددا من وجهات النظر بعضها كان يهاجم بحجة أن الفيلم عمد إلى تشويه الشخصية المصرية والتاريخ المصري لصالح الصهاينة، والبعض الآخر كان يهاجم، لأن الفيلم في رأيه كان دعوة صريحة للتطبيع مع دولة إسرائيل، هذا ناهيك عن المهاجم الأساسي الذي وقف مؤسسيا وراء فرد رفع دعوى ضد الفيلم. باعتباره يجسد شخصية النبي يوسف، وسط أحداث وحوار لا يليق بشخصية النبي. وتأسيسا على هذا الموقف، تأسس موقف آخر على النقيض تماما، وقف إلى جوار المخرج والفيلم بدون تحفظ ، منطلقا من حق الفنان في طرح ما يراه دون أية قيود، وتم إبان ذلك خلط كثير من الأوراق المتناقضة، بحجة أن المسألة هي مستقبل الثقافة في مصر، وأن المبدعين والمثقفين قد أصبحوا في مواجهة تيار سلفي شديد الجمود والنصية.
تلفيق لا يليق
وبداية لا يمكن هنا بالطبع أن نلقي بالا إلى الاتجاه الذي أدان الفيلم لمجرد أنه يشخص الأنبياء. كما يجب في هذا الإطار أن نتجاهل أيضا وتماما ردود المخرج وحوارييه ومؤيديه، الذين أخذوا يؤكدون أن الفيلم لم يقصد تصوير قصة النبي يوسف كما وردت في القرآن الكريم، إنما دارت أحداث الفيلم على نحو مشابه لقصة ذلك النبي؛ لتتخذ من عبرة القصة نموذجا وقدوة ومثلا أعلى للشباب، للثبات أمام المغريات الدنيوية والشهوات البهيمية كما ورد في صحيفة الدفاع، وتجاهلنا هنا لتلك الردود يعمد إلى المصداقية بعيدا عن لعب كل من الطرفين لكسب القضية القانونية وقضية الرأي العام بأي أوراق ممكنة حتى لو كانت فاقدة للمصداقية.
ومن ثم سيكون من التلفيق غير اللائق بل ومن الغباء ألا نرى في الفيلم قصة الأب الإسرائيلي التوراتي «يوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم» التي قدمت بوضوح شديد، مع بعض التحوير الطفيف هنا وهناك لتلافي ما يمكن حدوثه من عواقب إزاء المفاهيم السائدة، ولتلافي ما قد يطرأ من مساءلة قانونية لإيجاد عدد من المخارج الممكنة عندما تبدأ ردود الفعل، ومن نماذج ذلك تقديم عدد إخوة بطل الفيلم «رام»، المفترض أنهم الأسباط إخوة يوسف في عدد مخالف لما قدمته التوراة، أو مثل تحوير موقف إلقاء يوسف في بئر «جب» إلى إلقائه في الحجرة السفلية لسفينة مصرية لكن فتحة الغرفة كانت موحية تماما بالبئر أو الجب، هذا إضافة إلى مخالفة السيناريو والقصة للخاتمة التوراتية، فتتم عودة بطل الفيلم من مصر إلى بلاده البدوية رغم موت بطل القصة التوراتية وتحنيطه ودفنه في مصر على الطريقة المصرية، حتى يمكن بذلك إيجاد المخرج بالقول: إن الأمر مجرد رؤية فنية تجسد رحلة المخرج وهجرته إلى أمريكا ثم عودته إلى بلاده ، وأن الأمر فقط كان استلهاما لبعض المواقف النبوية إزاء المغريات الدنيوية.
وربما جاز للمشتغلين بالنقد الفني أن يضعوا لنا مصادرة في شكل مقدمة ثابتة لا تقبل نقاشا، وهي أنه لا يجوز التعامل مع الفيلم إلا بالمعايير الفنية وحدها، فالفيلم فيلم وليس بحثا تاريخيا، أو عملا فقهيا، لكن الحال هنا سيختلف تماما مع فيلم المهاجر لعدد من الأسباب الواضحة والمهمة التي لا يمكن تجاوزها لصالح الموقف الفني وحده، حيث اشتبك الفيلم مع عدد من المسائل شديدة الحساسية وتداخل معها إلى الحد الذي لا يسمح بالوقوف عند أدوات النقد الفني وحده ومعاييره في التعامل مع الفيلم، وقد جاء اشتباك الفيلم مع غير الفني على ثلاثة مستويات.
صدمة الذاكرة
المستوى الأول هو مستوى الحالي، الآني الراهن، حيث بدأ التطبيع العربي مع الدولة الإسرائيلية يسير حثيثا مع متغيرات كبرى بالمنطقة، «واختيار قصة يوسف بن يعقوب» تحديدا في هذا الوقت، وبالصورة التي عولج بها، تحمل أكثر من علامة استفهام حول مقاصد الفيلم الذي تلامس مع ما يريد في نقاط التقاء كاشفة واضحة، في أكثر من لقطة وأكثر من ترميزة.
