قيمة من التراث تستحق البقاء
ابن رشد في تيار الفكر العربي
طريقة الرمز عند ابن عربي في ديوان «ترجمان الأشواق»
من وحي الكعبة
تربية الضمير الديني
الشعائر وما وراءها
الفلسفة شيء والدين شيء آخر
ذلك دور المسلمين
نعم، إسلامنا يكفينا ولكن كيف؟
الدين والتدين وعلم الدين
ويبقى الود ما بقي العتاب
أقولها كلمة صدق
نمل ونحل
ما لهذه الشجرة لا تنمو؟!
بقعة زيت على محيط هادئ
كلمات تحت كلمات
أبراج بلا نوافذ
حرية الذين يعلمون
بل من هنالك نبدأ
أضداد تتزاحم!
طالبة وطالب
أهو احتجاج على أنهم أحياء؟!
مفلسون في ثياب الأغنياء
النفخة الكذابة
قالت الشمس للسحب
حوار مع وراق
مغامرات محسوبة!
قوة المستغني
قراءة في كراسة مجهولة
هيا إلى اقتحام العقبة
سؤال عن الثقافة وجوابه
مدينة الفكر كثيرة الأبواب
حوار على الورق (1)
حوار على الورق (2)
حوار على الورق (3)
مصر هي أنت يا صديقي
لك أنت الولاء يا مصر
قيمة من التراث تستحق البقاء
ابن رشد في تيار الفكر العربي
طريقة الرمز عند ابن عربي في ديوان «ترجمان الأشواق»
من وحي الكعبة
تربية الضمير الديني
الشعائر وما وراءها
الفلسفة شيء والدين شيء آخر
ذلك دور المسلمين
نعم، إسلامنا يكفينا ولكن كيف؟
الدين والتدين وعلم الدين
ويبقى الود ما بقي العتاب
أقولها كلمة صدق
نمل ونحل
ما لهذه الشجرة لا تنمو؟!
بقعة زيت على محيط هادئ
كلمات تحت كلمات
أبراج بلا نوافذ
حرية الذين يعلمون
بل من هنالك نبدأ
أضداد تتزاحم!
طالبة وطالب
أهو احتجاج على أنهم أحياء؟!
مفلسون في ثياب الأغنياء
النفخة الكذابة
قالت الشمس للسحب
حوار مع وراق
مغامرات محسوبة!
قوة المستغني
قراءة في كراسة مجهولة
هيا إلى اقتحام العقبة
سؤال عن الثقافة وجوابه
مدينة الفكر كثيرة الأبواب
حوار على الورق (1)
حوار على الورق (2)
حوار على الورق (3)
مصر هي أنت يا صديقي
لك أنت الولاء يا مصر
قيم من التراث
قيم من التراث
تأليف
زكي نجيب محمود
قيمة من التراث تستحق البقاء
1
هي حقيقة توشك أن تكون واضحة بذاتها ، ليست بحاجة إلى برهان يقام على صوابها؛ لأنها حقيقة يدركها الإنسان بفطرته إدراكا مباشرا أو تكاد؛ وأعني بها أن الولد إذا أراد أن يحيا على نهج والده، فهو لا يطالب أن تجيء المحاكاة قولا بقول وفعلا بفعل، فذلك في منطق الحياة ضرب من المحال؛ فشجرة الورد تجيء على صورة شجرة الورد التي سبقتها، لكنها لا تجيء مطابقة لها مطابقة كاملة في فروعها وأوراقها وورودها. وإن أصحاب المعرفة بدنيا النبات ليزعمون لنا بأنك لن تجد في ملايين الملايين من وحدات النبات، ورقتين تطابق إحداهما الأخرى في كل أجزائها، وذلك هو سر الحياة في شتى كائناتها: أن يكون لكل كائن على حدة فردية لا يشاركه فيها كائن آخر، وحتى التوائم، فمهما بلغ التشابه بينهم، فيكفي لاختلافهم اختلاف البصمات.
وإذا كان ذلك هو مبدأ الحياة في تصويرها للأحياء من أدناها إلى أعلاها، فكيف بالإنسان الذي جعله الله مسئولا عما يفعل، لا يشفع له أن يكون قد جرى في فعله مجرى السالفين، وإذن فهي - كما قلت - حقيقة توشك أن تكون من البدائه الأولية؛ ألا يكون المقصود بمحاكاة الأواخر للأوائل، محاكاة لا تدع مجالا للإبداع وللإرادة الحرة تختار لتقع عليها تبعة اختيارها.
فماذا نعني حين نوصي المعاصرين بأن يترسموا في سيرهم خطو السالفين؟ ماذا نعني حين ندعو إلى إحياء تراث الآباء ليسري في حياتنا الحاضرة سريان الزيت في الزيتونة؟ ماذا نعني حين نلتمس لأنفسنا طريقا نجمع فيه بين القديم والجديد، بين الموروث والمعاصر؟ ولقد يسهل على بعضنا - أحيانا - أن يطالبوا الشاعر في يومنا بأن ينظم على غرار ما نظم الشعراء الأقدمون، أو أن يحكم القاضي في الناس بما كان يحكم به قضاة الأمس البعيد، ولكن ماذا عساهم أن يقولوا في علماء اليوم وبين أيديهم من المسائل والتجارب ما لم يحلم به أحد من السابقين - ولست أريد بالسابقين أولئك الذين عاشوا منذ كذا قرنا من الزمان، بل أريد من عاش منهم في القرن الماضي أو الذي سبقه؟ إن حياة الناس اليوم، ليست كلها مركبات لفظية، صيغت شعرا أو نثرا، حتى يسهل علينا أن نطالب المعاصرين بأن يحركوا أقلامهم أو ألسنتهم بمثل ما تحركت عند القدماء ألسنة وأقلام، بل الحياة أبحاث علمية تجري في المعامل، والحياة مكنات تدور تروسها وعجلاتها في المصانع، والحياة نظم في التعليم، ونظم في الإدارة، ونظم في إنتاج السلع وتوزيعها، والحياة طائرات وصواريخ، والحياة نقل للأعضاء من بدن إلى بدن، والحياة استزراع للصحراء، بل هي استزراع للهواء وسطح الماء. وإن طريق القول ليطول بنا، لو أخذنا نسرد الأمثلة بالمئات، لنقول ماذا هي حياة اليوم، فكيف يجوز للوهم أن يتوهم بأن حياة العصر يمكن أن تصب بحذافيرها في قوالب السالفين؟
ومع ذلك، فهنالك معنى مفهوم - نبحث عنه لنبسطه فيصير واضحا بعد إبهام - إذا ما طالبنا أنفسنا بإحياء الماضي إحياء يسري به في جسم الحياة الحاضرة. وإن ذلك المعنى المبهم ليأخذ في الظهور، حين نتصور محاكاة الأواخر للأوائل، على نحو يجعلها محاكاة في «الاتجاه» لا في خطوات السير، محاكاة في «الموقف» لا مادة المشكلات وأساليب حلها، محاكاة في «النظرة» لا في تفصيلات ما يقع عليه البصر، محاكاة في أن يكون العربي الجديد مبدعا لما هو أصيل، كما كان أسلافه يبدعون، دون أن تكون الثمرة المستحدثة على يدي العربي الجديد هي نفسها الثمرة التي استحدثها العربي القديم، محاكاة في «القيم» التي يقاس عليها ما يصح وما لا يصح، كما يأخذ زيد من خالد مسطرته ليقيس عليها قطعة من قماش، بعد أن كان خالد لا يقيس عليها إلا خطوطا على ورق؛ المسطرة واحدة، وأما المواد المقيسة فمختلفات. وهكذا تكون حالنا إذا ما استعرنا من الأقدمين «قيمة» عاشوا بها، ونريد اليوم أن نعيش بها مثلهم، لكن الذي نختلف فيه وإياهم، هو المجال الذي ندير عليه تلك القيمة المستعارة.
2
والقيم كثيرة، تلك التي كانت تنتظم حياة أسلافنا فكرا وسلوكا، والتي يمكن أن نستعيرها لحياتنا المعاصرة، لتكون هي الحلقة الرابطة بين ماض وحاضر، لكني سأقصر الحديث في هذا المقال على إحداها، فأتعقبها تحليلا وتوضيحا؛ لأبين كيف كانت منزلتها في فكر السلف، وكيف يمكن امتدادها إلى حياتنا الفكرية الراهنة، فتصبح إحدى همزات الوصل التي تجعل من الحلقات سلسلة متصلة أولا بآخر.
والقيمة التي اخترتها لتكون مدار النظر، هي الطريقة الإدراكية التي أزعم أنها كانت نهجا مأثورا عند آبائنا العرب والمسلمين، فطريقتهم في التفكير - فيما أزعم - لم تكن تصعد من الشواهد الجزئية، والأحداث الجارية، إلى المبدأ العام الذي يستقطبها، بل كانت تهبط من مبدأ يفرض نفسه عليهم فرضا؛ ليستخرجوا منه ما يستخرجونه من قواعد للفكر والسلوك. على أن مصادر ذلك الإلزام قد تتعدد، فإما أن يكون المبدأ المفروض ملزما لكونه وحيا من السماء، أو إلهاما بفكرة، أو حدسا لها (بالمعنى الاصطلاحي لكلمة حدس، وهو أن يكون الإدراك عيانا عقليا مباشرا) أو أن يكون ملزما؛ لأنه تقليد راسخ، أو عرف بين الناس تواترت به الأعوام.
وسنضرب للقارئ أمثلة من مجالات التفكير على اختلافها؛ ليرى كيف كانت الحركة هابطة من العام إلى الخاص، لا صاعدة من الخاص إلى العام، لا فرق بين أن يكون المجال مجال علم رياضي أو طبيعي، أو أن يكون مجال أدب أو فن، أو مجال لغة أو تشريع، ففي جميع الحالات كان العقل العربي يلمع أولا بالمبدأ العام، ثم يتدرج منه نزولا إلى تفصيلات التطبيق.
ولنبدأ باللغة العربية؛ لأن أول ما يميز العربي - بداهة - هو أن لسانه عربي. وإذا كان ذلك صحيحا بالنسبة إلى كل لغة وأصحابها، فهو صحيح بصفة خاصة بالنسبة إلى العربي؛ وذلك لأن عبقرية العرب الأولى، هي - كما قد قيل - في لسانهم. إنهم لم يعتزوا بشيء اعتزازهم بلغتهم؛ إذ هي لم تكن بينهم مجرد أداة للتفاهم، بل كانت أكثر من ذلك، كانت هي المجال الأساسي الذي انصبت عليه طاقتهم الفنية. ولا عجب أن يكون القرآن الكريم هو معجزة الإسلام.
فانظر إلى هذه اللغة، تجد مفرداتها قد جاءت انبثاقا من ينابيع، فتدفقت منها مجموعات مجموعات، وكأن هذه المجموعات انعكاس للقبائل والعشائر، يرتد كل منها إلى جد كبير. وأما تلك الينابيع الدفاقة بمجموعات الألفاظ، فهي الأصول الثلاثية - في الأعم الأغلب - ويكفيك الأصل الثلاثي لتظل تخرج من جوفه مشتقاته، فيكون لك من هذه المشتقات ما تواجه به مواقف الحياة الواقعة جميعا. إنك في اللغات الأخرى قد تضطر في حالات كثيرة إلى حفظ المفردات كما هي، وبغير تعليل؛ لأنها هكذا جاءت، وأما في العربية فعندك أصل واحد - هو الثلاثي في معظم الأحيان - ولا ضرورة بعد ذلك لحفظ المفردات، وكل ما عليك أن تفعله، هو أن تشتق من ذلك الجذر أي فرع تشاء؛ فهي لغة تنسقها قواعد مطردة، لا يشذ فيها إلا أقل من القليل. والقواعد بدورها تنحدر من مبدأ يضمها، فإذا عرفت المبدأ، نزلت منه إلى القواعد، ومن القواعد تنزل إلى مواقف التطبيق.
إذا بدأت من كلمة «عقد» - مثلا - انبثقت لك فروع قد تبدو متباعدة المعاني، لكنها معان من أسرة واحدة، جدها الأول هو هذا الثلاثي، فمنه تجيء: عاقد، ومعقود، وعقد (بسكون القاف)، وعقد (بكسر العين) وعقيدة، وعقدة، ومعقد ... إلخ. وإنك لتعرف مدى علمية هذه اللغة واطرادها، إذا حاولت أن ترجع إلى ما يقابل هذه المعاني الفرعية في الإنجليزية - مثلا - فعندئذ تجد كل معنى قد جاء من ناحية، بحيث لا يدرك الفاحص صلة الرحم بين أفراد الأسرة الواحدة، وعليك في الإنجليزية - في حالة كهذه - أن تحفظ كل لفظة بمعناها، مستقلة عن أخواتها. وأما في العربية فإذا عرفت الجد عرفت شجرة الأسرة بكل فروعها، من الإخوة إلى أبناء العمومة والخئولة، إلى الأحفاد وما بعد الأحفاد.
وبسبب هذه الروابط العضوية في مفردات اللغة العربية، كان في مقدور بعض علماء اللغة (ولا سيما مدرسة البصرة) أن تضع القواعد «العقلية» العلمية التي يقاس إليها في معرفة الصواب والخطأ، وفي صياغة كلمات جديدة للمواقف الجديدة، دون الخروج على أصول اللغة وروحها.
3
ونسوق مثلا آخر للنهج العقلي عند أسلافنا، وهو النهج الذي يجعل سيره - كما قلنا - متجها من مبدأ عام مجرد، إلى تطبيقاته. وسنأخذ هذا المثل من أحد ميادين الفكر الفلسفي، وهو ميدان «الأخلاق». ولقد تعمدنا اختيار هذا الميدان، لكون «الأخلاق» طابعا مميزا للثقافة العربية والإسلامية، إذا ما أجرينا موازنة بينها وبين ثقافات أخرى؛ فبينما نجد من الثقافات الأخرى ما يضع ارتكازه على التحليل العلمي لظواهر الطبيعة، ومنها ما يدير أرجاءه حول محور العسكرية والقتال والغزو، منتصرا مرة ومدحورا مرة أخرى، ومنها ما يجعل الأولوية للإبداع الفني من عمارة ونحت وتصوير؛ نجد الثقافة العربية والإسلامية قد أقامت بناءها على ركيزة أساسية، هي المبادئ التي ينبغي أن تحكم طرق التعامل بين الناس، وتلك هي مبادئ الأخلاق.
ونرجع إلى ألمع فيلسوف عربي في مجال «الأخلاق»، وهو ابن مسكويه، لنطالع كتابه «تهذيب الأخلاق، وتطهير الأعراق»، متجهين بأنظارنا نحو منهج السير، فلا نكاد نقرأ صفحاته الأولى، حتى يتبين ذلك المنهج في جلاء، ويظل يزداد لنا وضوحا كلما أوغلنا في القراءة، فهو منذ البداية يبحث عن المبدأ العام الذي يصلح لأن تشتق منه قواعد الأخلاق، التي على أساسها نميز بين ما هو خير وما هو شر في الفعل الإنساني.
وكان ذلك المبدأ العام عند ابن مسكويه هو: طبيعة النفس الإنسانية؛ ما جوهرها الذي تتميز به من سائر الطبائع؟ لأننا إذا ما عرفنا حقيقة الإنسان التي فطر عليها لكي يكون إنسانا، عرفنا بالتالي بأي مقياس نقيس الأفضل والأرذل، فكل صفة أو فعل، تدنو بصاحبها - أو يدنو بصاحبه - من تمثل الجوهر الإنساني، كانت تلك الصفة، أو كان ذلك الفعل فضيلة. وضد ذلك هو الرذيلة. ولا يفوت ابن مسكويه أن يلفت أنظارنا إلى أن الكمال في الإنسان من حيث هو إنسان، ليس مجرد حاصل جمع كمالات أجزائه، كأن يكون البصر سليما والسمع دقيقا، والكبد والرئتان ... إلخ؛ إذ الحكم على أخلاقية الإنسان لا يبنى على هذه الأعضاء في أدائها لوظائفها البدنية، وإنما يبنى ذلك الحكم على أن يحقق الإنسان من حيث هو كائن متكامل، الغاية التي من أجلها صوره الله إنسانا.
ولا يطول النظر بابن مسكويه، حتى يتبين له أن للنفس قوتين، ولكل منهما كمالها، فله - من جهة - «القوة العالمة» وكمالها إدراك المعارف والعلوم، ثم له - من جهة أخرى - القوة العاملة، وكمالها تدبير وسائل العيش ونظمه تدبيرا محكما.
وما دمنا قد وضعنا الأساس العام، فيسهل علينا بعد ذلك أن نستخرج القواعد الفرعية التي يجب اتباعها، لكي يتحقق لنا الكمال الذي تتطلبه فطرة الإنسان. ولعل هذا الموضع من الحديث، أن يكون أنسب موضع تجري فيه مقارنة سريعة بين الوقفة العربية في منهاجها، والوقفة اليونانية؛ وذلك لأن أقل إلمام بالفلسفة اليونانية، يدفع صاحبه دفعا إلى السؤال: ولماذا يكون هذا الاتجاه في السير من المبدأ العام إلى المواقف التطبيقية، مميزا للعقل العربي؟ أليس هو بعينه ما قد جرى عليه فلاسفة اليونان، بل وغيرهم من فلاسفة سائر العصور؟ وأضف إلى ذلك أن ابن مسكويه قد أخذ عن أفلاطون أخذا مباشرا تحليل النفس إلى جوانبها الثلاثة: الناطقة، والغضبية، والشهوانية.
وجوابنا على هذا السؤال ذو شقين: أولهما أنه لولا أن العقل العربي قد تميز بهذه الصفة نفسها التي تميز بها العقل اليوناني، من حيث وضع المبدأ الأول، ثم النزول منه إلى نتائجه، لما استطاع ذلك العقل العربي أن يتمثل الفلسفة اليونانية التي نقلها إلى لغته العربية نقلا كاد أن يكون كاملا. وثانيهما أن ابن مسكويه - شأنه في ذلك شأن سائر الفلاسفة المسلمين - لم يقصر نفسه على الحدود الأفلاطونية، بل إنه استخدمها مع غيرها من المصادر التي بين يديه، في تكوين فكرته الخاصة. على أن ما يعنينا نحن في هذا المقال، هو معالم الوقفة العربية والإسلامية عند التفكير النظري. ولا يغير من الأمر شيئا بعد ذلك، أن يكون هنالك من شاركوه في تلك المعالم؛ كلها أو بعضها.
ولقد جاء هذا الطريق النازل من المبدأ العام إلى الموقف الخاص، من حيث التفكير النظري في فلسفة الأخلاق، متطابقا أشد التطابق مع ما تقتضيه العقيدة الإسلامية في هذا الباب؛ إذ إن مبادئ الأخلاق عند تلك العقيدة، هي ما نزل وحيا من الله سبحانه على نبيه المصطفى، عليه الصلاة والسلام. وإذن فنحن مرة أخرى أمام فكرة ترتسم لنا بادئ ذي بدء، ومنها نبدأ سيرنا نحو التطبيق في عالم السلوك. فلو سئلنا بعد ذلك: كيف عرفتم أن الفعل الفلاني فضيلة؟ كان جوابنا: عرفناه فضيلة؛ لأنه متفق مع الفكرة الأولى الموحى بها.
وليس مثل هذا الاتجاه في السير هو الملحوظ دائما عند جميع الشعوب ومختلف الثقافات، فهنالك من يرون أن نقطة البدء لم تكن مبدأ كاملا، أو فكرة عامة، بل كانت نقطة البدء خبرات إنسانية في ممارسة الحياة مع وقائع الطبيعة والمجتمع، ثم استخلص الإنسان مع الزمن ما قد نفعه، وما قد ألحق به الضرر، فجعل الأول خيرا والثاني شرا. ومعنى ذلك أنه بينما أسس الحياة الخلقية نراها نحن وكأنها هبطت علينا من السماء، فقد يراها سوانا وكأنها نبتت لهم من جوف الأرض.
4
ومن وقفة العربي في فلسفته الأخلاقية، حيث جعل الأسبقية للمبادئ العامة، يتلقاها وحيا أو حدسا أو تقليدا وعرفا، وعليه تطبيقها بغض النظر عن النتائج التي تترتب في مجرى حياته العملية على هذا التطبيق، أقول: من تلك الوقفة في مجال الأخلاق، ننتقل إلى وقفة له أخرى شبيهة، في مجال الفنون، سواء في ذلك فن الأدب أو فن التصوير أو غيرهما من فروع الإبداع الفني. فها هنا كذلك نجد اتجاه السير نازلا من «الفكرة» العامة إلى تفصيلات تجسدها. إن الفنان العربي لا يبدأ من لقطة حسية إلى فكرة تكمن وراءها - كما قد تكون هي الحال عند رجال الفن في ثقافات أخرى - بل يبدأ الفنان العربي من تصور عقلي مجرد، ثم يضع له التفصيلات التي تلائمه.
ولما كان الشعر هو الفن العربي الأول بلا نزاع ولا شك، فانظر إلى الشاعر العربي من أين يبدأ، وإلى أين ينتهي. إنه إذا ما تغزل، فالأرجح أن ترتسم في ذهنه صورة مثلى للمرأة على إطلاقها، كأنما هو يبدأ بتعريف منطقي للمرأة «النوع» وليس الذي أمام تصوره امرأة بعينها، حتى ولو أطلق على الصورة التي يتمثلها اسما، فقال إنها ليلى، أو هند، وحتى لو حاول أن يخلع ذلك الثوب العام لامرأة بعينها؛ لأنه في هذه الحالة يرفع تلك المرأة المفردة إلى الفكرة المثلى المقصورة، ولا ينتقص من الصورة المثلى لكي تتناسب مع البشر ونواقصه .
وإذا وصف الشاعر العربي حصانا، فقال عنه إنه: «مكر، مفر، مقبل مدبر معا، كجلمود صخر حطه السيل من عل» فهو إنما يصور المثال الأفلاطوني للحصان كما ينبغي أن يكون، ثم يخلع ذلك التعريف الأمثل على حصانه الفرد، ولا يعنيه ألا يكون حصانه الفرد مطابقا للمثل الأعلى المرسوم. وهكذا قل في شتى الصفات التي ينعت بها الشاعر العربي سائر الأشياء، فشعره أقرب إلى أن يكون صورة لفكره منه إلى أن يكون صورة لحسه. ولقد كان العقاد في تعريفه للشاعر إنما يعرف الشاعر العربي قبل أي شاعر سواه، وذلك حين قال عن الشعر إنه مقتبس من نفس الرحمن، وأن الشاعر الفذ هو للأناسي بمثابة الرحمن للشاعر؛ أي أن الشاعر ينزل منزلة وسطى بين الخالق من جهة وسائر المخلوقات من جهة أخرى، فيستلهم من الله سبحانه وتعالى صورا مجردة، ومنها يهبط إلى الكائنات الجزئية التي تتفاوت بعدا أو قربا من تلك الصور المجردة، وبذلك يكون الشاعر أقرب من غيره إلى فهم حقائق الكائنات؛ لأن بين يديه النماذج الإلهية التي على ضوئها ينفذ إلى حقائق الأفراد.
ولعل شيوع «الحكمة» في الشعر العربي أن يكون دالا على تلك الخاصة المميزة التي أشرنا إليها، وهي نزوع العقل العربي نحو إدراك الحقيقة في صورتها المجردة العامة، حتى ولو لم يكن قد صادف لها في دنيا الكائنات الجزئية أفرادا تؤيد صوابها. ومن ناحية أخرى نقول كذلك إن نزوع العقل العربي نحو ما هو مجرد، يدركه بلمعة مباشرة، لا استخلاصا من أمثلة فردية، قد جر وراءه نتيجة أخرى في الأدب العربي القديم، وهو خلوه من أدب القصة وأدب المسرح، لماذا؟ لأن هذا الأدب إنما يرتكز أساسا على تصوير اللحظات الجزئية، متمثلة في سلوك الأفراد، وفي خاطرات الوجدان، فإذا لم تكن «الجزئيات» المفردة من أحداث ومن أشخاص تسترعي انتباه الأديب، انصرافا منه إلى ما هو مجرد وعام، سقط من حسابه - بالتالي - أدب القصة، وأدب المسرح.
ومن وقفة العربي إزاء الفن الأدبي، ننتقل إلى وقفته في مجال الفن التشكيلي من تصوير وزخرفة وما إليهما، فها هنا كذلك نرى في وضوح ما قد زعمناه، وهو ميل العربي نحو رؤية المجرد العام، غاضا بصره - عن عمد أو عن غير عمد - عن التفصيلات التي تميز الأفراد. إن المصور العربي والإسلامي، إذا ما صور شخوصا إنسانية أو حيوانية، صورها على كثير من الإبهام، فالملامح مدمج بعضها في بعض، وليست مفصلة، على نحو ما يرسم الفنان التجريدي في عصرنا، إلى حد كبير، فهل نسرف في التعليل إذا قلنا إن الفنان العربي بمثل هذا التجريد والتبسيط، يستهدف الأنواع والأجناس، لا الأفراد، أو قل إنه يستهدف تصوير «الفكرة» وليس تصوير الفرد المتعين الذي يجسدها؛ إذ الأفراد - في عقيدته - مصيرهم إلى زوال، وهو إنما ينشد الدوام والخلود، والدائم الخالد هو «الفكرة» لا تجسيداتها المشخصة الفانية، حتى ليحق لنا أن نؤكد ما كررناه في مناسبات كثيرة أخرى، وهو أن ثقافتنا العربية التقليدية، محورها «مبادئ» لا «أشياء»، أي أن محورها «أخلاق» لا «جمال» (وأستخدم هذه الكلمة بالمعنى المقصود بها في الأستاطيقا أو ما يطلق عليه في مباحث الفلسفة اسم علم الجمال)، وربما كان ذلك هو ما قصد إليه ماسنيون، في حديثه عن طرق التعبير الفني عند المسلمين؛ إذ قال: إنه لا وجود «للأشياء» في الفكر الإسلامي، والمسلمون في فن التصوير يسقطون الوجوه والملامح لبطلانها.
وهذه الإشارة من ماسنيون تفتح لنا بابا للحديث عن موقف المسلم من الفن التشكيلي بصفة عامة، فلماذا لم يوجه إليه الفنان الإسلامي اهتماما كافيا، وصب معظم طاقته الفنية في هذا المجال التشكيلي على فن الزخارف؟ أكان ذلك خوفا على نفسه من الردة إلى الوثنية؟ أكان استجابة منه لمانع ديني ورد صراحة في الشريعة الإسلامية؟ أم كان ذلك قصورا من الفنان الإسلامي، لا أكثر ولا أقل؟
والجواب عندنا هو أن الأمر لا يعلله شيء من هذه الفروض، بل يعلله على الوجه الصحيح طريقة العربي في إدراك الحقيقة المجردة قبل تجسيداتها المفصلة، وتطبيق ذلك في مجال الفن هو أن يتجه الفنان إلى هندسة الأشكال لما تنطوي عليه من حقائق رياضية، ولأن رؤية الحقائق في تجريدها، هي عنده أقرب الطرق التي ينتقل بها إلى شهود الله عز وجل. ويخيل إلي أنك إذا ما سألت فنانا عربيا أو إسلاميا: لماذا لا تتجه إلى «الواقع»؟ لأجاب: وهل يكتمل الواقع إلا إذا مددنا الوجود الجزئي إلى ما يرتبط به من جوانب وراء هذا الواقع؟ إن «الواقع» لا يقتصر على الجزئي كما تحدده حدوده المرئية، بل إن ما هو متضمن وراء تلك الحدود، جزء من حقيقة ذلك الجزئي نفسه، وأنا (والكلام للفنان الذي نفترضه) أصور «الحقيقة» الواقعة، بجانبيها المنظور والمستور معا.
ولست أريد أن تفلت مني هذه الفرصة، قبل أن أدحض الزعم بأن الإسلام يحرم الفن التشكيلي (التصوير والنحت) بدليل الحديث الشريف: «يعذب المصورون يوم القيامة.» ولن أجد ما أستند إليه خيرا من نص ورد في ذلك عند «أبي علي الفارسي» النحوي، في مخطوطة ذكرها بشر فارس في كتابه عن «سر الزخرفة العربية»، وقال إن تلك المخطوطة موجودة في مكتبة البلدية بالإسكندرية، فأبو علي الفارسي يقيم رأيه على أساس لغوي في فهمنا للحديث الشريف السالف الذكر، قياسا على فهمنا للآية القرآنية الكريمة:
إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا (سورة الأعراف) فيقول أبو علي الفارسي إن الإشارة هنا إلى «العبادة» لا إلى من «صاغ عجلا، أو نجره، أو عمله بضرب من الأعمال.» وعلى هذا الغرار ينبغي أن نفهم الحديث الشريف: «يعذب المصورون يوم القيامة.» فالمقصود هو أولئك الذين يضعون الله (تعالى) في صورة يعبدونها، لا الذين يصورون كائنا ما، دون أن تكون فكرة العبادة واردة في الأذهان.
وإذن فلا بأس في أن يكون للمسلم فن تشكيلي. وخلاصة ما أردنا أن نثبته عن الفن العربي والإسلامي في هذا المجال، هو أنه فن «فكرة» قبل أن يكون فنا مراده أن يعكس الكائنات على الخامة التي يستخدمها، بكل تفصيلاتها أو ببعضها، على سبيل المحاكاة للمحاكاة ذاتها. وإذا قلنا إنه فن «فكرة»، فقد قلنا بالتالي إنه فن للمبادئ المجردة، لا للمخلوقات المجسدة.
5
هذه صور من مجالات الفكر والفن في تراثنا العربي والإسلامي، سقناها لنبين بها ما قد زعمناه، من أن اتجاه العقل العربي، إذ هو ينتج فكرا أو يبدع أدبا وفنا، هو أن يسير من مبدأ عام يأخذه منذ البداية مأخذ التسليم، نزولا إلى ما يترتب عليه من تفصيلات الحياة العملية. وأهمية هذه الطريقة في النظر والعمل، هي أن يدخل الإنسان خضم الحياة مزودا ببوصلة تهديه سواء السبيل.
وواضح أنها طريقة تختلف كثيرا عما يقتضيه المنهج العلمي في هذا العصر الذي استحدث له منهجه مع النهضة الأوروبية في القرن السادس عشر؛ فمنهج العلم - إذا كان علما طبيعيا (أعني الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا ... إلخ) - يقتضينا أن نبدأ بالمعطيات الجزئية صعودا إلى المبدأ العام أو القانون العلمي.
على أن الاقتصار على أحد هذين المنهجين دون الآخر في جميع ميادين الفكر والفن، له خطورته البالغة في حياة الناس. فإذا كان لأبناء الحضارة الغربية القائمة من شكاة يصرخون بها في ألم وحسرة، فهي أن طغيان العلم ومنهجه على الإنسان، قد قضى على شعور الفرد بذاته المستقلة المتميزة؛ لأن ما هو خاضع للعلم، مشترك وموحد بين الناس أجمعين، فماذا يصنع الفرد المتميز بشخصيته، بجوانبه الفريدة التي تميز بها، ويريد أن يفصح عنها في حياته الجارية.
وكذلك إذا كانت لنا أبناء الأمة العربية من شكاة نصرخ بها في خشية وقلق، فتلك هي أننا لو أسلمنا كل جوانب حياتنا لمبادئ صاغها لنا الآباء الأولون، فماذا نصنع بتفصيلات الحياة العصرية المليئة بالعلوم والصناعات، إذا رأينا أن تلك التفصيلات تأبى أن تنصاع للمبادئ المأخوذة بادئ ذي بدء مأخذ التسليم؟
وهنا ينشأ السؤال الهام، وهو: أمن الحتم أن يكون إما الحياة كلها للعلم ومنهجه الاستقرائي، وإما حياة كلها للانضواء تحت مبادئ مقبولة سلفا؟ أهو مستحيل على الإنسان أن يحيا في ساحة من قسمين، لكل منهما منهجه الذي يلائمه؛ فقسم للعلوم وما يتفرع عنها من صناعات؛ ويكون له منهجه القائم على تقصي الوقائع قبل صياغة القوانين، وقسم آخر لحياة القيم الخلقية والجمالية، وفيها يكون السير مهتديا بمبادئ مسبقة.
على أننا حتى في هذا القسم الثاني، لا بد من مرونة التكيف كلما ارتد إلينا سلوكنا العملي بنتائج ليست هي التي أردناها، ففي حالات كهذه لا مناص من مراجعة المبادئ، لنحل غيرها مكانها، وفي هذه المراجعة المستمرة، والسائرة مع الأحداث، يكون تطور الحياة وتجددها نحو ما هو أصلح وأرقى.
وعودا بنا على ما بدأنا به في عنوان هذا المقال، ففي تراثنا الفكري والفني قيمة سارية، هي النزوع نحو الاهتداء بمبادئ أولية قبل الخوض فيما نهم بالخوض فيه، ونحن هنا نقول إنها قيمة تستحق منا أن نبقي عليها في ميادين الحياة الخلقية والفنية، ولا نستثني إلا ميدان العلوم؛ لأنه ميدان لا حيلة للإنسان فيه إلا أن يلتزم منهج التفكير العلمي، وبالتالي فلا اختلاف فيه بين شعب وشعب من حيث الخصائص القومية. على أننا نعود إلى الإشارة بأن القيمة الموروثة في جوانب الحياة اللاعلمية، وإن تكن حقيقة منا بالبقاء، لما تحمله في طيها من ملامح مميزة، إلا أنه لا مندوحة لنا عن تعديلها هنا وهناك، آنا بعد آن، كلما جاءتنا الدنيا بمشكلات يستعصي حلها بذلك الجانب الموروث.
ابن رشد في تيار الفكر العربي
1
مجال النظر في هذا البحث محدود بالكتب الثلاثة الآتية لابن رشد: «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال» و«الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة» و«تهافت التهافت»، وهي الكتب التي عرض فيها ابن رشد آراءه الخاصة، في مشكلات كانت قد لبثت فترة طويلة من الزمن، مدارا للنظر عند رجال الفكر المسلمين. ولم يكن ابن رشد في هذه الكتب - كما كان في معظم كتبه الأخرى - شارحا لفلسفة غيره، مع كل ما تميز به ذلك الشرح من أصالة، وما اشتمل عليه من إضافات.
ولقد انتهت بي محاولة النظر، إلى نتائج أرجح لها الصواب، وأرجو أن تكون جديرة بالعرض والمناقشة، ومن أهم تلك النتائج ما يلي:
أولا:
كانت الغاية عند ابن رشد، هي أن يبين أن ما جاء في الشريعة وحيا، فيما له صلة بحقيقة الكون ، هو نفسه ما يستخلصه العقل من دراسته للكون دراسة مباشرة، فكأنما نحن أمام كتاب واحد كتب بلغتين: كتاب الإسلام وكتاب الكون، فنقرأ في هذا ما نقرؤه في ذاك، شريطة أن نحسن فهم اللغة التي ينطق بها كل منهما.
فسلك ابن رشد إلى غايته تلك طريقين، جعل لكل طريق منهما مؤلفا خاصا. أما أول الطريقين فهو أن يبدأ الرحلة من الشريعة لينتهي إلى النتائج التي كان العقل قد وصل إليها في دراسته للكون، وكان ذلك في كتاب «مناهج الأدلة»، وأما الطريق الثاني فهو أن يسير في الاتجاه المضاد، بأن يبدأ الرحلة هذه المرة من النتائج التي حققتها الدراسة العقلية - وهي ما أطلق عليه اسم الحكمة - لينتهي إلى ما أوردته الشريعة وحيا، وكان ذلك في كتاب «فصل المقال». وإذن فالغاية من الكتابين واحدة، وإن يكن قد وصل إليها بالسير في اتجاهين متضادين.
وفي هذا المعنى يقول ابن رشد: «... فالصواب أن تعلم الفرقة من الجمهور، التي ترى أن الشريعة مخالفة للحكمة، أنها ليست مخالفة لها، وذلك بأن يعرف كل واحد من الفريقين أنه لم يقف على كنههما بالحقيقة؛ أعني لا على كنه الشريعة، ولا على كنه الحكمة، ولهذا المعنى اضطررنا نحن، في هذا الكتاب (أي «مناهج الأدلة») أن نعرف أصول الشريعة، فإن أصولها إذا تؤملت وجدت أشد مطابقة للحكمة مما أول فيها، وكذلك الرأي الذي ظن في الحكمة أنه مخالف للشريعة ... لم يحط علما بالحكمة ولا بالشريعة، ولذلك اضطررنا نحن أيضا إلى وضع قول، أعني: فصل المقال في موافقة الحكمة للشريعة.»
1
لكننا نلاحظ أن ابن رشد وهو يسير رحلته بادئا من الشريعة في كتابه «مناهج الأدلة» قد عزز القول بذكر موضوعات مما كان محورا للنظر بين الأطراف المختلفة، على حين أنه في سيره المضاد، البادئ من الحكمة، في كتابه الآخر «فصل المقال»، كاد يقتصر على حديث في قواعد المنهج، دون أن يتعرض للمسائل العينية التي كانت مطروحة للبحث.
ثانيا:
كان ابن رشد أقل إقناعا من خصومه أمام الفكر الإسلامي، وبالتالي لم يترك بعده أثرا يؤثر في دنيا المسلمين، يتكافأ مع الأثر الذي تركه هؤلاء الخصوم - والغزالي منهم بصفة خاصة - فلم يكن عجيبا أن تقل شهرته بينهم عما كان ينبغي لها أن تكون. يقول برتراند رسل: «فيلسوفان إسلاميان يقتضيان منا وقفة خاصة، أحدهما من فارس هو ابن سينا، والآخر من إسبانيا هو ابن رشد. أما ابن سينا فقد كان أبعدهما صوتا بين المسلمين، وأما ابن رشد فكان أكثر شهرة من زميله بين المسيحيين.»
2
ومدار الضعف عند ابن رشد في موقعه من تيار الفكر العربي الإسلامي - كما أراه - هو: (أ)
أنه كان أكثر اهتماما بقواعد المنهج، منه بالتطبيق على فحوى المشكلات نفسها. (ب)
وأنه في بعض المواضع - خصوصا عند إقامته لدليلي العناية والاختراع (في مناهج الأدلة) - قد صادر على المطلوب؛ إذ أيد الشريعة بالشريعة. (ج)
وأنه في نقده للمتكلمين، بأنهم استخدموا الأدلة الجدلية، وكان ينبغي لهم أن يستخدموا الأدلة البرهانية، كان في نقده هذا نفسه - فيما أرى - أقرب إلى الجدل منه إلى البرهان.
ثالثا:
كان من أهم النتائج التي انتهيت إليها من النظر في كتب ابن رشد الثلاثة التي ذكرتها، أن هنالك تشابها في بنية الحركة الفكرية في العالم العربي إبان القرنين الحادي عشر والثاني عشر، وبنيتها إبان القرن التاسع عشر والعشرين، من حيث أن كليهما متفق على أن شريعة الإسلام هي بمثابة الأساس في بنيان الفكر العربي. ثم وفد إلى ذلك الفكر من خارج الحدود فكر آخر، مؤسس على العقل (هو فلسفة اليونان في الحالة الأولى، وهو علوم عصرنا الحاضر في الحالة الثانية)، وفي كلتا الحالتين، رأى فريق من رجال الفكر بأن في ذلك الوافد خطرا يتهدد الفكر الأصيل، بينما وجد فريق آخر ألا خطر هناك، لما بين الوافد والأصيل من اتفاق في الغاية، وإن اختلفا في طرق الوصول. وكان ابن رشد - في الحالة الأولى - أبرز من حمل هذه الدعوى.
فإذا صح هذا التشابه بين العصرين في البنية الفكرية - مع الاختلاف البعيد بينهما في المادة الفكرية المعروضة - كان لنا في هذه المحاولة التي ننظر من خلالها إلى ابن رشد وموقفه، ما قد نهتدي به في حياتنا الثقافية الراهنة.
2
يستهل ابن رشد كتابه «فصل المقال» بقوله: إن الغرض منه هو أن يسأل عن «النظر في الفلسفة وعلوم المنطق» إن كان مباحا بالشرع أم محظورا. ولكي يجيب لنفسه عن سؤاله هذا، رأى أن يحدد «فعل الفلسفة» فقال عنه: «إنه ليس شيئا أكثر من النظر في الموجودات، واعتبارها من جهة دلالتها على الصانع بمعرفة صنعتها.»
3
ولما كان «اعتبار الموجودات بالعقل» قد جاء به الأمر في غير ما آية من كتاب الله، كقوله تعالى:
فاعتبروا يا أولي الألباب ، ثم لما كان «الاعتبار» - كما فهمه ابن رشد - «ليس شيئا أكثر من استنباط المجهول من المعلوم، واستخراجه منه، وهذا هو القياس، أو بالقياس.»
4
كان معنى ذلك هو أن استعمال القياس العقلي، أو قل إنه العقلي والشرعي معا، أمر واجب بحكم الشريعة نفسها؛ فهذه الشريعة لا تقتصر على أن تجيزه، بل هي توجبه.
وإنما يبلغ القياس أتم درجاته، فيما يسمى بالقياس البرهاني، فكيف تتم معرفة الإنسان لله تعالى معرفة برهانية عن طريق دراسة مخلوقاته، إلا إذا سبقتها دراسة تفصيلية لمنطق القياس بأنواعه وأجزائه وقواعده؟
فإذا تقرر أن دراسة هذا المنطق واجبة بحكم الشريعة نفسها، ما دام هذا المنطق هو من النظر بمنزلة الآلات من العمل، وجب علينا أن نستعين بما خلفه القدماء في هذا المجال؛ لأن رجال العلم في أي ميدان، لا يبدءون نظرهم العلمي من الصفر، وكأن أحدا لم يسبقهم إلى شيء منه، بل الحياة العلمية مستمرة، يأخذها عصر عن عصر ليضيف إلى ما أخذه، ثم يسلم الحاصل إلى العصر الذي يليه، فإن كان «غيرنا» قبل ملة الإسلام - هكذا قال ابن رشد - قد ترك شيئا، فيجب الأخذ عنه، «سواء أكان ذلك الغير مشاركا لنا أو غير مشارك في الملة.»
5
على أن يكون أخذنا عنهم مقترنا بالتمحيص النقدي «فإذا كان كله صوابا قبلناه منهم، وإن كان فيه ما ليس بصواب نبهنا عليه.»
6
هذا هو شيء مما بدأ به ابن رشد كتابه «فصل المقال»، فكان حريصا منذ البداية على أن يطمئن بأن الفلسفة جائزة، بل هي واجبة بحكم الشريعة، وهو موقف - كما نرى - يجعل للشريعة أسبقية منطقية على الفلسفة، فكأنما أحكام الشريعة عنده هي بمثابة المسلمات الأولى، التي يشتق منها ما يجوز بالنسبة إلى الفكر الفلسفي وما لا يجوز. وفي رأينا أن ذلك الموقف من ابن رشد يتعارض مع طبيعة الوقفة الفلسفية إذا أخذت على حقيقتها؛ لأن الفلسفة على حقيقتها تأبى المسلمات، مما قد يثير عندنا شيئا من الريبة في أن يكون ابن رشد قد كان يداري العامة حتى لا يتهموه بالزندقة، وهي ريبة تشبه تلك الريبة التي استشعرها ابن رشد نفسه إزاء الغزالي، حين قال عنه: «إنه مع الأشعرية أشعري، ومع الصوفية صوفي، ومع الفلاسفة فيلسوف.»
7
ثم يعلل تقلبه هذا في «تهافت التهافت» بأنه ربما كان مداراة للعامة، لينفي عن نفسه الظنة بأنه يرى رأي الحكماء، فيقول ابن رشد في ذلك: «كبوة أبي حامد هي وضعه هذا الكتاب (تهافت الفلاسفة)، ولعله اضطر إلى ذلك من أجل زمانه ومكانه.»
8
ومعنى هذا كله، هو أن ما زعمه ابن رشد عن نفسه (في مناهج الأدلة، ص185) من سيره مرة من الشريعة إلى الفلسفة، ومرة من الفلسفة إلى الشريعة، على تطابق في الحالتين من حيث النتيجة، ليس صوابا كل الصواب؛ إذ كان سيره من الفلسفة إلى الشريعة أقل رتبة من السير الآخر المضاد؛ لأنه اشترط على نفسه فيه أن يكون مستندا إلى إيمان مسبق بالشريعة، فإذا قيل - كما يقال أحيانا - إن كتاب «فصل المقال» قد جاء دفاعا عن الفلسفة ضد أعدائها، استدركنا على هذا القول بأنه كان دفاعا منقوصا في جانب من أهم جوانبه.
