وشخصت عيني ببصرها القليل إلى باب الكعبة، وما أسرع ما ألقت البصيرة أمام نفسها بسؤال، لم تعرف له جوابا، فأضمرته حتى تواتيها لحظة مناسبة يتاح لها فيها أن تسأل أهل العلم، ولقد حانت تلك اللحظة مع مساء اليوم نفسه، إذ جلسنا مع بعض أصدقائنا حول مائدة، نداول بيننا أطراف الحديث، فألقيت بسؤالي: ماذا بداخل الكعبة؟ فأجاب من أجاب، بأنه لا شيء الآن بداخلها، فسألت: ألا يحدث قط أن تكون مكانا للصلاة؟ فجاءني الجواب بحقيقة لم أكن أعرفها، بل ولم أكن أتوقعها (وتقع التبعة في صوابها أو خطئها على من أجاب) إذ قال: إن ما هو فرض في الصلاة لا يجوز أداؤه داخل الكعبة، وأما ما هو سنة فيجوز. وبعد لحظة أخذني فيها شيء من الحيرة، سألت: ولماذا كانت هذه التفرقة بين فرض وسنة في الصلاة داخل الكعبة؟ فأجاب المجيب بقوله: لست أدري، وما أظنه من حقنا أن نطلب التعليل في أمور العبادة! فرددت عليه مسرعا بالرد: بل إن من حقنا، أو قل إنه واجب علينا أن نفهم، نعم إن أمور العبادة واجبة الأداء، سواء عرفنا سرها أم لم نعرفه، لكن محاولة المعرفة إلزام خلقي على الإنسان، فقد فرضت تلك العبادة على بشر عاقل، ولم تفرض على حجر أصم وأبكم، فقال صاحبي: هات لنا التعليل إذا استطعت.
هنا أسعفتني بصيرتي التي قلت عنها في أول الحديث، إنها كانت يومئذ يقظانة الوعي، سريعة التلبية والأداء، نعم أسعفتني، بعد صمت لم يطل معي أكثر من دقائق معدودات، قلت: إنه إذا صح ما أنبأتنا به، وهو أن صلاة الفروض داخل الكعبة لا تجوز، والذي يجوز - لمن أراد - هو صلاة السنة وحدها، كان عندي ما أقدمه تعليلا لذلك، وهو تعليل أستمده من السر وراء إقامة الكعبة نفسها، وحتى إذا تبين أن ما أنبأتنا به غير صحيح، تظل الفكرة التي أقدمها قائمة بصوابها، ولو أنها - في هذه الحالة - تصبح بيانا لجانب من جوانب الحكمة في إقامة هذا البيت الشريف.
إنه إذا سمح لأفراد من المسلمين أن يؤدوا فرض الصلاة داخل الكعبة، أمكن لهؤلاء الأفراد أن يتجهوا في صلاتهم جهات مختلفة؛ لأن كل اتجاه في هذه الحالة هو اتجاه نحو الكعبة، فقد يتجه أحدهم نحو الشمال، ويتجه الثاني نحو الجنوب، والثالث نحو الشرق، والرابع نحو الغرب، وبذلك يؤدي هؤلاء الأربعة صلاتهم، وإن ظهرا لظهر، لا تشخص أعينهم إلى اتجاه واحد، ولا تلتقي قلوبهم في هدف واحد، ومن هنا وجب أن تؤدى فروض الصلاة في مواقع خارج بناء الكعبة؛ لتلتقي أفئدتهم جميعا عند غاية مشتركة، وأما السنة التي قد يؤديها المصلي وقد لا يؤديها، فهي تمثل جانب الاختيار الذي يحقق لكل فرد استقلاله، وهكذا تكون التفرقة التي أنبأتنا بها يا صاحبي، مفهومة المعنى.
على أنه بغض النظر عما أنبأتنا به، فها هي ذي فرصة قد أتاحتها لنا الكعبة الشريفة وأسرارها، لنتحدث فيما أصابنا من ضعف بعد قوة، وذل بعد عزة، إذ يخطر لي الآن خاطر غريب، تولد من كلامنا عن الجائز وغير الجائز من الصلاة داخل الكعبة ، وهو أن السر الذي زعمته لكم تعليلا للتفرقة، إنما يصلح هو نفسه أن يكون السر الذي يكمن وراء ما أصابنا من ذلة وضعف، بعدما شهده فينا التاريخ من عزة وقوة، وتسألونني كيف، فأجيب: «الذات» ووحدانيتها، هي القاعدة الأولى، التي على أساسها يقوم وجود الفرد الواحد، وجودا صحيحا سليما، ووجود الشعب الواحد، ووجود الأمة الواحدة، ووجود كل جماعة كائنة ما كانت طبيعتها، لكي تستحق أن يطلق عليها اسم الجماعة وصفاتها، لكن هذا كلام يحتاج منا إلى شيء من التوضيح.
