وكانت درية سعيدة رغم فوات عشر سنوات على زواجها دون حبل، وتجلت موهبتها في الرسم إلى جانب فتنتها الشخصية.
وتحسنت حال طاهر المادية جدا فأتاحت له الفرصة لممارسة ما جبل عليه من كرم أو إسراف إذا شئت، فهو على حبه المال لا يسمح له أبدا باستعباده.
وجرت الأيام تطير بقوم وترزح فوق آخرين. وظل ركننا بقشتمر عامرا بوجودنا فلم ننقطع عنه إلا فترة قصيرة حينما قرر صاحب المقهى تجديده؛ غير أرضيته، وطلى الجدران بلون ناصع البياض، وأحل أثاثا جديدا مكان القديم، وعني بالحديقة فزرع الياسمين في أصل سورها وزين أركانها بأصص الورد والقرنفل، ورمم دورة المياه، وابتاع طاقما جديدا من النراجيل، وأضاف إليها وحدتين، واحدة لتقديم الدندورمة والأخرى - فرن - لتقديم الكوفتة. وكالعادة لا نتخلف عن مجلسنا في رحاب صداقة لا تتغير، ولعل ما ساعدنا على ذلك بقاؤنا في حي العباسية رغم ما طرأ عليه من تقلبات الدهر، فلم ينتقل منها إلا حمادة، ولكن سيارته كانت تحمله إلينا كل مساء، وأبى أن يستبدل بنا قوما آخرين. أجل ذهبت في أدراج التاريخ عباسية الزمان الأول، بالهدوء والخضرة والسرايات والترام الأبيض، وانتشرت العمائر، وقامت الدكاكين على الجانبين، وفاض الحي بسكانه، واكتظت الشوارع بالصبية والسيارات الخاصة والعامة، إنه الزحام والضوضاء والأنفاس المتلاطمة، ولكن لم يجر هجرها لأحدنا في خاطر، ولا تصورنا أنه يمكن السمر في غير قشتمر. ولم يبق من معارفنا القدامى أحد؛ انتقل إلى الأحياء الأخرى من انتقل، وانتقل إلى جوار الله من جاءه الأجل، وازداد شعورنا الحميم بالمودة، ووجدنا في صداقتنا سلوى الوجود وحلاوته، وغلب علينا الاستسلام للواقع، وتخلصنا من كثير من رواسب الماضي، واجتاحنا ما يشبه النعاس الهنيء والحلم العذب حتى انتفضنا قائمين على صوت انفجار كالبركان في يوم من الأيام عجيب اسمه 5 يونيو، دهشة وتساؤل وتعجب، حيرة وعدم تصديق، ثم دهشة وتساؤل وتعجب، تجرع لواقع لا مفر منه، كيف؟! .. لا ندري، لماذا؟ .. لا ندري، ثم سيل ينهمر من الحواديت، وفيضان من النكت، ومضطرب بلا حدود لعواطف متناقضة، من أقصى الحزن إلى أقصى الفرح، ولكن جرثومة الكآبة استقرت في أعماق كل نفس.
وربما تنفس صادق صفوان بارتياح لأول مرة منذ عام 52، خجل أن يعلن ارتياحه، وربما لم يخل ارتياحه من كدر، ولكن فضحته عيناه، وفلتات من تعليقاته، وترديده للنكت المنتشرة كالجراد، وسرعان ما زار رأفت باشا الزين، فلم يجده قد استوعب ما حدث لتماديه في شيخوخة متدهورة، أما زبيدة هانم فأشارت بأصبعها إلى السماء وتمتمت: إنه موجود.
ولكن الباشا لم يعمر بعد الهزيمة إلا أياما ومات إثر أزمة قلبية، ثم تبعته الهانم قبل أن يتم الأربعين، وقريبا من ذلك التاريخ توفيت ست زهرانة والدة صادق وشيعت جنازتها من الشقة التي انتقلت إليها بعد أن حول صادق بيتهم إلى عمارة. ولم تنتزع هذه الأحداث صادق من انفعالاته بالحوادث العامة، ولم يعد يشعر بحرج في الإفصاح عن مشاعره فقال لنا ساخرا: أسد علي وفي الحروب نعامة!
وبصفة عامة لم يعد يخشى الفك المفترس بعد أن نزعت الحرب أنيابه.
وتراوح حمادة الحلواني كعادته بين المتناقضات؛ ليلة ينوح راثيا لحال الوطن، ويتألم غاية الألم للكرامة التي تمرغت في التراب، وليلة يسبق صادق إلى الشماتة والهزل فيقول: ألم يقل إنه علمنا العزة والكرامة؟ اشبعوا عزة وكرامة!
وغضب إسماعيل قدري غضبة مجللة بالحزن العميق لما نزل بوطنه الجريح، وراح يردد بانفعال شديد: لا بد من رد اللطمة بمثلها على الأقل.
ثم يتساءل في حنق: كيف لم يتلاش نظام الحكم حتى الآن؟ لو أن هذا الرجل عميل مأجور ما استطاع أن يفعل بنا أكثر مما فعل.
ولكن لم يصدم أحد كما صدم طاهر عبيد، كأنما جن جنونا أو مات موتا، ويتنهد هامسا: ليتني مت قبل ذلك.
ناپیژندل شوی مخ