3
قلنا إن الشريعة والحكمة تتأديان إلى حقيقة واحدة، فما الذي يضمن لنا ألا تتعارضا؟ هنا يجيب ابن رشد جوابا لا يقنع إلا المؤمنين مقدما بشريعة الإسلام. ومؤدى جوابه هو أن الشريعة حق والحكمة حق، ولما كان الحق لا يتعدد، كانت الشريعة والحكمة هوية واحدة، وإن اختلفتا في طريقة التعبير، وهذه هي عبارة ابن رشد في ذلك، يقول: «وإذ كانت هذه الشريعة حقا، وداعية إلى النظر المؤدي إلى معرفة الحق، فإنا - معشر المسلمين - نعلم، على القطع، أنه لا يؤدي النظر البرهاني (يقصد مجال الفلسفة) إلى مخالفة ما ورد به الشرع، فإن الحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له.»
9
وواضح أن ذلك من قبيل الأحكام «القبلية» التي يصدرها الإنسان قبل النظر لا بعده، ولو كان المتكلم من غير «معشر المسلمين» لما قطع مقدما بأن «هذه الشريعة حق» على نحو ما قطع ابن رشد.
مرة أخرى نرى ابن رشد يجعل إيمانه بالشريعة بمثابة المسلمة الشارطة، وكان الأجدر للتفكير الفلسفي أن يستقل بذاته، حتى إذا ما انتهى إلى ما يؤيد الشريعة، جاء هذا التأييد أقوى دلالة. وفي هذه الحالة لو سئلنا: ما الذي يضمن لنا ألا تتعارض الشريعة والحكمة؟ كان جوابنا هو: إنه لا ضمان، فهذه هي الشريعة قائمة كما هي قائمة، وها نحن أولاء باذلون الجهد النظري في استكناه حقيقة الكون بالفكر الفلسفي البرهاني، فإن وجدناها متفقة مع الشريعة كان خيرا، وإلا فنحن مضطرون عند التعارض أن نختار بين التصديق القائم على الإيمان الصرف، والأخذ بما أنتجه البحث العقلي، أو نلجأ إلى تأويل الشريعة بما يتفق مع نتائج البرهان العقلي.
إنه إذا انتهى النظر العقلي إلى معرفة تتعارض مع ما ورد في الشريعة عن موضوعها، فلا سبيل أمامنا إلا تأويل ظاهر النص تأويلا، معناه - كما يحدده ابن رشد - هو «إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية، من غير أن يخل ذلك بعادة لسان العرب.»
10
وهنا يفيض ابن رشد في شروط التأويل إفاضة نحس من حديثه فيها أنه يريد أن تضيق حدود التأويل، بحيث لا نلجأ إليه إلا فيما لا حيلة لنا أمامه، إلا أن نؤول ظاهر الشريعة فيه. وحتى في هذه الحالات الضرورية، سنجد في ظاهر الشريعة في مواضع أخرى، ما يؤيد تأويلنا ذاك؛ يقول: «إنه ما من منطوق به في الشرع، مخالف بظاهره لما أدى إليه البرهان، إلا - إذا اعتبر وتصفحت سائر أجزائه - وجد في ألفاظ الشرع ما يشهد بظاهره لذلك التأويل، أو يقارب أن يشهد.»
11
وظاهر الشريعة من حيث جواز التأويل أو عدم جوازه، ثلاثة أصناف: فهنالك ظاهر من الشرع لا يجوز تأويله قط، وظاهر مقطوع بتأويله، وصنف ثالث يقع بين الطرفين، وهو موضع خلاف، فيلحقه بعضهم بالقسم الأول، ويلحقه آخرون بالقسم الثاني. لكن من ذا الذي يقرر للناس هذا التقسيم؟ من ذا الذي يقطع بالتأويل هنا وبعدم جواز التأويل هناك؟ إنه الإجماع الذي يقرر ذلك.
وفي هذا الموضع يلفت ابن رشد أنظارنا إلى نقطة هامة، هي استحالة هذا الإجماع في الأمور النظرية؛ إذ كيف يتحقق الإجماع إلا إذا عرفنا جميع العلماء الموجودين في عصر معين، ثم استطلعنا آراءهم واحدا واحدا في المسألة المطروحة، على شرط ألا يكون هنالك من العلماء من نجهل وجوده، أو نعلمه، لكنه يكتم رأيه. وإذا كان الموضوع موضوع تأويل لظاهر الشريعة، ازداد الأمر صعوبة؛ لأن العلماء قد يتفقون على ضرورة التأويل في موضع من المواضع، ثم يختلفون على طريقته. وإذا كان ذلك كذلك فكيف جاز لأبي حامد الغزالي في كتابه «تهافت الفلاسفة» أن يكفر الفلاسفة المسلمين كأبي نصر الفارابي وابن سينا، على خرقهم للإجماع في التأويل؟
12
مع أنه يكفي أن يكون هنالك من الفلاسفة من يخرق الإجماع، حتى نقول إنه إذن لا إجماع هناك، على أننا نلحظ في هذا تناقضا من ابن رشد، ولا ندري كيف السبيل إلى فضه، وهو أنه في الوقت الذي يجعل الإجماع مدارا لقسمة الشريعة إلى أصنافها الثلاثة من حيث جواز التأويل وعدم جوازه، نراه يلفت أنظارنا إلى ما يشبه الاستحالة في أن يتحقق إجماع على الإطلاق.
ولما كان التأويل مجالا يتعرض فيه المؤول للخطأ، رأى ابن رشد أن يكون للقائم بالتأويل شروط، هي أن يكون من العلماء أصحاب النظر البرهاني؛ إذ الناس على ثلاثة مراتب في قدراتهم الإدراكية، فمرتبة منها هي أولئك العلماء، ومرتبة ثانية هي صنف من الناس مدى قدرته هو أن يستخدموا القياس الجدلي دون القياس البرهاني . والفرق الجوهري بينهما هو أنه بينما البرهاني يبنى على مقدمات يقينية، يكتفي القياس الجدلي بأن تكون المقدمات مشهورة بين الناس، سواء أكانت يقينية في ذاتها أم لم تكن. وكذلك في الناس صنف ثالث، لا يتجاوز في قدراته حدود القياس الخطابي، أعني أن يساق لهم القول على نحو يستريحون إليه ولا عليهم بعد ذلك أن يكون مستدلا من مقدماته استدلالا برهانيا أو جدليا، فمن هذه الجماعات الثلاث، لا يجوز التأويل إلا لجماعة القياس البرهاني.
وهنا نعود إلى ما يمكن للمؤول أن يقع فيه من خطأ، فيقول ابن رشد إنه إذا ما كان من أهل العلم البرهاني، فالخطأ معذور، وأما الخطأ الذي يقع من غير العلماء إذا ما تعرضوا لتأويل الشريعة، فهو إثم محض. والمسألة في مجال النظر الفلسفي كالمسألة في مجال الفقه: «فكما أن الحاكم الجاهل بالسنة، إذا أخطأ في الحكم لم يكن معذورا، كذلك الحاكم على الموجودات إذا لم توجد فيه شروط الحكم فليس بمعذور، بل هو إما آثم وإما كافر.»
13
وما تلك الشروط المطلوبة إلا «أن يعرف الأوائل العقلية، ووجه الاستنباط منها.»
14
وخلاصة القول هي «أن النظر في كتب القدماء (يقصد فلسفة اليونان) واجب بالشرع؛ إذ كان مغزاهم في كتبهم، ومقصدهم، هو المقصد الذي حثنا الشرع عليه، وأن من نهى عن النظر فيها من كان أهلا لينظر فيها ... فقد صد الناس عن الباب الذي دعا الشرع منه الناس إلى معرفة الله.»
15
ويضرب ابن رشد لذلك مثلا، فيقول: «إن مثل من منع النظر في كتب الحكمة من هو أهل لها، من أجل أن قوما من أراذل الناس قد يظن بهم أنهم ضلوا من قبل نظرهم فيها، مثل من منع العطشان شرب الماء البارد العذب حتى مات؛ لأن قوما شرقوا به فماتوا، فإن الموت عن الماء بالشرق أمر عارض، وعن العطش أمر ذاتي وضروري.»
16
4
حين فرغ ابن رشد من كتابه «فصل المقال» كان بذلك قد فرغ من رحلته الأولى، التي بدأها بالنظر فيما خلفه القدماء من فلسفة ومنطق، لينتهي إلى أن الشريعة تؤيده وتحث عليه؛ لأنه بمثابة النظر في الموجودات المصنوعة، نظرا يدل على صانعها. فانتقل بعد ذلك إلى رحلته الثانية المضادة في اتجاهها لاتجاه الرحلة الأولى؛ إذ هي تبدأ هذه المرة من النظر في الشريعة نظرا يدل آخر الأمر على أنه هو ما كان النظر العقلي قد تأدى إليه، وكانت هذه الرحلة الثانية هي موضوع كتابه «مناهج الأدلة في عقائد الملة».
بدأه بإشارة سريعة إلى عمله في المرحلة الأولى، ليبين للقارئ أنه إنما يستأنف بجهده الحالي جهدا سابقا، فقال: «لما كنا قد بينا، قبل هذا، في قول أفردناه (يشير بذلك إلى «فصل المقال») مطابقة الحكمة للشرع وأثر الشريعة بها، قلنا هناك إن الشريعة قسمان: ظاهر ومؤول، وأن الظاهر منها فرض الجمهور، وأن المؤول فرض العلماء.»
17
وبهذه الإشارة السريعة لخص ابن رشد نتيجة من أهم النتائج التي قدمها في كتابه الأول، وهي قسمة الناس إلى جمهور وعلماء. أما الجمهور فلا يجوز له مجاوزة الشرع في ظاهر نصوصه، وأما العلماء فهم وحدهم الذين لهم حق تأويل ذلك الظاهر بمعان مجازية مضمرة فيه، ولكن لا يحل لهؤلاء العلماء أن يفصحوا بتأويله للجمهور، لماذا؟ لأن التأويل يوصل إليه بالقياس البرهاني، على حين أن مدى ما يمكن للجمهور بلوغه هو القياس الخطابي، فإذا أنت حدثت الجمهور بما لا يفهمونه، أحدثت لهم اضطرابا وحيرة بغير جدوى.
كان الهدف الرئيسي أمام ابن رشد من «مناهج الأدلة» هو البحث «عن الظاهر من العقائد التي قصد الشرع حمل الجمهور عليها.»
18
وذلك لأن طوائف أخرى من رجال الفكر في عصره، تأولوا ظاهر الشرع بمعان من عندهم، وقدموها للناس على أن تلك التأويلات هي عقائد الإسلام. ولما كانت تأويلات الطوائف المختلفة متباينة متنافرا بعضها مع بعض، أخذت كل طائفة تقذف ما عداها بأنها إما مبتدعة، وإما كافرة مستباحة الدم والمال.
ويعين ابن رشد الطوائف التي يريد مناقشتها من أجل تفنيدها، لكي يتقدم هو بعد ذلك بما يراه في طريقة النظر إلى العقائد، بحيث يتبين صلتها بالتفكير العقلي، فيقول: «وأشهر هذه الطوائف في زماننا هذا أربعة: الطائفة التي تسمى بالأشعرية، وهم الذين يرى أكثر الناس اليوم أنهم أهل السنة، والتي تسمى بالمعتزلة، والطائفة التي تسمى بالباطنية، والطائفة التي تسمى بالحشوية.»
19 (ولم يذكر الصوفية بين الطوائف، مع أنه تناولها بالمناقشة أيضا).
ويجمل ابن رشد اتهامه للطوائف الأربعة جميعا، قبل أن يبدأ في القول المفصل، فيقول: «كل هذه الطوائف قد اعتقدت في الله اعتقادات مختلفة، وصرفت كثيرا من ألفاظ الشرع عن ظاهرها إلى تأويلات نزلوها على تلك الاعتقادات، وزعموا أنها الشريعة الأولى، التي قصد بالحمل عليها جميع الناس، وأن من زاغ عنها فهو إما كافر وإما مبتدع. وإذا تؤملت جميعها، وتؤمل مقصد الشرع، ظهر أن جلها أقاويل محدثة وتأويلات مبتدعة.»
20
ونقرأ هذا الاتهام الموجه إلى الطوائف المذكورة كلها، ثم ننتقل فورا إلى الطائفة الأولى التي قدمها للمناقشة - وهي الحشوية - فإذا هي بحكم مبدئها لا تأخذ بالتأويل، وتلتزم الظاهر التزاما متطرفا، حتى لتحرم إعمال العقل في شيء منه.
فليس وجه النقص - إذن - في طائفة الحشوية، أنها أولت ظاهرا بمجاز، بل وجه النقص فيها هو أنها انصرفت عن الأدلة العقلية في معرفة وجود الله، قائلة إن طريق هذه المعرفة هو «السمع» لا «العقل»، أي أنه يكفي للإيمان بوجود الله أن يكون صاحب الشرع قد ألقى هذه الحقيقة على مسامع الناس، والشأن في معرفة وجود الله هو نفسه الشأن في كل ما يطلب منا الإيمان به، كالمعاد وغيره، مما لا مدخل فيه للعقل. هذا هو وجه النقص في الحشوية؛ لأنها كانت بموقفها ذاك - بعبارة ابن رشد فيها - «مقصرة عن مقصود الشرع في الطريق التي نصبها للجميع، مفضية إلى معرفة وجود الله تعالى، ودعاهم من قبلها إلى الإقرار به.» إذ دعا الناس إلى التصديق بوجود البارئ بأدلة عقلية منصوص عليها في كثير من الآيات، مثل قوله تعالى:
اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم
إلى غير ذلك من الآيات الواردة في هذا المعنى.
وأراني مضطرا إلى السؤال في هذا الموضع - لأنه موضع نموذجي يمثل ما سوف يتكرر في كتاب «مناهج الأدلة» من أوله إلى آخره - كيف يكون التمثيل لفكرة ما، بآيات من القرآن الكريم، دليلا عقليا برهانيا، وهو نوع الأدلة الذي يجده ابن رشد مميزا للعلماء؟ إننا إذا اتخذنا من آية ما مقدمة نبني عليها قياسنا، كان القياس قائما على منقول لا على معقول، مما يزيل عنه صفة البرهان، اللهم إلا إذا كان المعنى الذي أراده ابن رشد هو ما قد يرد في الآية من موضوعات كونية تصلح للبحث العقلي؛ ففي الآية السابقة - مثلا - ذكر لموضوع «خلق» الله للناس في حاضرهم وفي ماضيهم، ليكون ذلك بمثابة الإشارة إلى ما يمكن التحول إلى بحثه بحثا عقليا، وهو في هذا المثل موضوع «الخلق»، وكيف يفهم بالبراهين العقلية، إما أن يكون ذكر الآية في حد ذاته هو البرهان، فذلك ما أعجز عن رؤيته، وأقول ذلك تعليقا على ما فهمته من المقدمة المستفيضة التي قدم بها المرحوم الدكتور محمود قاسم لتحقيقه لكتاب «مناهج الأدلة»، والتي شعرت خلالها في مواضع كثيرة منها، بأنه يرى أن ذكر الشواهد القرآنية هو في ذاته برهان عقلي على ما يراد إقامة البرهان عليه من الشريعة.
وكأنما تخيل ابن رشد في تعليقه على قصور الرؤية الحشوية، أن أنصار هذه الطائفة قد ردوا على اعتراضه، بقولهم إنه إذا كانت الأدلة العقلية مطلوبة للوصول إلى معرفة الشريعة، لوجب أن يعرض النبي عليه السلام تلك الأدلة العقلية عندما عرض دعوته إلى الإسلام، وهو اعتراض أراه وجيها، لم يجب عليه ابن رشد بما يتناسب مع قوته، إذا قال ما معناه إن العرب جميعا تعترف بوجود الله سبحانه، فلم يكن من الضروري لصاحب الدعوة أن يسوق فيها من الأدلة على وجوده أكثر من أدلة شرعية، فإذا كان بين الناس من لا تسعفه قواه العقلية في متابعة تلك الأدلة، فهؤلاء وحدهم هم الذين يكون إيمانهم قائما على السماع.
ثم ينتقل ابن رشد إلى طوائف الأشعرية وسائر المتكلمين، فيجدهم على نقيض الحشوية؛ إذ هم يريدون ألا يكون التصديق بوجود الله إلا بالعقل، وطريقة ذلك عندهم هي أن يضعوا المقدمات التي يظنون بها اليقين، ثم يستخلصون منها النتائج، مثال ذلك أن يضعوا المقدمات الآتية؛ ليقيموا عليها حدوث العالم، ثم ليقيموا على هذا الحدوث وجود الله الذي أحدثه، والمقدمات هي: (1)
الجواهر لا تنفك عن الأعراض. (2)
الأعراض حادثة. (3)
ما لا ينفك عن الحوادث حادث.
وهنا يتصدى ابن رشد لهذه المقدمات؛ ليبين أنها لا تتصف باليقين، وبالتالي فما يبنى عليها لا يعدو أن يكون جدلا وليس هو بالبرهان. فالمقدمة الأولى هنا تتحدث عن «الجواهر» وكأن وجودها واضح بذاته، مع أنها لو كان وجودها مفروضا على العقل فرضا، لسلم به الجميع، ولقالوا عنه قولا يتفقون عليه، وليست هذه هي الحال. وفي المقدمة الثانية نسبة الحدوث للأعراض، كأن الحدوث لا يكون للجواهر أيضا، فإذا شككنا في حدوث الأعراض، جاز لنا كذلك أن نشك في وجود الجواهر. وأما المقدمة الثالثة فهي لا تحمل معنى واحدا محددا؛ إذ يمكن فهمها على وجهين؛ أحدهما: ما لا يخلو من جنس الحوادث فهو حادث، والثاني: هو ما لا يخلو من حادث مخصوص منها.
21
والخلاصة التي ينتهي إليها ابن رشد إزاء هذا المثل الواحد من أمثلة التفكير عند الأشعرية وسائر المتكلمين، هي أنهم بهذا التفكير لا هم من أهل البرهان الذين يقيمون أدلتهم على مقدمات يقينية واضحة، ولا هم قدموا شيئا يتناسب مع الجمهور؛ لأن سواد الناس لا قبل لهم بهذا الضرب من الجدل العويص، الذي قد يتعذر على كثير من أهل الرياضة في صناعة الجدل، فضلا عن الجمهور.
22
ولا يفوتنا أن نذكر هنا بأن ابن رشد، وقد وضع طائفة المعتزلة بين الطوائف الأربعة، لم يتعرض لمناقشتها مناقشة تفصيلية كالتي أجراها مع الأشعرية، قائلا في ذلك: «وأما المعتزلة فإنه لم يصل إلينا في هذه الجزيرة من كتبهم شيء نقف منه على طرقهم التي سلكوها ... ويشبه أن تكون طرقهم من جنس طرق الأشعرية.»
23
ولقد كان في ذلك على حق؛ لأنه ما دام نقده موجها إلى طريقة القياس التي استخدموها، وهي طريقة الجدل التي تعتمد على مقدمات مشهورة بغض النظر عن يقينها، فإن المعتزلة هي والأشعرية وسائر ضروب المتكلمين سواء، ودحض فرقة منهم هو دحض للفرق جميعا.
وأما الصوفية فبرغم اختلاف طريقتهم عن طريقة المتكلمين، إلا أنها ليست طريقة مركبة من مقدمات واقية، وإنما يعتمد الصوفية في معرفتهم لله على شيء يلقى في النفس إلقاء، فمهما قيل في هذه الطريقة، فهي على أية حال مما لا يندرج تحت مقولة الفكر النظري. وأما وقد دعانا القرآن إلى «النظر» فليست طريقة الصوفية - إذن - هي المقصودة. وإذا فرضنا أن إماتة الشهوات التي يمارسها الصوفي في حياته، شرط ضروري لصفاء الذهن استعدادا للنظر، فليست هي التي تفيد المعرفة بذاتها.
5
تلك كانت لمحة سريعة، أردنا أن نصور بها على سبيل الإيجاز الشديد، وقفة ابن رشد من طوائف المفكرين في عصره. وهي وقفة عمادها الأساسي هو أن تلك الطوائف على اختلافها لم تلجأ في معرفة الله إلى الطريقة الشرعية التي أرادها لنا القرآن الكريم، فهي جميعا متفقة على رفض الفلسفة القديمة الوافدة من أمة غير أمتهم، لكنها لم توفق إلى ما يمكن أن يكون بديلا مقنعا؛ إذ لا بديل عن النظر البرهاني في المعرفة اليقينية. وإنه - أي النظر البرهاني - لطريقة عقلية حثنا الشرع على انتهاجها. ومع ذلك فلم توفق تلك الطوائف إلى انتهاجها على الوجه الصحيح. ومن أبرز ما تتميز به الطريقة الشرعية هذه، أنها تصلح للناس جميعا على اختلاف فطرهم، إذا ما أرادوا معرفة الله سبحانه. ويسأل ابن رشد: «فما هي الطريقة الشرعية التي نبه الكتاب العزيز عليها، واعتمدتها الصحابة؟» ثم يجيب لنفسه عن سؤاله، فيقول إنها طريقة «تنحصر في جنسين؛ أحدهما: طريق الوقوف على العناية بالإنسان، وخلق جميع الموجودات من أجلها، ولنسم هذه دليل العناية. والطريقة الثانية: ما يظهر من اختراع جواهر الأشياء الموجودات، مثل اختراع الحياة في الجماد، والإدراكات الحسية والعقلية، ولنسم هذه دليل الاختراع.»
24
فأما الطريقة الأولى - دليل العناية - فتنبني على أصلين؛ أحدهما: أن جميع الموجودات في هذا العالم موافقة لوجود الإنسان. والأصل الثاني: أن هذه الموافقة هي ضرورة أرادها فاعل قاصد ؛ إذ ليس يمكن أن تكون هذه الموافقة قد جاءت مصادفة. فأما كونها موافقة لوجود الإنسان، فدليلنا اليقيني على ذلك هو موافقة الليل والنهار والشمس والقمر لوجود الإنسان، وكذلك موافقة الأزمنة الأربعة له، والمكان الذي هو فيه أيضا، وهو الأرض، وكذلك تظهر موافقة كثير من الحيوان له والنبات والجماد، وجزئيات كثيرة مثل الأمطار والأنهار والبحار، وكذلك أيضا تظهر العناية في أعضاء البدن وأعضاء الحيوان، أعني أن هذه الأعضاء موافقة لحياة الإنسان ووجوده. ومن أجل هذا كله، وجب على من أراد أن يعرف الله تعالى المعرفة التامة، أن ينظر في منافع الموجودات جميعا.
25
ذلك هو أول الدليلين اللذين ساقهما ابن رشد، ليبين للطوائف الفكرية في عصره كيف يكون الدليل عقليا ومأخوذا من الشرع في آن واحد، ففي القرآن آيات كثيرة تشير إلى هذه العناية بالإنسان، ولقد يكون مثل هذا الدليل صالحا لعصر ابن رشد، لكنه - فيما نرى - يخلو من النظرة العقلية المنهجية كما تصورها الفلاسفة من قديم؛ فلو قال ابن رشد عن هذا الدليل إنه شرعي وكفى لما كان اعتراض، لكنه قال: إنه شرعي ليقول بعد ذلك إنه فلسفي كذلك، مما يجعل الشريعة والفلسفة تتلاقيان، وهو ما لا نراه، فلا الموجودات كلها في هذا العالم موافقة لوجود الإنسان - بدليل أنه يمرض ويموت - ولا هي، حتى إن كانت موافقة لوجوده، أمر ضروري لم يكن من الممكن أن يكون سواه. نعم إن هذين الأصلين - موافقة الموجودات لحياة الإنسان، وكونها موافقة مقصودة بالضرورة - هي مما يقبله السامع قبولا يطمئن له ويستريح، لكن مثل هذا القبول ليس هو ما يتألف منه مقدمات النظر البرهاني الذي أراده ابن رشد في آخر الأمر. وإذن فبينما أقام هجومه على سائر الطوائف في عصره، على أساس أن القياس عندهم كان إما جدليا أو خطابيا، نراه قد لجأ بدوره إلى مثل هذا القياس نفسه.
وليس دليل الاختراع بأسلم من دليل العناية من هذه الناحية، فهو أيضا ينبني عند ابن رشد على أصلين «موجودين بالقوة في جميع فطر الناس»؛ أحدهما أن هذه الموجودات (يعني الحيوان والنبات والسماوات) مخترعة، والثاني هو أن كل مخترع فله مخترع، ولذلك وجب على من أراد معرفة الله حق المعرفة أن يعرف جواهر الأشياء، ليقف على الاختراع الحقيقي في جميع الموجودات. ولكي يؤيد ابن رشد هذين الأصلين، ساق لكل منهما آيات قرآنية؛ ففي كون الموجودات مخترعة، يسوق - مثلا - قول الله تعالى:
إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له ، وفي الأصل الثاني القائل بأن لكل مخترع مخترع، يسوق قول الله تعالى:
أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء ، ولسنا ندري كيف تكون هذه الطريقة برهانية؟ إنها طريقة يقبلها المسلم بإيمانه، وأما الإنسان من حيث هو إنسان غير مفترض فيه عقيدة دينية معينة، بل هو إنسان يقتصر في تصوره على أنه ناطق - عاقل - وكفى، فلا أظن أن مثل هذا العرض يرضيه.
إذا أردنا أن نصور الموقف بين ابن رشد وخصومه، قلنا: افرض أن عناصر الشريعة هي أ ب ح د، فجاءت الفلسفة اليونانية بعناصر فيها ما ينقض عناصر الشريعة من أحد جوانبها، كأن تكون عناصر الفلسفة الوافدة هي: أ ب «لا-ح» د، فعندئذ نرى أن طوائف الأشعرية والمتكلمين تحاول أن تثبت بأن القول «لا-ح» ينطوي على تناقض داخلي، وبالتالي فهو باطل، وإذا ثبت بطلانه كان نقيضه (وهو ح) صحيحا، ونقيضه هذا هو ما قالته الشريعة. وأما ابن رشد فيتلخص دوره، في أنه يحلل الأدلة التي أثبتت بها طوائف خصومه بطلان «لا-ح»، لكنه لا يترك الأمر عند هذا الحد، وإلا كان بمثابة من يأخذ بما ينقض الشريعة، بل نراه يلجأ إلى إحدى طرق يستخدمها لفض الإشكال: فهو إما أن يبين - مثلا - بأن الاختلاف بين «ح» و«لا-ح» لا يعدو أن يكون اختلافا في الأسماء، وأما المعنى المقصود ذاته فواحد في كلتا الحالتين، وإما أن يؤول الظاهر في «ح» ليجعلها في حقيقتها الباطنة هي و«لا-ح» على سواء، وإما أن يقول ما معناه: لنبدأ طريقنا العقلي من «ح » وهي ستؤدي بنا حتما إلى ما يريده الشرع وتريده الفلسفة معا.
ولنضرب لذلك مثلا، فلقد كان من العناصر التي ذكرتها الشريعة ما يدل على أن العالم محدث في مجرى الزمن، قال له الله تعالى كن فكان، وأما فلسفة اليونان فقد أشارت إلى ما قد يعني أن العالم قديم، أي أنه أزلي مع أزلية الله، فها هنا جعل المتكلمون مهمتهم أن يبينوا بطلان القول بأزلية العالم، وأن يثبتوا حدوثه، كأن يقولوا بتركيب الأجسام من أجزاء لا تتجزأ. ولما كان الجزء الذي لا يتجزأ محدثا بطبيعته، كانت الأجسام محدثة بحدوثه، وعندئذ تكون مهمة ابن رشد بيان الخطأ في منطقهم هذا، فيقول: «إذا فرضنا أن العالم محدث، لزم - كما يقولون - أن يكون له، ولا بد، فاعل محدث، ولكن يعرض في وجود هذا المحدث شك ... وذلك أن هذا المحدث لسنا نقدر أن نجعله أزليا ولا محدثا، أما كونه محدثا فلأنه يفتقر إلى محدث، وذلك المحدث إلى محدث، ويمر الأمر إلى غير نهاية، وذلك مستحيل، وأما كونه أزليا، فإنه يجب أن يكون فعله المتعلق بالمفعولات أزليا فتكون المفعولات أزلية، والحادث يجب أن يكون وجوده متعلقا بفعل حادث ...»
26
هذه طريقة، وطريقة أخرى عند ابن رشد أن يبين لخصومه ألا اختلاف بين القول بقدم العالم وحدوثه إلا في التسمية، فالكل متفق على ثلاثة أصناف من الموجودات، صنف منها هو الأجسام، وهذه لا يختلف أحد على حدوثها، وصنف آخر فهو الموجود الذي «لم يكن من شيء، ولا عن شيء، ولا تقدمه زمان»، ولقد اتفق الجميع على أن هذا الموجود قديم، وأما الصنف الثالث فيقع بين هذين الطرفين، وهو العالم مأخوذا بأسره (لا من حيث هو جزئيات) «فهو موجود لم يكن من شيء، ولا تقدمه زمان، ولكنه وجد عن شيء، أعني عن فاعل.»
27
والكل متفق على وجود هذه الصفات الثلاث للعالم، فالمتكلمون يسلمون أن الزمان غير متقدم عليه، وهم متفقون مع القدماء على أن الزمان المستقبل غير متناه، وكذلك الوجود المستقبل، وموضع الاختلاف بينهما هو في الزمان الماضي والوجود الماضي، فالمتكلمون يرون أنه متناه، فالعالم مأخوذا بأسره، فيه شبه من الموجود القديم، وفيه كذلك شبه من الموجودات الجزئية الحادثة، فمن نظر إليه من ناحيته الأولى، قال عنه إنه قديم، ومن نظر إليه من ناحيته الثانية قال عنه إنه حادث، «وهو في الحقيقة ليس محدثا حقيقيا، ولا قديما حقيقيا.»
28
إن موقفنا في هذا العصر، شديد الشبه بالموقف الذي جاء ابن رشد ليجد نفسه فيه؛ إذ العناصر الأساسية في كلا الموقفين، هي: شريعة يتمسك بها الجميع، ونتاج عقلي وافد من خارج، هو إما متفق مع ما ورد في الشريعة فلا إشكال، وإما مسكوت عنه في الشريعة فلا إشكال أيضا، وإما يناقض في الظاهر ما ورد في الشريعة. فلو كان بيننا ابن رشد يؤدي المهمة نفسها التي أداها في زمانه، لحاول أن يدحض منطق الرافضين حيث يراه باطلا، وأن يبين أن مواضع الاختلاف لا تعدو أن تكون اختلافا في التسمية، مع اتفاق في مضمون المعنى.
6
كانت المواجهة التي تمت بين «تهافت الفلاسفة» للغزالي، و«تهافت التهافت» لابن رشد، من أهم ما رصده تاريخ الفكر العربي الإسلامي، وكدت أقول من أهم ما رصده تاريخ الفكر الإنساني على إطلاقه. وليست المسألة - كما أراها - مقصورة على كتاب أصدره صاحبه لينقد به كتابا آخر، وإلا فتاريخ الفلسفة هو سلسلة من هذه اللقاءات النقدية، لكن «التهافت» و«تهافت التهافت» كان مواجهة بين وقفتين حضاريتين، فمحور الأمر فيها هو سؤال كهذا: هل تأخذ حضارة لاحقة أصولا ثقافية من حضارة سابقة، لا سيما إذا كانت الحضارتان من لونين متعارضين، أو أن في هذا الأخذ خطرا على إحداهما أن تنمحي في الأخرى؟ إن الحضارة الأوروبية الحديثة لم تكن لترى ما تخشاه في أن تستمد أصولها من أسلافها اليونان والرومان؛ لأنها مع تلك الأصول عند الأسلاف أسرة واحدة تتعدد صورها مع تعاقب العصور، لكن أساسها واحد، وأما أن تأخذ حضارة إسلامية روافد فكرها من أصول يونانية، فها هنا يكون للسؤال مغزاه، وهو سؤال ما يزال - كما أشرنا فيما سبق - معلقا فوق رءوسنا إلى يومنا هذا، فهل نفتح صدورنا اليوم للحضارة الغربية العلمية، أو نخشى أن يصيبنا هذا بما يشبه الغزو الذي يمحو معالم ما يغزوه؟
فالغزالي حين تصدى للفلسفة الأرسطية كما وجدها منعكسة على صفحات الفارابي وابن سينا، إنما قصد أساسا إلى حماية الفكر الإسلامي مما ظن أنه يفسده ويهدم أركانا أساسية فيه. وحين اضطلع ابن رشد بالرد على الغزالي، فلقد كان صميم موقفه هو الدفاع عن ضرورة اغتذاء الفكر الإسلامي بفلسفة اليونان القدماء، ولا خطر هناك على شريعة الإسلام من مثل ذلك الغذاء، على أن نلحظ هنا بأن المواجهة بين الغزالي وابن رشد في كتابيهما، إنما تجاوز أن تكون علاقة بين طرفين، لتكون في حقيقتها صورة للعقل الفلسفي في حياة المسلمين خلال فترة تزيد على قرنين، تبدأ بالفارابي وابن سينا في القرن العاشر، ويتوسطها الغزالي في القرن الحادي عشر، ثم تنتهي بابن رشد في القرن الثاني عشر.
وأول ما أريد أن أعلق به على صلب العمل الذي نطالعه في «التهافت» وفي «تهافت التهافت» معا، هو أننا في حقيقة الأمر إزاء وقفة سلبية تبين التناقض في البناء الفكري الذي تتصدى له، أكثر منا أمام فكر إيجابي يتناول مشكلات بعينها ليقترح لها الحلول، فالكتابان مثل جيد ل «برهان الخلف» الذي تميز به الفكر الفلسفي في كثير جدا من نشاطه. ومؤدى هذا المنهج الفكري، هو أن نعرض الفكرة التي نريد فحصها، فنستخرج منها ما يمكن استخراجه من نتائج تتولد عنها، وإذا بهذه النتائج التي استخرجناها متنافرة لا يتسق بعضها مع بعض، ثم لا تتسق مع القضية أو مجموعة القضايا الأولى، التي عرضنا بها الفكرة المطروحة للبحث بادئ ذي بدء. وعندئذ لا نرى مندوحة من رفض تلك الفكرة المعروضة؛ لاحتوائها على عناصر ينقض بعضها بعضا.
إن «برهان الخلف» في معالجته للقضايا التي يراد فحصها، أشبه شيء بالآلة التي ندرس بها الغلال في الحقول، لا تضيف إليها جديدا، لكنها تفصل الحبوب في ناحية والقش في ناحية، وكذلك برهان الخلف لا ينتهي بنا إلى قضايا جديدة ، كائنا ما كان الموضوع الذي بين أيدينا، إذ إن مهمته منحصرة في اختبار الأفكار المراد اختبارها من حيث الصلابة وصحة التكوين، وهو اختبار يشبه ما يؤديه المهندسون في اختبارهم لصلابة المعادن، إذ يعرضونها لآلات تحاول مطها وليها وضغطها وتهشيمها إذا استطاعت، فتظهر من هذه المحاولات قوة تلك المعادن أو ضعفها، وهكذا الحال بالنسبة للأفكار عند فحصها ب «برهان الخلف».
29
كانت طريقة ابن رشد في «تهافت التهافت» هي أن يعرض ما أورده الغزالي في «التهافت» نقطة نقطة، يضعها بلغة الغزالي نفسه، ثم يأخذ في بيان أوجه الضعف المنطقي الذي رأى أن الغزالي قد وقع فيه، فإذا أمعنا نحن النظر إما في قول الغزالي، وإما في رد ابن رشد، لم نجد في أي القولين إلا تحليلا منطقيا من النوع الذي أسميناه «برهان الخلف»، وحسبنا مثل واحد نسوقه لبيان ما نريد، ونراعي في اختيارنا للمثل أنه موجز يسهل إيراده، وليكن ما نختاره هو القضية الخامسة في تسلسل القضايا المعروضة حول المسألة الأولى، وهي المسألة الخاصة بقول الفلاسفة عن العالم إنه قديم.
فقد عارض الغزالي قول الفلاسفة باستحالة أن تكون هنالك إرادة قديمة تتعلق بشيء حادث، وكانت معارضته في الصورة الآتية:
كيف عرفتم استحالة ذلك؟ «وعلى لغتكم في المنطق: أتعرفون الالتقاء بين هذين الحدين، بحد أوسط، أو من غير حد أوسط؟ فإن ادعيتم حدا أوسط - وهو الطريق النظري - فلا بد من إظهاره، وإن ادعيتم معرفة ذلك ضرورة، فكيف لم يشارككم في معرفته مخالفوكم؟ والفرقة المعتقدة لحدوث العالم بإرادة قديمة لا يحصرها بلد، ولا يحصيها عدد، ولا شك في أنهم لا يكابرون العقول عنادا مع المعرفة، فلا بد من إقامة برهان على شرط المنطق، يدل على استحالة ذلك ...»
30
بعبارة موجزة من عندنا، نلخص بها اعتراض الغزالي على قول الفلاسفة باستحالة أن يخلق الله بإرادته الأزلية عالما محدثا يجيء فيه مجرى الزمن، نقول: هذه الاستحالة المزعومة إما أن تكون نتيجة لقياس، وفي هذه الحالة نلحظ أن عناصر القياس غير متوافرة؛ إذ ليس هنا حد أوسط يربط بين الطرفين، وإما أن تكون إدراكا حدسيا، لكنها لو كانت كذلك لاتفق عليها جميع الناس. وواقع الأمر أن الناس يختلفون في شأنها، ولعله واضح أن الغزالي هنا لم يزد على أن أظهر ما في قول الفلاسفة من مفارقة، مما يؤيد ما أسلفناه.
فماذا قال ابن رشد تعليقا على اعتراض الغزالي؟ قال ما معناه إنه ليس بصحيح ما زعمه الغزالي من أن المعرفة الأدلية - أي المعرفة المدركة بالحدس - يعترف بها جميع الناس، «لأن ذلك ليس أكثر من كونه مشهورا، كما أنه ليس يلزم فيما كان مشهورا أن يكون معروفا بنفسه.»
31
ونلاحظ في إجابة ابن رشد أنه لم يتعرض للشق الأول من اعتراض الغزالي، وهو أن قول الفلاسفة ليس قياسا كامل الأجزاء، واكتفى بالرد على الشق الثاني، الخاص بالإدراك بالحدس، فضلا عن أن إجابة ابن رشد - كما نرى - لم تزد بدورها عن تحليل عبارة الاعتراض الذي قدمه الغزالي، تحليلا يظهر ما فيه من أوجه الضعف. وعلى هذا النحو يجري «تهافت التهافت»، وذلك هو ما صرح به ابن رشد نفسه في أول سطور كتابه، إذ قال: «إن الغرض في هذا القول، أن نبين مراتب الأقاويل المثبتة في كتاب «التهافت» لأبي حامد، في التصديق والإقناع، وقصور أكثرها عن رتبة اليقين والبرهان.»
هكذا كان موقع ابن رشد من تيار الفكر العربي الإسلامي في عصره، فأراد له أن يظل على صلته الإيجابية بفلسفة اليونان، وكانت دعوته إلى ذلك هي آخر صوت يرتفع دفاعا عن الفلسفة وضرورة دخولها مع الشريعة في نسيج واحد. ولم يكن الوجدان العربي الإسلامي مهيأ لقبول الدعوة، فانسدل عليها ستار، لم يأخذ في الارتفاع إلا بعد عصره بأكثر من سبعة قرون.
طريقة الرمز عند ابن عربي في ديوان «ترجمان الأشواق»
1
الأصل في الرمز هو أن يجيء لاحقا لما يرمز له، إذ تعرض لنا حالة أو فكرة، نريد تمييزها مما قد يختلط بها، من أشباهها أو أضدادها، فنبحث لها عن رمز يميزها، والأغلب أن تكون الحالة المرموز لها مجردة، وأن يكون الرمز المميز لها شيئا محسوسا يجسد خصائصها ومعناها، ومن ثم كثر استخدام الرمز في الدين والتصوف والشعر والفن، وهي مجالات تختلج فيها بالنفس أفكار ومشاعر يتعذر تعريفها بالحد العلمي الرياضي الحاسم، فيلجأ صاحبها - إذا أراد التعبير عنها - إلى تصويرها في مجسدات مما تألفه العين والأذن وغيرهما من الحواس، وبمقدار ما تكون الموازاة كاملة بين الحالة الباطنية التي نريد إخراجها، وبين الشيء المحس الذي وقع عليه اختيارنا لنرمز به إلى تلك الحالة، تكون العملية الرمزية قد حققت غايتها. وإذن فنقطة البدء الطبيعية في عملية الرمز هي اختلاجة النفس بحالة يراد التعبير عنها، ثم يتجه طريق السير من باطن إلى ظاهر، من حالة وجدانية داخلية، إلى شيء محس في دنيا الأشياء الخارجية.
لكن هذا الترتيب الطبيعي - فيما نرى - قد انعكس أحيانا عند ابن عربي في ديوانه «ترجمان الأشواق»؛
1
لأنه بمثابة من وجد نفسه أمام طائفة من الرموز المجسدة، وأراد أن يلتمس لها من الحياة الشعورية الداخلية ما يصلح أن يكون مرموزات لها؛ فالموقف هنا شبيه بما يحدث بين الشاعر من جهة، والناقد من جهة أخرى؛ ذلك أن الشاعر بعد أن ينبض قلبه بخلجات وجدانه، وبعد أن يسكب هذه الخلجات في صور محسة مجسدة، يعرضها على سامعيه أو قارئيه، يجيء الناقد - أو مجموعة النقاد - فيبدأ السير من هذه الصور الخارجية التي يصادفها في شعر الشاعر، ملتمسا طريقه إلى ما عساها أن تكون الحالات الوجدانية الداخلية التي كانت قد اختلجت في قلب الشاعر حين نظم ما نظم. فاتجاه السير عند الناقد مضاد لاتجاه السير عند الشاعر؛ فهذا ينتقل من باطن إلى ظاهر، وذاك ينتقل من ظاهر إلى باطن. وكثيرا ما يقع الناقد على أكثر من تأويل واحد للرمز الذي يحاول تأويله، فيظل يتساءل: ترى هل أراد الشاعر بهذا الرمز كذا أو كذا من حالاته؟ وما أكثر ما يختلف النقاد في تفسير الصورة الشعرية الواحدة، فهذا يرجعها إلى معنى، وذلك يرجعها إلى معنى آخر؛ لأن المعنى كامن في بطن الشاعر - كما يقولون - ومحاولة الوصول إليه اجتهاد قد يصيب ، وقد يخطئ.
وابن عربي في ديوانه «ترجمان الأشواق» كان شاعرا، ثم كان ناقدا، نظم قصائده، ثم حدث له من الظروف ما حمله على تفسيرها، أعني على أن يرجع بما هو وارد فيها من رموز وصور، إلى الأصل الباطني الذي كان باعثا على خلق تلك الرموز والصور. ولو وقف ابن عربي في الحالتين: حالة كونه شاعرا شعر فنظم، وحالة كونه ناقدا مفسرا يرد النظم ورموزه إلى منبعه الشعوري الخبيء، أقول إن ابن عربي لو وقف في هاتين الحالتين موقفا واحدا، لجاء سيره من الداخل إلى الخارج متطابقا مع سيره من الخارج إلى الداخل، وإن اختلف اتجاه السير في الحالتين، فإذا كانت حالة التنزلات الروحانية قد تجسدت في صورة السحاب الممطر، فما عليه عندما يريد الشرح إلا أن يعود بنا من رمز السحاب الممطر الوارد في القصيدة إلى الحالة الداخلية التي كانت مبعث ذلك الرمز، والتي هي حالة التنزلات الروحانية.
لكننا نرجح أن ابن عربي - في بعض قصائده - لم يقف في الحالتين موقفا واحدا، ففي الحالة الأولى - حالة كونه شاعرا - صدر في شعره عن حب حقيقي لفتاة حقيقية، اسمها «النظام»، وهي ابنة شيخه في مكة، مكين الدين أبي شجاع زاهر بن رستم بن أبي الرجا الأصفهاني، وفي الحالة الثانية - حالة كونه شارحا لشعره - صدر في الشرح والتأويل عن رغبته في أن تكون الرموز الواردة في ذلك الشعر صالحة للتفسير الصوفي، مما اقتضاه في عملية الشرح إعمال العقل وذكائه، وإظهار القدرة على تخريج معان من رموز لم تكن في الأصل مقصودة لها، فوجدناه موفقا في مواضع، متعسفا في مواضع أخرى، كما وجدنا الفرق هائلا بين سلاسة الشعر ودفء العاطفة فيه، وبين التواء العبارة النثرية التي جاءت تشرحه، التواء يوحي بالجهد المبذول نحو صرف المعنى إلى أصل غير أصله. وإننا أمام هذا الفرق البعيد بين وضوح الشعر وغموض النثر، لنكاد نرتاب في أن يكون الشارح هو نفسه الشاعر، كما قد ورد في مقدمة الديوان التي كتبها الشاعر نفسه.