فالعجز الجنسي لقائد الجند المصري يكشف في وجهه الآخر عن القول المأثور بحاجز نفسي، إضافة إلى أنه يعبر عن عجز القوة والقدرة إزاء الشاب المهاجر القوي المليح وعلاقته بالزوجة الشابة، ثم كانت زراعة الصحراء بوضع يد المصري في يد المهاجر الغريب التي تشي ببساطة بنصيحة واضحة: لنضع أيدينا مع بعضها، نزدهر وننتج ونخضر الصحاري، وهو الأمر الذي لا يمر دون التأكيد عليه في الحوار، فهذا المزارع المصري «أوزير» يتعاون مع «رام» المهاجر في زراعة الصحراء، وعندما يتقدم «رام» ليشكره يجيبه المصري: «كلنا محتاجون لبعض.» أو في نص آخر بالحوار ينضح بالغرض المفصح في استهجان «رام/يوسف» للمصريين الذين لم يقبلوه مواطنا رغم طول إقامته بينهم ويلقي باستنكاره هذا مفصحا عن إجابة السؤال: كيف لا نقبل إسرائيل بيننا بعد جيرتها لنا زمنا؟!
على أية حال هذا مستوى من مستويات الاشتباك مع الراهن، يوعز بأنه ربما تأسس بشكل ذكي وخبيث على نص ديني، بحيث يفضح «يوسف شاهين» بقصد أو بدون قصد مدى التناقض الذي يقع فيه «القوموي العروبي» مع نفسه عندما يؤمن بعقائد تسلم بهذه القصة التي تسفه المصريين تماما وتاريخهم لصالح الإسرائيليين، وتجعل من الإسرائيليين الحكمة كلها والطهارة كلها والعفة كلها وتجعل من المصريين رموزا للحمق والشهوانية والدنيوية الفجة.
ناپیژندل شوی مخ
إن الفيلم يضع العقل العروبي أمام تناقضه، فهو يؤمن بأديان تدين تاريخ المنطقة القديم لصالح التاريخ الإسرائيلي بينما يرفع شعارات النضال والتحرير من النهر إلى البحر! إن الفيلم يصنع هنا ما يمكن تسميته «صدمة الذاكرة» أو صدمة الإيمان لأولئك الذين لم يحاولوا حتى الآن فك الاشتباك بين الديني والقومي. وإذا كانوا يرفضون التطبيع بظاهر وعيهم فإنهم يؤسسون القومي لديهم على الديني، والديني أشد تطبيعا وطراوة مع بني إسرائيل الذين فضلهم الله على العالمين.
ولا أحد يكابر أن المأثور الإسلامي كمثال كان دوما إلى جانب الإسرائيلي ضد كل حضارات المنطقة فكان مع يوسف بن يعقوب وموسى بن عمران وبقية بني إسرائيل ضد مصر وحضارتها وشعبها وحكامها، وكان مع شاءول/طالوت أول ملك إسرائيلي، ومع داود مؤسس الدولة الإسرائيلية، ضد جالوت/جوليات البطل الفلسطيني الذي مات وهو يدافع عن أرضه ضد الاحتلال الإسرائيلي الاستيطاني لبلاده، وكان مع أبيهم إبراهيم أرومة القبيلة العبرية ضد العراق القديم وحضارته ممثلا في شخص ملكها النمرود. وكان مع البدو العبران جميعا ممثلين في جدهم الأسطوري سام بن نوح ضد كل حضارات المنطقة ممثلة في حام بن نوح وأبنائه كنعان الفلسطيني ومصرايم المصري ونمرود العراقي.
حضارة موت
إن الوسيلة التي استخدمها الفيلم كانت شديدة الذكاء، لكن الغرض والهدف كان إلى جانب إجابة واحدة فقط على السؤال الذي يحتمل إجابات أخرى كثيرة. ومن ثم كان الفيلم يتساءل: إذا كان هذا هو ما نؤمن به فلماذا نتناقض معه؟ لماذا بصريح العبارة لا نطيع إذن؟ غافلا عن إجابة أخرى أصر عليها كاتب هذا المقال دوما تتمثل في ضرورة فك الاشتباك بين الديني والقومي إذا أردنا الاتساق مع أنفسنا ومع قضيتنا ومع آمالنا الوطنية والقومية.
