وسيكون المعنى أن حفيد نوح المعروف باسم «عابر»، كان الأب المشترك لكل من العبريين في جانب، والعرب الأقحاح «القحطانية» في جانب آخر، ولنلحظ أن المفردات «عابر» و«عبري» و«عربي» تعود جميعا إلى جذر لغوي واحد، كما أن «عربي» بالقلب اللساني تصبح «عبري».
الخط العبري في الجزيرة
ويمتد خط النسل من عابر حفيد نوح ليصل إلى إبراهيم الخليل، وتوضح التوراة أن إبراهيم قد أنجب ولدين هما: إسماعيل وإسحاق، وأن أسحاق أنجب ولده يعقوب المعروف باسم إسرائيل، وعنه تناسل الإسرائيليون، بينما على الجانب الآخر أنجب إسماعيل أولادا يحملون أسماء واضحة العروبية، منها قيدار، وتيماء، ودومة «دومة الجندل»، ونبايوت ... إلخ.
ومن ثم سنجدنا في جزيرة العرب، بإزاء خطين لعرقين منفصلين، عرق أصيل في الجنوب هو العرق القحطاني، والذي أطلقت عليه كتب السير والأخبار الإسلامية لقب العرب العاربة، أي العرب الأصيلة في العروبية، وعرق آخر جاء عبر إسماعيل «العبري» شقيق إسحاق وعم إسرائيل وابن إبراهيم، ونحن نعلم من كتب الأخبار الإسلامية، أن إسماعيل كان أب العرب الشمالية «من الحجاز فما نحو الشمال» المنعوتة بالعرب العدنانية، ومعلوم أيضا في ذات المأثور أن العرب العدنانية ليست أصيلة العروبية، إنما اكتسبت العروبية اكتسابا بنزوحها إلى الحجاز قادمة من الشمال؛ لذلك أطلق عليها التراثيون المسلمون لقب «العرب المستعربة»؛ أي التي استعربت ولم تكن من الأصل عربية، والمطالع لمأثورنا الإسلامي التاريخي، سيجد اتفاقا واضحا على أن إبراهيم وولده إسماعيل لم يكونا من العرب، إنما وفدوا على أرض العرب أغرابا عنها، وأنهما كانا يتحدثان السريانية، وبمعيشة إسماعيل بين العرب اكتسب اللسان العربي (!).
ولعله من الواضح سواء فيما أوردته التوراة، أو أوردته كتب السير الإسلامية، أن كليهما ليس إلا رجع صدى لأيام خوال وذكريات قديمة، تشير لعنصر عربي أصيل هو العنصر القحطاني، وعنصر غريب وافد هو العنصر العدناني، وأن الأول كان يسكن الجنوب اليمني، بينما استقر الثاني شمالا في الحجاز، وهو والأمر الذي يلتقي مع الواقع الجغرافي للجزيرة المنفتحة شمالا على ما جاورها، تستقبل هجرات وتدفع بأخرى، وهو ما يعني ثانيا أن سكان الجزيرة الأصلاء دوما خلال التاريخ البعيد، هم العرب الذين عرفوا باسم العرب اليقطانية أو القحطانية.
لكن الغريب في الأمر جميعه، أن يصبح حديث التاريخ المطول عن العرب العدنانية المستعربة، وساعد على ذلك قربهم أو انفتاحهم على الحضارات المجاورة «جغرافيا»، وهي الحضارات التي تركت مدونات سجلت لنا بعض ما يتعلق بعرب الحجاز العدنانية، حيث نجد في نصوص التوراة أن من ولد إسماعيل كان «قيدار» و«نبايوت»، ويبدو أن «قيدار» هذا سكن شمالا على تخوم الحضارات القديمة، بينما استقر «نبايوت» في أرض الحجاز، وقد رصدت نصوص بلاد الرافدين، وبخاصة نصوص الملك «آشور باني بعل» قصة صراع حدث بينه وبين قبيلة «قيدار»، كذلك رصدت التوراة صراعا آخر حدث بين ملوك دولة يهوذا والقيداريين، مما يشير إلى قيدار كقوة لا يستهان بها آنذاك، ويبدو أن القيداريين قد اشتغلوا بما أدر عليهم ربحا كثيرا جعل منهم قوة، ومضربا للمثل في الفخامة، وهو ما يؤخذ من سفر نشيد الإنشاد بالتوراة، المنسوب لسليمان، والذي تصف فيه شولميت «سلمى بالعربية» نفسها، بقولها تجملا: «أنا سوداء وجميلة يا بنات أورشليم، كخيام قيدار، كشقق سليمان.» فساوت في الجمال بين خيام قبيلة قيدار العربية وبين شقق أو قصور سليمان المعروفة في التراث الديني بالفخامة إلى حد الأسطورية.
أما «نبايوت» فهو ما سجلته كتبنا الإخبارية باسم «نابت بن إسماعيل»، واحتسبته الأصل الحقيقي للعرب العدنانية التي استقرت في الحجاز، وكثر ذكره في أشعار العرب مما يشير إليه كحقيقة واقعة. ونموذجا لذلك شعر «عمرو بن مضاض الجرهمي» الذي يسجل صراعا حدث بين العرب القحطانية ومنهم قبيلته جرهم، وبين العرب العدنانية، ويشير إلى انتصار مؤقت للقحطانيين اليمنيين استولوا بموجبه على سيادة الحجاز بحيازة الكعبة المكية، وللاختصار نورد بيتين من ذلك الشعر القائل:
وكنا ولاة البيت من بعد نابت
نطوف بذاك البيت والخير ظاهر
ونحن ولينا البيت من بعد نابت
ناپیژندل شوی مخ