ولو كان ابن عربي قد وقف موقفا واحدا في شعره، وفي تحليله لذلك الشعر، أو لو كان الشاعر هو نفسه الناقد، لما رأينا تأويله لبعض رموز شعره يتخذ صورة «إما ... أو ...» أي لما رأيناه بالنسبة للرمز الواحد يقول إن هذا الرمز إما يشير إلى كذا أو إلى كيت؛ لأن هذا التردد لا يكون - في الأغلب - إلا إذا كان صاحب التحليل والتأويل لا يعلم على وجه اليقين ما كان في بطن الشاعر وهو ينظم، كأن يقول عن «الركائب» إنها إما الإبل وإما السحاب، وعن الغزال إنه إما يشير إلى الغزل مع الحبيب، أو إلى حالة التجريد التي تتناسب مع شرود الغزال في الأرض الفلاة.
ومهما يكن من أمر القصائد وشروحها، فها هي ذي قصتها كما يرويها لنا ابن عربي في المقدمة؛ يقول إنه لما نزل مكة - وكان له من العمر عندئذ نحو ثمانية وثلاثين عاما - التقى بجماعة من الفضلاء، كان من بينهم «الشيخ العالم الإمام بمقام إبراهيم عليه السلام، نزيل مكة البلد الأمين، مكين الدين أبي شجاع زاهر بن رستم بن أبي الرجا الأصفهاني»، وكان لهذا الشيخ «بنت عذراء ... تسمى بالنظام وتلقب بعين الشمس والبها ... ساحرة الطرف، عراقية الظرف، إن أسهبت أتعبت، وإن أوجزت أعجزت، وإن أفصحت أوضحت ... ولولا النفوس الضعيفة السريعة الأمراض، السيئة الأغراض، لأخذت في شرح ما أودع الله تعالى في خلقها من الحسن، وفي خلقها الذي هو روضة المزن ... فقلدناها من نظمنا في هذا الكتاب أحسن القلائد بلسان النسيب الرائق، وعبارات الغزل اللائق. ولم أبلغ في ذلك بعض ما تجده النفس، ويثيره الأنس، من كريم ودها ... فكل اسم أذكره في هذا الجزء فعنها أكني، وكل دار أندبها فدارها أعني، ولم أزل فيما نظمته في هذا الجزء على الإيماء إلى الواردات الإلهية، والتنزلات الروحية، والمناسبات العلوية، جريا على طريقتنا المثلى.»
غير أن بعض الفقهاء بمدينة حلب أنكر على أشعار هذا الديوان أن تكون من الأسرار الإلهية، وأن الشيخ إنما يريد به غزلا حقيقيا بفتاة حقيقية، وإن يكن يخفي ذلك لكونه منسوبا إلى الصلاح والدين ، فما إن جاء هذا النبأ إلى ابن عربي، حتى شرع في شرح ديوانه على مسمع من جماعة من الفقهاء، شرحا يوضح كيف يصاغ القول بعبارات الغزل والتشبيب، حين يكون المقصود هو الأسرار الإلهية، فلما سمع الشرح ذلك المنكر، تاب إلى الله.
والحق أن ما يذكره ابن عربي عن هذا الديوان بصفة خاصة، حين يقول: «وشرحت ما نظمته بمكة المشرفة من الأبيات الغزلية ... أشير بها إلى معارف ربانية، وأنوار إلهية، وأسرار روحانية، وعلوم عقلية، وتنبيهات شرعية، وجعلت العبارة عن ذلك بلسان الغزل والتشبيب لتعشق النفوس بهذه العبارات، فتتوفر الدواعي على الإصغاء إليها.» حين يقول ابن عربي هذا القول عن هذا الديوان بخاصة، فهو إنما يساير نظرته العامة، التي تجعل من الأشياء والصور «مسارح تتجلى فيها صفات الحق وأسماؤه، بل هي عين تلك الصفات والأسماء، فكل صفة وجودية ندركها في الأشياء، إنما هي مجلى خاص من مجالي صفة إلهية مطلقة، أو اسم إلهي مطلق.»
2
ولم نكن لنتشكك في صدق هذا الزعم بالنسبة إلى ديوان «ترجمان الأشواق» لولا أننا وجدنا قصائد كثيرة من قصائده تكون أكثر انسياقا مع المعنى الغزلي المباشر، وأن أمثال هذه القصائد، حين تؤول على التفسير الصوفي، يقتضي شيئا من الاعتساف الذي يشد المعنى شدا يخرجه عن طريقه السوي السليم. على أنه من الحق كذلك أن ثمة قصائد أخرى نراها أكثر انسياقا مع التأويل الصوفي منها مع الغزل المباشر، كما أن هنالك فئة ثالثة من القصائد يكاد يتوازن فيها الاتجاهان موازنة عادلة، فهي متسقة مع الغزل المباشر اتساقها مع التأويلات الصوفية على حد سواء، وسنسوق - في موضع تال من هذا المقال - أمثلة توضح هذه الحالات الثلاث.
2
وفي مقدمة الديوان، وكذلك في مواضع أخرى من الشرح - وقد أطلق على شرح الديوان اسم «ذخائر الأعلاق في شرح ترجمان الأشواق» - إشارات تدل دلالة واضحة على منهج الرمز عند ابن عربي؛ ففي قصيدة قوامها ستة عشر بيتا، يوردها في المقدمة، يضع قاعدته الأولى، ويسوق لها الأمثلة، وهي أنه إذا ما ذكر في حديثه طللا ، أو سحابا، أو زهرا، أو بروقا، أو رعودا، أو غير ذلك من صور الكائنات، فينبغي للقارئ أن يصرف الخاطر عن ظاهرها، وأن يطلب الباطن المختفي وراء ذلك الظاهر، ليعلم المعنى المقصود، لا بل إن الضمائر والحروف ينبغي كذلك أن تؤول عند الفهم تأويلا يستخرج منها السر الصوفي الكامن فيها:
كل ما أذكره من طلل
أو ربوع أو مغان كل ما
وكذا إن قلت ها أو قلت يا
وألا، إن جاء فيه، أو أما
وكذا إن قلت هي، أو قلت هو
أو همو أو هن - جمعا - أو هما
وكذا إن قلت قد أنجد لي
قدر في شعرنا أو أتهما
وكذا السحب إذا قلت بكت
وكذا الزهر إذا ما ابتسما
أو أنادي بحداة يمموا
بانة الحاجر أو ورق الحمى
أو بدور في خدور أفلت
أو شموس أو نبات أنجما
أو بروق أو رعود أو صبا
أو رياح أو جنوب أو سما
أو طريق أو عقيق أو نقا
أو جبال أو تلال أو رما
أو خليل أو رحيل أو ربى
أو رياض أو غياض أو حمى
أو نساء كاعبات نهد
طالعات كشموس أو دمى
كل ما أذكره مما جرى
ذكره - أو مثله - أن تفهما
منه أسرار وأنور جلت
أو علت جاء بها رب السما
لفؤادي، أو فؤاد من له
مثل ما لي من شروط العلما
صفة قدسية علوية
أعلمت أن لصدقي قدما
فاصرف الخاطر عن ظاهرها
واطلب الباطن حتى تعلما
ونظرة فاحصة إلى الرموز التي ساقها ابن عربي أمثلة لما يعتزم في استخدامه شعره، تبين أنه ساق الأمثلة «أسماء» و«أفعالا»، و«ضمائر»، و«حروفا للنداء أو للتعجب»، كما ساقها «أسماء مقرونة بأفعال»، و«حروفا مقرونة بأسماء»، ثم أشار بعد هذه الأنواع كلها إلى ما يمكن أن يرمز به من «حوادث» جرى ذكرها أو ما يماثل تلك الحوادث.
فالأسماء هي: طلل، ربوع، مغان، بروق، رعود، صبا، رياح، جنوب، سماء، طريق، عقيق، نقا، جبال، تلال، رمال، ربى، رياض، غياض، خليل، رحيل، حمى.
والأفعال هي : أنجد ، أتهم، أفل.
والحروف هي: ها، يا، ألا، أما.
والضمائر هي: هي، هو، هم، هن، هما (وكلها ضمائر الغائب مفردا ومثنى وجمعا).
والأسماء المقرونة بالأفعال: بكت السحب، ابتسم الزهر، أفلت بدور، أنجم نبات.
والحروف مع الأسماء: يا حداة، ويا ورق الحمى.
أي أن صنوف الكلام على اختلافها، ينبغي أن تؤخذ مأخذ الرمز الرامز إلى «أسرار» و«أنوار» «جاء بها رب السما» لفؤادي أو فؤاد أي إنسان آخر توافرت له - ما قد توافر لي - «من شروط العلما».
ولكن هل يكفي أن يقال لنا: كلما وجدتم هذه الرموز أو أشباهها فاصرفوها من معانيها الظاهرة إلى معان باطنة؟ إن مثل هذا التحذير وحده قد يترك الباب مفتوحا إلى أي معنى يطرأ على ذهن القارئ عند التأويل. فافرض أنني صادفت كلمة «جبل»، وأردت صرفها عن معناها القاموسي المعروف، فبماذا أفسرها؟ أأتخذها رمزا للسمو أم للصلابة أم للمشقة والجهاد أم للرياضة واللهو أم لوحشة المعتزل، أم لبرودة الرأس بالقياس إلى حرارة القلب؟ هل استوحى «الجبل» جمالا مؤنسا أو جلالا مروعا مهيبا؟ عشرات المعاني قد تتخذ على أنها هي التي ننصرف إليها من المعنى الظاهر، فهل عند ابن عربي قاعدة أخرى تكمل قاعدته الأولى، فتبين وجهة السير التي ننتهجها عند تأويل الظاهر بمعنى باطن؟ نعم، فقد ورد في شرحه للبيت الأول من قصيدة «الطلل الدارس» (ص75) ما يدل بعض الدلالة على رأيه في ذلك؛ إذ يقول إن الأمر متوقف على طبيعة الموقف وسياق الحديث، مقررا «أن الإنسان فيه مناسب من كل شيء في العالم، فيضاف كل مناسب إلى مناسبه، بأظهر وجوهه، وتخصصه الحال والوقت والسماع بمناسب دون غيره من المناسب، إذا كانت له مناسبات كثيرة لوجوه كثيرة يطلبها بذاته.» ولو قلنا هذا القول بعبارة من عندنا تترجمها، لقلنا: إن الإنسان كون أصغر فيه كل ما في الكون الأكبر من صفات وخصائص، بحيث يصبح في مستطاعه أن يواجه كل شيء في العالم بالجانب الذي يناسبه ساعة الإلهام، فإذا قيل «جبل» - مثلا - اخترنا من موحياته الكثيرة معنى يلائم ما نحن فيه، يساعدنا في هذا الاختيار ما في طبائعنا من خصوبة وغنى كما يساعدنا كذلك اللسان العربي الذي من مميزاته أن «يعطي التفهم بأدنى شيء من متعلقات التشبيه.» (انظر ص105)، فحسبنا أن يجيء الرمز مشيرا أدنى إشارة إلى المرموز له لندرك الباطن المنشود من وراء الظاهر.
ويضيف ابن عربي إلى قواعده النظرية هذه، مثلا تطبيقيا للطريقة التي يريد لشعر ديوانه أن يفهم بها، إذ يروي حكاية جرت له في الطواف فيقول: «كنت أطوف ذات ليلة بالبيت، فطاب وقتي، وهزني حال كنت أعرفه، فخرجت من البلاط من أجل الناس، وطفت على الرمل، فحضرتني أبيات، فأنشدتها، أسمع بها نفسي ومن يليني، لو كان هناك أحد، وهي قوله:
ليت شعري هل دروا
أي قلب ملكوا
وفؤادي لو درى
أي شعب سلكوا
أتراهم سلموا
أم تراهم هلكوا؟
حار أرباب الهوى
في الهوى، وارتبكوا
فلم أشعر إلا بضربة بين كتفي بكف ألين من الخز، فالتفت، فإذا بجارية من بنات الروم ... فقالت: يا سيدي كيف قلت؟»
وأخذ ابن عربي يعرض الأبيات الأربعة السالفة، بيتا بيتا، فتعلق عليه الجارية الرومية الأديبة بما يبين ما فيه من تناقض المعنى، ففي البيت الأول لا يتفق أن يكون من ملك القلب جاهلا به، وفي البيت الثاني لا يتفق أن يدري الفؤاد شيئا عن الشعب الذي سلكه الأحبة؛ لأن الشعب هو الذي يحول دون أن يحصل الفؤاد على علم، فكيف يكون الحائل دون العلم معلوما؟ وفي البيت الثالث خطأ في توجيه السؤال؛ لأن الأصح هو أن يسأل المحب نفسه عن نفسه إن كان قد سلم أو هلك بعد فراق أحبته، وفي البيت الرابع لا يتفق أن ينصرف المحب بكل قلبه إلى من يهوى، ثم تبقى له مع ذلك فضلة يحار بها.
هكذا أخرجت الجارية الأديبة مواضع التناقض في الأبيات الأربعة؛ وذلك لأنها فهمتها بمعانيها الظاهرة، لكن هذا التناقض البادي يزول إذا ما جاوزت ظاهر الأمر إلى باطنه، وهنا يأخذ ابن عربي في شرح هذه الأبيات نفسها شرحا باطنيا صوفيا؛ ليبين كيف ينبغي أن تفهم، وكأنما أراد أن يرسم أمامنا طريقة الفهم الصحيح عند قراءة ديوانه الذي قدم له بتلك المقدمة.
3
لكل شاعر قاموسه الخاص، الذي لو أدركناه لسهلت قراءة شعره، فما بالك بالشاعر المتصوف الذي يوجهنا منذ مقدمة الديوان إلى فهم ألفاظه بغير معانيها المباشرة؟ إنه لا مناص عندئذ من توجيه النظر إلى المعاني الخاصة التي يكثر دورانها عند الشاعر، رامزا لها بألفاظ معينة. وفيما يلي قاموس جزئي أعددناه لطائفة من هذه الألفاظ عند ابن عربي، جمعناها من خمس وعشرين قصيدة هي الأولى في ترتيب الديوان، وأمام كل لفظة معناها الرمزي في شرح ابن عربي لها:
أ
الأبرقين:
هو في الأصل اسم مكان، لكنه يفهم - استيحاء للفظ «البرق» الوارد في صلب الكلمة - على أنه يرمز إلى مشهدين من مشاهد الذات الإلهية، مشهد في عالم الغيب، ومشهد في عالم الشهادة.
أبيض:
منزه عن الشهوة.
الأحبة:
الأنبياء، وكذلك رمز للأسماء الإلهية.
أحمر:
رمز للشهوة، وللجمال.
أجياد:
هو في الأصل اسم جبل يشرف على الحرم المكي، فيرمز به إلى مقام إلهي.
إدريس:
مقام الرفعة والعلو.
أراك:
نوع من الشجر يرمز به لمقام التقديس والرضا.
ب
بان:
شجر البان يرمز به للبعد، وللنور والتنزيه، والشوق والتوقان.
بدور:
تأتي عادة مقرونة «بالخدور»، ويكون معنى «البدور في الخدور» الحسان المستترات، وهذا رمز إلى العلوم وأسرارها.
وكذلك ترمز «البدور» للحقائق الإلهية.
ويرمز «البدر» للنور الإلهي، و«غروب البدر في خلدي» معناه غروبه عن عالم الحس، وترجيحه جانب الستر على جانب الكشف.
برق:
مشهد الذات الإلهية، يذهب بالأبصار ولا يكاد يتحقق، فالبرق لا يريك إلا لمعانه، فيكون اللمعان حجابا عليه، فنحن لا نرى البرق وإنما نرى سناه (ص90).
والبروق ترمز إلى الصور في عالم الشهادة؛ لتنوعها وسرعة زوالها، ومن هنا كان «البرق» رمزا إلى رؤية الحق في الخلق، رؤية الله تعالى في مخلوقاته.
برقة ثهمد:
اسم مكان، ولكنها تأتي مرادفة لكلمة برق.
برقع:
رمز للحالة النفسية التي تحجب العارفين عن عامة الناس.
بستان:
الحق (أي الله سبحانه)، والأزهار في البستان هي مخلوقاته .
بلقيس:
الحكمة الإلهية التي تجمع بين العلم والعمل.
وفيها رمز أسطوري يشير إلى ولادة بلقيس من لقاء بين الجن والإنس، ففيها من الجن علمه اللطيف، ومن الإنس عمله الكثيف، أي أنها رمز لاجتماع الروح والجسد في الإنسان.
بنات الملوك:
الزاهدات.
بياض:
الوضوح والتعين.
البيضاء:
الشمس، وترمز البيضاء إلى الحكمة الإدريسية، يكون فيها من العلوم ما في الشمس من حقائق.
ت
توراة: (من ورى الزند) ولذا فهي إشارة إلى النور.
ث
ثكلى: (التي فقدت وحيدها) ولذا فهي رمز على من فقد خصائصه الفردية المميزة.
ثنايا:
النور، تقال بمناسبة مقام المناجاة التي تتعلق بالفم.
ج
جبال:
السبل التي يهدينا الحق إليها بعد الجهاد.
جداول:
فنون العلوم الكونية.
جنى:
ما يتلقاه الملقى إليه من الملقي (كالمريد من الشيخ، والنبي من الملك) والجاني هو المحصل لهذه الثمرات، بيد اللطف، لا بيد القهر.
ح
حاجر:
اسم مكان، يرمز إلى موضع الحجر الذي يحول بيننا وبين مطلوبنا، عالم البرزخ.
حادي:
الشوق الذي يحدو بالهمم إلى منازل الأحبة.
حبر:
رمز إلى التوراة.
حسان:
الحكم الإلهية، إشارة إلى مقام المشاهدة والرؤية.
حمام:
الواردات الإلهية.
خ
خدور:
الأعمال التي كلف بها الإنسان، التكاليف الروحانية، وهي «خدور»؛ لأنها تحتوي على أسرار من العلوم والمعارف.
خرد:
الحكم الإلهية، الخرد هن ذوات الحياء، والحياء من الإيمان، وإذن فالخرد إشارة إلى العلم الإيماني.
خميلة:
قلب الإنسان بما يحمله من المعارف الإلهية.
خيام:
مقامات الحجب.
د
داود:
رمز للزبور.
دجى:
الغيب، فهو الليل الذي هو محل الستر، والغيب ستر.
در:
الحكمة الإلهية، «عرش الدر» رمز إلى أن الحكمة الإلهية إذا حصلها العبد أفنته عن مشاهدة ذاته، كأنها مالكة تجلس على عرش.
دمقس:
التنزيه (لأنه الحرير الذي لم يصطبغ بلون).
دمى:
إشارة إلى المعابد السريانية العيسوية، رمز إلى الحسان المستترات في الخدور، وهي المعارف.
الديار:
المقامات.
الدير:
حالة سريانية.
ذ
ذو سلم:
اسم مكان يرمز به إلى الجمال الطبيعي.
ر
راعي النجم:
حافظ ما تحمله العلوم.
راقد الليل:
الغافل عن حق ، انشغالا بالأكوان الطبيعية.
ربة الحمى:
الحقيقة الموسوية.
ربوع دارسات:
ما بقي في مقامات العارفين من آثار في سيرهم إلى العلم (الدارس = المتغير بما يرد عليه من الأحوال، فيتغير من حالة إلى حالة).
رعد:
مناجاة إلهية.
ركائب:
السحاب.
روض:
مكان الجمع، «الروض الندي» مقام نشأة الاعتدال.
روضة:
الأسرار الإلهية لحقائق الأسماء؛ لكون الروضة جامعة لفنون الأزهار.
روضة الوادي:
الشجرة التي ظهر فيها النور لموسى.
الرياض:
رياض المعارف.
ريح:
الأنفاس الشوقية.
ز
زرود:
هي رملة في قفر، ولذلك يرمز بها إلى عدم الثبوت؛ لأن الرمل تنقله الرياح عن حالاته وعن أماكنه. وكذلك ترمز «زرود» إلى المجاورة من غير ألفة؛ لأن الرمل يتجاور ولا يلتف.
زهر:
الأزهار هي الخلق.
س
سحاب:
الأحوال التي تنتج المعارف.
سحاب مطير:
المعارف والعلوم الربانية.
سحر:
موضع الفصل بين حقائق الجسد (الظلمانية) وحقائق الروح (النورانية).
سنا:
الحكمة الإلهية.
سلع:
جبل يشرف على المدينة، وهو رمز للمقام المحمدي.
سلمى:
الحالة السليمانية الواردة من مقام النبوة.
سواد:
عالم الجلال والهيبة.
ش
شراب:
المرتبة الثانية من مقام التجلي (فمقامات التجلي أربعة: ذوق، شراب، ري، سكر).
شرق:
موضع الظهور الكوني، أي عالم الحس والشهادة.
شفق:
حمرة الخفر.
شمس:
الحكمة الإلهية (كالشمس يتوقف أثرها على نوع ما تهبط عليه، فإما هي مثمرة أو مهلكة).
أنوار الشموس = الأرواح الحافون حول العرش.
إشارة إلى النصوع، والرفعة، والمنفعة.
شمس ضحى:
وضوح التجلي عند الرؤية.
شيح:
ميل.
ص
صبا:
عالم الأنفاس، الريح الشرقية (والشرق مطلع الظهور الكوني، أي عالم الحس والشهادة).
صخرات:
الصور الحسية التي تتجسد فيها المعاني المجردة؛ الأجساد التي تخفي أرواحا.
ط
طل:
معارف نزلت على قلوب ساذجة.
طلل:
ما بقي من الأثر الطبيعي، ما بقي في مقامات العارفين من آثار في سيرهم إلى العلم بالله.
طلول:
أثر منازل الأسماء الإلهية بقلوب العارفين.
طنافس:
البر والإكرام اللذان يمهد بهما الحق منازل الواردين من عالم الأكوان.
طواويس:
الأرواح في جمالها وحسنها (لاحظ أنها طير وذات ريش حسن اللون مختلفة).
عالم الملأ الأعلى.
ظ
ظبي:
اللطيفة الإلهية . (الظباء فيها شرود وملازمة للفيافي) ولذا فهي رمز للحكمة الإلهية في تجردها.
الظبي ذو عنق طويل، والعنق رمز للنور، ولذا كان الظبي إشارة إلى النور.
ظبي مبرقع:
الحكمة الإلهية محجوبة بحالة نفسية من أحوال العارفين.
ظل:
الظل الظليل هو المقام المحمدي الموسوي.
ظلام الليل:
حجاب الغيب. «ظلام الليل أرخى سدوله» = النشأة الحيوانية أخفت اللطائف الروحانية.
ع
عنان:
الأمر الذي يسيره على الطريق الأقوم.
عود مورق:
الإنسان وقد اكتسى بالمعارف الربانية.
عيسى:
الهمم، مراكب الأعمال، والأعمال التي يصعد عليها الكلم الطيب.
عيسى:
إحياء الموتى بوساطة النطق (عيسى متولد عن غير شهوة طبيعية، ولذا كان له سلطان على الطبيعة).
العين في الخيام:
حقائق العلوم محجوبة، ولكنها كاشفات عن الحق حالة التستر، وفيها إشارة إلى «الملامتية».
غ
غادة:
الحقيقة حين يكون لها تعطف بالكون، «فالغادة» إشارة إلى الميل، كالأسماء الإلهية حين يكون بها ميل إلى عالم الكون.
غديرة:
ضفيرة، وهي إشارة إلى الدلائل والبراهين لتداخل المقدمات بعضها في بعض كتداخل جدائل الضفيرة.
غرب:
عالم التنزيه والغيب.
غزال:
الحكمة الإلهية المحبوبة، والغزال إشارة إما إلى «الغزل» الذي يكون للمحبوب، وإما إلى إلفه للقفر مما يرمز إلى التجرد.
غزلان:
العلوم الشوارد التي لا تنضبط.
غصون:
النفوس الهيمانة بجلال الله، «ملابس الغصون» الأخلاق الإلهية، غصن نقا = الصفة القيومية في روضة الأسماء الإلهية.
غضا:
مقام المجاهدة. «غيضة الغضا»:
شجرة مشتعلة الغصون بلهب الحب.
غور:
الغيب.
ف
فاتكة بالطرف الأحور:
علم المشاهدة الذي يحول بين صاحب الخلوة وبين نفسه.
فتاة عروب:
الصورة الذاتية (الإلهية) التي هي مطلب العارفين.
فلك:
الصورة التي يقع بها التجلي، التبدل والتحول في الصور.
فنون:
أنواع المعارف.
ق
قباب:
القبة - لاستدارتها - رمز للامتناهي، وترمز أيضا للعمل المكسوب.
القباب الحمر: (الأحمر رمز للجمال وللشهوة) فالقباب الحمر رمز لاحتجاب الحقائق المطلوبة ذات الجمال.
قسيس:
رمز للإنجيل.
قضيب رطب:
نشأة الاعتدال.
قفر:
التجرد.
قلب:
التغير من حال إلى حال.
قمر: (القمر حالة بين البدر والهلال) رمز للمشهد البرزخي.
قمرية:
نفس عارفة نطقت بأمر علوي.
ك
كواعب:
الحكم الإلهية.
ل
الليل:
الغيب .
م
ماء:
سر الحياة.
مرض:
ميل. «مريضة الأجفان»:
الحضرة الإلهية وهي تميل إلى قلبه.
مطايا:
الهمم.
المطوقة:
اللطيفة الإنسانية وما أخذ عليها من ميثاق، وكذلك هي النفس الكلية مشارا إليها بالأثر الذي لها في النفس الجزئية التي ظهرت على صورتها.
ملابس الغصون:
الأخلاق الإلهية.
المنازل:
المقامات التي ينزلها العارفون بالله.
مياد:
الحركة المستقيمة التي هي نشأة الإنسان.
ن
نار:
المكاره التي يقتحمها السالك، حتى يصل إلى المنازل العلية.
ناووس:
المدفن = المعارف إذا فارقها العارفون، إذ المعارف لا وجود لها إلا بالعارفين.
الندى:
المعارف إذا نزلت على قلوب فيها جهالة.
نسر:
الروح البرزخي الذي هو أقرب إلى الملأ الأعلى.
نور:
الخير المحض، الحكمة الإلهية، الناموس.
ه
الهادي:
الآتي بالملاطفة، قياسا إلى «الحادي» وهو الآتي بالزجر.
و
وادي:
الوادي المقدس، «روضة الوادي» الشجرة التي ظهر فيها النور لموسى.
وبل:
معارف نزلت على قلوب فيها تشكيك.
ورد روضي:
حمرة الوجنات، يشير إلى مقام الحياء.
الورق:
الأرواح البرزخية.
4
لم يخرج ابن عربي في اختياره لهذه الرموز التي أراد أن يرمز بها - في تأويله الصوفي لشعره - إلى الحقائق الإلهية والأحوال والمقامات وغير ذلك، لم يخرج عن البيئة القريبة منه، فهو وإن أجهد ذكاءه في تفسير هذه الرموز تفسيرا يتفق مع المعنى الصوفي الذي أراده، إلا أنه اكتفى في الرموز نفسها بما يقع عليه البصر مما حوله، مكررا - في كثير من الأحيان - الألفاظ نفسها في السياقات نفسها التي استخدمها الشعراء العرب من قبله. (أ)
فمن عالم الحيوان اتخذ رمزه من الإبل، والظباء، والغزلان. (ب)
ومن عالم الطير اتخذ الرمز من الحمامات، والطواويس، والنسور. (ج)
ومن الظواهر الطبيعية اتخذ رموزه من نوعين: (1)
فإذا أراد الطبيعة الجرداء، استخدم اليباب، والقفر، والبلقع، والرمال والصخر. (2)
وإذا أراد الطبيعة الخصبة الخضراء، استخدم الخميلة، والعود المورق، والمياد، والجداول، والبستان، والأزهار، والأراك، والبان، والغصون، والروض، والماء العذب، والسحاب، والمطر، والطل، والوبل، والندى، والظل الظليل، والورد، والفنن. (د)
ومن الظواهر الفلكية اتخذ رموزه من السماء، والشمس (أو الشموس) والبدر (أو البدور) والبرق (أو البروق )، والرعد (أو الرعود)، والنجم، والليل، والسحر، والشفق، والضحى، والشروق، والغروب. (ه)
ومن المظاهر الحضارية اتخذ الرمز من القباب، والخيام، والطنافس، والدمقس، كما استخدم رموز الموت: الطلل (أو الطلول) والربوع الدارسة، والنواويس. (و)
ومن الثقافات الدينية استمد لمحات كثيرة من الموسوية والعيسوية والمحمدية وذكر آدم وإدريس وداود، واستخدم كلمات التوراة والزبور والإنجيل والقرآن، وأشار إلى القساوسة والبطاريق والشماميس، والرهبان، والأوثان والأديرة. (ز)
ومن التاريخ الأدبي أفاد من روايات الحب والمحبين: بشر وهند، قيس وليلى، وجميل وبثينة، «واذكر لي حديث هند، ولبنى، وسليمى، وزينب وعنان، واندباني بشعر قيس وليلى، وبمي والمبتلى غيلان» (ص82 / 3).
وطريقته في تأويل هذه الرموز، تختلف باختلاف السياق، فإذا ما كانت الموازاة بين المعنى الغزلي المباشر وبين المعنى الصوفي الباطن قريبة واضحة، جاء تفسير الرموز بغير اعتساف ظاهر؛ لأنه في هذه الحالة لا يجد ما يحمله على الإغراب في التأويل، وأما إذا كانت تلك الموازاة بين المعنيين بعيدة ضعيفة، فعندئذ يغلب أن يجيء تفسير الرموز مفتعلا يدعو إلى كد الذهن، ولقف العلاقات البعيدة بين الرمز وما يشير إليه. وفيما يلي أمثلة للطرق المختلفة التي لجأ إليها ابن عربي في تأويل رموزه: (أ)
الطريقة المجازية المألوفة في الشعر، وذلك بأن يلتمس علاقة شبه واضحة بين المشبه والمشبه به، أي بين المرموز إليه والرمز؛ فمن المألوف في قراءة الشعر وفهمه أن نفهم من المطر - مثلا - كرم العطاء، ومن الأسد شجاعة الشجاع، وهذا التفسير المجازي كثير عند ابن عربي خصوصا حين تكون الشقة ضيقة بين المعنى الغزلي المباشر وبين المعنى الصوفي الباطن، فنراه يرمز إلى الأرواح بالطير، وإلى الطبيعة البدنية بالصخر، وإلى الإنسان بعد كسبه للمعارف بالعود الذي أورق، وبالبستان الذي أزهر وأينع، وإلى حياة النعيم بالطنافس. (ب)
الإشارة إلى التاريخ، سواء أكان تاريخ الديانات أم تاريخ الأدب، أم غير ذلك من سبل الإفادة بما يروى عن أحداث الماضي، فها هنا تكفيه اللمحة السريعة ليترك للقارئ تكملة المادة من عنده، فمن هذا القبيل ذكره للأنبياء وللكتب المنزلة ولأماكن العبادة، وكذلك ذكره لقصص المحبين ، والروايات التي تروى عن المتصوفة وما إلى ذلك.
وهذه الإشارات قد تكون قريبة إلى الأذهان بادية الرابطة مع سياق الحديث، وقد تكون بعيدة غير مرئية في وضوح، فإذا قال - مثلا - عن محبوبته العابدة العالمة:
قد أعجزت كل علام بملتنا
وداوديا، وحبرا، ثم قسيسا
ثم شرح هذه الإشارات التاريخية بقوله إنها تشير إلى الكتب الأربعة، «فالعلام بملتنا» إشارة إلى القرآن، و«الداودي» إشارة إلى الزبور، و«الحبر» إشارة إلى التوراة، و«القسيس» إشارة إلى الإنجيل؛ بحيث يكون المعنى المجمل هو أن تلك المحبوبة العالمة قد ألمت بمحتوى هذه الكتب المنزلة جميعا، فعندئذ تكون الإشارة مفهومة وواضحة. ولنتذكر ما قاله ابن عربي في مقدمة الديوان عن محبوبته «النظام» من أنها «من العابدات العالمات»، وأما حين يقول - في القصيدة نفسها وعن المحبوبة نفسها:
توراتها لوح ساقيها سنا وأنا
أتلو وأدرسها كأنني موسى
وحين يقول في شرح ذلك أن «الساق» هنا تذكرنا ببلقيس حين كشفت عن ساقيها، أي بينت أمرها، وتذكرنا كذلك بقوله:
يوم يكشف عن ساق
قاصدا بذلك «الأمر الذي يقوم عليه بيان الآخرة»، وبقوله:
والتفت الساق بالساق
أي التف أمر الدنيا بأمر الآخرة، هذا عن كلمة «الساق»، وأما كلمة «التوراة» فالتوراة من ورى الزند، فهو راجع إلى النور، وينسب إلى التوراة أن لها أربعة أوجه، فإذا كان التشبيه قائما بين «ساقيها» و«التوراة» فلا بد أن تكون الإشارة هنا إلى أربعة أوجه من النور، وإلى الأربعة الذين يحملون العرش، وهي الكتب الأربعة. أضف إلى ذلك أنه لما كنى عن ساقيها بالتوراة، احتاج إلى ما يناسب ما وقع به التشبيه من «التلاوة» و«الدرس» وذكر من أنزلت عليه التوراة، وهو موسى، أقول إن ابن عربي حين يلجأ إلى مثل هذا الشرح البعيد المتشعب للبيت المذكور، ندرك أنه إنما يكد ذهنه كدا ليجد المعنى الصوفي الباطن، الذي يوازي به المعنى الظاهر، وهو التغزل في ساقين بيضاوين مضيئتين، ينظر إليهما فكأنما هو ينظر إلى آية من آيات الجمال البشري، تتلى وتدرس في نشوة وعلى مهل . (ج)
رموز جغرافية، يستخدم فيها أسماء لأماكن معروفة، ليفيد إما من مجرد جرس اللفظة، وإما من الصفات التي عرفت بها تلك الأماكن. والأغلب في هذه الحالة أن يجيء التأويل على اعتساف وافتعال، فهو - مثلا - حين يذكر مكانا عرف بجماله الطبيعي، ليشير به إلى الجمال الذي يجذب الناظر إليه، جاء الرمز في هذه الحالة مستقيما ومباشرا، كقوله: «بذي سلم ... ظباء تريك الشمس في صورة الدمى» (ص45)، أما إذا جاء باسم مكان ليفيد من جرسه ونبرته، أو من المعنى الظاهر لذلك الاسم، غلب عليه عندئذ التكلف في التفسير، كقوله في «لمعت لنا بالأبرقين بروق» (ص37): أن الأبرقين - وهو اسم مكان - رمز إلى مشهدين للذات الإلهية، مشهد في الغيب ومشهد في الشهادة؛ إذ من الواضح أن ليس بين «الأبرقين» وهذين المشهدين علاقة ظاهرة، وإذن فالتأويل لا يرد على قارئ العبارة مهما قلب المعنى في ذهنه تقليبا يسمح به اللفظ المستخدم، إنه تأويل يقوله ابن عربي تفسيرا لشعره، ولا يقوله أحد سواه من قراء ذلك الشعر، وإذن فهو ما نصفه بالتأويل المفتعل، ومن هذا القبيل ذكره لمكان اسمه «زرود» معروف برماله، فيفسر الرمال بالمعارف المكتسبة؛ لأنها مفككة كتفكك هذه الرمال، وهو رمز لجأ إليه أكثر من مرة في ديوانه. (د)
رموز ترتكز على التداعي الصوتي بين لفظتي الرمز والمرموز له، وهي من أقوى الدلائل عندي على أن ابن عربي وجد نفسه أمام قصائده الغزلية ملتمسا لها طريقة للتأويل الصوفي، فأحيانا يجد جسر العبور من الغزل الحقيقي إلى المعنى الصوفي ممهدا عن طريق التشابه بين «المعنيين»، ولكنه أحيانا أخرى يلجأ إلى ضرب غريب من البحث عن خيوط صوتية تنقله من الرمز الذي يريد تأويله إلى ما يمكن أن يكون مرموزا له، حتى وإن جاء ذلك التأويل بعيدا عن الاتساق وسلاسة السياق، وأمثلة ذلك كثيرة، نسوق بعضها على سبيل المثال:
إذا كانت الحبيبة هي «سلمى» قال إنه اسم يرمز إلى الحالة السليمانية الواردة إليه من مقام النبوة، أما «هند» فاسمها يشير إلى الهند التي هي مهبط آدم عليه السلام، وإذن فاسم هند يرمز إلى ما يحيط به من أسرار الخلق، و«لبنى» إشارة إلى اللبانة وهي الحاجة، ثم انظر كيف يفسر بيته القائل:
واندباني بشعر قيس وليلى
وبمي والمبتلى غيلان
يقول: «واندباني بشعر المحبين مثلي في عالم الحس والشهادة كقيس ... فنبه بقيس على الشدة، فإن القيس الشدة في اللغة، والقيس أيضا الذكر، وليلى من الليل، وهو زمان المعراج والإسراء والتنزيلات الإلهية من العرش الرحماني بالألطاف الخفية إلى السماء الأقرب من القلب الأشوق، وبمي وهي الخرقاء التي لا تحسن العمل، ومن لم يحسن العمل كان العامل غيره
والله خلقكم وما تعملون
أي ما يظهر على أيديكم من الأعمال التي هي مخلوقة لله تعالى، وغيلان هو ذو الرمة، والرمة الحبل العتيق والحبل السبب الذي طولبنا بالاستمساك به والاعتصام، ونسبته إلى القديم أمر محقق، فإنه حبل الله وهو القديم الأزلي. وذكر الغيلان وهو شجر مشوك يتعلق بمن قرب منه، ويمسكه عن أن يزول عنه حبا فيه وإيثارا، وفيه من الراحة كون هذا الشجر مختصا (في النص مختص) بالفيافي التي لا نبات فيها، المهلكة بقوة رمضائها وحرها، فليس فيها ظل لسالك إلا هذه الشجرات: شجرات أم غيلان، فيجدها في ذلك المقام رحمة، فيلقي عليها ثوبه، ويستظل، فتمسكه بشوكها عن أن تمر به الرياح فينكشف لحر الشمس، فكذلك ما يجده من الألطاف الخفية الإلهية في مقام تجريد التوحيد وتنزيه التقديس، فأوقع التشبيه بالمناسب من هذا الوجه، فلهذا سألهما أن يذكرا له هؤلاء الأشخاص من المحبين ليجمع بين حال المحبة، وعلم حقائق هؤلاء المذكورين؛ لأنهم كانوا محبين» (ص83). ولو كان ابن عربي هو الذي أطلق من عنده هذه الأسماء: قيس، ليلى، مي، غيلان، لجاز لنا القول إنه أراد بهذه الأسماء ما توحي به ألفاظها، لكنها أسماء تاريخية لمحبين حقيقيين، ذكرها لما بينه وبين أصحابها من شبه وهو «الحب»، فكيف أمكن أن تجيء كلمة «قيس» رمزا للشدة، أو رمزا للذكر، وكلمة «ليلى» رمزا لليل الذي هو بدوره رمز للإسراء والمعراج، وكلمة «غيلان» رمزا لكل هذا الذي أخذ يشققه ويستخرجه من «شجر الغيلان»؟ (ه)
رموز ترتكز على تداعي المعنى، أي أن يكون بين الرمز والمرموز له رابطة معنوية، تجعلهما شبيهين في الجوهر، وهذه هي أقرب الأنواع إلى طبيعة العملية الرمزية حين تكون هذه العملية من أخص خصائص الإنسان، ففيها عمق إدراك لطبائع الأشياء، وفيها قدرة على التركيب الذي يجمع ما اختلف في ظاهره وما اتفق في باطنه، يجمعه برابطة واحدة.
ومن أمثلة هذه الرموز: أن تكون «الغديرة» - الضفيرة - رمزا للبراهين التي تقام على صحة فكرة بعينها؛ لأن هذه البراهين تجري في مقدمات يتداخل بعضها في بعض كتداخل الجدائل في الغديرة (وهذا يذكرنا بالناقد الحديث إدموند ولسن حين فسر نسيج بنلوبي في شعر هومر على أنه رمز لخطوات الاستدلال القياسي بما في قضاياه من تداخل وتسلسل).
ومن هذا القبيل كذلك أن يرمز ابن عربي «بالدمقس» إلى حالة التنزيه؛ لأن الدمقس هو الحرير الذي لم يصطبغ بلون، فهو إذن في جوهره شبيه بالتنزيه الذي لا تشوبه شائبة من رغبة أو شهوة، وأن يرمز بالكائنات المجنحة كالحمامات والطواويس لعالم الروح، لما بين الاثنين من رابطة جوهرية هي التنقل بين الأرض والسماء، وعدم التقيد بأغلال الأرض، وأن يرمز بالقباب للامتناهي بسبب شكلها الكروي الذي لا بداية له ولا نهاية. ومن هذا القبيل نفسه أن يرمز إلى الطبيعة الجسدية من الإنسان «بالصخرات» للصوقها بالأرض وعجزها عن الصعود والطيران. والحق أن ديوان ترجمان الأشواق مليء بهذه الرموز التي ترتكز على أساس الرابطة المعنوية بين الرمز وما يشير إليه، من أهمها رموز النور والحجب والقفر والبستان، التي سنفرد لها أقساما لأهميتها عنده. (و)
رموز الأنوار والحجب. ولعل هذه أن تكون من أشد رموزه صلة بمذهبه الصوفي في المعرفة: «فالمعرفة الصوفية تتخذ أسماء مختلفة بحسب الأشكال أو المراحل أو الأحوال التي تتحقق فيها في النفس. وابن عربي يذكر ثلاثة أنواع منها، متبعا التقسيم التقليدي لدى الصوفية المسلمين، وهي: المكاشفة والتجلي والمشاهدة ... ويدخل في تفسيرها الرموز الأفلاطونية والمسيحية للنور والمرآة والحجب.»
3
فالنفس يحجبها عن إدراك الجلال الإلهي حجب المخلوقات؛ لأن كل مخلوق هو بمثابة حجاب يحول بين الأنفس وبين النفوذ إلى سر الحقائق الإلهية، ولا تستطيع النفس المحجوبة هذه أن تصل إلى الله إلا بالمجاهدة والتجرد، فذلك قد يؤدي إلى تبديد هذه الحجب، والكشف عن الأسرار الروحية الإلهية. وتلك هي «المكاشفة» التي بها ندرك المعاني الممثلة للحقائق الإلهية، لا ماهية تلك الحقائق؛ لأن إدراك الماهية الموضوعية للحقائق الإلهية هو ما نعنيه ب «المشاهدة»، فالكشف عملية استدلالية، نستدل فيها بشيء ما على إحدى الحقائق الإلهية، وأما المشاهدة فرؤية مباشرة لتلك الحقائق، ولا استدلال فيها.
4
وبين المكاشفة والمشاهدة يكون «التجلي» الذي هو ظهور نوراني للذات الإلهية وصفاتها، لا يلبث أن يزول.
والمهم لموضوعنا من هذا كله هو أن المكاشفة تستخدم لها رموز «الحجب»، و«التجلي» تستخدم له رموز النور الذي يظهر ويختفي، و«المشاهدة» تستخدم لها رموز النور الثابت، والمرآة التي ينعكس عليها ذلك النور. (1)
فمن رموز الحجب «القباب الحمر» و«الخيام البيض» وكلتاهما للمستتر من الحقائق. ومنها «ظلام الليل» الذي يرمز إلى حجاب الغيب، ومنها «الضحرات» التي ترمز إلى الأجساد حين تخفي الأرواح، ومنها «العين في الخام» إشارة إلى حقائق العلوم الربانية التي هي بطبعها كاشفات كالحسان الفاتكات باللحظ، لكنها محجوبة عن الإدراك، ومنها «الغرب» - بالقياس إلى «الشرق»؛ لأن الغرب رمز للغيب. ومنها «الخدور» و«راقد الليل» ومنها «حاجر» وهو اسم مكان، لكنه يتخذ رمزا للحدود التي لا يستطيع الإنسان اجتيازها لإدراك ما يطلبه، ومنها «الأغوار» - بالقياس إلى «الجبال»؛ لأنها تشير إلى المواضع الغيبية، و«الظبي المبرقع» الذي يشير إلى الحقيقة محجوبة بحالة نفسية. (2)
ومن رموز النور الذي يظهر ويختفي - وهي لحظات التجلي - «البرق» الذي يقول عنه ابن عربي في شرحه: «البرق أبدا عند صاحب هذا القول - أي عند ابن عربي نفسه - مشهد ذاتي يذهب بالأبصار لا يكاد يتحقق» (ص90). فالبرق لا يريك إلا لمعانه، فيكون اللمعان حجابا عليه، فكما أننا - كما يقول ابن عربي - لا نرى البرق، وإنما نرى سناه، فكذلك نحن لا نرى الذات الإلهية إنما نرى ما يدل عليها.