ولنبدأ بالفرد الواحد، فما الذي يجعل لفرد ما «شخصيته» معلومة الخصائص، وعن طريقها يمكن للآخرين أن يتعاملوا معه؟ لو كان الفرد الواحد مكونا من مقوم واحد، لما كان هناك مجال لهذا السؤال؛ لأننا لا نسأل سؤالا كهذا عن العنصر الأولي الذي لا يقبل التحليل، نعم، لو كان الفرد من الناس ذا مقوم واحد هو كيانه، لكان «واحدا» بحكم طبيعته، لكن كل فرد يتألف كيانه من مقومات الله أعلم بعددها، وهي ليست كثيرة في عددها فحسب، بل إن تلك الكثرة متعارضة بعضها مع بعض، ففيه رغبات متنافرة، كل رغبة منها تشده إلى ناحية غير الناحية التي تشده إليها الرغبة الأخرى، ففي لحظة واحدة بعينها قد يشعر الفرد المعين بأنه راغب في مغادرة منزله ليفرج عن نفسه ضيقها، وراغب - في الوقت نفسه - في أن يمكث حيث هو؛ لأن أحدا قد ضرب له موعدا للقاء في داره بعد قليل، وهو لا يريد أن ينقض وعده له بانتظاره ليلقاه.
في لحظة واحدة بعينها قد يرغب فرد ما في أكل صنف معين من الطعام، ولكنه أيضا يرغب في أن ينصرف عن ذلك الصنف؛ لأنه محرم عليه بإرشاد الطبيب. ولو أخذت أضرب لك الأمثلة للرغبات المختلفة في الإنسان الواحد كيف تتقاتل في كيانه، متنافسة فيما بينها؛ لأن كلا منها يسعى إلى امتلاكه لما انتهيت، وقد يصل هذا الصراع بين الرغبات في الفرد الواحد حدا يصل به إلى الخيانة والجريمة، فقد تتنازعه - مثلا - رغبتان متعارضان: إحداهما أن يخلص لوطنه فلا يعرضه لخطر أعدائه، والأخرى أن يكون صاحب مال يجيئه إذا ما خان، فماذا يفعل الفرد من الناس، إذا ما تدافعت في جوفه تلك الدوافع المتعارضة؟ أيترك نفسه نهبا لها جميعا، تفعل فعلها معه في آن واحد؟ إنه لو فعل ذلك لفقد أمرين: في أولهما يفقد أن تكون له شخصية ذات طابع يميزها، وفي ثانيهما لن يحقق من تلك الرغبات ذاتها شيئا، إذ يكون شأنه كشأن «خراش» الذي قال عنه الشاعر:
تكاثرت الظباء على خراش
فما يدري خراش ما يصيد
فمن الوجهة العملية النفعية الصرف، وكذلك من الوجهة الإنسانية الخلقية، لا مناص للفرد من الناس، إلا أن يجعل لنفسه مبدأ ما، يكون هو الميزان، أو الفيصل، الذي يقرر له ماذا يختار في كل مرة تتنازعه فيها رغبات متعارضة. والأغلب أن الدين هو مصدر تلك المبادئ، التي تفصل بين الحلال والحرام، وفي الحلال نفسه، تفصل بين ما هو أولى بالاختيار مما عداه. وإلى جانب الدين في ذلك، يكون للعرف وللتقاليد، وللثقافة القومية السائدة فعلها في إقامة الموازين، فإذا استقامت لفرد ما موازين الحكم - من جهة ما - كان له «ذات» معروفة له وللناس، بما يميزها من طرائق السلوك، وأسس الاختيار.
وواضح من هذا الذي قلناه، أن الفرد الواحد إنما يحقق لنفسه «ذاتا» محددة إذا حقق لها محورا معينا، «يوحدها» في اختيارها وسلوكها، وهو بهذه «الوحدانية» لذاته، يحقق لنفسه «شخصية» يمكن وصفها وتعيينها بما يميزها من معالم.
ناپیژندل شوی مخ