وهكذا يتضح أن الباحثين عندما يريدون الحديث عن أحداث التوراة حديث المؤرخين، يضطرون إلى المقارنات والاستنتاجات، بالنظر إلى أن تاريخ مصر، على كثرة ما اكتشف منه، لا يشير إلا لماما في لمحات سريعة إلى القبائل البدوية، بينما تتحدث التوراة بالتفاصيل عن مصر وملوكها ومدنها وطبائع أهلها، مما يشير إلى معرفة واضحة من جانب الإسرائيليين بشئون مصر والمصريين، وهو أمر طبيعي تماما؛ حيث إن وضع إسرائيل كقبائل هامشية ما كان يشغل حيزا هاما في المدونات المصرية، بينما كان المدون الإسرائيلي لا يستطيع إغفال مصر.
المهم أن أول ذكر لإسرائيل في مدونات مصر، جاء في قصيدة منقوشة على لوح تذكاري من الجرانيت الأسود، أقيم في معبد الملك «مرنبتاح» الجنائزي، والقصيدة تتغنى ببطولات الملك وانتصاراته، حيث تقول: «الأمراء منبطحون أرضا يصرخون طالبين الرحمة، وليس بين الأقواس التسعة من يرفع رأسه، لقد دمرت أرض التحنو (ليبيا)، وخاتي (تركيا) هادئة، وكنعان قد استلبت بقسوة، وعسقلون تم الاستيلاء عليها، وجازر قد أخذت، وينوعام أصبحت كأن لم تكن، وإسرائيل أقفرت وليس لها بذر، وخورى (أرض فلسطين) عدت أرملة لمصر.»
وقد وقف علماء كثر مع هذا النص واعتبروه دالا على حدث الخروج من مصر، حيث ترد كلمة إسرائيل في نصوص مصر لأول مرة، واعتبروا الفرعون «مرنبتاح» هو فرعون موسى والخروج، بينما ذهب آخرون إلى أن النص يتحدث عن حرب شنها مرنبتاح على عدد من الشعوب خارج مصر، وأنه هاجم أراضيهم وضمنها إسرائيل.
هذا كل ما ورد من التاريخ التوراتي المهول في تاريخ مصر «إسرائيل أقفرت وليس لها بذر ». ويبدو أن الأمر لم يكن يستأهل الفخار به والإطالة بشأنه قياسا على أعمال الفرعون الأخرى، فاكتفى بتلك الإشارة السريعة، التي قامت عليها ألوف الأبحاث في جامعات العالم، مقارنة بالتوراة، ولم تزل.
أما قول «ويلز» السالف: «إن إسرائيل كانت مجرد دويلة رهينة لمصر، وأنها كانت تابعا متقدما في آسيا للفراعنة.» فهو استنتاج يطابق أحداث التاريخ، وما ورد في تاريخ
في حال أي تمرد أو عصيان، مع تركهم على أحوالهم، ويحكمون فقط بوال من قبل الفرعون غالبا ما يكون منهم، مع بعض كتائب مصرية لمنع أي شغب.
وتتحدث التوراة عن زمن حكم «رحبعام» بن الملك سليمان، ولم يمض على موت سليمان خمس سنوات، فتخبرنا بشأن حملة قام بها فرعون مصري باسم «شيشق» على دولة يهوذا في فلسطين، حيث تقول: «وفي السنة الخامسة للمك رحبعام صعد شيشق ملك مصر إلى أورشليم، وأخذ خزائن بيت الرب وخزائن الملك، وأخذ كل شيء، وجمع أتراس الذهب التي عملها سليمان» (سفر ملوك أول، 14).
وهو الخبر الذي يلتقي مع الوجود التاريخي لفرعون باسم «شيشنق»، وبأخبار لحملة قام بها على فلسطين، مع جدول بالمدن التي هاجمها، لكن دون أن يذكر كلمة إسرائيل إطلاقا ولا كلمة يهوذا ولا حتى أورشليم، وهو ذات الفرعون الذي قالت التوراة: إنه كان صهر سليمان، وأن سليمان طلب منه مساعدته للاستيلاء على مدينة جازر الفلسطينية الساحلية، فأرسل إليه شيشنق بضعة كتائب مصرية احتلتها له وتركها له هدية، وقد عثر مؤخرا في مجدو على نصب تذكاري أقامه شيشنق هناك تذكارا لحملته على المملكة السليمانية بعد موت سليمان، وهو الأمر الذي يشير إلى أن سليمان كان تابعا مخلصا لشيشنق، كما يشير في جانب آخر إلى عصيان ما ارتكبه ولده «رحبعام» بحق الفرعون فاستحق التأديب.
ومن المعلوم أن مصر ظلت ترعى فلسطين وتزودها بالميرة أيام القحط والجفاف، كما ظلت ملجأ آمنا لأهلها عند أي خطب أو غزو خارجي، وهو بالضبط ما حدث زمن هجوم الملك الكلداني نبوخذ نصر على يهوذا، حيث لجأ أهلها بالألوف المؤلفة إلى مصر، التي استقبلتهم بالترحاب زمن الفرعون «واح اف رع» المسمى باليونانية إفريس (587-568ق.م) أحد ملوك الأسرة السادسة والعشرين، وهو ما حكته التوراة في الإصحاح 25 من سفر ملوك ثاني، وتأكد بوجود جالية يهودية تعيش بعد ذلك في جزر الفنتين جنوبي أسوان بمصر.
وتحكي لنا التوراة عن معركة بين مصر وأشور وقعت في بلاد الشام، مما يشير إلى خروج الجيوش المصرية للدفاع عن بلاد الشام ضد غزو آشوري، وتقول التوراة إن ملك إسرائيل «يوشيا» اعترض طريق الفرعون نخاو ليمنعه عن نجدة سوريا، فاضطر الفرعون إلى قتل الملك الإسرائيلي، كما اضطر بعد ذلك لأسر ابنه «يهوآحاز» الذي تخابر مع الآشوريين، وتم ترحيل الملك الإسرائيلي «يهوآحاز» إلى مصر، وهي رواية سفر الملوك الثاني بالإصحاح الثالث والعشرين، ولا نجد في مدونات التاريخ نظيرا للرواية، لكنا نجد ما يصادق عليها، حيث تم العثور على لوح عليه نقش ورسم وكتابة عن شخص باسم «يوده ملك» وترجمتها «ملك يهوذا»، وتعود إلى زمن الفرعون نخاو، وهو ما جعل المؤرخون يتأكدون أنه بعينه الملك الإسرائيلي الأسير «يهوآحاز».
ناپیژندل شوی مخ