وكثيرا ما يستخدم أشياء مختلفة يدخل النور في معناها، يستخدمها لترمز إلى النور في لحظات التجلي، كقوله: «عرش الدر» الذي يرمز به لمكان الحكمة الإلهية، و«التوراة» التي هي من «ورى الزند» أي أن اللفظ راجع إلى النور، و«الثنايا» التي تلمع وتختفي، و«الشرق» لأنه موضع الظهور الكوني، وهكذا. (3)
ومن رموز النور الساطع الذي يرمز به لحالة المشاهدة، رمز الشمس، التي هي عند ابن عربي رمز للنور والرفعة، والتي يتوقف أثرها على نوع ما تهبط عليه، فإما تثمر وإما تهلك. (4)
رموز تشير إلى القفر اليباب، وأخرى إلى الخصوبة والنبات. ويغلب أن يشار بالأولى إلى حالة التجريد، وبالثانية إلى تحصيل الإنسان للحقائق الإلهية، فالظباء والغزلان تشير دائما إلى الحقائق الإلهية وقد رحلت عنه - عن ابن عربي - وشردت في الفلاة، وتجردت وحدها، بحيث أصبح عسيرا عليه أن يمسك بها. و«اليباب» عنده إشارة إلى التجريد، وكذلك «القفر» و«البلقع»، على حين أن «الخميلة» و«الروضة» و«البستان» رموز تشير إلى قلب الإنسان، وقد عمرته المعارف الإلهية، وكذلك «الغصن المياد» في الروضة إشارة إلى نشأة الإنسان، و«العود المورق» هو الإنسان وقد اكتسى بكساء المعارف، و«الجداول» الجارية هي فنون العلوم الكونية، و«الفنن» - وجمعه فنون - إشارة كذلك إلى تلك العلوم، وهكذا. (5)
رموز أسطورية، تتخذ الأسطورة رمزا يجسد المعنى المقصود: كالإشارات المتلاحقة في هذه الأبيات:
من كل فاتكة الألحاظ مالكة
تخالها فوق عرش الدر بلقيسا
إذا تمشت على صرح الزجاج ترى
شمسا على فلك في حجر إدريسا
تحيي - إذا قتلت باللحظ - منطقها
كأنها عندما تحيي به عيسى
توراتها لوح ساقيها سنا، وأنا
أتلو وأدرسها كأنني موسى
فانظر إلى تمثيل الحقيقة الإلهية بالصورة المجسدة المستمدة من قصة بلقيس حين خطت على أرض الزجاج التي أعدها سليمان، فحسبتها ماء وشمرت عن ساقها، إلى آخر القصة، التي استخدمها ابن عربي أجمل استخدام ليشير بها إلى الجمال، وهو بين التستر والظهور، كما يشير بها إلى النور إشارة شعرية بديعة، ولكل من إدريس ، وعيسى، وموسى قصة ترويها الكتب، ولا بد من معرفة هذه القصص لكي نهيئ لأنفسنا الجو الذي نفهم به أمثال هذه الأبيات وما ترمز إليه، وفي الديوان أمثلة كثيرة من هذا القبيل. (6)
رموز العدد. وأهم ما يلفت النظر في هذا الصدد، قصيدة بأسرها ترتكز على رمز «الثلاثة» أو «الثالوث» هي قصيدة «شموس في صورة الدمى» (ص45-47) التي يقول عنها ابن عربي في سياق شرحه لها: «وهذه قصيدة ما رأيت نفسها في نظم ولا نثر لأحد قبلي ... كل بيت منها فيه تثليث.» وقد استند «آسين بلاثيوس»
5
على هذه القصيدة - فيما استند إليه - ليبين كيف ألف ابن عربي بين العقيدة الإسلامية والأصول الرئيسية في العقيدة المسيحية، مشيرا بذلك إلى التثليث والتجسد، «ففيما يتصل بالعقيدة الخاصة بالتثليث يرى أن من الأمور الجوهرية القول بنوع من العلاقات الثلاثية في الوحدة الإلهية.» ومن هنا يستنتج أن النصارى يعتقدون في عقيدة التثليث في الأقانيم (الأشخاص)، ويستبعدون التثليث في الآلهة. والسبب الميتافيزيقي لهذا الرأي الذي قال به مستمد من «فكرة الفيثاغوريين في العدد «3» الذي هو الأصل في الأعداد الفردية»؛ لأن العدد «واحد» ليس وحده بذاته عددا ولا يفسر الكثرة في العالم، فمن الواحد لا يصدر إلا الواحد وأبسط الأعداد في داخل الكثرة هو الثلاثة.
6
وللعدد «3» عند ابن عربي أهمية خاصة؛ إذ يرى أن حياة الله تقتضي ثلاثة عناصر إلهية، وثلاث علاقات، من أجل أن يفسر بها أصل الكون ووجوده، أعني: «الذات الإلهية، والإرادة الإلهية، والكلمة الإلهية، ولكنه يضيف أن هذه الثلاثة متحدة في الله، وهي واحدة فيه.»
7
وهذه العناصر الإلهية الثلاثة ظاهرة في قوله تعالى:
إنما قولنا لشيء - فالضمير هنا إشارة إلى الذات الإلهية -
إذا أردناه - وهنا إشارة إلى الإرادة الإلهية -
أن نقول له كن - وهنا إشارة إلى الكلمة الإلهية. وللعدد 3 أهميته كذلك عند ابن عربي في التفكير العلمي، الذي تجيء فيه العملية القياسية مؤلفة من قضايا ثلاث مرتبة على نحو منتج.
8
ونعود إلى قصيدة «شموس في صورة الدمى » التي يقول عنها ابن عربي: إن «كل بيت منها فيه تثليث.» والتي ورد فيها قوله:
تثلث محبوبي وقد كان واحدا
كما صيروا الأقنام بالذات أقنما
وفي شرح هذا البيت يقول ابن عربي: «العدد لا يولد كثرة في العين - كما تقول النصارى في الأقانيم الثلاثة، ثم تقول الإله واحد - كما تقول: باسم الرب والابن وروح القدس إله واحد. وفي شرعنا المنزل علينا قوله تعالى:
قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا ، ففرق،
فله الأسماء الحسنى
فوحد، وتتبعنا القرآن العزيز فوجدناه يدور على ثلاثة أسماء أمهات، إليها تضاف القصص والأمور المذكورة بعدها، وهي: الله والرب والرحمن. والمعلوم أن المراد إله واحد، وباقي الأسماء أجريت مجرى النعوت لهذه الأسماء.»
وما هذه القصيدة التي أشرنا إليها إلا رمز واحد يشير إلى هذه الفكرة بما تشتمل عليه من تفصيلات، ونحن وإن كنا لم نجد أن «كل بيت منها فيه تثليث» إلا أن «التثليث» واضح في معظم أبياتها.
ففي البيت الأول:
بذي سلم، والدير، من حاضر الحمى
ظباء تريك الشمس في صورة الدمى
في هذا البيت أماكن ثلاثة، لكل مكان منها تابع يتبعه، والأماكن هي: «ذي سلم» و«الدير» و«حاضر الحمى». في المكان الأول ظباء، وفي الثاني دمى (تماثيل)، وفي الثالث شمس.
وفي البيت الثاني:
فأرقب أفلاكا، وأخدم بيعة
وأحرس روضا بالربيع منمنما
يقول إنني إذا وجهت النظر إلى المكان الأول بما فيه من ظباء، كنت راعي الظبي، وإذا وجهته إلى المكان الثاني (الدير) كنت بمثابة راهب الدير، وإذا وجهته إلى المكان الثالث، كنت كالمنجم يرقب الشمس، فأنا راع، وراهب، ومنجم في آن:
فوقتا أسمى راعي الظبي بالفلا
ووقتا أسمى راهبا ومنجما
وهكذا تمضي القصيدة، حتى لتصبح في اكتمالها رمزا كبيرا للثالوث الذي هو - كما يقول - أساس «الفردية».
وكذلك نجد للعدد 4 أهمية خاصة في رموز ابن عربي، إذ الأربعات عنده كثيرة ومنوعة، يوضحها بالشرح، أكثر مما يعينها باللفظ في شعره، فهو يقول - مثلا - عند شرحه للمراد بكلمة «توراة» (ص17) إن التوراة فيها إشارة إلى النور (لأن الكلمة مشتقة من ورى الزند) وما دامت الحكمة الإلهية قائمة على النور، فهي قائمة على الأربعة الأوجه التي يقوم عليها النور، وهي: المشكاة، والمصباح، والزجاج، والزيت. هذا إلى أن حملة العرش أربعة، هي الكتب الأربعة: التوراة والزبور والإنجيل والقرآن.
ومن الأربعات التي يتردد ذكرها في شروحه، مراحل التجلي الأربع، التي يقول إنها: الذوق، والشراب، والري، والسكر، ومنها كذلك قواعد الخلوة الأربعة: الصمت، والعزلة، والجوع، والسهر. (7)
الرمز بالصور، وها هنا تكمن روح الشاعر وأصالته، فالشعر - كالأحلام - لغته صور مجسدة، يكون بينها وبين حوادث العالم الواقع موازاة، بمعنى أن يقابل كل جانب من الصورة الشعرية الرامزة، جانبا من الموقف الواقعي المرموز له. وشعر ابن عربي غني بهذه الصور التي يصل ببعضها إلى ذروة الذرى في الفن الشعري. وأحيانا تقتصر الموازاة الصورية على جزئيات داخل بناء القصيدة، لكن هذه الموازاة - أحيانا أخرى - تكون بين القصيدة كلها مأخوذة في جملتها، وبين الحقيقة المراد الرمز لها بهذه القصيدة. على أن الصور بنوعيها تشير دائما إلى الحقائق الإلهية، أو الأسماء الإلهية، أو الواردات الإلهية، أو الصفات الإلهية، أو الحكمة الإلهية فترى هذه المعاني الإلهية مصورة على هيئة غادات حسان، أو حمامات نائحات، أو طواويس جميلة الريش، أو ما إلى ذلك، ثم تبنى الصورة بعد ذلك على أي نحو شاء الشاعر، فمن أمثلة الصور الجزئية:
الطواويس محمولة في رحال الإبل.
بلقيس جالسة على عرش من الدر.
بلقيس تتمشى على صرح من زجاج.
شمس على فلك في حجر إدريس.
أسقفة من نبات الروم تزدان بأنوارها.
الحسان مستورات في القباب الحمر.
الحسناء تبدي ثناياها، والبرق يومض، فتنشق لهما حنادس الليل.
لمعت رعود، فقصفت لها بين الضلوع رعود.
السحائب تهمي على الخمائل.
جداول الماء تنساب كالأفاعي بين القباب الحمر.
ظبي مبرقع يشير بعناب - من خلف الحجاب - ويومي بأجفان روضة نضرة وسط نيران مشتعلة.
الواردات الإلهية في قلبي،
هي الغزلان في مرعاها.
وهي الرهبان في الدير.
وهي الأوثان في بيت الأوثان.
وهي الطائفون حول الكعبة.
وهي ألواح التوراة ومصحف القرآن إلخ إلخ.
ونسوق المثل الآتي للرمز كيف يشمل القصيدة كلها جملة واحدة ليقيم الموازاة بينها وبين الحقيقة المراد تصويرها:
ففي قصيدة «الأوانس المزاحمات» (ص32 وما بعدها) هذه الصورة: امتدت إلي اليمين المقدسة لأبايعها البيعة الإلهية، فجاءت الأرواح الحافة حول العرش تسبح بحمد ربها، جاءت تطلب هذه المبايعة لنفسها، وكانت هذه الأرواح غير مشهودة لي، ثم ارتفع عنها الحجاب فظهرت، فسطعت أنوارها لعيني مثل الشموس، وحذرتني من النظر إليها نظرا مباشرا؛ لئلا يذهب بصري المقيد بالبدن، وإنما أرادت بتحذيرها ذاك ألا يصرفني النظر إليها عن النظر إلى الله، فهي لا تريد أن تحجبني عنه؛ لأني خلقت له لا لها، ووعدتني تلك الأرواح أن تنزل لي إلى عالم الكون، في صور مجسدة، وعندئذ تجتمع لي لذة المشاهدة ولذة العلم في آن، لكن تلك الأرواح خشيت أن تقيد نفسها بقيد المادة في تجسدها، فراحت تراوغني، وتشعرني بأنها تستر وراءها ما هو ألطف منها، حتى إذا ما ارتفعت همتي للوصول إلى ما هو مستور وراءها، انسترت هي عني، وأراحت نفسها من القيد، وانطلقت إلى مراتبها المنزهة. ذلك هو الرمز الكامل الذي تؤديه القصيدة بأسرها، لترمز به إلى حالة الصوفي وهو يحاول الوصول إلى الصفات الإلهية في مجرداتها وفي مجسداتها، فلا الأولى ثبتت أمام البصر لنورانيتها، ولا الثانية احتفظت بسرها الروحاني أمدا يمكن الرائي من رؤيته.
5
قلنا إن مدار الرمز كله في ديوان ترجمان الأشواق، هو الأسماء الإلهية، أو الصفات الإلهية، أو الحقائق الإلهية، أو الحكمة الإلهية، أو الواردات الإلهية، أو واردات التقديس، إلى آخر هذه الأسماء الوصفية التي أطلقها عليها ابن عربي خلال شرحه. قد لجأ الشاعر إلى تجسيد هذه المعاني في صور حسية، والأغلب أن تكون هذه الصور الرامزة صورا لحسان فاتنات يتصفن بكذا وكيت من ضروب الجمال. والصوفي الشاعر من هؤلاء الحسان بين لقاء وفراق، فما يكاد يحصل عليها في قلبه حتى ترحل عنه، فيعدو وراءها بخياله حينا، ويظل يتذكر ما كان له منها وقت لقائها حينا آخر.
فكلما طالعت قصيدة من قصائده، كان لك أن تصرف المعنى على حبيبته «النظام» ابنة شيخه في مكة، التي فارقها بعد لقاء، فأخذ منه الشوق إليها مأخذه، وراخ يتذكر ما وجده من نعيم وهو قريب من حضرتها، كما كان لك كذلك أن تصرف المعنى على أن الحبيبة (أو الأحبة) في القصيدة إنما تشير إلى الأسماء والصفات الإلهية.
على أننا نجد تفاوتا في القصائد، فمنها ما هو أقرب إلى المعنى الأول، ومنها ما هو أقرب إلى المعنى الثاني، ومنها ما يكاد يتساوى فيه المعنيان. وسنضرب مثلا لكل من هذه الحالات الثلاث. (أ)
تقول قصيدة «لا عزاء ولا صبر» (ص30-31):
تركني الأحبة، فبان الصبر والعزاء، لكن الأحبة وإن تركوني بأجسامهم، فهم في سويداء القلب سكان. وقد سألت العارفين: أين ذهب بهم الركب؟ فقيل لي إن الركب في مكان عطر برائحة الشيح والبان، فطلبت من الريح أن سيري والحقي بهم، وستجدينهم يستظلون بشجر الأيك، فبلغيهم سلام محزون أشجاه فراقهم.
هذا هو المعنى الغزلي المباشر للقصيدة، وهو معنى مستقيم، لكنه قد يصرف على المعنى الصوفي الباطن، فتكون الحقائق الإلهية هي التي بانت فبان من الصوفي صبره وعزاؤه، ولكن تلك الحقائق وإن تكن قد فارقته، فالله سبحانه في سويداء قلبه لم يبرحه. وقد سأل العارفين - وهم الشيوخ المتقدمون - عن ركب تلك المناظر الإلهية أين ذهب؟ فأجابوه بأنها لجأت إلى قلوب غير قلبه، إلى قلوب ظهرت فيها أنفاس الشوق والتوقان، فبعث صاحبنا من عنده نفسا شوقيا من أنفاسه ليلحق بها ويردها إليه.
وواضح أن المعنى الثاني ليس في استقامة المعنى الأول. (ب)
وفي القصيدة الآتية - وعنوانها «تناوحت الأرواح» - يغلب المعنى الصوفي على المعنى الظاهر، فهي تقول:
إن حمامات الأراكة والبان (التي هي هنا رمز واردات التقديس) تنوح وتبكي فتثير في الصوفي الشاعر صباباته الخفية وأحزانه المكنونة، فيظل يطارحها عند الأصيل وبالضحى شوقا بشوق، وهيمانا بهيمان، ويردد الشاعر ما يخرج من تلك الحمامات النائحة من حنين وأنين ترديد الصدى، حتى كان التقابل بين نوحه ونوحها كأنما هي شجرة غصونها من لهب، تميل بها الريح نحوه فتفنيه. على أن هذا اللقاء بينهما ليس موصولا ، بل يجيء على لحظات متقطعة، وحتى في هذه اللحظات لا يكون اللقاء مباشرا، بل يكون بينهما حجاب، فالحمامات النائحة تطوف به كتطواف الرسول حول الكعبة، وتلثم أركانه وهيكله، دون أن يكون لثمها هذا مقصودا لذاته، بل المقصود به ما وراء ذلك الهيكل وتلك الأركان الظاهرة. ومع ذلك فمن تلك الواردات ما ينفذ إلى القلب متسترا، فتأتي منه اللمحات من وراء ستره، كأنما هي الظبي المبرقع يشير من خلف حجابه بأطراف الأنامل أو بالأجفان، وعند ذاك تكون تلك المتحجبات كامنة بين الترائب والحشا، فإذا كانت نيران الحب قد أفنت الشاعر في محبوبه، فقد بقي له وسط ذاك اللهب روضة ذات أزهار (هي رمز لفنون المعارف). وللنظر إلى القلب بما احتوى عليه من تلك الأزهار الربانية أن يصور المشهد في أية صورة شاء؛ لأن القلب له من تنوع الحالات ما يحتمل صورا كثيرة (لاحظ العلاقة اللفظية بين قلب وتقلب).
فإذا صورت ما في القلب غزلانا، كان القلب مرعى لها، وإذا صورته رهبانا كان القلب ديرا لهم، وإذا صورته أوثانا كان القلب بيتا لها، وإذا صورته أرواحا طائفة كان القلب كعبة لتطوافها، وإذا صورته آيات من التوراة كان القلب ألواحها، وإذا صورته آيات قرآنية كان القلب مصحف قرآنها. على أن هذه الصور على اختلافها لا تشير آخر الأمر إلا إلى شيء واحد بعينه هو «الحب» الذي يدين به الشاعر مهما كانت تكاليفه. وإذا كان الحب دين الشاعر، فعلى المحب أن يفنى في محبوبه كما فني المحبون جميعا من قبله: بشر هند، وقيس ليلى، وجميل بثينة وغيرهم.
هذا هو مضمون القصيدة، الذي لو أخذناه على ظاهر معناه كانت الإشارة فيه إلى ما بين الحبيبين من شوق يجذب أحدهما نحو الآخر، جذبا وصل خيوط الحب بينهما كأنها ألسنة اللهب، لكن الوصال مع ذلك لم يتحقق لهما، فطوى المحب قلبه على حبه، وراح يسترسل مع الخيال في تصوير ما انطوى عليه القلب.
وواضح أن المعنى الصوفي الباطني، الذي يجعل الأرواح المتناوحة هي روح الصوفي من جهة والأرواح الواردة إليه من جهة، هو الأغلب، والأقرب إلى القبول. (ج)
وهناك قصائد كثيرة، لا يكون فيها الرجحان الغالب لا إلى المعنى الغزلي المباشر، ولا إلى المعنى الصوفي الباطني، بل يتعادل فيها التأويلان، تعادلا تاما. خذ مثلا قصيدة «حادي العيس» (ص68-70)، وانظر كيف يتعادل المعنيان:
يوجه الشاعر خطابه إلى حادي العيس ألا يتعجل السير بالحبيبة، حتى يلحق هو بالركب؛ لأنه مضطر إلى المكث حينا، فليمسك بالمطايا حتى لا تنطلق في سيرها، فهو جاد في اللحاق بهم، وإن تكن تحول دون ذلك العوائق، ثم يوجه الشاعر ذلك الحادي بأن يقف في أيمن الوادي، حيث خيام الأحبة، الذين هم للشاعر كنفسه وكبده، وإن الشاعر المحب ليعتزم اللحاق بالحبيبة الراحلة مهما يكن ثمة من صعاب، وإلا فلا كان ذلك الهوى الذي يدعيه.
فلكي نفهم هذا السياق على المعنى الصوفي، نترجم «حادي العيس» إلى «الداعي إلى الحق»، وتترجم «الحبيبة» إلى الحقائق الإلهية التي رحلت عن قلب الصوفي، فيكون الخطاب معناه: لا تتعجلوا السير، فإني مضطر إلى البقاء هنا إلى ساعة الأجل؛ لأني حبيس البدن، وأما النفس فتريد العروج إلى السماء لولا ذلك القيد، وإن ما قد خيم في الوادي المقدس هي المعارف الربانية التي يتعشقها كأنها له لب الحياة وجوهرها.
على أن هذا التعادل في المعنى بين الظاهر والباطن، لا ينفي قولنا بأن الشاعر قد قصد أول ما قصد إلى المعنى الغزلي الظاهر في كثير من قصائده، ثم صرف الظاهر إلى باطن. ويجدر في هذا المقام أن نشير إلى الذكر الصريح الذي ورد في بعض قصائده لحبيبته «النظام» - إما بالاسم أو بالوصف المحدد - كقوله في شطر بيت (ص84) «هي بنت العراق بنت إمامي.» وكقوله (ص83):
طال شوقي لطفلة ذات نثر
ونظام ومنبر وبيان
وفي شرحه لهذا البيت وردت هذه العبارة: «لغزنا هذه المعارف كلها خلف حجاب النظام بنت شيخنا، العذراء البتول شيخة الحرمين وهي من العالمات المذكورات.»
ومهما يكن من أمر هذا الديوان، فهو غزير بشعره، غني بصوره، مجنح بخياله، مثقل بفكره وحكمته، نابض بحرارة إيمانه، فهو لقارئه متعة ودراسة وحياة.
من وحي الكعبة
جلست على بعد خطوات من الكعبة، حيث قضينا ساعات الضحى، حتى الظهيرة وما بعد الظهيرة، جلست شاخصا بما عندي من بصر قليل، لكن بصيرتي كانت - بحمد الله - يقظانة الوعي سريعة التلبية والأداء، إذا جاءها البصر العليل بشعاع واحد، أمسكت به البصيرة لتضيف إليه ألف شعاع، إذا قال البصر: ها أنا ذا أرى أمامي مقام إبراهيم عليه السلام، وثبت بصيرتي إلى أحداث التاريخ التي وضع أركانها خليل الله، فقبل أن ينتهي المطاف بإبراهيم الخليل إلى مقامه هذا ليقيم بيت الله، كان قد جاهد في سبيل الله، محاولا أن يهدي قومه بأرض كنعان سواء السبيل، داعيا إياهم أن يحطموا أصنامهم ليعبدوا الله الأحد الذي لا شريك له، فأبوا عليه دعوته، فحطم هو تلك الأصنام، فأرادوا له شرا، إذ أوقدوا نارا وألقوا به في لهبها، فأمر الله - جلت قدرته - أن تكون النار على إبراهيم بردا وسلاما. ولما كتبت له النجاة، اتجه إلى فلسطين، لكن أرض فلسطين ما لبثت أن شملها جدب قضى على موارد الطعام والشراب، فرحل نبي الله وخليله إلى مصر. ألا حياك الله يا مصر، فهو - جل جلاله - الذي شاء لك أن تكوني ملاذ إبراهيم، وموطن موسى، ومنجاة عيسى (عليهم جميعا أفضل السلام)، ثم حافظة الإسلام منذ أريد بالإسلام شر ونكر على أيدي التتار، فلو كان في الدنيا بأسرها موقع واحد يصلح للبشر على اختلاف دياناتهم الثلاث، كنيسا، وكنيسة، ومسجدا، لكان هذا الموقع هو أنت يا مصر، يا من أسماك رسول الله محمد عليه الصلاة والسلام: «أرض الكنانة» مريدا بذلك أرض العتاد الذي يصان به حمى الإسلام.
ويشخص البصر الكليل إلى مقام الخليل، الذي هو على بعد أمتار قليلة منه، كأنما أراد أن يرد تيار البصيرة إلى من نحن جالسون في رحابه، فيعود إلى سيرة إبراهيم عليه السلام، لائذا بمصر وخصبها، وكان قد بلغ من العمر عتيا دون أن ينجب ولدا، من زوجته سارة، فتزوج في مصر من إحدى بناتها، تزوج من هاجر، فأنجبت له إسماعيل، ليكون إسماعيل بعد ذلك أبا للعرب، وليكون إبراهيم بذلك جد العرب، وربي أعلم بما حدث. وقد شاء الله لسارة أن تلد لزوجها إبراهيم ولدا بعد مولد أخيه إسماعيل من أبيه، وأسمت سارة ابنها «إسحق»، وقد قرأت كلمة عبرية معناها «اضحك» (والتشابه واضح بين «اضحك» العربية و«إسحق» العبرية)، ولقد أريد بهذا الاسم إشارة إلى سعادة الوالدين بابن ظلا ينتظرانه، حتى بلغا من الشيخوخة ما بلغا، أقول: إن ربي أعلم بما قد حدث ليدفع نبي الله إلى الارتحال إلى مكة، لا يصطحب إلا هاجر وابنهما إسماعيل، وها هنا أمر بإقامة بيت الله الذي أجلس الآن في جواره خاشعا.
ولكن هذا «الحق» الذي أقيم ها هنا بأمر الله، لم يلبث مع الأيام أن أحاطه الإنسان بالباطل؛ إذ ها هنا أيضا أقامت قريش بأصنامها، وهو باطل ظل قائما إلى أن نزلت الرسالة على محمد عليه الصلاة والسلام، وجاءه في حربه مع قريش فتح ونصر، فحطمت الأصنام؛ لتعلو إلى الأبد كلمة الله الأحد.
وشخصت عيني ببصرها القليل إلى باب الكعبة، وما أسرع ما ألقت البصيرة أمام نفسها بسؤال، لم تعرف له جوابا، فأضمرته حتى تواتيها لحظة مناسبة يتاح لها فيها أن تسأل أهل العلم، ولقد حانت تلك اللحظة مع مساء اليوم نفسه، إذ جلسنا مع بعض أصدقائنا حول مائدة، نداول بيننا أطراف الحديث، فألقيت بسؤالي: ماذا بداخل الكعبة؟ فأجاب من أجاب، بأنه لا شيء الآن بداخلها، فسألت: ألا يحدث قط أن تكون مكانا للصلاة؟ فجاءني الجواب بحقيقة لم أكن أعرفها، بل ولم أكن أتوقعها (وتقع التبعة في صوابها أو خطئها على من أجاب) إذ قال: إن ما هو فرض في الصلاة لا يجوز أداؤه داخل الكعبة، وأما ما هو سنة فيجوز. وبعد لحظة أخذني فيها شيء من الحيرة، سألت: ولماذا كانت هذه التفرقة بين فرض وسنة في الصلاة داخل الكعبة؟ فأجاب المجيب بقوله: لست أدري، وما أظنه من حقنا أن نطلب التعليل في أمور العبادة! فرددت عليه مسرعا بالرد: بل إن من حقنا، أو قل إنه واجب علينا أن نفهم، نعم إن أمور العبادة واجبة الأداء، سواء عرفنا سرها أم لم نعرفه، لكن محاولة المعرفة إلزام خلقي على الإنسان، فقد فرضت تلك العبادة على بشر عاقل، ولم تفرض على حجر أصم وأبكم، فقال صاحبي: هات لنا التعليل إذا استطعت.
هنا أسعفتني بصيرتي التي قلت عنها في أول الحديث، إنها كانت يومئذ يقظانة الوعي، سريعة التلبية والأداء، نعم أسعفتني، بعد صمت لم يطل معي أكثر من دقائق معدودات، قلت: إنه إذا صح ما أنبأتنا به، وهو أن صلاة الفروض داخل الكعبة لا تجوز، والذي يجوز - لمن أراد - هو صلاة السنة وحدها، كان عندي ما أقدمه تعليلا لذلك، وهو تعليل أستمده من السر وراء إقامة الكعبة نفسها، وحتى إذا تبين أن ما أنبأتنا به غير صحيح، تظل الفكرة التي أقدمها قائمة بصوابها، ولو أنها - في هذه الحالة - تصبح بيانا لجانب من جوانب الحكمة في إقامة هذا البيت الشريف.
إنه إذا سمح لأفراد من المسلمين أن يؤدوا فرض الصلاة داخل الكعبة، أمكن لهؤلاء الأفراد أن يتجهوا في صلاتهم جهات مختلفة؛ لأن كل اتجاه في هذه الحالة هو اتجاه نحو الكعبة، فقد يتجه أحدهم نحو الشمال، ويتجه الثاني نحو الجنوب، والثالث نحو الشرق، والرابع نحو الغرب، وبذلك يؤدي هؤلاء الأربعة صلاتهم، وإن ظهرا لظهر، لا تشخص أعينهم إلى اتجاه واحد، ولا تلتقي قلوبهم في هدف واحد، ومن هنا وجب أن تؤدى فروض الصلاة في مواقع خارج بناء الكعبة؛ لتلتقي أفئدتهم جميعا عند غاية مشتركة، وأما السنة التي قد يؤديها المصلي وقد لا يؤديها، فهي تمثل جانب الاختيار الذي يحقق لكل فرد استقلاله، وهكذا تكون التفرقة التي أنبأتنا بها يا صاحبي، مفهومة المعنى.
على أنه بغض النظر عما أنبأتنا به، فها هي ذي فرصة قد أتاحتها لنا الكعبة الشريفة وأسرارها، لنتحدث فيما أصابنا من ضعف بعد قوة، وذل بعد عزة، إذ يخطر لي الآن خاطر غريب، تولد من كلامنا عن الجائز وغير الجائز من الصلاة داخل الكعبة ، وهو أن السر الذي زعمته لكم تعليلا للتفرقة، إنما يصلح هو نفسه أن يكون السر الذي يكمن وراء ما أصابنا من ذلة وضعف، بعدما شهده فينا التاريخ من عزة وقوة، وتسألونني كيف، فأجيب: «الذات» ووحدانيتها، هي القاعدة الأولى، التي على أساسها يقوم وجود الفرد الواحد، وجودا صحيحا سليما، ووجود الشعب الواحد، ووجود الأمة الواحدة، ووجود كل جماعة كائنة ما كانت طبيعتها، لكي تستحق أن يطلق عليها اسم الجماعة وصفاتها، لكن هذا كلام يحتاج منا إلى شيء من التوضيح.
ولنبدأ بالفرد الواحد، فما الذي يجعل لفرد ما «شخصيته» معلومة الخصائص، وعن طريقها يمكن للآخرين أن يتعاملوا معه؟ لو كان الفرد الواحد مكونا من مقوم واحد، لما كان هناك مجال لهذا السؤال؛ لأننا لا نسأل سؤالا كهذا عن العنصر الأولي الذي لا يقبل التحليل، نعم، لو كان الفرد من الناس ذا مقوم واحد هو كيانه، لكان «واحدا» بحكم طبيعته، لكن كل فرد يتألف كيانه من مقومات الله أعلم بعددها، وهي ليست كثيرة في عددها فحسب، بل إن تلك الكثرة متعارضة بعضها مع بعض، ففيه رغبات متنافرة، كل رغبة منها تشده إلى ناحية غير الناحية التي تشده إليها الرغبة الأخرى، ففي لحظة واحدة بعينها قد يشعر الفرد المعين بأنه راغب في مغادرة منزله ليفرج عن نفسه ضيقها، وراغب - في الوقت نفسه - في أن يمكث حيث هو؛ لأن أحدا قد ضرب له موعدا للقاء في داره بعد قليل، وهو لا يريد أن ينقض وعده له بانتظاره ليلقاه.
في لحظة واحدة بعينها قد يرغب فرد ما في أكل صنف معين من الطعام، ولكنه أيضا يرغب في أن ينصرف عن ذلك الصنف؛ لأنه محرم عليه بإرشاد الطبيب. ولو أخذت أضرب لك الأمثلة للرغبات المختلفة في الإنسان الواحد كيف تتقاتل في كيانه، متنافسة فيما بينها؛ لأن كلا منها يسعى إلى امتلاكه لما انتهيت، وقد يصل هذا الصراع بين الرغبات في الفرد الواحد حدا يصل به إلى الخيانة والجريمة، فقد تتنازعه - مثلا - رغبتان متعارضان: إحداهما أن يخلص لوطنه فلا يعرضه لخطر أعدائه، والأخرى أن يكون صاحب مال يجيئه إذا ما خان، فماذا يفعل الفرد من الناس، إذا ما تدافعت في جوفه تلك الدوافع المتعارضة؟ أيترك نفسه نهبا لها جميعا، تفعل فعلها معه في آن واحد؟ إنه لو فعل ذلك لفقد أمرين: في أولهما يفقد أن تكون له شخصية ذات طابع يميزها، وفي ثانيهما لن يحقق من تلك الرغبات ذاتها شيئا، إذ يكون شأنه كشأن «خراش» الذي قال عنه الشاعر:
تكاثرت الظباء على خراش
فما يدري خراش ما يصيد
فمن الوجهة العملية النفعية الصرف، وكذلك من الوجهة الإنسانية الخلقية، لا مناص للفرد من الناس، إلا أن يجعل لنفسه مبدأ ما، يكون هو الميزان، أو الفيصل، الذي يقرر له ماذا يختار في كل مرة تتنازعه فيها رغبات متعارضة. والأغلب أن الدين هو مصدر تلك المبادئ، التي تفصل بين الحلال والحرام، وفي الحلال نفسه، تفصل بين ما هو أولى بالاختيار مما عداه. وإلى جانب الدين في ذلك، يكون للعرف وللتقاليد، وللثقافة القومية السائدة فعلها في إقامة الموازين، فإذا استقامت لفرد ما موازين الحكم - من جهة ما - كان له «ذات» معروفة له وللناس، بما يميزها من طرائق السلوك، وأسس الاختيار.
وواضح من هذا الذي قلناه، أن الفرد الواحد إنما يحقق لنفسه «ذاتا» محددة إذا حقق لها محورا معينا، «يوحدها» في اختيارها وسلوكها، وهو بهذه «الوحدانية» لذاته، يحقق لنفسه «شخصية» يمكن وصفها وتعيينها بما يميزها من معالم.
وما قلناه عن الفرد الواحد، نقول مثله عن شعب بأسره، فهو لن يكون «شعبا» بالمعنى الصحيح، إلا إذا «توحدت» أوجه النشاط في حياة أفراده، بحيث يصبح في مستطاعنا أن نحدد لذلك الشعب خصائصه التي تميزه عن سائر الشعوب؛ أي أن الشعب - على كثرة أفراده - يصبح وكأنه فرد واحد كبير، يطوي تحت أجنحته ملايين أبنائه في اتساق متناغم. والذي يجعل مثل هذه الوحدانية في الشعب كله ممكنا، هو أن يكون له هدف واحد، مقرر ومعترف به ومقبول من أبناء الشعب قبولا راضيا، وهنا أيضا - كما هي الحال في الفرد الواحد - يكسب الشعب الموحد أمرين في آن واحد: فهو أولا يعرف ماذا يختار بين البدائل الكثيرة التي عادة ما تطرح نفسها أمامه، وثانيا تصبح له شخصية فريدة، تميزه، وتجعل له هوية محددة المعالم، يعتز بها ويعمل على صونها.
وما قلناه عن الفرد الواحد، ثم عن الشعب الواحد، نقوله عن القومية العربية، ثم عن الوحدة الإسلامية، بل عن الوحدة الإنسانية كلها إذا شئنا وشاءت؛ ففي جميع هذه الحالات، لا سبيل إلى تحقيق ما نريد في هذا السبيل، إلا أن تنشأ لما نريد أن نوحده، «ذات» ولا تتوافر لنا هذه «الذات» المنشودة، إلا أن يكون هناك «هدف» مشترك، واضح المعالم، مقبول من أفراد الجماعة التي تريد أن يكون لها وحدة تضمها في كيان، وإقامة الهدف هي نفسها التي تقيم بدورها موازين الاختيار بين الرغبات المتعارضة إذا ما عرضت لها في الطريق.
وفي هذا السياق، لا بد لنا من لفت الأنظار إلى حقيقة جوهرية، وهي أنه لا سبيل إلى وحدانية الذات - في الفرد، أو في الشعب، أو في الوحدة القومية أو الدينية - إلا إذا استعنا بالذاكرة (ويقابل الذاكرة في الفرد الواحد، التاريخ في حياة الجماعات) لكي نجمع الماضي مع الحاضر في لحظة توحدهما؛ إذ لولا الذاكرة في استعادتها للماضي كلما استدعت المناسبة الراهنة شيئا منه، ولولا التاريخ في حياة الشعوب والجماعات، لما بقي للكائن - فردا أو جماعة - إلا اللحظة الحاضرة وحدها. وفي حدود هذه اللحظة الواحدة، لا مجال للحديث عن «ذات» ووحدانيتها، فالذات هو الفرد، وفي الشعب، وفي أية جماعة موحدة، هي امتداد على الزمن، تتعاقب فيه لحظات، والمطلوب هو أن نجد الرباط الذي يوحد تلك اللحظات الكثيرة المتتابعة، في تيار موحد، هو الذي يجعل الفرد فردا معينا، والشعب شعبا معلوم الهوية متميز الشخصية عما عداه.
أما بعد - هكذا وجهت الحديث إلى صحبتي حول المائدة - فإنني أتوكل على الله وأستعين به، وأستغفره إذا أخطأت، وأقول : إن وحدانية الذات في الأمة الإسلامية، هي ما أقيمت الكعبة المشرفة لتؤديه، ومن أجل هذا ترتد هذه الأمة بأصولها إلى إبراهيم الخليل عليه السلام، فالتقاء خطوط النظر من الأمة الإسلامية جميعا في مشارق الأرض ومغاربها، عند الكعبة لا بد من تأويله ليكون التقاء في هدف واحد - من حيث هي أمة واحدة - لأن في داخل تلك الأمة الواحدة شعوبا، قد يكون لكل شعب منها أهدافه الخاصة، التي يضيفها إلى هدفه من حيث هو شعب مسلم. وعلى هذا الضوء نفهم ما أنبأنا به صاحبنا في أول حديثنا، من أن صلاة الفرض لا تجوز داخل الكعبة؛ لأن الأهمية كامنة في التقاء الجماعة على هدف، وماذا يكون هدف المسلمين الواحد، الذي يحقق لهم ذاتا إسلامية موحدة، إلا أن يحيوا على إسلام أراده الله وفصله في كتابه. ولما كانت رسالة الإسلام الأولى هي «التوحيد» - توحيد الذات الإلهية - تبع ذلك بالضرورة وجوب أن يكون التوحيد هو هدفنا في كل ذات تعنينا: ذات الفرد ونحن نتولى تربيته، وذات الشعب ونحن نرسم سياسته، وذات العروبة ونحن نعمل على تدعيم أركانها، وذات الأمة الإسلامية في المجال الذي يقتضي أن يكون المسلمون فيه فكرا واحدا وسلوكا واحدا. والرمز المشير إلى هذا كله، هو الكعبة التي نتجه إليها في الصلاة.
قال أحد الحاضرين: أخشى أن يفهموا وحدانية الأفراد والشعوب على أنها صب لهؤلاء جميعا في قوالب متشابهة كما تصب الحجارة.
قلت: إنهم يخطئون لو فعلوا؛ فواضح أن المقصود هو أن تظل لكل فرد شخصيته الفريدة غير المتكررة في سواه، ثم تتلاقى تلك المتباينات جميعا في وحدة متسقة، كما تتلاقى مجموعة الألفاظ المختلفة في قصيدة الشاعر.
تربية الضمير الديني
قل هو الله أحد
أحدية الذات الإلهية هي من رسالة الإسلام في صميم الصميم، وإن الإنسان المسلم ليبلغ من إسلامه بمقدار ما تمثل وحدانية الله إيمانا، وفكرا وشعورا، فأولى الدرجات أن يردد لفظها بلسانه وشفتيه، ويتلو ذلك صعدا أن يغوص بفكره في معناها، وإلى هنا يظل في مرحلة التعلم، فالمعلم يلقنه: قل هو الله أحد، فيرددها المتعلم مرة أو مرتين أو ألف مرة، ثم يشرح له المعلم معناها، فيعي المتعلم ما شرح المعلم، فهذا المتعلم - إلى هنا - قد حفظ، ووعى معنى ما قد حفظ، لكنه لا يدري ماذا «يصنع» بما قد حفظ ووعى، وعندئذ تأتي الخطوة التربوية على أيدي والديه ومعلميه أو عن طريق تأمله هو في ذاته إذا أراد الله له خيرا وهدى، وذلك بأن يتحول المعنى المحفوظ والمعلوم إلى «ضمير»، فكيف يكون ذلك؟
ما نطلق عليه اسم «الضمير»، هو ما استخلصناه لأنفسنا مما وعيناه وعشناه. ولقد استخلصناه إما من خبراتنا نحن المباشرة أو مما علمنا إياه آباؤنا ومعلمونا «فأضمرناه» في نفوسنا لنحمله معنا أينما توجهنا، فنكون بمثابة من حمل معه دليلا هاديا يرشده إلى سواء السبيل إذا ما أشكل عليه الأمر في موقف من مواقف حياته. وإذا قلنا عن أحد إنه بلا ضمير، فإنما نعني أنه لا يملك في حافظته ما يبين له حدود الصواب والخطأ، فقد يصيب وهو لا يدري أنه الصواب وقد يخطئ وهو لا يدري أنه الخطأ.
فما هو المبدأ الذي يستخلصه المسلم من أحدية الله سبحانه وتعالى، بحيث يضمره في صدره؛ ليكون مرجعه في مسالك حياته؟ كيف نحول عقيدة التوحيد - بالتربية - إلى «ضمير» يكون به المسلم مسلما فيما يدع وما يختار إذا ما كان في موقف جديد لا عهد له به، ولم يحفظ له فيما حفظ حكما معينا واجب التنفيذ؟ إنه لو كان الإنسان مخلوقا وليس في قدرته إلا أن يسير ويسلك على صورة معينة مغروزة في فطرته لما كان لسؤالنا هذا موضع، فنحن لا نسأل عن السمكة أو الطائر أو القط على أي مبدأ كامن في نفسه يختار ما يختاره، ويترك ما يتركه؛ وذلك لأنه أساسا لا يختار، فلا يسعه بحكم طبيعته إلا أن يفعل ما يفعله، وينصرف عما ينصرف عنه. لقد رفع عنه بحكم فطرته عبء الاختيار وتبعاته، فإذا كان قد استراح من ناحية، فهو من ناحية أخرى لا يعرف نعمة أن يكون حرا في الاختيار بين البدائل المطروحة. أما الإنسان فله هذه الحرية ونعيمها، ولكنه كذلك يدفع عنها ثمنا باهظا ، وهو أن تقع عليه التبعة إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. وقد تكون هذه التفرقة الجوهرية بين الإنسان وسائر الكائنات، وهي التفرقة التي جعلت الإنسان حر الإرادة في اختياره، ولكنه مسئول، وجعلت سائر الكائنات مسلوبة الإرادة الحرة، ولكنها لا تحمل وزرا، أقول إن هذه التفرقة قد تكون هي ما أشارت إليه الآية الكريمة:
إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا
والأمانة قد تكون هي الإرادة الحرة، وما تستتبعه، ولقد حملها الإنسان ظالما لنفسه جاهلا بفداحة العبء.
