فأجاب باقتضاب: حالي حالك.
فقال ضاحكا: احلم بأن امرأة غنية وقعت في هواك ...
ولكن الأحلام أرهقته حتى الملل، وإنه على أتم الاستعداد للتخلي عن طموحه كله على شرط أن يتزوج وينجب قانعا كل القناعة بتفاهته، وقال لنفسه: «رضينا بالحد الأدنى ولكنه لا يرضى بنا.» وهبط عليه إلهام غريب في تافرنا وهو يحتسي النبيذ، أن يعلن حربا على الدولة! أن يكتب منشورات سرية، دينية تارة ومادية تارة أخرى، ويرسلها إلى شتى الجهات ذات الخطورة، فينشر بذلك القلق والرعب، ويستمتع بالنصر والعبث ... ما عليه إلا أن ينقل الآلة الكاتبة الخاصة بوالدته إلى حجرته بحجة أنه سيكتب عليها المتأخر من أعماله الحكومية ، استجاب للإلهام وعزم على تنفيذه، وبذلك ينقذ نفسه من عذاب الانتظار والملل والتفاهة! وراح ينفذ مشروعه بحماس وسرور وشيطنة، ويودع المنشورات في مظاريف ويرسلها لشخصيات رسمية وغير رسمية، ورغم أنه استلهم مضامينها من منشورات اطلع عليها خلال التحقيقات، إلا أنه زاد نقدها حدة وتهديداتها عنفا، ولم يركز على صندوق بريد أكثر مما يجب، فنوع الشوارع والأحياء، وانهمك في العمل بقوة كأنما هو هدف حياته، وانتظر أن يتلقى أصداء عمله الخفي طويلا حتى أوشك أن ييأس، وإذا بعبد اللطيف محمود يهمس في أذنه ذات صباح: يتحدثون عن نشاط دب في القوى الهدامة!
فخفق قلب عبد الفتاح واندفع متسائلا: المنشورات؟!
وأدرك للتو تسرعه ففزع، وسأله الآخر: متى عرفت؟
فأنقذ نفسه قائلا: في المقهى يتحدثون.
ووصى نفسه بالحرص والحذر، فقال عبد اللطيف: أجهزة الأمن في غاية من النشاط.
فتراوح بين السرور والخوف، وتساءل: كيف؟ - المراقبة والتفتيش!
غض بصره إخفاء لانفعالاته، لم يكن هذا مقصده ... تصور ما يتعرض له الأبرياء بسبب عبثه، فغاص قلبه في صدره، وأمضى اليوم قلقا منزعجا كئيبا ... لم يجلس إلى الآلة الكاتبة مرة أخرى، وتساءل هل يجيئون بهم ليسجل أقوالهم؟ وفي اليوم التالي دس إليه زميله عبد اللطيف ورقة، قائلا: إليك منشورا.
تلقى المنشور بقلب خافق، ولكن قلبه توقف عن الخفقان عندما تبين له أنه منشور آخر حقيقي لا علاقة له بعبثه! الجد والعبث يسيران جنبا إلى جنب، ولكن ذلك لن يبرئه من الذنب، فلا شك أن منشوراته تعتبر أيضا مسئولة عما يجرى من تفتيش وتحقيق، ودار رأسه، فشعر بأن إصبعا ستشير إليه بالاتهام. وفي صباح اليوم التالي لم يجد عبد اللطيف محمود على مكتبه، وسرعان ما علم بأنه ألقي القبض عليه فيمن ألقي القبض عليهم ... قال له رئيس المكتب: كان منهم ونحن لا ندري!
ناپیژندل شوی مخ