وهكذا كانت التلميحات والترميزات الواضحة مدعاة للوقوف مع تلميحات أخرى يمكن أن يرى فيها المشاهد العربي بخاصة المصري في الظرف الراهن؛ لونا من تسفيه الإنسان المصري صاحب الحضارة التي شاخت في فيلم شاهين، وأخذت في التهاوي إزاء العبراني الطموح المتوثب للمعرفة والعلم. وعليه جاء الفيلم بتركيزه على القول: إن حضارة المصريين قد تم تكهينها وإن مصر قد حبست علومها داخل الجدران المسحورة للمعابد، وتحولت من حضارة حياة إلى حضارة موت، لا تهتم إلا بالتحنيط وبما بعد الموت، وكانت مشاهد «حرق الزرع» تصويرا لشعب أنعم الله عليه بالنهر والخصب، لكنه كان شعبا همجيا، يحرق آلاف الأفدنة في صراعاته، بينما رام العبراني يكرس حياته ليزرع سنبلة في الصحراء! أما تركيز الفيلم على الأقزام وإيداعهم أمانة لدى رام، فكان رمية أخرى موجعة للمصري القزم إزاء العبراني الأمين، هذا ناهيك عن الرمز الواضح في تحويل النهر نحو الصحراء لزراعتها، وكيف أمكن لرام بذلك الفرع الضئيل أن يزرع الصحراء.
وكان على شاهين أن يدرك أن المشاهد العادي لا يعلم أن القزم كان محببا في بيوتات الارستقراطية المصرية، وكانت تلك البيوتات تستجلبهم من أفريقيا للخدمة البيتية والترويح الفكاهي، حتى جعل المصريون للأقزام إلها هو الإله القزم «بس». ونعم كانت العلوم داخل المعابد، ونعم اهتم المصري بالتحنيط وبالموت اهتماما عظيما، وكان يمكن أن يمر ذلك بهدوء، باعتباره تصويرا للحياة المصرية في الزمن القديم، لكن أن يتم ذلك داخل إطار قصة إسرائيلية تتحدث عن تفوق الإسرائيلي الطموح في قصتها الأصلية أو في الفيلم فهو أمر آخر لا يمكن معه افتراض حسن النوايا!
ومن ثم يلقي الفيلم برؤيته «التطبيعية» في عمق التاريخ وفي أصول الدين ليجذرها ، فيركن بدهاء إلى القصة الدينية التوراتية التي وزرت يوسف خزانة المصريين، ويقدم لنا «رام» مكتشفا لأسلوب تخزين الحبوب في سنوات الجفاف التي استبدلها بحرق المحاصيل، ليذهب إلى ما هو أبعد من التطبيع. إنه يلمح إلى إدارة المنطقة بالعقل الإسرائيلي المتوثب المتفوق، عندما يسلم قائد الجند لرام جنوده وبلاده وأرضه ليكون أمينا على خزائنها ومستثمرا لها وراعيا!
مرة أخرى نعود إلى أسباب التعامل مع الفيلم على مستويات غير المستوى الفني وحده، في اشتباك الفيلم على مستوى ثان مع الديني والإيماني، وعندما فعل ذلك خرج من دائرة الفني وحده، حيث جعل مرجعيته ملكية عامة لجماهير المؤمنين في الأديان الشرق أوسطية الكبرى الثلاثة؛ فشخص يوسف بن يعقوب مقدس في اليهودية باعتباره أحد آباء القبيلة الإسرائيلية الأوائل، وهو مقدس في الإسلام لذات السبب بحسبان المسيح بدوره من ذات النسل الإسرائيلي المبارك، ثم هو مقدس في الإسلام لذات السبب، ثم لسبب آخر هو أنه أضاف ليوسف صفة النبوة، وهي ليست ملكية عامة فقط، بل ملكية مقدسة، ومن ثم فقد خرج الفيلم من دائرة الفني ليخوض في الديني، فوضع نفسه في موقع التعامل معه على هذا الأساس. ليس هذا فقط، بل إن الفيلم اختار لنفسه رؤية دينية دون أخرى، فحدد لنفسه بذلك موقفا من الروايات الدينية حول يوسف، وهو ما يضعه أمام مسئولية اختياره.
رواية التوراة
والواضح تماما أن المخرج حتى لا يقع في مأزق المحاكمات الإسلامية، فقد ركن إلى الرواية التوراتية حول الأب يوسف، بدليل إيراده المنمنمات وتفاصيل لم يذكرها القرآن إطلاقا، وإنما ذكرت تفصيلا في التوراة، وذلك مثل قصة رئيس الشرطة «فوطيفار» الذي اشترى يوسف الموصوف بجمال فاتن، والحب الشديد من «فوطيفار» ليوسف الصبي، ومن ثم لجأت التوراة لتطويش فوطيفار ووصفه بأنه كان خصي فرعون، وهو ما لم يذكره القرآن الكريم إطلاقا.
ناپیژندل شوی مخ