المبدأ الذي يدسه المسلم في ضميره مستخلصا إياه من عقيدته في أحدية الله جل وعلا التي هي رسالة الإسلام ليركن إليه فيهديه عند الاختيار هو أن يختار الفعل الذي يتسق مع غيره في بناء شخصية موحدة، فاتساق العناصر المكونة للإنسان، بحيث تتعاون تلك العناصر بعضها مع بعض بدل أن تقع في تعارض وصراع هو بلوغ الكمال. فإذا كان في الإنسان نفس أمارة السوء، ففيه كذلك نفس لوامة تعمل على استقامة ما اعوج وانحرف، حتى إذا ما اعتدل الميزان وسكن الصراع الداخلي كان للإنسان بهذه السكينة نفس مطمئنة ترجع إلى ربها راضية مرضية. تأمل شهادة «لا إله إلا الله» التي هي الشرط الأول في إسلام من يسلم. تأملها جيدا تجدها منطوية على أكثر من مفتاح يؤدي بقائلها عن إيمان بصير، إلى ذلك الاتساق الذي يوحد شخصه في رؤية تخلو من صراع دوافعه الباطنية بعضها مع بعض؛ فمن ناحية تتضمن الشهادة إثباتا من الفرد لوجود ذاته حقيقة قائمة برأسها، وذلك بقوله: «اشهد»، وتتضمن إلى جانب ذلك إقرارا من تلك الذات بوجود ذوات أخرى سواها، فليست هي واحدة وحيدة، بل فرد من جماعة، وإنها هي تلك الجماعة التي يشهد لها إمامها، ثم تتضمن إيمان الذات الناطقة بالشهادة، إيمانها بألا إله إلا الله، تلك ناحية، وناحية أخرى مما يريد منا أن نتأمل الشهادة في عمق هو أنها بدأت بالنفي لتعقب عليه بالإثبات، فأولا لا بد لمن آمن بالله أن يمحو من نفسه كل من عداه، فالشاهد يبدأ شهادته بألا آلهة أخرى هناك، حتى إذا ما أيقن بذلك أعلن إيمانه بالله، ولهذا الترتيب الذي ينفي الباطل أولا، ثم يؤكد الحق قوة منطقية تعين الإنسان على التخلص مما قد يعرقل سيره الثابت المطمئن. ومن هنا رأينا مناهج البحث العلمي تجعل الخطوة الأولى في طريق البحث إزالة الآراء أو النظريات الخاطئة، وذلك بتفنيدها وبيان أوجه الخطأ فيها، ثم تعقب على ذلك بإقامة ما هو صحيح. وذلك يشبه تحطيم الأصنام أولا، ثم الدعوة إلى الحق الأحد ثانيا. إنه إذا ما تكون في نفس المسلم ضمير ديني يستمد كيانه وقوته من الإيمان بوحدانية الله، فهو الحق الذي ليس بجواره باطل، كان ذلك الضمير كفيلا بصاحبه بأن ينقي طريقه من الشوك ليبقى له الزهر خالصا، وكان كفيلا له بأن يزيل عوامل القلق والتوتر؛ لأن هذه العوامل إنما تنتج عن مغريات متعارضة قد يجد الإنسان نفسه في موقف ينجذب لهذا وينجذب لذاك في وقت واحد مع استحالة أن يتحققا معا، فيحس وكأنه ممزق بين قطبين، وفي حالة كهذه لا بد أن يكون على بصيرة أي الجاذبين أكثر اتساقا مع بنائه وكيانه فينحاز إليه إنقاذا لوحدته.
التوحيد الإسلامي هو في أعماقه من ناحية حياة البشر تناسق في حياة الإنسان الأخلاقية بمعنى أن تنتظم مجموعة القيم في ترتيب يبين أيها أولى من أيها إذا ما تعارضت في موقف معين. ولو أن تنسيقا كهذا ساد عالمنا المعاصر لتخلص من مصادر بؤسه وشقائه، فهو كثيرا ما يوصف بأنه عصر القلق والتمزق والضياع بالنسبة للشباب بصفة خاصة. وهذا كله صحيح، وتعليله أن العصر كله يجتاز مرحلة انتقالية أبهمت فيها المعالم بين المعروف والمنكر فلا يدري أحد - على سبيل اليقين - أي النظم هو المؤدي بالإنسان إلى ما هو أفضل. وفي ظني أنه لو جعلت وحدانية النفس مدار التربية لكان في ذلك شيء من طريق النجاة.
كان قد استوقف نظري عند بعض الفقهاء المسلمين الأقدمين في تناولهم لأسماء الله الحسنى اختيارهم لطائفة من تلك الأسماء (هي عند بعضهم سبعة والظاهر أنهم ليسوا في ذلك على رأي واحد) على أنها هي الصفات الإيجابية (ليست هذه العبارة من عندي، بل أخذتها عنهم) وهي القدرة والإرادة والعلم والحياة والسمع والبصر والكلام. وإذا نحن تأملنا هذه الصفات السبع وجدناها أركانا أساسية في بنية الذات الإنسانية لو اتسق بعضها مع بعض نتجت لنا شخصية سوية. وفي هذه المناسبة أذكر رأي الفقهاء الأقدمين الذين أشرت إليهم، وهو أن الصفات التي تشير إليها أسماء الله الحسنى هي صفات لله سبحانه وتعالى مطلقة لا تحدها حدود، وهي أيضا صفات للإنسان، ولكنها في الإنسان محدودة، وبعد هذه الملاحظة أعود إلى الصفات السبع التي أشرت إليها لأقول إن بيت الداء في عصرنا هو اختلال النسبة الصحيحة بين هذه الصفات؛ مثال ذلك أن تبنى «الإرادة» على غير أساس من «العلم» و«القدرة» أو أن تقام الحياة على غير وعي إدراكي سليم قائم على السمع والبصر وهكذا.
قل هو الله أحد * الله الصمد
أحدية صمدية هما صفتان لله سبحانه، وهما كذلك في حدود مقيدة صفتان للكون من حيث هو كل واحد مترابط الأجزاء، فهو كون واحد مهما تعددت ظواهره وكائناته، وهو كون صامد لا ينهار ولا يتفتت، وهما كذلك صفتان للحياة من حيث هو تيار متصل، ثم هما صفتان ينبغي أن يتميز بهما الإنسان الكامل؛ فلكل فرد «هوية» يجب ألا تنقسم على نفسها وصمود لا يأذن لتلك الهوية أن تتشقق جدرانها أمام الأحداث.
عقيدة المسلم إذا ما رسخت في صدره ضميرا يهديه إلى جادة الطريق ضمنت له ألا تتعدد معاييره الخلقية؛ فمعيار أمام ولي الأمر، ومعيار آخر أمام الناس، ومعيار ثالث يقيمه حين يخلو لنفسه. إذا استطعنا تربية هذا الضمير الديني عند أبنائنا وبناتنا كان ذلك درعا تحميهم من أن يذل صغيرهم لكبيرهم أو أن يذل فقيرهم لغنيهم أو أن يذل محكوم لحاكم، فكما قال الشريف الرضي في بيت له من شعره الرائع معناه أن من حقق أهدافه عن طريق الذل فهو المغبون ، فما بالك إذا ذل ولم يحقق لنفسه شيئا؟ والبيت هو لمن شاء أن يحفظه:
وكان الغبن لو ذلوا ونالوا
فكيف بهم وقد ذلوا وخابوا؟
حارس المسلم هو «ضميره» من داخل ما ينفك يذكره - كلما وجد من أمره عسرا - أن الله أحد، وأن الله صمد، وأن الله أكبر، والكلام في هذا شرحه يطول ويتشعب ولست أظن أنه مما يكتفى فيه بمقال.
وهنا أقول إن عندي للقارئ همسة أهمس بها في أذنه، ليعلم منها ماذا كان الحافز الذي حفزني إلى كتابة هذه الأسطر في موضوع يستحق كتابا، والحافز هو أني قرأت في إحدى الصحف هذه الإجابة الآتية من أحد علماء الدين يجيب بها عن السؤال: هل يجوز في الوضوء المسح على الخفين والجورب؟ فأجاب سيادته بقوله: إن المسح على الخفين جائز من كل حدث موجب للوضوء إذا لبس الخفين على طهارة كاملة، ثم أحدث. ومدته إن كان مقيما مسح يوما وليلة، وإن كان مسافرا مسح ثلاثة أيام ولياليها عقب الحدث. والمسح على الخفين يكون على ظاهرهما خطوطا بالأصابع يبدأ من رءوس أصابع الرجل إلى مبدأ الساق. هو جائز في الحدث الموجب للوضوء لا الغسل. وفرض المسح على الخف يكون بمقدار ثلاثة أصابع من أصغر أصابع اليد طولا وعرضا، ولا يجوز المسح على خف فيه خرق كبير يظهر منه مقدار ثلاثة أصابع من الرجل.
هذه همسة همست بها في أذنك أيها القارئ الذكي الحصيف راجيا ألا تبوح بها عند الجيران، حتى لا يظن بنا الظنون في طريقة فهمنا للدين، ولكنني أطالبك أنت ومن أحاط بك من الزملاء بأن تحسب على جهاز الحاسب الإلكتروني إذا كانت بين يديك الوسائل كم فرسخا بين مثل هذا الفهم وفهم آخر يريد للمسلم أن يربي له ضميرا دينيا يهديه إلى لباب اللباب من عقيدته. وعندئذ فلا السائل يسأل مثل هذا السؤال ولا المجيب العالم يجيب بمثل هذه الإجابة، حتى إن وجدها محفوظة في الخزائن. وهل يحق لنا بعد ذلك بعد أن أصبح محور اهتماماتنا الدينية تفصيلات شكلية عجيبة لا تمس روح الدين وجوهره، ولا تحرك الضمير الديني عند الإنسان من قريب ولا من بعيد، أقول هل يحق لنا بعد ذلك أن نسأل ماذا أصاب شباب المسلمين ليصبحوا على ما أصبحوا عليه من هزال وضعف وانحراف؟
الشعائر وما وراءها
كنت قد نشرت مقالا بعنوان «تربية الضمير الديني» (الأهرام 26 ديسمبر 1982)، وكانت خلاصته هي أن الغاية التي يجب أن نستهدفها من التربية الدينية، هي إيجاد ذلك الضرب من الوجدان الديني، الذي من شأنه أن يهدي صاحبه - كلما جد موقف في الطريق - إلى اختيار السلوك الذي يعينه على تكامل شخصيته، تكاملا ينم عن «وحدانية» تلك الشخصية؛ لأن ما يحقق إسلام المسلم هو - في المقام الأول - أن يجسد في شخصه رسالة الإسلام. و«التوحيد» من تلك الرسالة هو في صميم الصميم. ثم أخذت أوضح في المقال ما كنت أعنيه.
فجاءتني رسالة من قارئة، لم أستطع إهمالها؛ لأنها تطلب مزيدا من التوضيح، لعلها تجد فيما قلته مرشدا لها في تربية أبنائها. ولقد شعرت عندئذ بأنه قد بات واجبا ملزما، ما دمت قد عرضت فكرة تمس حياة الناس، أن أتولى شرحها. والقارئة تستهل رسالتها بقولها: هذه رسالة من أم تدعو الله في صلاتها دائما، أن يقوي الإيمان الصادق، والتقوى، في قلوب أبنائها. ومضت صاحبة الرسالة لتشكو من أن هؤلاء الأبناء لا يستجيبون لها فيما تريده لهم تجاه حياتهم الدينية استجابة ترضيها، ثم كتبت تقول: إنني كنت أفكر في كيفية إيقاظ الضمير الديني عند أولادي، عندما لمحت لك في الأهرام مقالا في هذا المجال، وطبعا تلقفته بسرعة لقراءته، لعلي أجد فيه الحل لما يهمني، ثم أعدت قراءته، وأعدت قراءته لثالث مرة، وفهمت مضمونه العميق الشيق، الذي أعتقد أنه أسلوب عال لا يفهمه إلا طبقة المثقفين، ومع ذلك فلم أجد فيه حلا لمشكلتي مع أولادي، ولو تكرمت بإتباعه بمقال آخر عن الوسائل الفعالة لتربية الضمير الديني عند النشء. وبوضوح أكثر، أريد أن أعرف كيف أغرس في أولادي بالذات حب الصدق في كل أفعالهم (وقد وضعت صاحبة الرسالة خطا تحت كلمة «الصدق») وضربت مثلا بأنها إذا كانت ترقب ابنيها وهما يتوضآن، وكانت هي التي تصب لهما الماء للوضوء، غافلها أحدهما فلم يغسل قدميه، وغافلها الآخر فلم يغسل يديه، أما أولهما فقد علل فعلته ببرودة الجو، وأما الثاني فقد زعم أن غسل اليدين في الوضوء سنة وليس فرضا.
وأول ما أضعه بين يدي الأم الفاضلة صاحبة الرسالة، هو أن هذا الذي ذكرته عن أبنائها، إنما هو مثل واقعي محسوس، لظاهرة اجتماعية في حياتنا، طويلة عريضة عميقة هي ظاهرة تعدد المقاييس الخلقية، فلكل موقف عند الكثرة الغالبة منا مقياسه، فإذا كان الموقف مواجهة بين حاكم ومحكوم، فله مقياس لما نفصح عنه وما نخفيه، وإذا كان الموقف حديثا بين زميلين، تغير المقياس. وهكذا، وليس هنا مكان التحليل والتعليل لهذه الظاهرة كيف نشأت؟ ولماذا نشأت؟ وإذا كانت قد بدأت معنا نفاقا أيام أن كان الحاكم مستبدا أجنبيا، فكنا نخشى بأسه ونتملقه بما لم نكن نؤمن به في بواطن نفوسنا، فلماذا امتدت معنا الظاهرة إلى يومنا هذا، بل ربما تكون قد استفحلت في عشرات السنين الأخيرة؟
إن ما لحظته الأم في أبنائها، قد جاء بالمصادفة ساعة الوضوء، فأظهروا لها جانبا وحاولوا أن يخفوا عنها جانبا هم يعلمون أنها لا ترضى عنه، والأم في هذه الحالة هي «الرقيب» صاحب السلطان، والأبناء هم بمثابة «شعب» يخشى قسوة الرقيب، لكنها ازدواجية خلقية، هكذا تبدأ في أطفالنا - كائنة ما كانت المناسبة التي تظهر فيها - ثم تأخذ الزاوية بين الجانب المعلن للناس، والجانب الآخر الذي يضمرونه في أنفسهم، لا يكشفون عنه إلا للمخلصين، أقول إن الزاوية بين الجانبين تأخذ في الانفراج، كلما كبر الطفل، وجاءت له السن التي يشارك عندها في معمعان الحياة العملية، فعندئذ تعلمه الخبرة - في الكثرة الغالبة من الحالات - أن العامل الناجح في مجتمعنا، يكاد يكون شرطه أن يجيء على أساس من تعدد المقاييس الخلقية، فهم يعدون بيننا بألوف الألوف، أولئك الذين يعلنون أمام الناس شيئا، ثم يقيمون حياتهم الحقيقية على شيء آخر، كأن يعلنوا - مثلا - تفانيهم في الدعوة للاشتراكية والديمقراطية والمساواة المطلقة بين المواطنين، يكتبون ذلك في الصحف، ويذيعونه صوتا وصورة، ويخطبون فيه من فوق المنابر، حتى إذا ما قفلوا إلى حياتهم الخاصة، داخل بيوتهم وبين أسرهم، كانت لهم أهداف أخرى يرتبون نشاطهم الحيوي على أسسها، فالاشتراكية تنقلب عندهم سعيا خبيثا لاكتناز رءوس المال، التي أصبحت اليوم تعد بلغة الملايين بعد أن لم نكن نسمع عن لفظة «الملايين» هذه إلا عندما تتحدث الحكومة عن موازناتها السنوية.
أصبحت الديمقراطية عندهم تعاليا بأشخاصهم على عباد الله ما وجدوا سبيلا إلى هذا التعالي، فما كل فرد من الناس بقادر على صعود الدرج، وتأبى طبائع الأمور إلا أن تنجح في هذا التعالي قلة قليلة، ليظل الباقون «شعبا» أو «قاعدة عريضة» أو «جماهير»، أو أي اسم آخر من هذه الأسماء التي يجيدون صياغتها لتكون بين أيديهم جزءا من أدوات النجاح. وكذلك إذا ما قفلوا إلى ديارهم وبين ذويهم، تبخرت «المساواة» التي نادوا بها كما تتبخر قطرات الندى في حرارة الشمس أيام الصيف. وهل أنسى ما حييت موقفا رأيت فيه من ذلك عجبا، وكان ذلك يوم أن عاد إلى الجامعة نفر ممن كانوا وزراء في وزارة بلغت أجلها، فاشترط بعضهم أن تؤثث لهم غرف خاصة، وكأنهم ما زالوا وزراء، وغضب أحدهم غضبة لا بد أن تكون أعنف من الغضبة «المضرية» التي أشار إليها الشاعر القديم، فأنا لا أعرف كيف كانت صورة الغضب في قبيلة «مضر»، لكنني رأيت غضبة صاحبنا وفضها، لماذا؟ لأن باحثا علميا أراد أن يحصي ما أنتجه الجامعيون من بحوث في موضوع ما، فأعد قائمة يستبين بها تفصيلات الموضوع، وأرسل نسخات من تلك القائمة لمن كان يعلم أن لهم نتاجا يدخل في الحساب، فاحمر وجه الوزير السابق واصفر واخضر، غضبا من هذه الإهانة الكبرى التي لحقته حين عاملوه كما يعاملون خلق الله، وأرسلوا له القائمة في البريد، وكان الواجب أن يمثل الباحث العلمي بين يديه في خشوع طلبا لما يريد. وهل من شك في أن ذلك الوزير حين كان يكتب ويخطب ويذيع، كان يشتعل حماسة في الدعوة إلى «المساواة»؟
نعم، كان الذي رأته الأم الفاضلة في بنيها من ازدواجية المقاييس الخلقية، إنما هو البذرة الأولى التي يغلب أن تنمو معهم شجرتها وتتفرع، كلما كبروا وازدادوا خبرة، بما أصبحت حياتنا الاجتماعية تتطلبه من «لباقة»؛ إي والله فقد سمعت كثيرين يسمون ذلك النفاق البشع الجبان «لباقة».
فأين عسانا واجدين طوق النجاة؟ إنه يلتمس في مصادر كثيرة، وأولها التربية الدينية؛ إذ ماذا يكون «الدين» إن لم يكن قبل أي شيء آخر، نظاما خلقيا يرسم للمتدين طرائق السلوك الصحيح، الذي يجعل منه إنسانا كما أراد الله جل وعلا للإنسان أن يكون؟ لكننا إذ نلجأ إلى الدين لنجعله محورا أساسيا في تربية أبنائنا وبناتنا، نضغط ضغطا شديدا على تفصيلات «الشعائر» لنبرزها، وبالطبع لم يكن ذلك ليعاب في شيء، فإلمام المؤمن بشعائر دينه، أمر واجب، وإلا فكيف يقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويصوم رمضان، إذا لم يكن على بينة بما يؤدي في كل مناسبة من شعائر. لكن موضع المؤاخذة هو أن نستنفد جهدنا التعليمي في الشعائر، ثم نقف عند هذا الحد، فينتج لنا أطفال كأبناء الأم الفاضلة التي أرسلت تشكو أبناءها، فالمخادعة بدأت عندهم في أدائهم لتلك الشعائر نفسها، ومن التي يخدعونها؟ هي الأم، فماذا هم صانعون إذا ما كبروا ودخلوا مع الناس في معاملات ليست «شعائر» الدين، إنما هي تجارة وصناعة وأعمال في دواوين الحكومة؟ كلا، ولا التي سيتعاملون معها يومئذ هي الأم، بل هم غرباء لن يربطهم بهم إلا روابط السوق.
وكان ذلك هو حافزي إلى كتابة مقالي «تربية الضمير الديني»، وتسألني الأم الفاضلة: كيف يكون ذلك؟ فأقول - والله المستعان: لنجعل مثلنا الذي نوضح به هو فريضة الصلاة؛ لأن ما استبشعته الأم في أبنائها، كان سلوكهم غير المستقيم أثناء الوضوء استعدادا للصلاة، فالوضوء هنا هو فاتحة الشعائر التي تؤدى لإقامة الصلاة، وجاءت خديعة الأطفال في وضوئهم دليلا على أنهم لم يروا في الموقف ما يردعهم ردعا ينبعث من دخيلة نفوسهم، وإذن فلو كنت مربيا لهؤلاء الأطفال، لأرجأت الاهتمام الضاغط بوجوب مراعاة التفصيلات في شعيرة الوضوء، إلى ما «بعد» إثارة انتباههم أولا إلى ما هم ملاقونه داخل الصلاة نفسها، فالشعيرة ضرورية، لكنها كضرورة الوسيلة اللازمة للقيام برحلة مطلوبة، كالسيارة أو القطار أو ما شئت من وسيلة، ولكن الوسيلة على ضرورتها ووجوبها، إنما تستمد ذلك الوجوب وهذه الضرورة من أنها هي الدهليز الذي يوصل سالكها إلى الغاية المنشودة. والغاية هنا هي «الصلاة».
لو كنت مربيا لهؤلاء الأطفال، ومستهدفا إقامة «ضمير ديني» في نفوسهم لبدأت بإدخالهم في الحالة الوجدانية التي يكون عليها المصلي، قائلا لهم شيئا كهذا: إن مقيم الصلاة عندما يرفع يديه إلى أذنيه قائلا: الله أكبر، فهو بمثابة من فتح بابا ليدخل منه إلى عالم آخر غير العالم الذي يحيط به ويعيش فيه، إنه هناك ملاق ربه ومخاطبه، ولذلك يحاول المصلي أثناء صلاته أن يصم أذنيه - ما استطاع - فلا يسمع صوتا، ويغض من بصره - ما استطاع أيضا - فلا يرى شيئا، بل إن من المأثور عن كبار العابدين، أنهم أثناء الصلاة لم يكونوا يحسون شيئا على جلود أبدانهم. ويروى عن أحد هؤلاء أريد له أن تبتر له ساق مريضة، فأوصى بأن يتم ذلك وهو يصلي، موقنا بأن إحساسه بما يحدث لبدنه سيضعف إلى حده الأدنى، فالمصلي مستغرق بكيانه كله ووجوده كله فيمن هو في حضرته إبان الصلاة.
إذن فقد كانت قولة المصلي «الله أكبر» عندما هم بإقامة الصلاة، بمثابة خروجه من عالم الأشياء والحاجات والمنافع، ودخوله في عالم آخر لا يعرف فيه إلا روحا تخشع لخالقها، لكن هذه التكبيرة نفسها: «الله أكبر» التي نقلته من عالم الفناء إلى عالم الخلود، من عالم يقاس بدقائق الزمن وثوانيه، إلى عالم لا يعرف الزمن، أقول إن هذه التكبيرة نفسها - بالإضافة إلى كونها مؤذنة بالنقلة الكبرى بين العالمين - إنما هي في ذاتها موضع للوقوف المتأمل، عند من يريد لصلاته أن تكون «حياة»، ولا يقتصر أمرها على حركات الجسم ركوعا وسجودا، وكأن القائم بالصلاة يستهدف رياضة بدنية، «الله أكبر» من كل كبير، فإذا كنت قد دخلت صلاتي شاعرا بالصغر قياسا إلى أصحاب الجبروت الطاغي، فسأخرج من صلاتي وقد لاقيت من هو أكبر، ولن أخشى بعد ذلك بأس الطغاة. إنني أنا - هكذا يقول المصلي بعد أدائه لصلاته - إنني أنا الصغير الكبير معا، كنت صغيرا أمام الله صغر الهباءة في هذا الكون الفسيح، لكنني خرجت من صلاتي كبيرا كأكبر من ألاقيه بين البشر. لقد كنت أنافق السلطان طلبا لعونه وردا لعدوانه، فخرجت من صلاتي أجهر بالحق كما أراه، لا أنافق فيه أحدا؛ لأنني تعلمت من وقوفي في الحضرة الإلهية أن المعين واحد هو الله، وأن الذي يرد عني العدوان واحد هو الله، لقد خشعت لله ركوعا وسجودا لأنه ربي، وكنت مع كل ركعة وسجدة أكرر «الله أكبر» لترسخ معانيها في نفسي، وتصبح في حياتي ما تكون «البوصلة» في توجيه السفينة توجيها صحيحا، أو قل إنني أكرر «الله أكبر» كلما خشعت لله، ليكون مضمونها الغني هو بعد ذلك «ضميري» الذي يهديني سواء السبيل.
وإني لأسأل الأم الشاكية من مخادعة أبنائها لها في شعائر الوضوء، هل كانوا يخادعون لو «عرفوا» إلى أي عالم هم داخلون أثناء الصلاة؟ ولقد وضعت كلمة «عرفوا» بين الحواصر لتستوقف النظر، فمفتاح الرشاد هو أن نعرف، أن يعرف مقيم الصلاة ما صلاته، وأن يعرف صائم رمضان ما صومه، وبعدئذ يكاد يستحيل على من «يعرف» أن يقترف الإثم الذي هو «خطأ»؛ لأن من يعرف لا يخطئ. ولشد ما كانت دهشتي التي بلغت معي حد الذهول، حين سمعت من أستاذ فاضل يقول في وسائل الإعلام أكثر من مرة، إن العابد لا يسأل عن عبادته، وإلا لم تعد عبادة، فالعبادة كما قال - طاعة - لا يسأل صاحبها لماذا، ولو شاء الله للأستاذ صوابا، لهداه أن يقول: إن العابد لا يسأل عن عبادته ليغير منها شيئا، بل إنه يسأل «الفهم»، والفرق كبير بين الحالتين، فمقيم الصلاة إذا سأل ليفهم سر التكبير في أول الصلاة، وعند كل ركوع وسجود وقيام لزاده هذا الفهم إمعانا في مقومات الصلاة من قول ومن حركة، فتصبح الصلاة إحدى الوسائل الفعالة في تربية الضمير الديني، وإلا فكيف تنهى الصلاة عن الفحشاء والمنكر والبغي، إذا لم يكن المصلي قد خرج من صلاته حاملا في صدره ضميرا يردعه عن تلك الآثام؟ إن آليات الصلاة في ذاتها - حركات وكلمات - لا تؤدي إلى الترفع عن رجس الفحشاء والمنكر والبغي، وإنما الذي يؤدي إلى ذلك «فهم» المصلي لأسرار ما يقوله وما يعمله.
وأعود إلى الأم السائلة: فأوجز ما أسلفته في عبارة قصيرة، هي: اجعلي أبناءك «يعرفون» عن الصلاة سرها، فينصرفوا من تلقاء أنفسهم عن المخادعة في الوضوء وغير الوضوء؛ لأنهم سيحملون ضميرا هاديا ورادعا.
الفلسفة شيء والدين شيء آخر
في هذا البحر المائج بالمعاني المضطربة الغامضة، لم يكن ليبدو لنا غريبا أن يختلط على الناس شيء بشيء آخر، لا سيما إذا كان بين الشيئين شبه قريب أو بعيد، فإذا كنت قد رأيت، حتى بين صفوة المثقفين، من يحسب الدين فلسفة، ومن يحسب الفلسفة دينا، لما أخذني عجب؛ لأنني أعلم أن حياتنا الراهنة المليئة بأزماتها، قد أرغمتنا على أن نتعجل أمورنا. ولا بأس في أن نفهم المعاني مغلوطة ومخلوطا بعضها ببعض، فلن يموت أحد بالسكتة القلبية إذا هو فهم الحرية على أنها عدالة، أو فهم العدالة على أنها ديمقراطية، أو فهم الديمقراطية على أنها تواضع، فكلها خيرات - وكلها طيبات - فهمومنا في حياتنا اليومية، أكثر جدا من أن تترك لنا شيئا من فراغ البال لنبحث في الفوارق التي تفصل هذه المعاني بعضها عن بعض. ولسنا كأسلافنا الأقدمين في وقوفهم عند أمثال هذه التوافه، بل عند ما هو أتفه منها، فأنظر إليهم - مثلا - وقد أزعجهم أن يختلط الحابل بالنابل، حتى لقد ضربوا به مثلا، فالحابل هو من صاد صيده بالحبال، والنابل هو من صاده بالنبال، وقد حدث يوما أن تزاحم الحابلون لصيدهم والنابلون، فاختلط بعضهم ببعض، ولم يتبين منهم أحد صيد من هذا وصيد من ذاك، وربما أخذ كل منهم صيد أخيه وانصرف، فماذا يؤرق هؤلاء الأسلاف من موقف يختلط فيه الأمر على هذا النحو، ما دام كل صياد قد عاد إلى داره ومعه نصيب من الصيد، سواء أمسكته الحبال، أم أسقطته النبال. ولكن لا عجب، فقد كانت حياتهم تنعم بالفراغ وبالطمأنينة، وأما نحن اليوم، فنقضي الساعات بحثا عن مواد طعامنا وطعام عيالنا، فأين هو فراغ الوقت الذي نبحث فيه عن الفرق بين الحرية والديمقراطية، أو الفرق بين العلم والفلسفة والدين؟ ثم لماذا وجع الدماغ في ما ليس طعاما يؤكل ولا دواء يشفي؟
أقول إنني ما كنت لأعجب من خلط بين المعاني في حياتنا الفكرية؛ لأنني أعلم عسر الحياة اليومية، وأعانيه مما يبرر ألا يشغل الناس أنفسهم بما يزيد حياتهم عسرا على عسر، لولا أنني كنت من ضحايا ذلك الخلط المتعجل الذي لا يعنيه أن يفرق بين المختلفات، خصوصا إذا كانت تلك المختلفات كلها مأخوذة من دنيا الفكر، وهي الدنيا التي لم يعد يقبل عليها أحد، فهات منها ما شئت، ولا تخش في ذلك بأسا، فكل الأفكار قد أصبحت عند الناس سواء.
نعم، لولا أن أصابني الشرر، لما همني ذلك البحر اللجي المائج بالمعاني الغامضة المتداخلة التي يحياها الناس، وهم في شبه غيبوبة عقلية. والفرق بعيد بين موقف تتبناه من الوجهة النظرية، فترى فيه أي رأي تشاء، وموقف آخر يمس حياتك الفعلية مسا يجاوز سطح الجلد ليغور في الأعماق. ولست أنسى في هذا الصدد رجلا كان عضوا في المحكمة التي حكمت على جان دارك بالموت حرقا، وتنفيذا لذلك الحكم أشعلت النار عالية اللهب، وعلقت جان دارك بحيث يحتويها ذلك اللهب، وبينما هي تحترق، شاءت مصادفة أن يمر ذلك الرجل من هناك، فيشهد المرأة القديسة في محنتها، فكاد يصاب بالإغماء فزعا مما يرى، ولما أسرعوا به بعيدا عن مشهد الرعب، سأله رفيقه: ألم تكن عضوا في المحكمة التي قضت بهذا القضاء؟ ففيم هذا الجزع إذن؟ فأجابه الرجل: الفرق بعيد يا صاحبي بين أن أحكم حكما وأنا آمن في غرفتي، وبين أن أرى بعيني نتيجة هذا الحكم بعد أن أصبحت واقعا .
ومع الفارق بين الحالتين فلا أنا بما كتبت وما قلت شبيها بجان دارك، ولا الذين خلطوا في فهم ما كتبته وما قلته يشبهون القضاة الذين قضوا بإحراقها، فإنني أشعر بأنني ربما لم أكن لأهتم كل هذا الاهتمام بحياة الغموض الفكري الذي نحياه اليوم، لولا أن مسني منه شرر. وكيف كان ذلك؟
لقد أراد لي توفيق الله، منذ بدأت حياتي العقلية المنتجة، أن أقع على طريق من طرق التفكير الفلسفي، رأيته وكأنما خلقت له وخلق لي، ثم رأيته وكأنه أنسب ما أقدمه في عالم الفكر لأمتي؛ لأنه إذا كان الغموض والخلط بين المعاني، أحد الأمراض العقلية التي أصابت أمتي، فتلك الطريقة من طرق التفكير هي من أنجع وسائل العلاج، وأما تلك الطريقة التي أشير إليها، فهي - بكل بساطة ووضوح - أننا إذا كنا في مجال «العلم» (وأود أن أكرر هذه اللفظة ألف مرة، العلم العلم العلم، وعلى القارئ هنا أن يكمل لنفسه المرات الألف) أقول إننا إذا كنا في مجال «العلم» فلا بد أن يجيء القول الذي نقوله مما يطابق الواقع عند التطبيق، وبالتالي فهو لا بد أن يكون مما يصلح عليه اختبار الصدق، مما هو معروف في مناهج البحث العلمي، أما مجالات القول الأخرى، التي ليست من العلوم، فلكل مجال منها معياره الخاص.
إلى هنا والكلام مقبول ولا اعتراض عليه، لكن تبدأ الدهشة، ويبدأ الاعتراض، عندما نطبق هذا المعيار العلمي في بعض مجالات القول في عالم الفلسفة، ولماذا أشير إلى عالم الفلسفة هنا دون سواه؟ أفعل ذلك؛ لأنه هو العالم الذي كان علي أن أعيش فيه، بحكم كوني أستاذا للفلسفة في الجامعة. فهنالك في عالم الفلسفة فرع اسمه «الميتافيزيقيا» أو «ما بعد الطبيعة». ويهمني جدا في هذا الموضع أن أوضح للقارئ لماذا أطلقوا عليه هذا الاسم، فالأمر في هذه التسمية جاء مصادفة، وذلك أن أتباع الفيلسوف اليوناني أرسطو، حين أرادوا - بعد عهده - أن يرتبوا مؤلفاته ويصنفوها، وكان من بينها كتاب «الطبيعية» وجدوا عدة فصول في مادة لم يتبينوا موضوعها بوضوح، فأسموها بموضعها من ترتيب المؤلفات، وكان موضعها - مصادفة - بعد كتاب الطبيعة، فقيل عنها ما بعد الطبيعة بناء على ذلك، وذلك هو معنى كلمة «ميتافيزيقا» التي يستعملها دارسو الفلسفة.
وقد بات هذا الاسم يطلق على أي بحث عقلي يريد به صاحبه أن يتعقب موضوعا ما إلى أن يصل إلى ينابيعه الخافية على العين، فمثلا إذا تعقبنا «الأخلاق» إلى الجذور الأولى التي نبع منها ما يسمى بالأخلاق، كان ذلك بحثا في ميتافيزيقا الأخلاق، وإذا تعقبنا العلوم إلى ما قد يكون وراءها من أصول لولا وجودها لما تفرعت لنا العلوم التي نراها بين أيدينا، كان ذلك البحث بحثا في ميتافيزيقا العلوم، وهكذا.
لكن إلى جانب هذه البحوث الميتافيزيقية الفرعية، قد يحاول الفيلسوف - من كبار الفلاسفة على وجه الخصوص - أن يتناول الكون كله بالتفسير، ويقصد بالتفسير هنا أن يفرض الفيلسوف لنفسه «فكرة» أو «مبدأ» يرى أنه من الممكن أن يفسر لنا على ضوئه كل جوانب الوجود، من الحب والصداقة والشجاعة، ونظم الحكم، فصاعدا إلى حركة الأجرام السماوية والحياة والموت والخلود، ومثل هذه المحاولة هي «ميتافيزيقا».
إنني أحاول أن أوضح للقارئ ما وسعني التوضيح، ليسايرني ويشاركني فيما أردت عرضه عليه. أما وقد أنبأته بأن فيلسوفا ما قد يضع لنفسه «مبدأ» يرى أنه مستطيع بمبدئه ذاك أن يفسر كل شيء، فسأضيف له الآن جانبا هاما، وهو أن من حق فيلسوف آخر أن يضع مبدأ آخر، يرى أنه أفضل من مبدأ زميله في تفسير الكون والكائنات، وهذه النقطة أرجو أن ترسخ في ذهن القارئ؛ لأنني سألجأ إليها بعد قليل.
فقد حدث أن نشرت كتابا سنة 1953م، أسميته إذ ذاك «خرافة الميتافيزيقا» (وأعدت طبعه منذ قريب جاعلا عنوانه «موقف من الميتافيزيقا») وطبقت في ذلك الكتاب منهجي الفلسفي في النظر إلى ما ينتمي إلى مجال «العلم»، وبينت كيف أن البناء الفكري الذي يولده الفيلسوف من مبدأ معين، هو بمثابة التوأم للبناء الرياضي الذي يقيمه عالم الرياضة - مثل إقليدس في علم الهندسة - ففي كلتا الحالتين: البناء الميتافيزيقي، والبناء الرياضي، نقول عنه إنه صحيح، إذا وجدنا النتائج مستدلة استدلالا صحيحا من «المبدأ» - في حالة الميتافيزيقا - ومن المسلمات - في حالة الرياضة - أي أن البناء المعين من النوعين لا تتوقف صحته على كونه مطابقا للواقع الطبيعي، فإذا زعم لنا فيلسوف أن بناءه الميتافيزيقي يصف الكون كما هو واقع، عارضناه في ذلك، كما يعارض عالم الرياضة إذا زعم أن صحة نظرياته الرياضية مستمدة من أنها مطابقة للواقع الطبيعي.
فلما نشر الكتاب المذكور، غضب كثيرون، على ظن منهم أنه ما دام الكتاب ينفي أن يكون فيلسوف الميتافيزيقا محقا في جعل بنائه الفكري مطابقا بالضرورة لدنيا الواقع، فكأن الكتاب المذكور ينفي أيضا أن تكون العقيدة الدينية في إله موجود محقة فيما ذهبت إليه!
وأعود هنا بالقارئ إلى الحقيقة التي رجوته أن يحفظها في ذهنه جيدا، وهي أن الفيلسوف إذ يبني بناءه الميتافيزيقي، فإنما يقيمه على مبدأ من عنده، وأن أي فيلسوف آخر من حقه كذلك أن يقيم بناء آخر على مبدأ من عنده، وبذلك تتعدد البناءات الفلسفية بتعدد أصحابها. وأما في حالة الدين فالأمر مختلف أشد ما يكون الاختلاف؛ لأن البناء الديني قائم على وحي منزل، وليس من حق أحد آخر أن يبني دينا على شيء آخر من عنده هو، اللهم إلا إذا كان خارجا على هذا الدين، وعندئذ لا يحسب له حساب، فبينما تتعدد البناءات الفلسفية بتعدد الفلاسفة يظل البناء الديني واحدا لوحدانية الموحي به والموحى إليه. وإذا جعلنا حديثنا هنا مقصورا على الإسلام، قلنا إن شهادة ألا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، تتضمن فيما تتضمنه وحدانية من أوحى بالدين، ومن نزل عليه الوحي، وذلك يستتبع أن يظل البناء الديني عند المؤمنين به واحدا عند الجميع.
تلك ناحية، وناحية أخرى، أن حديثي كله الذي تحدثت به عن منهجي الفلسفي وتطبيقه، إنما يقتصر فقط على مجال «العلم» (ومرة أخرى أود لو أني أخذت أكرر كلمة «العلم» ألف مرة: العلم ، العلم، العلم ... إلى أن أبلغ الألف) أي أنه منهج فكري لا يراد به، ويستحيل أن يراد به ، الانطباق على مجال الدين، أو على أي مجال آخر غير مجال «العلم» والعلم وحده.
فقل لي بالله، كيف يمكن بعد هذا كله أن يخلط الخالطون بين قول قيل في عالم الفلسفة، وبين ما لم نذكره من عالم الدين، ماذا كنت أصنع تحديدا وتوضيحا لأمنع حدوث الخلط الذهني الذي علق في أذهان من أخذوا على أنفسهم عهدا أن يعيشوا حياتهم في الغموض الفكري شهيقا وزفيرا؟ فأولا لم يكن لي في الكتاب المذكور أي شأن بأي قول ورد في أي دين من الأديان. وثانيا لم يكن المرفوض هو الأنساق الميتافيزيقية في ذاتها، فتلك الأنساق بناءات فكرية محكمة النسج إحكاما لا يقارن إلا بالبناءات الرياضية، فلو أن الفيلسوف الميتافيزيقي قدم نسقه الفكري على أنه تصور عقلي لا يشترط لقبوله أن يكون تصويرا لحقيقة الكون كما هي قائمة في الواقع الفعلي، لما كان لنا على عمله اعتراض، وهذا نفسه هو الموقف بالنسبة لأي نسق في العلوم الرياضية، فهو يكون صحيحا بالنسبة للعلاقات الاستدلالية الكائنة بين أجزائه، لكنه ليس حتما هو الصورة التي تطابق الواقع الخارجي.
الفروق بين الدين والفلسفة واسعة وعميقة، بحيث يستحيل أن يخطئها بصر، والاختلاف بينهما متعدد الجوانب، فهو اختلاف في المصدر؛ إذ الدين مصدره وحي يوحى إلى نبي أو رسول، وأما الفلسفة فهي قائمة على رؤى يحدسها إنسان من البشر، وإما جاءت تلك الرؤى صادقة ونافعة، وإما جاءت باطلة لا تنفع أحدا، وهو كذلك اختلاف بينهما في الطريقة التي يتلقى بها المتلقي ما يقدم إليه، ففي الدين إما أن يصدق المتلقي ما يقال له وإما أن يرتاب، أعني أنه إما أن يؤمن بالرسالة وإما ألا يؤمن بها. وأما في الفلسفة فالقبول أو الرفض أو التعديل مرهون بمراجعة الاستدلالات المنطقية التي ينتقل بها الفيلسوف من جزء إلى جزء آخر، ثم هو مرهون كذلك بقدرة ما يقدمه الفيلسوف على تفسير ما نراه في الكون وكائناته. وهو فوق هذا وذاك اختلاف بينهما في الوظيفة التي يؤديها كل منهما، فالدين منظومة من العقائد والشرائع والعبادات والمبادئ، يتكون منها خطة حياة هنا في هذه الدنيا، وتمهد للحياة الآخرة يوم يكون الحساب. وتلك المنظومة الدينية إذا ما أرسيت قواعدها في حياة الناس، فهي إنما تصبح ركيزة إيجابية - بل أهم الركائز الإيجابية جميعا - فتضاف إلى ما عند الناس من علوم وفنون وآداب وأعراف وتقاليد وغير ذلك من مقومات المجتمع. وأما الفلسفة فهي مختلفة عن ذلك كل الاختلاف؛ لأنها تبدأ فعلها بعد أن يكون المجتمع قد أقام مقوماته تلك ليحيا في إطارها؛ إذ يأخذ صاحب الفكر الفلسفي في تعقب أي مقوم من تلك المقومات إلى أصوله المضمرة المستورة أو قد يكون الفيلسوف واسع الأفق، فيتناول جميع ما حوله في قضمة واحدة، ليردها جميعا إلى أصل واحد مشترك. وبعبارة أخرى نقول إن الفلسفة التي تصب فاعليتها على ظاهرة معينة لتكشف عن طبيعتها أولا، وعن علاقاتها ببقية الظواهر ثانيا، لا بد - بالضرورة - أن تجيء بعد قيام الظاهرة بذاتها، ففلسفة العلم - مثلا - لا بد أن يسبقها وجود العلم، وفلسفة اللغة لا بد أن تسبقها اللغة، وفلسفة الإسلام لا بد أن تجيء بعد ظهور الإسلام، وفلسفة التاريخ لا بد أن تجد تاريخا لتصب رؤيتها عليه، وفلسفة الوجود بصفة عامة لا بد أن يسبقها ذلك الوجود.
قارن بين متكلم يقرر في جملة يقولها أنه يحب ليلى، وبين مفكر يتناول حالة هذا المحب ليتعقبها إلى نشأتها كيف تكون، تجد أن الفرق بين الرجلين هو كالفرق بين عابد مؤمن يحيا حياته الدينية، وفيلسوف يتأمل مقومات تلك الحياة ليخرج مضامينها المضمرة في ثناياها، فإذا وجدت الآن أن الفرق بات واضحا بين ما ينخرط فيه المتدين من أسلوب للعيش وطرائق للعبادة وغير ذلك، وبين رجل يتناول الظاهرة الدينية كلها بالنظر النافذ الذي يبين مكنونها من مبادئ وأهداف، أقول إنك إذا وجدت الآن أن الأمر بينهما أصبح واضحا، فقل لي نشدتك الله: كيف يمكن لصاحب فكر فلسفي، إذا ما استعرض أقوالا لفلاسفة بالتحليل ليكشف فيها عن جوانب الصواب وجوانب الخطأ من وجهة نظره، أقول: كيف يمكن لرجل كان هذا هو عمله، يتعرض لمن يتهم وجهة نظره بأنها منافية للدين بأي وجه من الوجوه؟
إنه الخلط الفكري الذي رزئنا به في حياتنا الثقافية، حتى أصبحنا وكأننا في تلك الحياة نخوض في عماء فوقه سحاب أدكن، ويكتنفه ضباب قاتم كثيف.
ذلك دور المسلمين
تلقيت في يوم واحد رسالتين، كلتاهما تستند في سياق حديثها، إلى أقوال قالها المفكر الفرنسي الكبير روجيه جارودي، ولقد قالها في معرض حديثه إلى الناس هنا - في مصر - عن الدوافع التي انتهت به إلى اعتناق الإسلام. أما إحدى الرسالتين فقد جاءت من قارئ يباهي بإسلامه، لكنه - كما رأيته - لا يتخلق بأخلاق المسلمين في أدب الحديث. وأما الرسالة الثانية فمن شاب أخذته الحيرة، ولم يعد يدري أين يكون الصواب في النظرة إلى حضارة هذا العصر، وأين يكون الخطأ. على أن الذي استوقفني في الرسالتين معا، اشتراكهما في نقطة أوردها جارودي في أحاديثه عن إسلامه، فأبرزتاها باهتمام شديد. وخلاصتها هي أن حضارة الغرب في عصرنا هذا، إنما هي حضارة بلا أهداف، وأن الإسلام يمثل الحياة الكاملة التي تعرف أهدافها، فأما صاحب الرسالة الأولى - وهو ذو منصب تربوي كبير - فيسوق لي هذه الفكرة في نغمة التوبيخ على ما أردده من دعوة إلى الأخذ بحضارة العصر، وأما الرسالة الثانية فمن طالب حيران، وعلى أي الحالتين، فالفكرة تتطلب وقفة هادئة متروية نزيهة، لعلنا نرسو بها على نتيجة نطمئن إليها، فهي ليست بالفكرة الثانوية التي لا نأبه لها، بل هي في الحقيقة فكرة محورية أساسية في رسم اتجاهنا الحضاري، الذي من شأنه أن يؤثر في كل فروع حياتنا: فكيف يكون التعليم؟ وكيف يكون الاقتصاد؟ وكيف تكون صورة الحكم؟ وكيف تكون كل صورة أخرى من صور الحياة الاجتماعية والحياة الفردية على السواء؟ أنميل بذلك كله نحو العصر وحضارته بدرجة كبيرة أو بدرجة صغيرة بحسب ما يقتضيه كل جانب على حدة؟ أم نغلق أبوابنا ونوافذنا دون العصر وحضارته حتى لا يصيبنا منه بلاء التيه الذي نضرب فيه على غير هدى؟ إذ هو سير إلى غير هدف معلوم.
وأغض النظر عن الرسالة الأولى التي أعوزها أدب الإسلام في توجيه الخطاب - وهذا هو أقل ما يقال فيها - وأقف عند الرسالة الثانية، وفيها جاء ما يأتي، مكتفيا منه بمضمون معناه:
إنه لتأخذني حيرة، ويساورني قلق، إزاء ما تدعو إليه من حتمية اللحاق بحضارة الغرب، فها أنا ذا أقرأ عن الغرب أنه يحيا حياة مادية، كانت نتيجتها حياة اجتماعية تتسم بالاستعباد والسخرة في المجتمع الشيوعي، أو تأخذ طابع المنافسة والصراع في المجتمع الرأسمالي، وأما الاقتصاد فقد أصبح هدفه مجرد تشغيل الآلة، لتنتج هذه الآلة ما تقدر قيمته بملايين الدولارات من أسلحة الدمار، ثم تحول المجتمع إلى مجتمع استهلاكي، يهدف إلى خلق حاجات، ثم إلى إشباعها. وبالتالي فقد أصبح الفرد يعيش معيشة حيوان، كل همه إشباع حاجاته، أما الثقافة فهي إما مجمدة وإما مسخرة لخلق نسخ أخرى من مجتمعات تجيء على تلك الصورة الفاسدة، وسبب ذلك هو الفصل بين العلم والحكمة، وبين الوسيلة والغاية، فالحياة هي لمجرد الحياة، والعلم هو لمجرد العلم. «هذه يا سيدي هي آراء أحد أبناء الغرب، بل أحد فلاسفته، وهو روجيه جارودي.» ثم يسأل صاحب الرسالة قائلا: أهذه هي الحياة التي تدعونا لنلحق بها؟ فأي شيء مما قاله جارودي يغري الإنسان، بأن يحاول خلق مجتمع تلك هي حياته، وهذه هي نهايته؟
وأبدأ قولي بأنني أقدر السيد جارودي تقديرا يرتفع ما ارتفعت مكانته العليا في دنيا الفكر المعاصر، ولم يكن فكره من ذلك النوع المجرد الأجرد الخالي من الروح والحيوية، بل كان فكرا فعالا مستجيبا للحياة وظروفها، ولم يكن ليتحرج من الانتقال بفكره من طرف إلى طرف، إذا وجد أن متابعة الحق - كما يراه هو - تقتضيه مثل ذلك الانتقال، وهذا ما حدث بالفعل، فقد كان شيوعيا ذات يوم، ثم ها هو ذا اليوم يعتنق الإسلام، وبين الشيوعية والإسلام ما بينهما من اختلاف في الأسس المبدئية الأولى.
لكن تقديري للرجل لا يمنعني من ملاحظات أبديها، وأولها أنني كنت أتمنى لإسلامه أن يجيء على أساس «العقيدة» ذاتها، لا على أساس «الحضارة»؛ لأنه إذا كان من الأسباب التي دفعته إلى اعتناق الإسلام، ما وجده من نقص جوهري في «حضارة» الغرب، إذ وجد أنها حضارة بلا هدف، فهي تخلق في الناس حاجات لم تكن بهم من قبل، ثم تعمل بعد ذلك على إشباع تلك الحاجات بما تنتجه الآلات، دون أن يؤدي ذلك إلى الارتقاء بالإنسان من حيث هو إنسان، فماذا لو لم يكن في حضارة الغرب مثل هذا النقص؟ واضح أن النتيجة هنا هي أنه لم يكن جارودي ليجد ما يدعوه إلى الإسلام. والملاحظة الثانية هي أن المفكر الفرنسي الكبير، حين هاجم حضارة الغرب بما هاجمها به، فإنما كان في ذلك مسلحا بثقافة الغرب ذاته، ومثل هذا الموقف المنطوي على مفارقة، كثيرا جدا ما نراه عند أعداء العصر وحضارته، فتجد الواحد منهم - مثلا - يلعن حضارة الآلات، لكنه يوجه تلك اللعنة من إحدى الآلات التي يلعنها: من التلفزيون - أو الراديو - أو أية وسيلة أخرى من وسائل العصر.
إنه لا بأس يا سيدي في أن يصيح مفكر فرنسي كبير صيحة الغضب من العلم الحديث، وما تمخض عنه من آلات، أقول إنه لا بأس في أن يصيح صيحة غضبه تلك في أرجاء الغرب، بعد أن شبع ذلك الغرب علما وارتوى بالعلم؛ لأنه إذا كان ذلك الغرب قد شطح بعلومه وآلاته، حتى انحرف عن جادة الصواب، فبدل أن ينتج للناس خبزا أخذ ينتج لهم سلاحا فاتكا، فإنه ليس محالا عليه أن يعود على هدى الصيحة الغاضبة، فيلتزم جادة الحق. بعلومه تلك وآلاته، وذلك بأن يبقي على ما ينفع الناس، ويمحو ما يؤذيهم. ذلك كله يمكن للغرب ما دام العلم بين يديه يصنع به ما استطاع أن يصنع، لكن البأس كل البأس يا سيدي في أن توجه مثل تلك الصيحة الغاضبة في بلد ما يزال عند ألف باء العلم والصناعة؛ لأنك إذا أشعت في نفوس أهله مثل ذلك الترف العقلي ، وأعني به التشكك في حضارة العلم والصناعة - التي هي حضارة هذا العصر- فكأنك أشعت في صدورهم دعوة إلى الجمود، لا بل دعوة إلى العودة إلى الوراء، حيث لا علوم ولا صناعة ولا أجهزة ولا آلات، ولن يحدث لهم عندئذ إلا أن تزداد حاجتهم إلى الاعتماد على الغرب في كل ما ينتجه من علم، وما يصنعه من آلات.
وأنت أعلم مني يا سيدي بأن تلك العلوم والآلات، التي هي أبرز سمة من سمات الحضارة العصرية، ليست كلها شرا على الإنسان، بل إن الكثرة الكاثرة منها إنما هي الخير كل الخير. وماذا تكون تلك الآلات إلا امتدادات لما في التكوين العضوي للإنسان نفسه؟ ففي الإنسان عينان تبصران، ولكنهما تبصران إلى مدى تقيده الحدود، أبعادا وأحجاما، فهما لا تريان ما بعد بعدا يجاوز الحد كأفلاك السماء. وهما كذلك لا تريان ما بلغ من الصغر حدا معلوما، فجاءت آلات الرؤية لتمد أبعاد البصر، حتى يبلغ ما شاء الله له أن يبلغه، وأن تزيد من أحجام الكائنات البالغة الصغر، حتى تصبح للإنسان في مجال رؤيته، وقل مثل ذلك في حاسة السمع، فلقد جعل الإنسان لنفسه من الرادار أذنا تتأثر بما هو أوهى من دبيب النمل، وإذا كان في خلقة الإنسان رجلان يسير بهما ويجري لينتقل من مكان إلى مكان، فانظر كم أضاف إلى قدرة رجليه حين صنع الطيارة، بل وبعد الطيارة المألوفة جاء صاروخ الفضاء. وماذا نقول عن أجهزة الفحص الطبي وغيرها وغيرها؟ إنني لأشعر الآن بغير قليل من الخجل، حين أذكر أمثال هذه الأمور التي أصبحت في محفوظات الأطفال، لكن ماذا أصنع يا سيدي، إذا كانت صيحتك الغاضبة قد أثرت في رجالنا وفي شبابنا؟ فكان من أصداء ذلك ما جاءني في الرسالتين المذكورتين، وإحداهما من عميد لإحدى الكليات الجامعية، والأخرى لطالب في إحدى كليات الهندسة. وأعود فأقول: إننا لو كنا شبعنا علما وارتوينا علما - كما شبعتم وارتويتم - لما كان هنالك من بأس فيما قلته عن العلم الحديث وأجهزته وآلاته؛ لأننا كنا عندئذ إذا ما أدركنا انحرافنا، أصلحنا الانحراف، والعلم وأجهزته وآلاته لم تزل في أيدينا.
لقد أعجبتم الناس هنا إعجابا شديدا - فيما يبدو - بقولكم إن حضارة الغرب فيها علم للعلم، وآلة للآلة نفسها، ولكن ليس فيها هدف يستهدفه العلم وتستهدفه الآلة، وأن إيثاركم للإسلام إنما جاء من كون الإسلام كيانا متكاملا هدفا ووسيلة، لكن الناس إذا أخذهم الإعجاب بذلك - وهو إعجاب ظهر في الرسالتين المذكورتين - نسوا أنهم في حياتهم الفعلية الآن ومنذ أربعة قرون على الأقل، أصبحت أمامهم أهداف الإسلام، دون أن يعيشوا وسائلها، فإذا كانت حضارة الغرب قد بدت لك وسائل بغير أهداف، فحياتنا هنا أهداف بلا وسائل، وقد كان الأمل أننا إذا ما قويت أعوادنا علما وصناعة، ازددنا اقترابا من حياة القوة عند المسلمين الأوائل، فتتكامل لنا الحياة - كما تكاملت لهم - وسيلة وهدفا. فجاءت دعوتكم يا سيدي لتشكك الشباب في قيمة العلم وقيمة الآلات، كما ترى في رسالة طالب الهندسة التي أسلفتها.
إن التاريخ البشري لم يشهد مرحلة واحدة خلت ممن يتشككون في أجهزة الحضارة كلما استحدث شيء منها. وإني لأتصور الإنسان في العصر الحجري، عندما عرف كيف يقد لنفسه من الحجر سكينا، لم يخل من رجال يعارضون تلك السكين، بحجة أن الإنسان قد يقتل بها إنسانا مثله، وينسى مثل ذلك الناقد أنها كلما قتلت بالخطأ إنسانا واحدا، فإنها تكون قد قتلت بالحق ألف ألف من الصيد الحيواني الذي يقتات الإنسان به.
وهكذا تمضي الحضارة قدما في سيرها، ومع كل خطوة إلى الأمام يظهر المعارضون الناقمون، لكنها تمضي، فانظر إلى صيحات الشعراء في أوروبا، عندما رأوا تباشير الانقلاب الصناعي وهي آخذة في الظهور والانتشار، فكم أخذهم الهلع والجزع عندما بدأت المصانع تعلو في السماء بمداخنها. ولأضرب هنا مثلا واحدا أسوقه لشاعر إنجليزي رومانسي النزعة، متصوف بطبعه، هو وليم بليك، الذي أنشأ قصيدته المعنونة «ملتن» ليقول فيها ما معناه حسرة عميقة على حياة مضت كانت وادعة مطمئنة بإيمانها، إنها لم تكن تعرف وقتئذ إلا المروج اليانعة والجبال المخضرة بعشبها، وهل كانت رسالات الله إلى أنبيائه لتهبط عليهم وهي في أمثال هذه المدن الجديدة بمداخنها التي كأنها قرون الشياطين؟ ثم أعلن الشاعر في قصيدته تلك عزيمته على الجهاد في محاربة الصناعة الجديدة وآلاتها. وأظنني ما زلت أذكر أبياتها التي يقول فيها: أعطوني قوسي الذهبية الملتهبة، أعطوني السهام ورمحي، فلن أكف عن الجهاد بفكري، كلا ولن يرقد سيفي خاملا في يدي، حتى أعيد إلى بلادي البهجة الخضراء.
ولم يكن وليم بليك هو وحده الشاعر الثائر على الآلات الجديدة وقت ظهورها، لكن قطار الحضارة نفث نفثاته النارية، ومضى يطوي الطريق إلى أمام، تلاحقه لعنات اللاعنين.
الآلات الحديثة هي نفسها العلم الحديث، فإذا سمعت الناس يقولون إن العلم قد تقدم خطوة، فاعلم أن معنى ذلك هو أن الآلات قد تقدمت تلك الخطوة، وكذلك إذا سمعتهم يقولون عن الآلات الحديثة إنها تقدمت، فاعلم أنهم إنما يقولون بذلك ضمنا إن العلم تقدم، فإذا سمعنا صوتا غاضبا يسألنا: وماذا جناه الإنسان من علم وآلاته - تقدمت أو تأخرت - فليكن جوابك يا أخي في الوطن، ويا أخي في الإسلام، هو: إن ما جناه إنسان تقدمت علومه وأجهزتها هو أن صار إنسانا بدرجة أعلى وغور أغزر؛ إذ هو قد تفكر في خلق السماوات والأرض كما أمره ربه أن يفعل، فكان أن ازداد علما بالسماوات والأرض، ومع زيادته علما، ازداد إيمانا.
وهنا أبسط القول فيما لا بد أن يضيفه المسلمون إلى حضارة هذا العصر، فيكمل بهم ويكتملوا به. نعم إننا لو تصورنا إنسانا يقضي الحياة على هذه الأرض، ثم يمضي بالموت إلى عدم لا قيام بعده ولا قيامة، لكان هنالك مكان فسيح لأسئلة السائلين: وأين الهدف البعيد الذي من أجله أعيش وأعمل؟ أهو لقمة اليوم لأصبح بها قادرا على أداء العمل يوما آخر؟ ومن هنا نشأ في أهل الغرب ما نشأ من قلق ومن شعور بالاغتراب، فهو قلق من غياب الهدف الذي من أجله يعملون، وهو اغتراب لأن الواحد منهم يحس وكأنه انسلخ عن ذات نفسه ليصنع أشياء للآخرين.
وهنا تكون للحياة الدينية قيمة كبرى؛ لأنها حياة من شأنها أن تقضي على الشعورين معا: الشعور بالقلق، والشعور بالاغتراب، لماذا؟ لأن الإنسان يعمل طاعة لربه، وابتغاء رضاه، فلا سؤال بعد هذا: لماذا أعمل؟ بل ولا سؤال بعد هذا: لمن أعمل؟
إنه إذا كانت المذاهب الفلسفية في العصر المعين، هي أدق ما يصور حقيقة ذلك العصر منظورا إليها في أعماقها، فمذاهب الفلسفة في عصرنا، بكل تياراتها، تصور الإنسان وكأنه يبدأ هنا وينتهي هنا، ولم يكن منه شيء قبل ظهوره، ولن يكون منه شيء بعد غيابه، فللفلسفة المعاصرة اتجاهان أساسيان، يكمل أحدهما الآخر: اتجاه منهما يصب اهتمامه على «العلم» في بنيته وفي منهجه، والاتجاه الآخر يصب اهتمامه على حياة الإنسان نفسها، إما وهو فرد حر مسئول، وإما وهو عضو في مجتمع له تاريخ، وكلا الاتجاهين - كما نرى - لا يفسح مكانا لما هو وراء هذه الحياة بتاريخها الماضي وعلمها الحاضر، إذ هو لا يهتم بما كان من قبل الحياة ونشأتها، ولا بما سوف يكون بعد فنائها، فالذي يجري أمامك على المسرح هو الرواية كلها من فاتحتها إلى ختامها. وإذن فقد حق للسائل أن يسأل: ثم ماذا؟ فإذا هو لم يجد الجواب، أخذه شعور بالقلق، وشعور بالاغتراب.
لكن المسلمين عندهم في ديانتهم الجواب. فالصورة في عقيدتهم الدينية لما سوف يكون بعد فناء الأرض وما عليها ومن عليها، صورة واضحة بكل تفصيلاتها، فهنالك البعث والنشور، وهنالك الحساب، وهنالك الثواب والعقاب، وهنالك الطريقة التي يكون بها هذا ويكون بها ذلك. وبكلمة واحدة نقول: إن هنالك العدالة بأدق موازينها. أتسألني بعد هذا: فيم الحياة وشقاؤها؟ إذن فالجواب هو: إنك تحيا بأمر الله وتعمل طاعة لله، وسيكون يوم الحساب موعدا لإقامة العدل فيما قدمت يداك، وبهذا تنتفي دواعي القلق والاغتراب وغير ذلك من الحصاد المر الذي تغص به حلوق المعاصرين.
وفي إضافة هذا الجانب إلى حياة العصر، يكون دور المسلمين المعاصرين. إننا لا نرفض العصر، بل نضيف إليه ما ينقصه، وفي هذه الإضافة نفسها يتحقق بالإسلام ما أسلم روجيه جارودي من أجل تحقيقه لنفسه، وهو أن يكون للحياة الدنيا هدفها، لكن تلك الحياة الدنيا لا بد أن نجعلها حياة مليئة بكل ما أنتجه العقل البشري من علوم وأجهزة وآلات، وبكل ما أنتجه الوجدان البشري من فنون وآداب.
نعم، إسلامنا يكفينا ولكن كيف؟
أكان غرورا مني، حين ظننت أن هذه المقالة التي أكتبها الآن، واجبة الأداء قبل أن أنصرف إلى راحة الصيف؟ فما مقالة من ضعيف مثلي، وما ألف ألف مقالة، إذ أردنا لنملة واحدة من نمال الأرض أن تغير من حياتها شيئا؟ كانت علة البصر قد اشتدت معي بعض ظواهرها في الأسابيع الأخيرة. فتعللت أمام نفسي بقدوم الصيف لأستريح؛ وذلك لأن علة البصر وحدها لم تفلح في ردعي عن الكتابة، حتى سأل سائل سؤالا ضقت به أشد الضيق؛ لأنه وإن يكن سؤالا واحدا من فرد واحد، إلا أنه كالعلامة الصغيرة التي تدل عند حاملها على مرض خطير، فدفعني شعور بالواجب، لم أملك له ردا، وهو أن مقالة حول سؤال السائل قد باتت واجبة الأداء، ولا بأس في إرجاء الراحة أسبوعا آخر. وأما السؤال فهو أقرب إلى الاستنكار منه إلى طلب المعرفة؛ إذ يسألني بما معناه: أليس الإسلام يكفينا ويغنينا عن الغرب بكل ما فيه؟ على أني إذ قررت الإجابة، وليكن من علة البدن ما يكون، لم أخل من تساؤل ساخر أديره صامتا بين جوانحي، هو: أكان غرورا مني عندما توهمت أن مقالة يكتبها عابر سبيل مثلي، أو ألف ألف مقالة بمستطاعها أن تغير من عقول الناس شيئا؟
ولست أدري كيف أطمئن القارئ - قبل أن أخط كلمة واحدة بعد ذلك - أنني مصري عربي مسلم. فأنا مصري يريد الخير لبلاده، وأنا عربي لم يعد يرى لنفسه وجودا إلا وهو في حضن العروبة، وأنا مسلم لا يبيع مثقال ذرة من عقيدته بملك الدنيا وما فيها، فإذا كنت قد دعوت فيما كتبته خلال أعوام تعد بالعشرات لا بالآحاد، وإذا كنت سأظل أدعو إلى آخر نفس ألفظه، إلى المشاركة في علم العصر، وفي منهج العصر، وفي ثقافة العصر ، وفي حضارة العصر، فما دعوتي تلك إلا لأنني مصري عربي مسلم. فلما جاءني سؤال السائل لم أدهش له، برغم ما أحدثه في صدري من ضيق به، وإنما كان امتناع الدهشة عندي، صادرا عن علمي بالمناخ الفكري الذي يخيم علينا منذ سنين، وأحسب أنه باق معنا إلى عدة أخرى من سنين. وما وسعني إلا أن أستعرض بلمحة سريعة، مراحل طريقنا الفكري، منذ أول هذا القرن - أو أواخر القرن الماضي - إلى يومنا الراهن، لأرانا قد طوينا مرحلة أولى امتدت بنا إلى منتصف القرن، وانتقلنا إلى مرحلة ثانية هي التي نخوضها اليوم، وسرعان ما رأيت - أو ما رجوت - أن تأتي بعد هذه المرحلة الحاضرة، مرحلة ثالثة، هي التي تتكامل لنا فيها العناصر الثقافية والحضارية التي نريدها.
ولقد رأيت بتلك اللمحة السريعة إلى المرحلتين الأولى والثانية، أن كلتيهما كانت ضرورية لنا. فأما الأولى فهي التي فتحنا فيها أبوابنا على الأفق العصري الفسيح، ولولا ذلك لظللنا نغط نعاسنا، على ظن منا بأن دنيانا بخير، وما عندنا يكفينا، وتذكرت ما حدث عندما جاءت سفن الحملة الفرنسية إلى شواطئ الإسكندرية سنة 1798م، وكان نابليون يعلم أن الأسطول البريطاني قد سبقه، وأراد أن يتبين إن كان قد مر بالشاطئ المصري، فأرسل بعض رجاله يسألون من يتوسمون فيهم المعرفة، فما وجد أولئك السائلون عند الناس جوابا، إلا الدهشة للسؤال نفسه، قائلين: ما هي بريطانيا وأسطولها وفرنسا ونابليونها؟ إننا هنا بلاد السلطان.
إذن كانت المرحلة الأولى في طريق سيرنا، ضرورة محتومة، لنعرف بها أن وراء بلاد السلطان بلادا أخرى، ووراء العصر الذي كنا نعيش فيه، عصرا آخر جديدا أشرقت شمسه لثلاثة قرون خلون بضروب من العلم لم نكن ندري عنها شيئا. فحتى لو كانت تلك الشمس التي أشرقت، حارقة بنارها كما هي هادية بنورها، فقد كان لا بد لنا أن نحيط بوجودها علما، لنستضيء بالنور منها، وندفع عن أنفسنا لهب النار.
وإذا أراد شباب اليوم أن يعلموا إلى أي حد بعيد، كنا خلال المرحلة الأولى على صلة وثيقة بما ينتجه الغرب من علم وأدب وفن، أولا بأول، وكأن حدود بلادنا الثقافية قد اتسعت بنا لنعيش مع أقوام الغرب عبر البحر، فليرجعوا إلى إنتاج أعلامنا خلال تلك الفترة، ليروا كيف كانت أقلامهم تجري بما يحدث هناك بعد حدوثه بفترة لا تزيد على أيام يتطلبها الإرسال بالبريد، وسيرى هؤلاء الشباب أن أعلام تلك المرحلة الأولى، إذ كانت أبصارهم تتابع مسيرة الفكر في الغرب خطوة خطوة، كانت تلك الأبصار في الوقت نفسه لا تنفك مسلطة على تراثنا تنشره فتحييه، لكننا ونحن ننظر إلى أعلام المرحلة الأولى - أي خلال النصف الأول من هذا القرن على وجه التقريب - فقد يأخذنا غير القليل من الجزع؛ إذ نلمح في هؤلاء الأعلام شيئا من الإسراف في التباهي بثقافة الغرب وحضارته، مما أدى بنا يومئذ إلى العيش في مناخ كاد المواطن فيه أن يخفي مصريته وعروبته وإسلامه، حتى لا يتهم بالجلافة والتخلف. ولا أظن أن أحدا منا قد نجا من تلك التبعية العمياء القاتلة، حتى أولئك القادة الذين عرفوا تراثنا ودرسوه وناقشوه ونشروه، كنت تراهم يفعلون ذلك كله، ووراءه نبرة لا يخطئها السمع. يقولون بها ما معناه: لكننا فوق ذلك نقرأ الإنجليزية، ونتكلم الفرنسية، وندخن الغليون.
نعم، كان الصوت الأعلى هو لأصحاب الثقافة المنقولة عن الغرب، وكان الشعور بالنقص هو نصيب من درس الكنز الموروث مكتفيا به، وهو موقف فيه هزال المريض، وضعف الذليل، لا سيما إذا تذكرنا أن بلادنا في قبضة المستعمر، الذي هو نفسه صاحب تلك الثقافة، التي ينقلها ناقلوها، ثم يفاخرون الناس بما نقلوا.
فكيف لمثل ذلك الموقف أن يدوم، وهو وإن يكن قد أقام بناءه على عمد قوية في جانب، فقد أقامه كذلك على عمد واهية متداعية في جانب آخر. نعم كان من علامات القوة والصحة أن نضع أنفسنا مع العصر في موكب سيره؛ لأنه عصرنا، ولكنها كانت علامات ضعف ومرض، أن ننسى أننا إنما كنا ننقل إلى أنفسنا «غذاء» يزيد من شعورنا بهويتنا الأصيلة هو غذاء لا بد منه لا نستغني عن شيء منه إلا إذا أردنا لأنفسنا انتحارا حضاريا، ولكنه مع ذلك «غذاء» وليس صنما للعبادة. ولقد كنت لفترة طويلة واحدا من أولئك الذين ضلوا سبيل الحق في هذا الصدد، فبالغت كما بالغوا، حتى أراد لي الله رؤية أهدى.
وكان من طبائع الأمور أن نتحول في سيرنا من مرحلة إلى أخرى تليها، لم تجئ لتعتدل بنا في وقفتها ونظرتها، بل جاءت لتأخذ بثأرها وتنتقم، وهي مرحلة تريد لنا أن نسترد ذاتنا المفقودة في متاهة الفكر الغربي، وشيئا فشيئا نظرنا، فإذا نحن قد تقوقعنا في شرنقة أنفسنا، وحسبنا أننا بذلك قد رددنا الذات الضائعة. ويكفيك أن تنظر إلى الجادين من شباب هذا الجيل لتراهم - وتراهن - وهم الشباب الذين نتوقع منهم الفطرة البشرية نفسها أن يطيروا إلى المستقبل بأجنحة النسور قد داروا على أعقابهم، ولووا رقابهم ليتجهوا بأبصارهم إلى الوراء لا ليستمدوا منه «الغذاء» الذي يسري قوة وصحة في الدماء، ثم لينصرفوا بتلك الصحة القوية نحو إبداع عصر جديد، بل زلوا كما زل رجال المرحلة السابقة، وظنوا أن الكنز المنقول عن الماضي، إنما هو مقصود لذاته، نتعشقه بالنظر من بعيد، ونلمسه بأصابعنا لنتبرك به.
فالمرحلة الثانية - وهي التي نحياها اليوم - هي مقلوب المرحلة الأولى، في كل منهما حسنة نتمسك بها، وفي كل منهما سيئة ندعو الله البرء منها. فالحسنة في المرحلة الأولى هي الإصرار على متابعة الغرب في كل جديد يبدعه، لعلنا ذات يوم أن نشارك بدورنا في ذلك الإبداع، والحسنة في المرحلة الراهنة هي إصرارنا على تحقيق ذواتنا بالانتماء الصحيح إلى منابعنا، لكن السيئة في كل من المرحلتين هي الزهو الأجوف، الذي يريد أن يكتفي بما عنده، وأن يجعل نفسه وكأنه في غنى عن الجانب الآخر. على أن التشابه بين المرحلتين في هذه السيئة ليس تشابها كاملا، فالمرحلة الأولى تتفوق على هذه المرحلة الراهنة تفوقا ظاهرا، في أن رجال المرحلة الأولى جمعوا جديد الغرب إلى تليد التراث. وكل ما في الأمر أنهم كانوا أميل إلى الزهو بما نقلوه عن الغرب، في حين أن أبناء هذه المرحلة الحاضرة لا يريدون أن يسمعوا إلا صوتا واحدا، وأن يصموا آذانهم عن كل صوت سواه. وفي هذا الجو الفكري سألني السائل سؤاله: ألا يكفينا إسلامنا ويغنينا عن الغرب بكل ما فيه؟
إن أكذوبة الأكاذيب يا أخانا، في هذه المرحلة الثقافية التي نعيشها، هي ذلك الباطل الذي شاع وذاع، حتى ملأ القلوب والأسماع، بأنه إما الإسلام، وإما هذا العصر بعلومه وفنونه، فلو أراد المسلم إسلاما صحيحا - هكذا يريدون أن يقولوا - فليترك العصر بما فيه، وإذا رأينا أحدا منا يميل إلى العصر وخصائصه عددناه متنكرا لإسلامه. وإني لأزعم زعمين هنا، يلتقيان معا عند نقطة واحدة، أولهما أن المسلم الحق يستحيل عليه ألا يصل إلى أخص خصائص هذا العصر، عن طريق إسلامه نفسه. وأما الزعم الثاني فهو أنك لن تجد خاصة واحدة من الخواص التي على دعائهما قام هذا العصر بحضارته الجديدة، إلا وأنت واجد كذلك بأنها خاصة حضنا عليها الإسلام. ولننتقل من تعميم إلى تفصيل وتخصيص.
ولا بد لي على سبيل التمهيد، أن أضع في رأس القارئ فكرة، وأظل أدقها دقا حتى ترسخ جذورها في تلافيف دماغه، وهي - على بساطتها ووضوحها - كثيرا ما تفلت، مع أنها في الحقيقة مفتاح هام من مفاتيح النظرة العلمية الصحيحة، وتلك هي أن اللفظة من ألفاظ اللغة، أو الجملة، أو الصفحة، أو الكتاب، ليس هو «الشيء» الذي جاءت تلك الرموز اللغوية كلها لتشير إليه. إن كلمة «خبز» ليست هي الخبز الذي نأكله، ولو اكتفيت من الخبز باللفظة الدالة عليه، لهلكت بإذن الله جوعا. إن كلمة «وردة» ليست هي الوردة التي نشمها، ولو اقتصرت من الوردة على اسمها، لما نعمت بشيء من عبقها الجميل. وهكذا قل في كل رمز من رموز اللغة كائنا ما كان. وبناء على هذه البديهية التي أضعها بين يديك، يصبح واجبا على القارئ الجاد كلما قرأ، أن ينفذ ببصيرته خلال الألفاظ التي يقرؤها ليرى ماذا وراءها من «حقائق»؛ لأن المادة المقروءة نفسها - كما قلنا - ليست تلك الأشياء التي جاءت تلك المادة المقروءة لتشير إليها.
وبعد هذا التمهيد الموجز الهام، أتوجه إليك بالسؤال الآتي: ما هي في رأيك دعائم هذا العصر وحضارته؟ هل تشك في أن العلم بقوانين الطبيعة في مختلف ظواهرها هو في مقدمة تلك الدعائم؟ فأحسبك على إلمام كاف بالسيرة العلمية في تاريخ الإنسان، وكيف أنها لم تلتفت إلى علوم الطبيعة لتجعلها محورا أساسيا إلا منذ القرن السادس عشر على وجه التقريب. وأما قبل ذلك فقد كان هنالك بالطبع تفكير علمي، لكنه لم يكن يتجه إلى الطبيعة نفسها بالبحث، إلا باهتمام أقل من القليل. وسؤالي إليك هنا هو هذا: أفي الإسلام ما يحضك، أم فيه ما يصدك عن العلم؟ إنني عند كتابة هذا السؤال رأيت أن أرجع إلى معجم القرآن الكريم لأرى كم ورد «العلم» في آياته وبأي المعاني قد ورد، فإذا الذي أمامي في المعجم عدة صفحات، جاء فيها ما يزيد على سبعين صورة من ألفاظ دالة على «العلم» ومشتقاته، وتحت كل صورة منها عدد لم أحصه من الآيات القرآنية الكريمة ومواضعها. فإذا ضممنا هذا القدر الهائل إلى قدر هائل آخر عن مادة «فكر»، وما يشتق منها علميا، فإننا أمام كتاب جعل للعلم وللفكر منزلة هيهات أن تجد لهما منزلة أعلى منها في أي مصدر آخر. إنه لم يرد للإنسان علما مجرد العلم، بل أراد له «رسوخا» فيه، وهداه إلى وجوب التفرقة بين العلم والظن، فليس المراد معرفة تقام على ظنون، بل المراد معرفة تقام على علم. وليس المراد للإنسان أن ينساق مع الهوى، بل المراد أن يهتدي بالعلم الذي لا يعرف الهوى.
وأعود بك إلى البديهية التي وضعتها بين يديك لتكون مفتاحا من مفاتيح النظرة العلمية، وأعني بها ضرورة الانتقال من الكلمة المقروءة إلى الحقائق الكامنة وراءها، والتي جاءت الكلمة لتشير إليها لا لتكون بديلا لها نكتفي به، فإذا قرأنا في كتاب الله أن يتفكر الإنسان في خلق السماوات والأرض، فإننا لا نفعل إلا القليل القليل. القليل إذا نحن اقتصرنا على حفظ الآية وتلاوتها وترتيلها مرات تعد بملايين الملايين ، وإنما يكمل إيماننا بالآية الكريمة حين ننتقل من لفظتها إلى ما وراء ذلك اللفظ من حقائق السماوات والأرض . وماذا في أي علم من علوم الطبيعة؛ من فلك إلى فيزياء وكيمياء ونبات وحيوان، لا يندرج فيما هو من خلق السماوات والأرض؟ فإذا سألتني: ألا يكفينا إسلامنا ويغنينا عن الغرب؟ فأجيبك: نعم يكفينا شريطة أن ننفذ خلال كلماته إلى ما ترشد إليه تلك الكلمات، فلنحفظ تلك الكلمات الكريمة، ولنعلم أطفالنا أن يحفظوها، ولنتلها تلاوة لا تنقطع بالليل ولا بالنهار، لكن كل ذلك لا يجعلنا من «العلماء» الذين عرفوا شيئا عن خلق السماوات والأرض، إلا إذا أضفنا إلى الكلمة ما وراءها.
اللغة كائن عجيب فهي تحمل دائما في طيها سرا مكنونا. ومن أغرب أسرارها، أنها لا تؤدي لك وظيفتها إلا إذا جاوزتها إلى شيء خارج عنها، فإذا قلت لمسافر إن الطائرة تقلع في الساعة التاسعة صباحا، فإن قولك هذا يؤدي الغاية منه عند المسافر إذا هو بدأ منه ليتحول عنه إلى فعل يقوم به فيلحق بالطائرة، لكنه إذا ما أخذ يردده وهو جالس مكانه، فلن يبلغ قولك غايته. وهكذا قل في حالة من حالات اللغة حين تستخدم أداة للعلم (إذ هنالك الحالات التي تقصد اللغة لموسيقاها) فإذا قرأت قول الله تعالى:
ما لهم به من علم إلا اتباع الظن
كان ذلك بمثابة الأمر بأن تفرق بين ما هو علم وما هو مجرد ظن أو مجرد رأي، لتأخذ بالأول وتهمل الثاني، لكن تنفيذ هذا الأمر الإلهي لا يتم بتكراره ألف مرة وأنت على مقعدك، بل يتم تنفيذ الأمر بأن تنهض من فورك، وتأخذ في الدراسة التي تبين لك الفوارق التي تميز العلم من مجرد الظن، حتى إذا ما تكاملت لك تلك الدراسة أو جوانب منها، أخذت بوعي وفهم وشعور بالتبعة الأخلاقية تغربل ما يقال لك من عبارات في مجالات الجد، غربلة تفصل بها القمح عن الشعير، أعني أن تفصل العلم عن سمادير الظنون. لقد أشار القرآن الكريم إلى «أسماء» قال عنها:
ما أنزل الله بها من سلطان ، وفي تلك الإشارة ما ينبهنا إلى وجوب التمييز بين ضربين من اللغة، أو ضربين من استخدامها، فاللغة قد تكون مزودة بقوة من الله وقد لا تكون، وإذا نحن أدركنا الفارق بين الحالتين عرفنا أنه هو الفارق بين الحق والباطل. وماذا يكون الحق في استخدام اللغة إلا أن تكون أداة توصلنا إلى ما وراءها من حقائق الوجود الخارجي، فانظر إلى النقلة الكبرى التي نتعلمها إذا نحن قرأنا كتاب الله قراءة نقفز بها إلى آفاق العمل والتطبيق.
ولقد كنا نتحدث عن «العلم» باعتباره أبرز ملمح من ملامح العصر، حين يصب أكثر اهتمامه إلى دراسة ظواهر العالم، من ضوء وصوت وكهرباء إلى نبات وحيوان وإنسان. ولي الآن أن أضيف إلى ما قلته أن المسلم لم يكن في عصرنا هو المتفكر في خلق السماوات والأرض، بل ترك ذلك لغير المسلمين، وكان ذلك للسبب الذي أسلفناه، وهو أن المسلم قد اكتفى بتلاوة الآية الكريمة، ولم يعقب على تلك التلاوة بالتنفيذ، وكان أن ظفر بالعلم المطلوب، أو بشيء منه، قوم كانوا وكأنهم اتبعوا مضمون الآية دون تلاوتها.
ماذا في الإسلام يمنع أن يكون المسلمون هم الذين أقاموا حضارة عصرنا هذا بكل مقوماته الأساسية؟ وأين هو الشيطان الذي وسوس لنا بأن الحياة الروحية تتحقق بالتلاوة مجردة عن التنفيذ، وأما عمليات الكشف العلمي نفسها فمتروكة لأولئك الماديين الملاعين؟ الحياة الروحية في أسمى درجاتها وأكملها هي في تلاوة القرآن الكريم والانطلاق إلى آفاق الدنيا تنفيذا لأوامره.
سلني مرة أخرى: ألا يكفينا الإسلام ويغنينا عن الغرب بكل ما فيه؟ أجبك مرة أخرى: نعم إسلامنا يكفينا إذا نحن عشنا به حياة المسلمين، وهي حياة لا ترفض شيئا من دعائم الحضارة الراهنة، بل هي تضيف كل تلك الدعائم إلى ما عندها موروثا عن السابقين.
الدين والتدين وعلم الدين
شاءت لي المصادفات منذ وقت قريب، أن أسمع من عالمين من علماء الدين، قد يكونان مختلفين في كثير جدا من جوانب الحياة وأوضاعها، لكنهما بغير شك يتفقان في أنهما من ذوي الفضل والعلم ورفعة المقاصد. أقول إن المصادفة قد شاءت لي أن أسمع منهما كلاما يفرقان به بين «الدين » من جهة و«التدين» من جهة أخرى، وكان الذي يقصدان إليه من هذه التفرقة، هو أنه إذا كان التدين واجبا على كل مسلم على السواء، فالدين هو من شأن علمائه وحدهم، دون سائر المؤمنين به. ويترتب على ذلك أن تكون الكلمة فيما يجوز وما لا يجوز من أمور الدين، مقصورة على العلماء، وواجب العامة بعد ذلك هو السمع والطاعة. وكان مما سمعته من العالمين الفاضلين في سياق الحديث مع كل منهما (وكان الحديث مقروءا في إحدى الحالتين، ومسموعا مباشرة في الحالة الأخرى) تأكيدهما بأن الدين علم، وأما «التدين» فهو وحده الجانب المتروك لكل مؤمن في انفراده.
ولم يكن العالمان الفاضلان على صواب - كل الصواب - فيما ذهبا إليه؛ فليس الأمر مقصورا على طرفين: دين في ناحية، وتدين في ناحية أخرى، بل هو ثلاثي الأطراف: فهنالك «الدين» أولا، وهنالك من يتدين به ثانيا، ثم هناك «العلم» الذي يقام عليه ثالثا، وقبل أن أتناول هذه الفكرة بالشرح الذي يوضحها، أقول إنه لو كان الفرق بين الرأيين فرقا شكليا فقط، لما تعرضت له هنا، وحاولت عرضه؛ لأنني - والله يعلم - ما فعلت ذلك إلا بعد تردد طويل، لكنه فرق يجاوز مجرد الشكل إلى صميم الموضوع، مما قد يترتب عليه غموض فيما يجب على المؤمن العلم به، وما ليس له وجوب. وعلى أية حال، فتحديد الفواصل بين المعاني المختلفة في مثل هذا المجال الحيوي الهام، إنما هو من أوجب الواجبات على من يستطيع بذل المحاولات الواعية في سبيل ذلك التحديد، وأحسبني ممن يستطيعون.
والحقيقة الأولى:
التي أقدمها لتكون هي الركيزة التي نقيم عليها تفكيرنا، هي أن حقائق الواقع في ذاتها ليست هي العلم، وإنما هي ما يقام عليه العلم، فانظر إلى هذه الأمثلة المختلفة التي أسوقها بين يديك، وتدبرها مليا، قبل أن ننتقل إلى موضوعنا الذي أردنا الحديث فيه: إذا رأيت شجرة يستظل بها عابر سبيل، فهنالك ثلاثة أطراف متميز بعضها من بعض، ولكنها كذلك موصولة بعضها ببعض؛ فهنالك الأمر الواقع الذي هو الشجرة، ثم هنالك من شاء له حظه أن ينعم بها فيستريح، وهنالك فوق ذلك «علم» أقيم على هذه الشجرة وأمثالها، وهو علم النبات. فإذا قال لك قائل في هذه الحالة: الشجرة علم، فماذا أنت قائل له إلا أن تصححه بقولك: إن الشجرة ذاتها ليست هي العلم، وإنما هي وأمثالها، موضوع طرح للبحث العلمي، وأقيم عليه علم يسمونه علم النبات. وواضح أن الشجرة والعلم المقام عليها يختلفان عن طرف ثالث، هو عابر الطريق الذي التمس راحته في ظلها.
خذ مثلا ثانيا: «اللغة» - ولتكن لغتنا العربية - فهي كذلك حقيقة من حقائق الواقع الفعلي؛ إذ هنالك أمة تتكلمها وتكتبها، وهنالك كتب كتبت بها تعد بالملايين. وهنا في حالة اللغة - كما رأينا في مثال الشجرة - نستطيع أن نميز بين ثلاثة أطراف، منفصلة ومتصلة في آن واحد، فهنالك «اللغة» واقعا من الواقع، نسمعها بآذاننا، ونكتبها بأقلامنا، ونقرؤها بأبصارنا، ثم هنالك «علم» (أو علوم) تقام على تلك اللغة، كعلم النحو وعلم الاشتقاق، وغيرهما. وقد كان يمكن أن تقوم اللغة ولا تقوم علومها، مما يقطع بأن اللغة ذاتها شيء، وعلومها شيء آخر. وهنالك إلى جانب اللغة وعلومها طرف ثالث، هو من يستخدمون تلك اللغة كلاما وكتابة.
خذ مثلا ثالثا: «الضوء»، فانظر إلى شخصي ساعة كتابتي لهذه الكلمات، واضعا أمامي مصباحا مضيئا أستعين به مع ضوء النهار، فها هنا أيضا ترى ثلاثة أطراف، متصلة منفصلة، فهنالك ظاهرة الضوء نفسها، سواء جاءت على الصورة التي يجيء بها ضوء الشمس، أو جاءت كما يجيء ضوء المصباح، وإلى جوار هذه الظاهرة هنالك المستضيء بالضوء ليكتب، ثم هنالك فوق الضوء والمستضيء طرف ثالث، هو العلم الذي يسمونه «علم الضوء» أقامه أصحابه على ما درسوه من ظاهرة الضوء. ولعلك الآن تعرف بماذا ترد على من يزعم لك أن الضوء نفسه الذي تراه العين آتيا من الشمس، أو من المصباح هو «علم»، فأحسبك قد أدركت أن ظاهرة الضوء شيء ، والعلم القائم عليها شيء آخر. وقد كان يمكن لظاهرة الضوء أن توجد ولا يوجد إلى جانبها علماء يقيمون عليها علما.
خذ مثلا رابعا: «علم الاقتصاد»، تجد الأطراف الثلاثة التي حدثتك عنها؛ فطرف منها هو أولئك الذين ينتجون في مزارعهم، أو في مصانعهم، أو في مكاتبهم، أو فيما شئت من أوجه النشاط البشري، وطرف ثان يتمثل فيمن يبادل هؤلاء إنتاجا بإنتاج، أو خدمات بإنتاج. وقد كان يمكن لأسواق البيع والشراء أن تحيا بكل نشاطها دون أن يتناولها الباحثون بالبحث العلمي لاستخراج القوانين التي تستخلص من ذلك النشاط وطبيعته، لكن حدث أن أقيم ذلك «العلم» - علم الاقتصاد - ليحلل ذلك الضرب من التفاعل البشري تحليلا يستخرج ما قد انطوى عليه من قوانين. وهكذا ترى مرة أخرى، أن حقيقة الأمر الواقع في ذاتها ليست هي العلم، وإنما العلم فعل آخر يؤديه أصحابه على أساس ذلك الأمر الواقع.
وقد كان يكفيني ذكر هذه الأمثلة، لأنتقل منها إلى موضوع حديثنا، وهو المتمثل في الأطراف الثلاثة المذكورة في العنوان، والتي لحظت في رؤية الناس لها - حتى أهل التخصص منهم - شيئا من الخلط، وهي: الدين، والتدين وعلم الدين (أو علوم الدين)، أقول إنه كان يكفيني ما ذكرته من أمثلة، لأقرر على ضوئها أن «الدين» قائم في نصوصه المحددة المعينة، ثم يأتي الطرفان الآخران، طرف منهما متمثل فيمن يؤمنون بذلك الدين، وهم من يصفونهم «بالتدين»، وأما الطرف الثاني فهو «علم الدين» (أو علومه) التي تقام على تلك النصوص - وهي واقع الدين - فتستخرج منها ما تستخرجه من مبادئ وأحكام. فلو قال لنا قائل: الدين علم (كما سمعتهم يقولون) رددنا عليه بقولنا: بل الدين يقام عليه العلم، وكان يمكن أن يقوم الدين والمؤمنون به، دون أن يتولاه نفر من العلماء بالبحث العلمي، كما هو من الممكن كذلك أن يتولى غير المؤمنين بدين معين، نصوص ذلك الدين بالتحليل والاستدلال؛ وذلك لأن «العلم» المقام على نص معين، لا يشترط له أن يكون الباحث العلمي «مؤمنا» بمضمون ذلك النص.
مرة أخرى أقول إنه قد كان يكفيني ما قدمته من أمثلة لأوضح به أن «الدين» شيء، و«علم الدين» شيء آخر، والإنسان المتدين بذلك الدين شيء ثالث، لكنني أرى أن أزيد الأمر جلاء، بأن أعرض بإيجاز شديد طبيعة العلم ما هي، حتى إذا ما صادفتنا بعد ذلك عبارة «علم الدين» عرفنا المعنى المقصود، ونجونا من الخلط بينه وبين غيره من المعاني في هذا المجال.
العلامة الفاصلة بين ما يجوز له أن يكون علما وما لا يجوز له أن يكون، هي قابلية الحكم بالصواب أو بالخطأ. فإذا كان القول المعروض بين يديك، مما يمكن أن يوصف بأنه صواب أو بأنه خطأ، وذلك بعد فحصه وتمحيصه، كان مما يجوز إدراجه في مجال المعرفة العلمية، وأما إذا وجدت القول المعين مما يستحيل وصفه بالصواب أو بالخطأ، إلا على قائله، فهو وحده الذي يزعم له الصدق، دون أن يكون في مستطاع الآخرين أن يراجعوه ليتحققوا من صدق زعمه، فمثل ذلك القول لا يحمل جواز المرور الذي يدخله في عالم المعرفة العلمية، مهما كان له من أهمية في حياة الإنسان.
قارن - مثلا - بين رجل يقول لك عن بقعة من الأرض إنها محببة إلى قلبه، ورجل آخر يقول عن تلك البقعة من الأرض، إنها تحتوي في جوفها على بترول، فبينما القول الأول معتمد كل الاعتماد على صدق قائله، بحيث لا يجد الآخرون وسيلة أمامهم للتحقق بأنفسهم من ذلك الصدق، نجد القول الثاني مما يمكن إخضاعه لوسائل البحث التي تنتهي بنا إلى قبوله أو رفضه، فالقول الأول يشير به صاحبه إلى حالة شعورية باطنية يحسها هو في دخيلة نفسه، وأما القول الثاني فيتحدث به صاحبه عن أمر واقع خارج نفسه، والطريق إلى مراجعته، للتحقق من صدقه، مفتوح أمام كل إنسان تؤهله دراسته للقيام بتلك المراجعة.
ولئن كانت العلامة الفاصلة بين ما يصح إدراجه في المعرفة العلمية وما لا يصح، هي قابلية القول المعين لأن يتحقق الآخرون - غير قائله - من أنه حق، أو من أنه باطل، فلقد حدث في عصرنا هذا تعديل في هذا المعيار، قد يبدو طفيفا، لكنه في حقيقته ذو أهمية كبرى، وهو أن قابلية القول المعين للحكم عليه بالبطلان، لها الأولوية على قابليته لأن يحكم عليه بأنه حق؛ وذلك لأنه قد تتكاثر بين أيدينا الشواهد الدالة على صدق قول معين، فيغرينا ذلك بالاطمئنان لذلك القول، وفجأة تظهر بينة جديدة تقلب لنا ذلك الحكم رأسا على عقب. فكم من رجل يظل يعطيك من شواهد إخلاصه لصداقتك، حتى لتتوهم أنت بأنه لا بد أن يكون صادقا؛ لكثرة الشواهد الدالة على ذلك، وفجأة يظهر لك الخبيء، فإذا حقيقة الأمر أنه كان يلبس لك قناع الصداقة المخلصة، لكنه كان في الوقت نفسه يخفي عنك ما يخفيه، انتظارا للحظة المناسبة، فيقذف ذلك الخبيء في وجهك وأنت منه على غرة غافلة.
فالفيصل الحاسم في قبول الفكرة المعينة عضوا في الأسرة العلمية، هو - إذن - قابليتها للبطلان، بمعنى أن يحاول الباحثون إبطالها بكل ما في وسعهم من تجارب. فإذا صمدت لهذه المحاولات، كانت فكرة صحيحة - مؤقتا - إلى أن يظهر في مستقبل قريب أو بعيد ما يبين بطلانها.
لكننا لكي نحكم على فكرة، أو قول، بأنها فكرة صحيحة أو خاطئة، فذلك لا يكون إلا بالرجوع بها إلى مقياس قائم خارجها، فإذا قلت عن الجدار إن طوله أربعة أمتار، فلا بد أن يكون هنالك مقياس «المتر» في وجود مستقل عن وجود الجدار. وها هنا نتقدم بأساس هو من أهم الأسس المنهجية في التفكير العلمي وخصائصه، وذلك أن للعلم طريقين مختلفين باختلاف نوع المادة المعروضة للفكر، ولكل طريق من الطريقين ضرب من المقاييس التي يرجع إليها في تقرير الصواب والخطأ. أما أحد الطريقين فخاص بالتفكير العلمي عندما يكون الموضوع المطروح للبحث ظاهرة من ظواهر الواقع الطبيعي، وأما الطريق الآخر فمجاله عندما يكون الموضوع المطروح للنظر العلمي توليدا لأفكار من أفكار، أو توليدا لنتائج تترتب على نصوص معينة، ففي هذه الحالة لا يكون لظواهر الواقع الطبيعي دخل في سير الباحث العلمي.
ونعيد ما قلناه عن الطريقين المختلفين في التفكير العلمي، نعيده بصورة أخرى ابتغاء مزيد من التوضيح، فنقول إن هنالك مجموعتين من العلوم، وذلك إذا قسمنا العلوم على أساس «المنهج »؛ فهنالك مجموعة العلوم الطبيعية، بما فيها العلوم الإنسانية إذا نحن أخذنا الإنسان من ظاهر سلوكه، ثم هنالك مجموعة العلوم الرياضية، بما في ذلك كل علم ينهج نهج الرياضة في اتخاذ مقدمات مسلم بها لتكون هي السند الذي يرجع إليه في إثبات صدق النتائج. أما مجموعة العلوم الطبيعية فنقطة البدء في طريق سيرها معلومات أولية نستمدها من مشاهدات الحواس وتجاربها، وأما مجموعة العلوم الرياضية (أو ما يدور مدارها في المنهج)، فنقطة البدء في طريق سيرها مقدمات لفظية مسلم بصوابها مقدما.
ونعود بعد هذا التقسيم إلى ما أسلفناه، من أن الفيصل الحاسم في تمييز ما يصلح أن يكون علما مما لا يصلح، هو القابلية لإثبات بطلانه، حتى إذا ما استعصى على ذلك الإبطال، عد مما يجوز قبوله في عالم التفكير العلمي، فنسأل إزاء مجموعتي العلوم اللتين ذكرناهما: ماذا تكون وسائل التحقق من الصدق واستحالة البطلان في كل منهما؟ والجواب هو أننا في العلوم الطبيعية، نجعل إمكان تطبيق نتائجنا التي نصل إليها على الواقع الفعلي، هو مقياس القبول، وأما في مجموعة العلوم الرياضية، أو ما ينهج نهجها، فوسيلتنا إلى الحكم بصواب النتيجة أو بخطئها، هو الرجوع بها إلى المسلمات الأولى، التي صدرنا بها خطوات السير، والتي جعلناها مفروضة الصدق مقدما، فإذا وجدنا أن النتيجة المعينة قد تولدت تولدا سليما من تلك المقدمات المسلم بصوابها، كانت نتيجة صحيحة. وألفت نظرك مرة أخرى، إلى أن هذا الضرب من التفكير العلمي، لا شأن له بأمر من أمور الواقع الفعلي، في عملية الحكم بالصواب وبالخطأ.
وبعد هذا كله، نعود إلى «علم الدين»، فنراه علما قائما ضمن المجموعة الرياضية من حيث المنهج؛ وذلك لأن الباحث العلمي فيه، يسير على خطوتين، هما كالخطوتين اللتين يسيرهما الباحث في العلوم الرياضية. أما الخطوة الأولى في علم الدين، فهي المقدمات المسلم بصوابها بادئ ذي بدء، وأولى تلك المقدمات عند العالم الديني المسلم، هو بالطبع النص القرآني الكريم. وأما الخطوة الثانية في طريق السير، فهي استخراج ما يمكن استخراجه من نتائج، تتولد من ذلك النص، فإذا تولدت لأحد العلماء نتيجة معينة - كأن يتولد له حكم شرعي معين مثلا - كان من حق من يراجعونه أن يسألوه عن النص الذي ولد منه ذلك الحكم، وطريقة الاستدلال التي مكنته من ذلك التوليد. وقد يختلف العلماء بعد ذلك فيما يرونه مترتبا على نص معين، فتنشأ بذلك الاختلاف مذاهب.
هذه العملية الاستدلالية التي تنصب على النص المعين لتستخرج منه ما يجوز استخراجه مع التزام منطق القياس، هي عملية «علمية» كأدق ما تكون العلوم. فمن الحقائق التي يجب توضيحها في سياق حديثنا هذا عن التفكير العلمي وطبيعته، أن العلم لا يشترط لنفسه موضوعا بعينه؛ إذ العلم إنما يكون علما بمنهجه لا بموضوعه، فاختر ما تشاء من موضوع للنظر، وتناوله بالمنهج الذي يضمن لنا سلامة الوصول إلى نتائج صحيحة، تكن بموضوعك ذاك صاحب نظرة علمية. فقد تختار لبحثك «العلمي» صخور المقطم، أو دودة القطن، أو تلوث الهواء في سماء القاهرة، أو المسرح الشعري عند شوقي، أو موقف المصري تجاه الولادة والموت، أو أي موضوع يعن لك أن تتناوله بالبحث العلمي، فأنت بما اخترته تكون في دائرة العلم ما دمت تنهج نهج العلم في خطوات سيرك، بغض النظر عن الموضوع المختار، وأما نهج العلم فهو - كما أسلفنا لك القول - إما أن يرتكز على مشاهدات الحواس في حالة العلوم الطبيعية، ويكون مقياس الصدق هو التطبيق على الواقع، وإما أن يرتكز على مسلمات مفروض فيها الصدق مقدما، في حالة العلوم الرياضية أو ما يدور مدارها. ويكون مقياس الصدق هو سلامة استدلال النتائج من تلك المسلمات. وعلم الدين (أو علومه) من هذا الضرب الثاني.
لكن علم الدين، لا هو «الدين» ولا هو «التدين»، إنما هو فاعلية عقلية تقام على الدين. ومن الجائز أن يكون للقوم «دين» يعتنقونه بمعنى أن يكون لهم «كتاب» يؤمنون بما جاء فيه، دون أن يكون قد ظهر من بينهم من يتناولون ذلك الدين بالتفكير العلمي ومنهجه. ولعلي لا أخطئ إذا قلت إن الإسلام قد لبث «دينا» للمؤمنين «يتدينون» بمبادئه وتعاليمه فترة قبل أن يظهر «الفقهاء» ليقيموا عليه العلم بمنهج التفكير العلمي.
إنه عندما نزلت الآية الكريمة، وفيها قول الله تعالى:
اليوم أكملت لكم دينكم ...
كان قد كمل دين الإسلام، ودخل الناس في دين الله أفواجا، ولم يكن قد كتب بعد سطر واحد في أي علم من علوم الدين، مما يقطع بأن الدين نفسه شيء، والمتدينين به شيء ثان، والعلوم التي تقام عليه شيء ثالث.
وتسألني: فيم هذا العناء كله، وهو عناء قد لا يغير من الأمر الواقع شيئا؟ فأجيبك بإجابات ثلاث؛ أولاها: إجابة تشبه إجابة أول رجل استطاع صعود جبال الهملايا إلى قمتها، فسأله سائل: ولماذا عانيت كل ما عانيته عدة أعوام متعاقبة، حتى استطعت تسلق الهملايا إلى قمتها؟ فقال له المتسلق (وأظنه كان «مالوري»): لأن الهملايا موجودة. وإجابتي الثانية: هي أن الحياة الفكرية بمعنى من أدق معانيها، هي تحديد الفواصل بين المعاني المتداخلة أو المتشابهة. ولك أن تحكم على أمة بدرجتها في مدارج الحياة الفكرية، بمقدار ما استطاع أبناؤها تحديد المعاني التي يتداولونها. وإجابتي الثالثة: هي أنني - كما ذكرت لك في أول الحديث - صادفت اثنين هما من أفضل علمائنا في الدين، لكنني عجبت لهما - لكل منهما على حدة حين صادفته مقروءا أو مسموعا - إذ رأيتهما لا يفرقان بين الدين وعلم الدين. والتفرقة الوحيدة عندهما هي بين الدين من جهة، والمتدين من جهة أخرى. ولهذه النظرة ما لها من نتائج، لعل أيسرها هو حرمان المؤمن العادي البسيط، من أن يكون له «دين» يعرفه، ويقرأ كتابه، ويقيم عليه حياته مستهديا بمبادئه، دون أن يكون إلى جواره علماء دين أقاموا علمهم على أساس نصوصه. نعم، إن وجود العلماء أضمن لدقة المعرفة وضبطها، ولكن ماذا إذا لم يجد مؤمن في محيطه عالما؟
ويبقى الود ما بقي العتاب
كنت قد لبثت أعواما، أسمع عن فضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي، ولا أسمع منه، وكان الذي سمعته عنه خلال تلك الأعوام، مدعاة للزهو والرضا، ففضلا عن إخوتنا: في الإنسانية، وفي الإسلام، وفي العروبة، فنحن فوق ذلك كله إخوان في المصرية. ولا تسلني عن الإخاء بين المصري والمصري، حين يكون المجال مجالا للفخار بالوطن. وقد لا يشعر هذا الشعور إلى أغواره العميقة، إلا من يجد نفسه بين غرباء، ثم يجيء سياق الحديث حاملا على موجه ذكرا حميدا لمواطن مصري، كما حدث لي أكثر من مرة، وورد في حديثي مع جماعات من غير المصريين، اسم فضيلة الشيخ متولي الشعراوي، مقرونا بالثناء والتقدير، فعندئذ أحسست وكأن الثناء والتقدير موجهان إلى شخصي. نعم هكذا تتحد هوية المصريين جميعا، وتتجمع كلها مركزة في أي فرد من أفرادنا، وهو يتحدث إلى غرباء، عن مصري بكلمات التقدير، فما بالك إذا كان ذلك المصري ذا قامة فارعة، بلغت ما بلغته عند فضيلة الشيخ متولي الشعراوي.
ومع ذلك فقد شاء لي الله أن تمضي أعوام، أسمع خلالها عنه، ولا أسمع منه، ولعل ما دعاني إلى ذلك أساسا، هو أن فضيلته يصل إلى الناس عن طريق الإذاعة المرئية المسموعة، وهي أداة لا أتابعها متابعة مطردة، بل هي عندي مرهونة بالمصادفات، فقد أرى وأسمع ما لا أود عن عمد أن أراه وأسمعه، وكذلك قد يفوتني ما كنت أود له رؤية وسمعا، وهكذا فاتتني أحاديث فضيلته لعدة أعوام.
وللأقدار في لفتاتها عجائب ومفاجآت، ومن غرائب لفتاتها أن وجدتني مواجها لفضيلته على صحيفة يومية، فكان ذلك بمثابة اللقاء الأول بيننا، ولم يكن اللقاء - بالنسبة لي - على ما كنت أرجو له أن يكون، إذ قرأت لفضيلته كلمة موجزة يدافع بها عن القول بأنه إذا سقطت ذبابة في شراب، كاللبن مثلا، فما على الشارب إلا أن يغمس الذبابة بأجمعها في الشراب، ثم يمضي في الشرب؛ لأن للذبابة جناحا فيه الأذى، وهو الجناح الذي تسقط به على سطح السائل، وأما جناحها الآخر فمن طبيعته دفع ذلك الأذى، وبهذا التضاد يصبح السائل صالحا للشرب. وأذكر أن فضيلته قد شفع ذلك الرأي بذكر مراجع لعلماء من الألمان، وكان فضيلته يومئذ وزيرا للأوقاف.
ولست أدري كيف تلقى القراء كلاما كهذا، حتى ولو كانت أسانيده مأخوذة ، لا من علماء ألمانيا وحدهم، بل من علماء الأرض جميعا. أقول إنني لا أدري كيف تلقى القراء كلاما كهذا، لكن الذي أدريه على وجه اليقين هو وقعه على نفسي، فدع عنك ما أصابني من غثيان؛ لأن غثياني قد لا يهم أحدا سواي، ولكن ثمة جانبا من الموقف ينبغي أن يكون موضع اهتمامنا جميعا، وهو الذوق الحضاري السليم، فإذا فرضنا ما لا يجوز في رأيي فرضه، وهو أن الذباب على نحو ما وصفه فضيلته - وأنا أعلم أنه قول شائع في عامة الناس - فهل يمكن أن يؤخذ الذباب من حيث هو أجساد مجنحة وكفى، بغض النظر عما ارتبط به في الأذهان، من قذارة ونقل للأمراض؟ فإذا كان الذباب في حياة الناس هو ما هو، فهل يجوز أن يكون غوصه في طعامنا وشرابنا موضعا للدفاع؟ ومن الذي يدافع؟ هو فضيلة الشيخ الشعراوي، الذي إذا قال أنصت الملايين، وإذا كتب قرأ من لا أعرف كم عددهم في بلد تشيع فيه الأمية بمثل ما تشيع عندنا!
لم أملك نفسي يومئذ، فقمت لتوي، ونشرت القرطاس وحملت القلم، وما زلت أذكر كيف أبت نفسي أخذ الموضوع مأخذ الحقائق التي يقام لها البرهان، أو الأباطيل التي تهدم بالبرهان؛ إذ الموضوع كله - كما رأيته - لم يكن يستحق هذا الشرف، فلجأت إلى التصوير الأدبي الغاضب في سخرية، أو الساخر في غضب، وجعلت العنوان «ذبابة تعقبتها».
هكذا جاء لقاؤنا الأول على غير ما كنت أتمنى، ثم مضت بي الأيام مرة أخرى، أسمع عن الشيخ ولا أسمع منه، حتى ملأ الدنيا وشغل الناس - كما قيل عن أبي الطيب المتنبي - فأصبح واجبا ثقافيا محتوما، أن ألتمس أحاديثه التليفزيونية في مواعيدها، فلا أتركها للمصادفات، واستمعت لتلك الأحاديث أربع مرات أو خمسا متتاليات، وبرغم ما أخذته عليه في كل مرة (وسأذكر طرفا منه) أعجبت به إعجابا شديدا، وذلك من نواح كثيرة، فالرجل معلم بطبعه واستعداده، والصلة بين وبين تلاميذه تنبض بالحياة نبضا قويا، وكلامه يجاوز الآذان لينفذ إلى قلوب السامعين في مثل اللمح بالبصر. وسواء لدى هؤلاء السامعين أفهمت عقولهم ما قيل أم لم تفهمه، وحسبهم أن في قلوبهم رجفة الإيمان، بتأثير الأستاذ قولا وأسلوبا، على أن أهم من ذلك كله عندي مما أعجبني منه ذلك الإعجاب الشديد، هو منهاجه في الشرح والتفسير، فهو يتناول المفردات اللغوية التي تتألف منها الآية الكريمة التي يتولى شرحها وتفسيرها، بتناول تلك المفردات مفردا مفردا، لا يترك منها اسما ولا فعلا ولا حرفا، إلا حلله ووضحه.
كما يتناول العلاقات النحوية والبلاغية التي تربط تلك المفردات بعضها ببعض، وإذا بهذا التحليل اللغوي نفسه يضيء بمعنى الآية إضاءة لا تدع فيها موضعا لغموض، فالسامع لحديث الشيخ الشعراوي، يضمن لنفسه ضمانا أكيدا أن يخرج بمحصول غزير في الدراسة اللغوية، وهو فوق ذلك قد يزداد إيمانا على إيمانه الذي بدأ به الاستماع.
لكنني لحظت في كل حديث استمعت إليه، من الأحاديث الأربعة أو الخمسة، التي أشرت إليها، نوعا من العداوة للعلم الحديث، وهو يعبر عن عدائه للعلم بصورة لا يبررها صلب حديثه نفسه، أعني أن شروحه للآيات الكريمة التي يتولاها بالشرح، لا تزيد وضوحا بسبب عدائه للعلم. ومن أمثلة ذلك ما ورد في أول حديث سمعته له، وهو أنه بعد أن سخر ما شاءت له السخرية من جهود العلم الحديث في الصعود إلى القمر، والسير على صخوره وترابه، تناول بأصابع يده ورقة من علبة للمناديل الورقية كانت موضوعة أمامه، وقال للملايين الذين يسمعونه: إن هذه الورقة أنفع من الصواريخ التي صعدوا بها إلى القمر. والحق أني عجبت للشيخ يقول كلاما كهذا؛ لأن أقل ما يقال في هذه المناسبة، هو أن أحد الفروع التي تفرعت من إعداد تلك الصواريخ ما نسميه اليوم بالأقمار الصناعية. وبعد أن استخدمت تلك الأقمار في البث التليفزيوني، أصبح ممكنا أن يذاع برنامج التليفزيون على ثلث الكرة الأرضية دفعة واحدة، بل إنه بشيء من الإجراءات الفنية، قد يذاع على الكرة الأرضية بأسرها . وإذا كان هذا هكذا، فربما كان فضيلة الشيخ الشعراوي، وهو يقول لسامعيه إن قطعة الورق التي أمسكها بين أصابعه، أنفع من عملية الصعود إلى القمر من أولها إلى آخرها، أقول إنه ربما كان وهو يقول ذلك، يعان بأحد الأقمار الصناعية - التي هي إحدى النتائج الفرعية لصواريخ الصعود إلى القمر - في إذاعة حديثه على العالم الإسلامي كله في اللحظة عينها، فيكون هو المنتفع بالشيء الذي يستهجنه.
ثم شاءت لي المصادفات في ثاني الأحاديث التي استمعت إليها، أن أسمع صورة أخرى لكراهيته للعلم الحديث؛ إذ كانت إحدى مناطق إيطاليا قد تعرضت للزلازل، وعانت ما عانت، وكان أن أذاع علماؤهم في الناس احتمال حدوث زلازل أخرى في المنطقة الفلانية، في وقت حدده أولئك العلماء. وبعد أن سخر فضيلة الشيخ الشعراوي هذه المرة أيضا بالعلم الحديث في هذا المجال، قال لسامعيه: إن الحق سبحانه وتعالى، ترك هؤلاء العلماء يجرون أبحاثهم، ويعلنون تنبؤاتهم، حتى إذا ما فرغوا من ذلك، باغتهم بزلازل تقع في منطقة غير المنطقة التي عينوها، وفي وقت غير الذي حددوه، وكانت الطريقة التي قال بها الأستاذ ما قاله، أكثر دلالة من معنى القول نفسه، وذلك حين فرقع أصابع يده، وعبرت ملامح وجهه بما يعني أن الله سبحانه وتعالى كان مع عباده العلماء في موقف المنتقم؛ لاجترائهم على أن يعلموا، وعلى أن يتنبأوا.
وفي الحديث الثالث سمعت، وفي الرابع سمعت، مما أثار حيرتي: أيدفع الشيخ الناس بأحاديثه خطوة إلى الأمام في درجات الوعي، أم يشدهم إلى الوراء خطوات؟ ولكنني لا أترك هذا الموضع من السياق، دون أن أشيد بفضل أسداه لشخصي الضعيف في تلك المناسبة نفسها، وذلك أني كنت أضع ملاحظاتي تلك في مقالات أكتبها، مشيرا إلى فضيلة الشيخ متولي الشعراوي، بعبارة «المتحدث الجليل» دون ذكر اسمه؛ إذ شعرت أن نقد الفكرة لا يستدعي بالضرورة ذكر صاحب تلك الفكرة باسمه، ورأيت أن الاكتفاء بعبارة «المتحدث الجليل» أصون لكرامته، فليست المسألة بيننا مسألة نزاع بين أشخاص، وإنما هي نقد لأفكار، وكل منا يؤدي واجبه بعرضه للفكرة التي يعتقد في صوابها، فحدث أن أدلى الشيخ يومئذ بحديث في صحيفة الأهرام، يبين فيه موقفه من العلم الحديث، وذلك ردا على ملاحظاتي، قائلا إنه لا يعادي العلم، ولكنه أيضا لا يريد للإنسان غرورا بقدرته، وأما الفضل الذي أسداه لشخصي، فهو قوله عني في ختام حديثه ما يأتي:
أشكر الله لأخي الدكتور زكي نجيب محمود، إذ هيأ لي فرصة لأشرح فكرة قد تكون غامضة على بعض الناس. وأنا لا أشك أنه قد قصد ذلك؛ لأني أجله إجلالا يرتفع به أن يكون قد فهم مني ما فهم. وحسبي أن يكون الدكتور زكي نجيب محمود هو أول من تعرضت له في التعليق، عما كتب عني؛ لأني أعتز برأيه، وأحب أن يظل رأيه في مكان اعتزازي دائما، ونفع الله به باحثا وأستاذا ومستوضحا، وهداني الله إلى ما يحبه لي من بسط الحقائق بسطا لا يحتاج إلى تعليق. (جريدة الأهرام، الصفحة الدينية، 12 فبراير 1981م)
ثم مضت بنا الأيام، يتكلم كل منا لغة - فيما يبدو - غير التي يتكلم بها الآخر، فما قد رأيته في أحاديثه من عداء للعلم الحديث، وعداء بالتالي للعصر كله، رآه فضيلته شيئا آخر، لكن ذلك لا يغير من أمرنا شيئا، فكلانا يريد للناس خيرا، كل بطريقته
قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا (صدق الله العظيم).
وعند هذه الآية الكريمة أتحول إلى عتاب أوجهه إلى فضيلة الشيخ الشعراوي، كما يعاتب المسلم مسلما لهفوة بدرت منه، وبالعتاب يبقى حبل الود ممدودا بين المخلصين، فقد قالها شاعر، حين قال: ويبقى الود ما بقي العتاب، فالتوجيه الذي يتلقاه المسلم من هذه الآية الكريمة يا فضيلة الأستاذ، هو أن يعمل كل منا، أو يقول (لأن القول ضرب من العمل) وفق ما تمليه عليه ملكاته وقدراته، فلا يحاكي أحد أحدا لمجرد المحاكاة، بل يعبر عن نفسه هو تعبيرا أصيلا صادقا، والله سبحانه وتعالى وحده هو صاحب الحكم، فيحكم على مختلف السبل التي سلكها الناس أيها أهدى من أيها. فواضح من ذلك يا فضيلة الأستاذ، أنه ليس أنت الذي يقضي في عباد الله بالضلالة والهدى.
فلقد فوجئت بما لم أكن أتوقع حدوثه من فضيلتكم، إذ فوجئت بمن أنبأني عن حديث لكم نشرته الصحف، أخذت تضرب فيه ثلاثا منا باليمين وبالشمال، ضربا لم تكن موفقا فيه، وأنت الإمام الذي يأتم به اليوم ملايين المسلمين، كما يقال لي، وأما الثلاثة الذين استهدفتهم بسهامك، ثم استنفرتهم أن ينازلوك أنت وحدك، وأن ينازلوك بثلاثتهم مجتمعين في حلبة القتال، فهم توفيق الحكيم، ويوسف إدريس، والعبد الفقير إلى الله كاتب هذه السطور.
ولكي أكتب ما أكون من صحته على أيقن يقين، سأقصر كلماتي على شخصي، تاركا للزميلين أن يتوليا ما يريدان أن يتولياه من الأمر.
لقد أسلفت القول بأنني لحظت فيما تابعته من أحاديثكم، دقة بالغة في تحليل المفردات اللغوية، حتى لقد خيل إلي أحيانا أنني أمام محاضر في فقه اللغة، لا أمام محاضر في فقه الدين. وعلى هذا الأساس اللغوي الدقيق سيكون نقدي لما هفوت به عني يا فضيلة الشيخ، جاعلا ما وجهته إلى الثلاثة مجتمعين، موجها إلي بالضرورة. (1)
وردت هذه العبارة في حديثكم: إذا كان هناك ما يسمونه فكرا لهم، فكل كلامهم خارج هذا الدين، وكله مردود عليه.
وحول هذه العبارة أقول: قف معي قليلا يا فضيلة الأستاذ عند كلمة «كل» التي ذكرتها مرتين، فلا شك أنك تعني ما تقول، وأنت الرجل الذي يتعقب مفردات الكلام مفردا مفردا، فكم قرأت لي يا ترى مما كتبته، ليجوز لك الحكم بأن «كل» كلامي خارج الدين، و«كله» مردود عليه؟ إن لي أكثر من أربعين كتابا، وفوقها ما لا أستطيع حصره من مقالات وأحاديث، ولست أزعم أن ما كتبته جدير بشرف أن تقع عليه عيناك، لكن ها أنت ذا قد شرفتني بالإشارة إلى «كل» ما نطقت به، و«كل» ما جرى به قلمي، وأنا أعيد عليك السؤال: كم قرأت لي - يا ترى - وكم سمعت؟ إذا كنت لم تقرأ «كل» ما كتبته، ولم تسمع «كل» ما تحدثت به، ألا توافقني في هذه الحالة على أنك قد هفوت معي في الحكم؟ (2)
جاء في عبارتك ما يلي: أنا أريد النقاش علنا، ليعرف كل إنسان قدره، ولا يصبح دين الله نهبا مباحا لكل من يريد أن يتعدى على مقدساته، ويشوهه أمام الناس.
وعن ذلك أقول: مرة أخرى أرجوك يا فضيلة الإمام، أن تقف معي قليلا أمام كلمة «يريد»، وأنت الذي أعلم عنه أنه لا يستخدم لفظا إلا وهو يعنيه، فلو أن فضيلتك قد كفاها أن تحكم على ما كتبته بالخطأ في حق الدين (وأنا أقصر الحديث هنا على نفسي كما قلت) لهان الخطب؛ لأن الأمر عندئذ ما كان ليعدو أن يخطئ كاتب وهو لا يدري أنه أخطأ، وكان يمكن لعالم كفضيلتك أن ينبهه إلى الصواب ويستقيم المعوج. لكنك أصفت «الإرادة» المتعمدة، وأنا أترك لك أنت محاسبة نفسك ومراجعتها: أواثق أنت أنه قد كان وراء الكلام الذي رأيته فوجدته خاطئا، «إرادة» تحركت في جوفي لتتعمد الخطأ والتعدي على مقدسات الدين؟ وإذا أجبتني بكلمة «نعم» فاسمح لي ساعتها أن أطالبك بالدليل، وأما إذا أجبتني بكلمة «لا» أفلا تكون في هذه الحالة قد اتهمت مسلما بأبشع ما يتهم به مسلم أخاه المسلم، وعن غير بينة يستند إليها؟
هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فلست أريد أن أتجاهل قولك في العبارة المذكورة؛ إنك تريد مناقشة علنية «ليعرف كل إنسان قدره»، فما هو موضوع المناقشة الذي تقترحه، بحيث تضمن لقدر نفسك أن يبرز أمام الناس عملاقا، ويضؤل الآخرون أقزاما؟ ومن يا ترى الذي يترك له اختيار الموضوع؟ أنت أم أنا؟ أغلب ظني أنك لو تركت لي الاختيار لاستطعت الوقوع على ما تجهله أنت وما أعلمه أنا، وكذلك إذا ترك لك الاختيار، حدث عكس هذا، فالله سبحانه وتعالى قد قسم الأرزاق بيننا في المال وفي العلم أيضا، والله لا يحب كل مختال فخور. (3)
جاء في عبارتك ما يلي: إن ما يقوم به (هؤلاء الثلاثة) لا يمت إلى الحق بصلة، وما يكتبونه هو قضية تحمل الضلال والإضلال.
وعن الشق الأول أعيد ما قلته في رقم 1، وخلاصته أن فضيلتك لا يجوز لك أن تحكم حكما كهذا، إلا إذا كنت قد ألممت بكل ما قمت به، ثم حددت «الحق» كما تراه، ثم وازنت فلم تجد من ذلك الحق شيئا فيما قمت به. والأرجح أن أيام فضيلتك لم تتسع لبحث متسع كهذا.
وأما الشق الثاني، فأنا أدعو لك الله عما ورد فيه رحمة وغفرانا، فلأن يكون فيما كتبته «خطأ» فكثير على فضيلتكم أن تصفوه «بالضلال»، وأكثر منه أن تصفوه «بالتضليل» إن الله غفور رحيم. (4)
ورد في حديثكم أنك تريد المناقشة العلنية «لأكشف هؤلاء الناس للمسلمين في العالم أجمع، وأرد عليهم، ونترك الحكم لجميع المسلمين.» وتعليقي على ذلك هو أنك لو قلت إنك تريد أن تحتكم إلى «عقلاء» المسلمين لكنت أكثر توفيقا، أما «جميع» المسلمين يا فضيلة الإمام، فمشغولون اليوم، يقتل بعضهم بعضا في حرب الخليج، ويعترك مذهب منهم مع مذهب في كل أرجاء الإسلام. أإلى هؤلاء تريد أن تحتكم فيما قد ينشأ بيننا من اختلاف، وما من مجموعة منهم إلا وتلعب بها خناصر «الكفار»؟ يا سبحان الله العلي العظيم!
أما بعد يا فضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي، فإنني أحمل لك التقدير وأكبر فيك الشجاعة في إبداء رأيك علانية، ويقيني أنك تريد لسواك أن يكون له مثل ما لك من حق التفكير وحق التعبير، والله يوفقنا جميعا إلى ما هو أهدى سبيلا.
أقولها كلمة صدق
لم أعد أذكر على وجه الدقة متى كان ذلك، حين تلقيت دعوة الوزير للقائه في مكتبه، وكل ما أذكره هو أن ذلك قد حدث عندما اقتربت الخمسينيات من نهايتها. والذي يساعدني على التذكر، هو أحداث صغيرة سبقت دعوة الوزير، فلقد أشاعت تلك الأحداث - على صغرها - مزيجا في نفسي من الخوف والدهشة، فمنها أنني لاحظت أن بواب العمارة التي كنت أسكنها يبتسم لي كلما خرجت أو دخلت، ابتسامة تكاد تنطق أن وراءها معنى، ولكني صبرت على القلق، حتى أقدم هو على الهمس في أذني قائلا: لقد شهدت لك بما أرضيت به ضميري، فأنت رجل طيب. فسألته: ولمن كانت تلك الشهادة يا عم أحمد؟ فلم يجب بأكثر من ابتسامة الخجل، وتكرر هذا نفسه مع سائس الجراج، لكن السائس كان أكثر جرأة وصراحة، فلما سألته السؤال نفسه، ولمن كانت تلك الشهادة يا عم عبده؟ أجابني: ومن يكون إلا رجلا من المباحث؟ وربما صدق الرجلان أو كذبا، فلست أدري.
ومرت أيام قلائل بعد حديثي مع البواب والسائس. لقيني بعدها زميل في كلية الآداب، ولم يكن معنا ثالث، فقال لي إن زائرا من جهة رسمية زاره في داره؛ ليسأله عما يعرفه عني، وبالطبع كانت شهادة الزميل طيبة، وإلا لسكت عما حدث، فسألته: وهل علمت لماذا السؤال؟ فأجابني بأنه لا يعلم ذلك، لكنه من الواضح أنه إما ليدفعوك دفعة إلى أعلى، وإما ليجذبوك جذبة إلى أسفل، فكلتا هاتين الحالتين تحتاج إلى سؤال.
نعم، أحدث لي كل ذلك مزيجا من الدهشة والخوف، وظللت صابرا أنتظر، حتى جاءتني دعوة الوزير للقائه في مكتبه، فلقيني أكرم لقاء، ثم أنبأني بما انعقد عليه العزم من نقلي إلى منصب ذي شأن، فقلت له: إنني إذ أشكر شكرا صادقا ومخلصا، ألتمس قبول اعتذاري، فدهش الرجل لما سمعه مني، وقال: أتأبى أن تكون كذا وكيت؟ ألست على استعداد لخدمة «البلد»؟ فأجبته: لا يا سيادة الوزير، عفوا إنني إذا كنت قد رغبت عن المنصب المعروض، فإنني في الوقت نفسه أقرر بأنني إنما أردت بذلك أن أخدم البلد فيما أستطيع الخدمة فيه، وهو التعليم، أليست هي خدمة لمصر حاضرا ومستقبلا أن أشارك في تعليم شبابها؟
معلم أنا مهنة وفطرة معا، فلو لم تسر بي ظروف حياتي نحو مهنة التعليم، لاخترت بطبيعتي أن أكون معلما، فلست أحب في هذه الدنيا الطويلة العريضة شيئا أكثر من حبي للمعرفة وشرحها وتوضيحها ونشرها، وذلك هو التعليم، لكنني إذا قلت ذلك عن نفسي، فكأنما قلت معه شيئا آخر، وهو أن المعرفة التي أحب تحصيلها وشرحها وتوضيحها، هي معرفة أومن بصوابها، فإذا عرفت ما يناقضها مما أظن فيه الخطأ ، استخدمته للمقارنات التي يزداد بها الصواب وضوحا في الأذهان.
ولو كانت المعرفة التي أبحث عنها، وأبحث فيها، وأنقلها إلى الآخرين تدريسا وكتابة، مما يندرج في العلوم الرياضية أو العلوم الطبيعية، لما قلت كلاما كهذا عن الصواب والخطأ؛ لأن تلك العلوم تبلغ من دقة النتائج ما لا يتركها نهبا للآراء والظنون، لكن المعرفة التي أشرت إليها تقع في مجال ما اصطلح على تسميته بالعلوم الإنسانية آنا، أو بالعلوم الاجتماعية آنا آخر، ثم هي معرفة تدور حول معان، فيها من السخاء ما يكاد يسمح لكل من شاء، أن يكون فيها صاحب رأي. وماذا أنت قائل في فكرة كالحضارة أو «الثقافة» أو «التقدم» أو أي عضو من أعضاء هذه الأسرة الضخمة من المعاني التي تتلفع بغلالات لطيفة من الضباب، الذي يظهر منها جانبا ويخفي جانبا؟ إنك إذا طرحت واحدا منها للنقاش، فتوقع أن تسمع من المشاركين في المناقشة عجبا من العجب، دون أن تجد بين يديك الوسائل الرادعة الفاصلة التي تحسم الرأي بين صواب وخطأ.
إننا في بحر هذه المعاني الضرورية رغم غموضها، والغامضة رغم ضرورتها، نضرب بأيدينا وبأرجلنا ضربا لا نضمن به أن نجتاز الموج العاتي لنبلغ شاطئ السكينة والأمان، ومع ذلك فلا مندوحة للسابحين في ذلك البحر عن السباحة؛ إذ هو حتم محتوم علينا أن نكون لأنفسنا من تلك المعاني الفضفاضة المتصلة بالثقافة والحضارة، صورة فيها من الوضوح حدا أدنى، يكفي للهداية في ميادين التعليم والإعلام. وهي الميادين التي تكاد تنفرد بواجب الإعداد للمستقبل المأمول، وإلا فكيف نصوغ الأهداف التي نريد لشبابنا أن يستهدفوها، إذا لم تكن أمامنا وأمامهم صورة لما نبتغي؟
ولقد كان نصيبي من الحياة، منذ الشباب وإلى الآن، أن أكون بالتعليم وبالكتابة، من المشاركين في محاولات رسم الصورة المستقبلية المنشودة، وأعترف هنا بأنني قد سرت الطريق على مرحلتين، كان لي في المرحلة الأولى تصور معين، ثم أدخلت على ذلك التصور تعديلا هاما في المرحلة الثانية. وليس في هذا التحول ما يعيب أحدا إلا من تشبث برأيه، حتى ولو ظهر بطلانه، والأمر في هذه التصورات - كما قلت - ليس أمر معادلات رياضية أو قوانين علمية، مما لا تعرف لنفسها إلا طريقا واحدا في العصر الواحد، بل هو أمر اجتهادات قوامها آراء وظنون.
فأما المرحلة الأولى من حياتي الفكرية، فقد كنت فيها لا أجد بديلا لصورة الحضارة الغربية كما هي في عصرنا؛ لأنها هي حضارة القوة والعلم والإبداع والمغامرة وتحقيق السيادة على الطبيعة، فتسخرها تسخيرا لا يقتصر نفعه على قلة من الناس، بل إن نفعها ليعم حتى يصل إلى أصغر كوخ في أقصى الأرض.
لكنني عدت بعد تلك المرحلة الأولى، فرأيت أنها وإن تكن ضرورية ضرورة الحتم الذي لا يدع مجالا للاختيار، إلا أنها ليست وحدها كافية؛ إذ لا بد أن تضيف إليها كل أمة ما يميزها من سمات ثقافية هي التي حددت لها هويتها، أبا عن جد، ثم عن جدود، يتعاقبون جميعا جيلا بعد جيل ليكونوا «تاريخا» واحدا موصول الحلقات.
ومنذ انفتحت عيناي على هذا الشرط الضروري، وضحت أمامي الصورة بكل قسماتها، وهي صورة لم يكفني لعرضها مقالة أو مقالتان، ولا كتاب أو كتابان، بل أخذت أكتب من الكتب - بادئا بكتاب الشرق الفنان سنة 1960م - ما يربو على عشرة، ومن المقالات عشرات، كلها يتناول الصيغة الثقافية المطلوب لها أن تكون محور نشاطنا.
وكان آخر محاولاتي في هذا السبيل، مقالة عنوانها «هيا إلى اقتحام العقبة»، والعقبة التي رأيت أننا لم نقتحمها بعد، فوقفت في طريقنا كأداء لا تسمح لأحد منا بسرعة السير، هي غموض اكتنف فكرتنا عن «الماضي»، وكيف يكون دوره في حياة الأحياء. وقد اضطررت في سبيل شرحي للفكرة التي أردت عرضها، أن أمهد لها بتوضيح للأساس الذي تنبني عليه رؤية العصر الذي نحياه، وهو أساس قد اختلف في عصرنا عما كانت عليه الحال في العصور السابقة. ولا بأس في أن نزيد الأمر وضوحا هنا، فنقول إن العصر المعين من عصور التاريخ عادة ما يبني تصوراته على أساس علم معين، تكون له السيادة بالنسبة لسائر العلوم، وكانت «الرياضة» هي النموذج أمام العقل البشري منذ اليونان الأقدمين. ومعنى ذلك أن جوهر ذلك النموذج الفكري هو «الثبات»؛ لأن الصورة الرياضية توحي بذلك ، فينتج عن نموذج الثبات نوع من الاتجاه عند الناس نحو أي موقف عقلي - بما في ذلك موقفهم من ماضيهم - خلاصته ألا مجال للتغيير فيه. وأما النموذج الفكري في عصرنا الراهن، فمستمد من علوم الأحياء (البيولوجيا)، فانظر إلى أي كائن حي، من نبات أو حيوان أو إنسان، تجد أمامك حقيقة من صورة أخرى غير الحقيقة الرياضية؛ إذ تجد أمامك حقيقة نامية، كل مرحلة من مراحلها مستندة إلى المرحلة التي سبقتها، لكنها لا تكررها، فالثمار والأوراق والفروع والجذع جميعا لا تستغني عن الجذور الغائرة في التربة؛ إذ هي تستمد من تلك الجذور ريها وغذاءها، لكنها مع ذلك أشياء مختلفة الصور والوظائف، لا تشبه الجذور لا صورة ولا وظيفة. وعلى هذا النموذج الحي ينظر الإنسان المعاصر إلى كل شيء، بما في ذلك حقيقة وجوده هو نفسه، ووجود ماضيه.
فكل حياتنا الحاضرة - من وجهة النظر البيولوجية هذه - تستمد حيويتها من ماضيها، كما تستمد الشجرة حيويتها من جذورها، لكن حياتنا الحاضرة مع ذلك ليست مطالبة بتكرار صور الماضي كما كانت، على نحو ما تكون الثمار والأوراق والفروع غير مطالبة بأن تتخذ صورة الجذور. والفرق بعيد بين الحالتين: حالة من يحيا ليكرر ماضيه، وحالة من يحيا ليحذو في الإبداع حذو الماضي فيما أبدع. خذ الشعر مثلا، فنحن لا نلزم الشاعر العربي الحديث أن يلتزم كل شيء التزمه الشاعر القديم، لكننا نلزمه أن يرتوي من الشعر القديم، حتى تمتلئ أوعيته بذوق عربي سليم، ثم يبدع ما شاءت له ملكاته أن يبدع؛ لأن القديم نفسه لم يكن على صورة واحدة مكررة، فليس الشعر في العصر العباسي هو كالشعر في العصر الأموي أو في الجاهلية، بل تغير في تفصيلات كثيرة. ومع ذلك ظل النموذج في فحولة الشعر عند النقاد، قائما على الشعر الجاهلي، كأنما جعلوه كالأصل الثابت من الشجرة، وأما فروعها فمن حقها أن تعلو في السماء، ما دامت موصولة بشريان الحياة مع ذلك الأصل الثابت.
ومسألة الماضي وعلاقتنا به هي اليوم في مقدمة المشكلات التي تتطلب النظر الجاد ، أكثر جدا مما كانت في أي مرحلة من مراحل تاريخنا؛ وذلك لأننا خلال تلك المراحل، لم نكن نواجه حضارة أخرى غير الحضارة التي كنا نعيشها مرحلة مرحلة. أما اليوم فتواجهنا حضارة أخرى غير حضارتنا، وهي حضارة العصر، التي إذا نحن أهملناها كنا كناطح صخرة ليوهنها، وإذا نحن انغمسنا في غمرها بغير حساب، كنا كمن ألقى بشخصه في العباب ليهلك. والسؤال الملح علينا هو: ماذا نحن فاعلون؟
كان ذلك هو موضوع الحديث في مقالتي التي عنوانها «هيا إلى اقتحام العقبة»، والذي لم أتنازل فيه عن التمسك بماضينا قيد شعرة، ولو فعلت ذلك لكنت في عداد المجانين، لكن السؤال هو: كيف؟ وكان جوابي هو أن نتشرب تراثنا تشربا يحوله في قلوبنا ونفوسنا وعقولنا إلى «ضمير» نقيمه على أنفسنا من الداخل رقيبا وحسيبا، كما هي حال الضمير دائما مع الإنسان، لكن ليس من المعقول أن يظل الماضي بحذافيره قائما أمام أبصارنا لنكون في حياتنا نسخة مطبوعة. وقلت في ذلك المقال إنه ليس أقتل لنا ولا أقتل للنموذج المقام ذاته من أن نجعل أنفسنا نسخة مكررة. أما وجودنا نحن فينمحي إذ يصبح زائدة لا إضافة عنده يضيفها، وأما النموذج المقام، فإن جدته تذهب عنه بكثرة تكراره، وإلا لاكتفى التاريخ كله بأصل واحد دون أن يجيء له من يكرره.
فثارت علي ثائرة ناقد غاضب، وقذفني بوابل من الاتهامات التي طالما شهدنا أمثالها مئات المرات بعد مئات، وباتت في مسامعنا كليشيهات محفوظة عن ظهر قلب، حتى لكأنها تباع محنطة معلبة في دكاكين العطارة، وما على الناقد إلا أن يشتري وهو في طريقه إلى بيته علبة أو علبتين، يسكب ما فيهما على الورق، ثم ينام ليستريح، فلا المشكلة عولجت، ولا هو فكر في حلها، ولا المتهم قد وجد ما يتطهر به من خطيئته.
فليس أسهل على الناقد الثائر من أن يقول إن الرؤية التي تريدنا على أن ننظر إلى الماضي نظرتنا إلى تاريخ، أو إلى سيرة، أو إلى عملية النماء في الكائن الحي، تتلاحق فيها حلقات النمو ، بحيث تجيء آخر الحلقات ظهورا في الزمن، مستوعبة استيعابا حيويا للحلقة الأولى، دون أن تكون الأخيرة تكرارا للأولى، أقول إنه ليس أسهل على الناقد الثائر الغاضب، من أن يتهم مثل هذه الرؤية الحيوية بأنها تتنكر لمبادئنا وقيمنا ومثلنا العليا، مع أن ذلك الناقد الثائر الغاضب لو تمهل وتأمل هذه المعاني نفسها التي ذكرها: «مبادئ» و«قيم» و«مثل عليا» لوجدها جميعا - بحكم تعريفها - تعطيك «الاتجاه»، ولا تملي عليك كل خطوة على الطريق، فكأنما هي بمثابة من يقول لمن ضل الطريق في الفلاة: اجعل وجهتك نحو الجنوب الشرقي، وأما ماذا أصنع وكيف أتصرف إذا ما سرت في هذا الاتجاه ووجدت حيوانا مفترسا، أو وجدت بركة ماء، أو وجدت سدا من شجيرات وأعشاب، فهذه كلها صعاب الطريق التي يحلها المسافر بما توجبه عليه ضرورة الموقف، وطالما هو ملتزم بالاتجاه نحو الجنوب الشرقي، فهو ملتزم بالمبادئ وبالقيم وبالمثل العليا.
إني لأقولها كلمة صدق يا سيدي، بأنه لن يجديك شيئا، كلا ولن يجدينا أن تتلفع بدثارك مطمئنا مستريحا، فتغفو عيناك في نعاس، ثم تصحو فجأة لتجد شفتيك تتمتمان ألف مرة بهذه الألفاظ الثلاثة: مبادئنا مبادئنا ... قيمنا قيمنا ... مثلنا العليا مثلنا العليا ... فالدواء لا يشفي علة لمريض إذا ظل مغلقا في زجاجته، فالمريض طريح فراش، وزجاجة الدواء هناك على المنضدة، وكذلك مبادئنا وقيمنا ومثلنا العليا لا بد لها أن تنتقل من كونها كلمات، لتتجسد عملا مرئيا منتجا، نراه في زارع الأرض وفي عامل المصنع. وإنه لحق ما قيل من أن المبادئ والقيم والمثل العليا، لن تبلغ غاياتها في حياة الإنسان، إلا إذا غاصت في نفسه إلى عمقها، وتحولت عنده من حالة الوعي بها إلى حالة اللاوعي، بحيث تفعل فعلها فيه، وكأنها جزء لا يتجزأ من فطرته، وعندئذ لا تسمع مثل ذلك الإنسان يقولها ألفاظا، ولكنك تراه في أوجه نشاطه يحياها سلوكا.
إنه لن يكون لنا إحساس حي بوجودنا، وقدرة على المشاركة الإيجابية في حضارة عصرنا، إلا إذا استطاع حاضرنا أن يبتلع ماضينا، ابتلاعا ينقل ذلك الماضي من حالة كونه تحفة نتفرج عليها، وعبارات نرددها، إلى حالة كونه غذاء للدماء في شرايينها، أي أن ينتقل الماضي من خارجنا إلى داخلنا ليصبح فينا ضميرا حاكما وموجها لسلوكنا، لا بمحاكاتنا لما قد كان محاكاة حرفية كما يقولون، بل بإبداعنا للجديد الذي يتناسب مع عصرنا، كما كان الأسلاف يبدعون ما كان متناسبا مع عصرهم.
والإسلام من حيث هو دين، له أركانه الخمسة التي يعرفها كل مسلم، ويلتزمها كل مسلم، ومن حيث هو شريعة له أحكامه التي يفصلها لنا علماء الفقه، فنعتز بها أحكاما تضبط مناشط حياتنا. لكننا حين نتعرض لمسألة الحاضر والماضي، فإنما نتعرض للوجه الحضاري الذي ينبثق كما تنبثق الزهرة من غصنها، ولم يقل أحد، بل ولا يجرؤ أحد على القول، بأن المسلم لا يسعه بحكم إسلامه إلا أن يتمخض عن زهرة حضارية واحدة تظل تتكرر بذاتها عصرا بعد عصر، وإقليما بعد إقليم، فالعلم صورته واحدة، والفن صورته واحدة، والعمارة صورتها واحدة، والأدب صورته واحدة، وأسواق التجارة صورتها واحدة، ومصانع النسيج صورتها واحدة.
والذي أقوله، وأعيد قوله، هو أننا إذا غيرنا هذه الأوجه الحضارية كثيرا أو قليلا، لم نزد في ذلك على أننا نقلنا عن الغرب منتجاتهم، ولم نشارك بالإضافة التي قد تتميز بطابعنا الخاص إذا نحن استطعنا الإضافة. والسؤال إذن هو: ولماذا عجزنا عن الإضافة؟ والجواب هو: إننا لم نتشرب روح عصرنا بعد، وشغلنا أنفسنا بضروب من القول هي أقرب إلى الوخم المتثائب عند من يشرف على نعاس، فهل أبى الإسلام على المؤمنين فيما مضى، وهل يأبى الآن، وهل سيأبى عليهم يوما إلى آخر الدهر أن يخرجوا من أنفسهم زهرات حضارية مختلفة اللون والعطر كلما اختلفت حولهم ظروف العيش؟ ألا يقول رسول الله عليه الصلاة والسلام في حديث شريف له، ما معناه أن ما يراه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن؟ تأملوا بإمعان أبعاد المعنى في هذه العبارة، فكأنها تقول إنه إذا أجمع رأي المسلمين في عصر ما على أن خيرهم يتحقق بصورة معينة من الفكر والعمل ، وكانت تلك الصورة هي المقبولة عند الله سبحانه، وهل نقول اليوم أكثر من هذا؟
عندما طالعت رسالة الناقد الغاضب، لم يفزعني اختلاف الرأي، فاختلاف الرأي في أمثال هذه المسائل أمر لا بد منه في حياة فكرية صحيحة قوية، لكن الذي أفزعني حقا اختلاف اللغة - إذا جاز لنا هذا القول - فسيادته لم يفكر بمقدار ما رفع السوط مهددا بالويل والدمار. ونحن إذا تخاطبنا بلغات مختلفة على هذا النحو المخيف، فأخشى أن يصيبنا ما أصاب أهل بابل، الذين استطاعوا حين كانت لهم لغة واحدة، أن يتعاونوا على بناء مدينتهم، والارتفاع ببرجها نحو السماء، وكانوا بذلك أمة واحدة، لكنهم لم يلبثوا أن اختلفت لغاتهم، و«تبلبل» لسانهم، فتفككوا وكفوا عن البنيان، ومن هنا أطلق على مدينتهم وبرجها اسم بابل.
نمل ونحل
النملة تدخر القوت لفصل الشتاء، وهي إذ تخزن القوت الذي جمعته، تتركه كما وجدته، فحبة القمح تظل حبة قمح، وقطعة السكر تبقى قطعة سكر، فكل ما على النملة أن تؤديه في هذا السبيل، هو أن تجمع ما تصادفه صالحا لطعامها، وترصه في بيتها رصا على مستوى الأرض، أو تكومه بعضه فوق بعض، أو لست أدري كيف.
ولقد شهدت في صباي شيئا عجيبا، وكان ذلك في أعقاب مطر غزير؛ إذ شهدت جماعة من النمل تخرج مخزونها من جحرها، وتنشره متفرقا تحت أشعة الشمس، ولا بد أن تكون قد وجدته مبللا بما تسرب إليه من ماء المطر، وليس مخزون النمل دائما جزئيات صغيرة من مختلف المواد التي تراها صالحة، بل قد يحدث أن تقع على صيد جسيم، فتبقيه على جسامته، وتحفر له مخزنا خاصا يسعه بكل حجمه. وراقبت ذلك بنفسي ذات يوم، وقد كنت عندئذ أجلس أمام غرفة بمستشفى ريفي، حيث كان أخي الأصغر مريضا، وكنت لا أفارقه لأرعاه - عليه رحمة الله ورضوانه - وهناك رأيت في الحديقة أمامي نملة كبيرة تناور «صرصارا» وتداوره، ثم تلذعه في أم رأسه لذعة رأيته يجمد بعدها، فبعدت النملة عنه مسافة قصيرة، حيث أخذت تحفر جحرا، وبسرعة البرق تم لها ما أرادت، فعادت إلى فريستها وجرته إلى حيث الجحر، واعجباه كيف أخذت تقيس «الصرصار» طولا وارتفاعا بخطوات سريعة أخذت تخطوها بجانبه، ومتسلقة على جسده، ثم تدخل الجحر بعد ذلك وحدها، ولعلها وجدت الجحر أصغر من أن يسع الفريسة، فراحت توسعه بحفر جديد، وأعادت عملية القياس، فلما اطمأنت، شدت صيدها، حتى أدخلته في محبسه وردمت من تراب الحفر، حتى أغلقت فتحة الدخول، وذهبت إلى حال سبيلها.
ذلك هو النمل وما يصنعه في تخزين قوته، فهو ماهر كل المهارة في جمعه، لكنه لا يغير منه شيئا. وأما النحل فأمره آخر؛ لأنه ما إن يمتص من الزهور رحيقها، حتى يدير لها معامله الداخلية، فتخرجه في الخلية عسلا. •••
وعلى طريقة النمل وطريقة النحل يكون الإنسان في جمع معارفه وعلومه: فتارة يصنع بها صنيع النمل، وطورا يجري عليها طريقة النحل، وبين الطريقتين تختلف الشعوب، وكذلك تختلف العصور: فشعب ما، أو عصر ما، قد تسوده عملية الجمع والتخزين، حتى إذا ما أراد أحد أن ينتفع بشيء من المعرفة المخزونة في حياته العملية أخرج من المخازن ما يريد؛ ليستخدمه كما كان قد تلقاه وحفظه. لكننا في الوقت نفسه قد نجد شعبا آخر وعصرا آخر، لا يستريح إلا إذا تحولت المواد المجموعة على يديه خلقا جديدا، وبمثل هذا الإبداع يتقدم الإنسان. ولعلك تلحظ عملية الجمع مشتركة في الحالتين، لكن بينما يوقف عندها في الحالة الأولى، يتخطاها المبدع إلى مرحلة تبنى عليها في الحالة الثانية، فالنمل والنحل كلاهما يجمع مواده، فأما النمل فيخزن ما تجمع كما هو، وأما النحل فيصير مما جمعه شيئا جديدا.
وإني لأسارع عند هذه النقطة من سياق الحديث، فأوجز بجملة واحدة ما سوف أعرضه بعد ذلك مشروحا مفصلا. ولماذا أسارع بذكر النتيجة قبل بيان مقدماتها؟ جوابي هو: لأقطع طريق الفرار أمام القارئ الملول الذي يكتفي من كل مقالة بفقرة أو فقرتين، وإذن فليحمل الفكرة معه قبل فراره، عسى أن تثير فيه القلق وإمعان النظر، فأقول: إن مصر قد مضى على بدء نهضتها الحديثة حتى الآن مائة وثمانون عاما؛ إنها بدأت نهضتها قبل أن تبدأ الروسيا نهضتها بما يقرب من ثلث القرن، وقبل أن تبدأ اليابان نهضتها بما يقرب من ثمانين عاما، ولكن مصر خلال الأعوام المائة والثمانين لم تبلغ من النهوض ما يكفي أن تبتكر هي الجديد وتضيفه، كما فعل من بدأ الشوط بعدها، فما علة ذلك؟ إن ذلك قد تكون له علل كثيرة، ولكن إحداها التي تجيء من سواها في الطليعة، هي أن مصر قد اختارت - على الأغلب - طريقة النمل، وقلما صنعت صنيع النحل، فأصبح لديها ما شئت لها من خزائن العلوم والفنون، لكنها مليئة بما أبدعه غيرها من الشعوب الناهضة. على أن الإنصاف هنا يقتضينا أن نقول إن الأمر ليس هو: إما منهج النمل وحده، وإما منهج النحل وحده؛ إذ قد يجمع الفرد الواحد شيئا من طريقة النمل، وشيئا من طريقة النحل، ومثل هذا الجمع بين الطريقتين نراه قد تحقق لعدد من أعلام النهضة الحديثة في مصر، ولكننا إذا ما أردنا حكما بما هو أغلب على مجرى حياتنا طوال الأعوام المائة والثمانين، قلنا إنه منهج النمل في الجمع والتخزين.
تعالوا نستعرض معا مسرعين، أمثلة من أقوى النهضات الثقافية التي شهدها التاريخ؛ لنرى على أي منهج سارت فأبدعت، وسنرى أنها جميعا قد تشابهت في مراحل السير: فخطوة «نملية» تجمع بها ما قد وصلت إليه الدنيا من أمهات الحقائق، تتلوها خطوة «نحلية» يمتص فيها أصحاب المواهب رحيق المعارف المجموعة، لا ليخزنوها في ذاكراتهم لتبقى على صورتها، بل ليحولوها في معامل المواهب إبداعا جديدا. أما في مراحل الانطفاء والركود، فإن الدارسين يحفظون عن ظهر قلب ما يتلقونه من مأثورات الأولين؛ ليخرجوها في المناسبات المختلفة «تسميعا» فتخرج وكأنها مومياوات محنطة خرجت من توابيتها لتوضع في المتاحف.
ولنجعل مثلنا الأول ذلك المد الثقافي الزاخر في تاريخ المسلمين، فلم يكد يمضي على ظهور الإسلام ما يزيد قليلا على قرن واحد، شغل فيه العلماء - أساسا - باللغة وما يتصل بها من قواعد وشواهد، حتى بدأت حركة الجمع من مصادر الآخرين ، وأعني حركة الترجمة عن اليونانية والفارسية والهندية. ولقد سارت تلك الحركة على مرحلتين: كان المترجمون في المرحلة الأولى منهما يعملون فرادى، كل بحسب مزاجه، ودون أن يكون للدولة شأن بهم، وأما في المرحلة الثانية، فقد كان للدولة شأن عظيم، إذ أنشأ المأمون ما يسمى ببيت الحكمة، حيث يجتمع القائمون على الترجمة تحت رعاية الخليفة، وكانت حصيلة ذلك كله أن أصبح بين أيدي الدارسين ترجمات لمعظم مؤلفات أرسطو وما كتبه الشارحون للأفلاطونية المحدثة، وبعض محاورات أفلاطون، ومعظم مؤلفات جالينوس، وأجزاء مما كتبه غير جالينوس في الطب، فضلا عن المؤلفات في ميادين العلوم، ومنها كتاب إقليدس وكتاب أرشميدس. واختصارا فما بلغ القرن التاسع (الثالث الهجري) نهايته، إلا وقد شهدت العربية محصولا طيبا مما أنتجه السابقون في ثقافات أخرى. ولك أن تتخيل نفسك وقد دخلت بيت الحكمة في بغداد، لترى جماعة المترجمين منكبة على صحائفها، تنقل من لغة أخرى إلى اللغة العربية، وبين هؤلاء ثلاثة من أسرة واحدة هم: أبو زيد حنين بن إسحق، وابنه إسحق، وابن أخته جينس، فهل يسعك وأنت ترى هؤلاء يترجمون ما يترجمونه، إلا أن تدرك من فورك أنك إنما تشهد شيئا يشبه جهود النمل في الجمع والتخزين، وأن تلك المادة المنقولة إلى العربية لن تكون هي الثقافة العربية، ولكن الذي سيجعلها كذلك رجال آخرون، يتلقون تلك المترجمات ليرشفوا رحيقها، ثم ليخرجوا ما قد رشفوه خلقا جديدا، هو الذي نشير إليه اليوم، إذا ما تحدثنا عن التراث العربي وهو في عزه وذروة مجده.
وانتقل مع التاريخ العربي إلى القرن العاشر (الرابع الهجري)، وخذ ما اتفق ليديك أن تصلا إليه في خزانة الكتب التي عاش أصحابها في ذلك العهد، ثم انظر إلى محتواها، لترى كيف تحولت الأزهار إلى عسل، فاقرأ - مثلا - لأبي حيان التوحيدي تجدك أمام فكر عربي جديد، فلا هو شبيه بما قد كان عند أسلافه العرب من فكر ، ولا هو يشبه كل الشبه ما نقل إلى العربية من مؤلفات اليونان. وليس ذلك المذاق الجديد مقصورا على رجل أو رجلين، بل هو طابع شامل لعصر كامل امتد حقبة طويلة من الزمان، في المشرق العربي وفي المغرب العربي على السواء. وفي تلك الحقبة الطويلة لمعت أسماء كالنجوم الساطعة، من فلاسفة كالفارابي وابن سينا وابن رشد، وشعراء حكماء كأبي العلاء، ونقاد مثل عبد القاهر الجرجاني، وعلماء في الرياضة والفلك والكيمياء والطب، وغير ذلك من شتى جوانب الفكر والأدب. •••
وننتقل إلى المثل الثاني من النهضات الثقافية الزاهرة، وهو مثل أوروبا في نهضتها التي وصفت بأنها ولادة جديدة، فها هنا أيضا كانت المرحلة الأولى شبيهة بما يصنعه النمل بطعامه المدخر، جمعا وتخزينا، حتى يحين له الحين، فما انفكت أوروبا في أواخر عصورها الوسطى، تجمع بين يديها أهم ما أنتجه العقل البشري: في ثقافة اليونان، وثقافة الرومان، وثقافة العرب. وترجم هذا كله، وأخذت دائرة انتشاره تتسع، حتى بات في متناول الدارسين في الأديرة والجامعات، وتحت أيدي رجال الفن والأدب، ثم جاء دور النحل والعسل، فإذا الدنيا أمام روح جديد وعقل جديد. ولم تكن تلك الجدة مقصورة على علماء من أمثال جاليليو وكوبرنيق، ولا على رجال فن من أمثال رفائيل ومايكل أنجلو وليوناردو دافنشي، ولا على أدباء وشعراء مثل شكسبير، بل الجدة شملت روح الحياة نفسها، وسادت في الناس فرحة غريبة كفرحة الطفل بكل شيء جديد، فانطلق الرحالة يجوبون البحار المجهولة، والأرض البعيدة، ويصعدون الجبال بعد أن لم تكن تلك الجبال قبل ذلك إلا مصدرا للخوف والتخويف. دبت في الحياة كلها روح المغامرة والبحث عما وراء الأستار، وما اختفى في الظلمات، فكان من كل ذلك أن دخل العالم عصره الجديد: علما، واكتشافا، وأدبا، وفنا، واهتماما بالإنسان الذي هو بشر تقله الأرض، وتظله السماء، لا بالإنسان من حيث هو زاهد يكفيه القليل.
وهذا الموضع من سياق الحديث، هو موضع ملائم لذكر سرفانتيز ورائعته الكبرى «دون كيخوته»، فوقفة منا عند هذا الكتاب، ضرورية لنا ضرورة المنبهات القوية إذا ما أخذت الإنسان سنة من النوم، وهو بحاجة إلى يقظة واعية، فليس كل شيء في «دون كيخوته» أنه يحارب طواحين الهواء ظنا منه أنها فرسان معادية، وأن يهاجم قطعان الخراف على أنها جيوش الأعداء مداهمة ومهاجمة، لا بل هنالك - عند فهم الكتاب - ما هو أعمق وأفعل أثرا، فيمن يحيا ركودا ثقافيا كالذي نحياه نحن اليوم.
فذلك الرجل «دون كيخوته» قرأ كتب السلف عن حياة الفرسان، وحفظ ما قد قرأ، لم يغير منه شيئا، ولم يضف إليه شيئا، ثم رسم حياته على نموذجه، فهو بمثابة نملة كبيرة وقعت على صيد كبير فخزنته؛ لتجعله وليمتها ذات يوم من شتاء، كالنملة التي حدثتك عما رأيته منها، حين جمدت «صرصارا» ضخما بالنسبة إلى حجمها، وحفرت له وخزنته. ولو كان «دون كيخوته» فعل ذلك في عصر سابق لعصره أيام أن كانت حياة الفرسان أمرا شائعا مألوفا، بل وكانت موضع تبجيل واحترام، لما كان في أمره ما يلفت النظر، إذ ماذا يلفت النظر في فارس يعيش في عصر الفرسان؟ لكن عصر الفرسان كان قد ذهب وولى، وتأهبت الدنيا للدخول في عصر جديد - هو عصر النهضة الأوروبية الذي أشرنا إليه - ثم ظهر «دون كيخوته» لا ليتنفس مع الناس الهواء الجديد، بل ليتنفس هواء مخزونا بين صفحات كتب قرأها عن عصر قديم. فإذا كان سائر الناس من لحم ودم، فقد كان هو إنسانا من كلمات محفوظة، وكانت دماؤه من مداد المحابر. وهل تظن أن «دون كيخوته» كانت أعجوبة بشرية ظهرت واختفت؟ أمعن النظر فيما حولك ومن حولك، تجد من طرازه مئات يدبون على ظهر الأرض بأجساد من ورق ودماء من مداد وأدمغة مشحونة بكلمات السابقين، لا لتكون مصدر إلهام لما هو جديد، بل ليعيشوها كرة أخرى كما لو لم تمض بيننا وبين أصحابها مئات السنين. •••
فنحن، بعد أن قضينا مائة وثمانين عاما، منذ انفتحت أبوابنا على أوروبا. فبدأت بذلك الانفتاح نهضتنا الحديثة، لو أننا استثنينا قلة قليلة مما أنتجناه خلال تلك الفترة، لوجدنا إنتاجنا أشبه شيء ببيوت النمل، فهو إنتاج يمكن أن يلخص في هذه الصيغة: قال أسلافنا كذا، وقال الغرب عن أسلافه ومعاصريه كيت، فلا نزال ، حتى في الموسيقى والشعر، اللذين لا يكونان شيئا إذا لم ينبثقا من صميم الموسيقار والشاعر. وأقول إننا حتى في هذا الميدان لا نزال بين رجلين: أحدهما يقول: هكذا يكون الفن كما عرفه أسلافنا، والآخر يقول: بل هكذا يكون الفن كما عرفه الغرب. ولا أقول شيئا عن موقفنا في ميادين الفكر والعلم والنظم على اختلافها، فواضح أننا في ذلك كله ننحصر في إطار الصيغة التي أشرت إليها، وهي أن صوتا ينادي بما أخذ به السلف، فيرد عليه صوت آخر: بم يسود الغرب؟ ولم تتبلور لنا بعد وجهة. •••
إنه لا بأس في أن نصغي بآذان مرهفة لما قاله أسلافنا، وما قاله الغرب من أسلافه إلى معاصريه، بل هو أمر ضروري محتوم لمن أرادوا لنهضتم أن تعتدل على ساقين، ولكن البأس كل البأس هو في أن نقف من ذينك المصدرين موقف النمل في الجمع والتخزين وكفى، إذ يبقى بعد ذلك دور النحل في التمثل والتحويل، ليتاح لنا أن نقول:
هذا كتابنا بيميننا، وعلى أساسه يكون الحساب، ولقد تحقق لنا هذا بالفعل في كثير من الإبداع الأدبي، وفي قليل من الفن، ولكنه لم يتحقق في الفكر بشتى جوانبه، لا كثيرا ولا قليلا، اللهم إلا قطرات لا تطفئ ظمأ العصفور.
ما لهذه الشجرة لا تنمو؟!
أصدقائي من علماء الزراعة كثيرون، أزداد من علمهم علما كلما دارت بينهم وبيني أحاديث. وفي آخر لقاء بيننا، حدث لي أن تمتمت لنفسي قائلا - على إثر سرحة خاطفة جريت فيها مع خواطري: «ما لهذه الشجرة لا تنمو؟» فسألني محدثي: ما هذا الذي تقوله؟ فأعدت عليه عبارتي بصوت مسموع، فسأل: وأي شجرة تعني؟ فقلت: إنها شجرة في حديقتنا لا تنمو، رويناها بالماء آنا وبالدماء آنا، ولو كانت شجرة كسائر الشجرات في حديقتنا، لهان خطبها، ولكنها عندنا بمثابة الشجرة الأم، غرسناها منذ قرن ونصف قرن، ثم أخذنا من بذورها لنزرع في الحديقة أشباها لها، ولم يكن في حسابنا أنها لعلة فيها لن تنمو إلا لبضعة أقدام، فجاءت سائر الشجرات مثيلات لها.
قاطعني محدثي قائلا: ما هذا الكلام العجيب الذي أسمعه؟ إنني ما عرفت لكم حديقة ولا أشجارا، فأجبته ضاحكا: إنما أردت شجرة العلم في بلادنا يا صديقي، فعلاقة القربى وثيقة بين الأشجار والأفكار، كلتاهما تبذر لها البذور فتنمو وتتفرع وتورق وتثمر، فشجرة طيبة ككلمة طيبة، والكلمة فكرة، وشجرة خبيثة ككلمة خبيثة، فقل لي: لماذا لا تنمو شجرة في علم النبات؟ أقل لك لماذا لم تنم شجرة العلم في حياتنا؟
قال صديقي: أما في علم النبات فالشجرة يصيبها مثل هذا الشلل، إما لأنها غرست في غير تربة صالحة، وإما لأنها أحيطت بمناخ غير صالح، وفي الحالة الأولى قد تصلح حالها لو حرثت الأرض حرثا عميقا يصل بجذورها إلى طبقة أرضية خصبة، وفي الحالة الثانية قد تزول عنها عوائق النمو إذا استطعنا أن نزيل عن المناخ عوامل الفساد. هذا هو ما عندي عن نبات الشجر، فهات أنت ما عندك عن شجرة العلم في بلادنا.
قلت: سأقص عليك قصتي مع تلك الشجرة: بدأت القصة معي سؤالا يحيرني كما يحير غيري، هو: لماذا وقد بدأنا النهضة الحديثة منذ مائة وثمانين عاما، نلحظ في حياتنا الفكرية بصفة عامة - والجانب العلمي منها بصفة خاصة - أنها وإن تكن تتطور وتتسع بوثبات ملحوظة، فذلك لا يتجاوز مجال «الكم»، وأما «الكيف» فباق على حاله، لم يتغير عما كانت عليه الحال في القرن الثامن عشر، أعني الحالة التي كنا عليها عندما طرقت أوروبا أبوابنا ودخلت ربوعنا. مهلا، أرجوك ألا تفزع لقولي هذا، على ظن منك - فيما أرى من ملامح وجهك - أنني قد بالغت وأسرفت في المبالغة، فسأبين لك ما قصدت إليه.
أما التطور الكمي فذلك ما لا يستطيع أحد أن ينكره، وماذا ينكر إذا كنا قد انتقلنا في عدد المتعلمين على المستوى الأعلى، من مئات أو آلاف إلى ملايين؟ وإذا كنا قد ارتفعنا في عدد المدارس على مستوى التعليم العام هذا العدد الضخم الذي أوشك أن ينال جميع أبنائنا وهم في سن التعلم، وإذا كان قد أصبح لدينا من الجامعات عشرات، ثم أضفنا إلى هذا كله أكاديمية للبحث العلمي، ومراكز قومية للبحوث في شتى فروع العلم؟ إنك إذا سرت في هذا الخط - خط الأعداد - فسوف تجد ما يشرفنا بأي مقياس نختاره للحكم، وكان من نتيجة ذلك أن بات منا مئات الألوف من الأطباء والمهندسين ودارسي العلوم بكل فروعها، وبينهم عشرات الآلاف من حملة الدكتوراه والماجستير في ميادين تخصصاتهم. لا ليس لأحد ما يشكو منه في حياتنا العلمية إذا كان الأمر أمر أعداد، لكن تجول بنظرك إلى «الكيف» تجد أمام عينيك ما أعنيه حين أقول إنه قد تحجر عند حالته التي كانت إبان القرن الثامن عشر، وتسألني: وماذا تقصد بكلمة «كيف» هنا؟ وأجيبك بأنني أقصد إلى ما هو أبعد جدا مما يقصد إليه من يتحدثون في أيامنا هذه عن تدهور التعليم من حيث الكيف، بمعنى ضعف التحصيل، وقلة الاهتمام وضيق الأفق، على أن هذا كله صحيح، ولكنه ليس ما أردته، فما أردته أبشع من ذلك وأشد هولا؛ لأن تلك العلل التي ذكرناها يمكن معالجتها إذا أخذنا أمورنا بعزيمة أمضى. وأما الجانب المتحجر الذي أعنيه، فالله أعلم بأي الوسائل يزول، فهو هو الجانب الذي أوقف شجرة الحياة العلمية في بلادنا، ولم يأذن لها بأن تنمو، فها نحن أولاء نرويها كما نرويها، ولكنها لا تنمو، ونسمد لها الأرض بأطيب السماد، ولكنها لا تنمو، وإنما أردت بذلك الجانب الكيفي المتحجر، الذي يكرث حياتنا العلمية بكارثة ليس لها إلا الله لتنزاح، إننا مهما حصلنا من العلوم، فنحن «حفاظ» علم، لا علماء، نحفظ علوما أنتجها غيرنا، ولا نبلغ أن نكون علماء نضيف مع هؤلاء الآخرين جديدا يبيح لرجالنا أن يسيروا معهم كتفا إلى كتف في موكب واحد، إلا أن فداحة الخطب لتحتاج منا إلى روية في التفكير وأناة في التحليل، لعلنا نرد النتائج إلى أسبابها، فينفتح أمامنا طريق العلاج.
لنعد معا بخيالنا إلى مصر القرن الثامن عشر، لنرى - عندما فتحت علينا أوروبا أبوابنا، ودخلت بثقافتها العلمية الجديدة - كيف التقت ثقافتان بينهما من الاختلاف ما بين الأبيض والأسود من تضاد؟ فهل تفاعلتا لتخرج لنا من ذلك التفاعل صيغة ثالثة اجتمع فيها العنصران معا؟ أو أن مثل ذلك التفاعل قد استعصى، فسارت كل منهما في طريقها؟ وإذا كان أمرهما كذلك من استقلال الواحدة عن الأخرى، فكيف انقسم شعبنا بين ذينك الضدين؟ لكننا قبل أن نحاول الجواب عن أسئلة كهذه، يجمل بنا أن نقدم وصفا موجزا لكل من الثقافتين.
عندما أصدرنا الميثاق الوطني سنة 1962م، قرأت في الفصل الأول منه تفنيدا للرأي الشائع، والذي يؤمن بصوابه كاتب هذه السطور، حتى هذه الساعة، وهو أن نهضة مصر الحديثة بدأت يوم أن اتصلت بأوروبا عن طريق الحملة الفرنسية بقيادة نابليون «1798م»، وقيل في تفنيد هذا الرأي، إن الأزهر الشريف كان قبل ذلك - خلال القرن الثامن عشر - يعج بالعلماء، ولم تكن مصر بحاجة لنهضتها إلى انتظار فرنسا وحملتها، ومن صحبوها من علماء. وأذكر أني إذ قرأت ذلك في الميثاق عند صدوره، صممت على ألا أترك نفسي نهبا لأحكام قد تكون قائمة على أساس علمي صحيح، وقد لا تكون، فبحثت عما أقرؤه من مراجع لأكون على بينة من أمري، فما الذي كان قائما في الأزهر من علم في تلك المرحلة من تاريخنا - على سبيل اليقين، لا جريا مع الإشاعة؟ فرجعت إلى مجلد موسوعي يحصي كل المشتغلين بالعلم، ولمعت أسماؤهم في البلاد الإسلامية جميعا، وهو كتاب «سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر»، أي القرن الثامن عشر بالتاريخ الميلادي، وأخذت نفسي باستخلاص ما ورد فيه عن علماء مصر إذ ذاك، وفيم كان علمهم، وماذا خلفوا وراءهم من مؤلفات؟ فوجدت ما توقعت أن أجده، وأعني الدوران فيما هو موروث، فإما أن يتركوه كما هو بعد أن يهمشوه بشروح، وإما أن يعيدوا محتواه ملخصا ليسهل على الدارسين. وكثيرا ما وقعت على علماء وكل ما نسب إلى الواحد منهم من فضل، هو أنه قرأ الكتاب الفلاني كذا مرة، أو أنه قرأ كتاب كذا على شيخه فلان، أو أنه حفظ كذا وكذا من الكتب القديمة عن ظهر قلب. وليس في ذلك كله ما يعاب عليهم، فذلك هو ما بين أيديهم من علم، فماذا يصنعون كسبا للعلم أكثر من أن يحصلوه ويجمعوه ويشرحوه ويحفظوه؟
وفجأة هبطت عليهم ثقافة أخرى وعلم آخر، فإذا كان علمهم قراءة ما قد ورثوه من كتب، فها هي ذي وقفة أخرى جاءتهم عبر البحر، تجعل العلم قراءة لظواهر الطبيعة. وبدل أن تكون موضوعات العلم مقصورة على اللغة وقواعد نحوها واشتقاقها، وأحكام الشريعة في كذا وكيت، طلعت عليهم علوم أخرى تنظر في قوانين الكهرباء والضوء والمغناطيس وما إلى ذلك من أمور. ولقد روى لنا الجبرتي كيف تعمد علماء الحملة الفرنسية أن يبهروا علماء الأزهر بما جاءوا به مما ليس عندهم، فكانوا يدعون المشايخ جماعة جماعة، ليطلعوهم على فعل الكهرباء وغيرها، وكأنهم سحرة يعرضون ألعابهم السحرية التي تثير العجب في الناظرين، حتى لقد بلغ الغيظ بأحد الشيوخ العلماء ذات مرة، عندما أحس أن هؤلاء العلماء الإفرنج إنما أرادوا من علماء المسلمين خلع قلوبهم، فقال لهم الشيخ: هل يستطيع علمكم أن يجعل الإنسان قادرا على الانتقال إلى بلاد المغرب خطوة واحدة؟ فكان الجواب بالنفي، فقال الشيخ: لكن علمنا نحن يستطيع فعل ذلك.
والسؤال الذي يهمنا نحن الآن فيما نعرض له من حديث هو: هل كان يمكن لهذين الضربين من العلم أن يتفاعلا بالمعنى الصحيح للتفاعل؟ إن شواهد التاريخ الفكري تدلنا على أن الثقافة الوافدة لا تتفاعل مع الثقافة الموفدة إليها، إلا إذا كان في هذه عناصر مشابهة من بعض الوجوه لتلك، وعندئذ يجوز للثقافتين أن تتفاعلا فيخرجا نتيجة جديدة. بعبارة أخرى يصبح في مستطاع الثقافة التي تستقبل تلك الوافدة، أن تصبها في قالبها لتخلع عليها طابعها التقليدي في مجال الفكر والقصيدة، وكان ذلك هو الشأن في كل فروع العقائد والمذاهب العقلية أو الفنية. حتى الديانات نفسها، فقد ذهب الإسلام إلى إيران وجاء إلى مصر، فبينما جعلته إيران إسلاما شيعيا استقر في مصر إسلاما سنيا. وليست هذه مصادفات، وأن العكس كان يمكن أن يكون، بل كان لا بد لمن كانت ديانتهم قبل الإسلام ملتفة بالألغاز والإيحاء، والرمز أن يكسوا العقيدة الجديدة بما يشبه هذا الذي ألفوه، كما كان لا بد لمن كانت ديانتهم قبل الإسلام متميزة بالاعتدال وإقامة البنيان على قواعد واضحة، أن ينظروا إلى الدين الجديد مثل هذه النظرة.
وشبيه بذلك ما حدث للمسيحية في أوروبا، فهي كاثوليكية في الجنوب، حتى إذا ما انتقلت إلى الشمال الذي كان يغلب على أهله أن يكون الأفراد أحرارا من القيود على أن تقع على كل فرد تبعة الإرادة الحرة فيما تختار، جاء اليوم الذي يظهر لهم فيه من فقهاء الدين من يستخلصون تأويلا للمسيحية يكفل لهم ما يساير طبائعهم، فنشأت البروتستانتينية، ثم عبرت المسيحية إلى أمريكا مع المهاجرين إليها، فأضافت إلى نفسها جانبا عمليا في خدمة الناس، يتناسب مع الروح العملية التي سادت جوانب الحياة كلها هناك.
هكذا يكون التفاعل بين الوافد وما يحيط به من ظروف في البلد المستقبل. وإن ذلك ليظهر جليا في الفنون، فانظر - مثلا - إلى المساجد بمآذنها وقبابها في مختلف الأقطار الإسلامية، تجد الفروق واضحة في فن العمارة، ولا يصعب عليك من نظرة واحدة إلى القباب والمآذن، أن تقول هذه مصر، وتلك تركيا، والثالثة الأندلس، أو المغرب، أو إيران وباكستان، فكل قد صاغ عمارته وفق ما أملته عليه مقومات ذوقه واتجاهه وتاريخه الثقافي.
ونعود إلى سؤالنا الهام: هل كان يمكن للعمل الأوروبي الحديث عندما وفد إلى مصر لأول مرة مع الحملة الفرنسية، أن يتفاعل مع العلم كما كانت صورته هناك؟ ولماذا نلجأ في إجابتنا عن هذا السؤال إلى التخمين؟ لماذا لا نتعقب ما قد حدث بالفعل؟ والذي حدث - بصفة عامة - هو أن الدارسين للعلوم الحديثة بعد ذلك، نقلوا معهم طريقة «الحفظ» والوقوف بجهودهم عند حد الشرح والتعليق والاختصار. بعبارة ثانية: إن كل ما حدث في عملية التفاعل بين الثقافتين - عند من كان حظهم دراسة العلوم الحديثة - هو أنهم استبدلوا موضوعا بموضوع، وأما الطريقة فلم تتغير عما كانت عليه في القرن الثامن عشر، وتلك هي كارثة الكوارث في حياتنا العلمية إلى اليوم ، فلبثت شجرة العلم كما غرست أول ما غرست في أرضنا، لا تنمو.
قال صديقي عالم الزراعة الذي ظل يستمع إلى حديثي: أيكون معنى قولك هذا أن لا أمل في إصلاح؛ إذ كيف يكون أمل إذا كان الأمر مرتبطا بتاريخنا وتقاليدنا كما زعمت؟
فأجبته بأن أمل التغيير مفتوح الأبواب على مصاريعها، إذا حسنت النوايا، واشتدت العزائم، فهل نسيت ما قلته لي عند حديثنا عن الشجرة التي جمدت فلا تنمو؟ ألم تقل لي إن حالها لينقلب إذا ما ضربنا بنصل المحراث إلى طبقة أرضية عميقة يكون فيها صلاحية التربة وخصبها؟ هذا إن وجدت تلك الطبقة. وتاريخ مصر وتقاليدها ليست كلها منحصرة في القرون الظلام الثلاثة التي امتدت من السادس عشر إلى التاسع عشر، والتي عقمت خلالها إلا من المحاكاة والحفظ والتعليق والشرح، فمصر - خلال تاريخها الإسلامي وحده - عاشت على الأقل خمسة قرون غزيرة الإنتاج من العاشر الميلادي إلى الخامس عشر أثبتت فيها ذاتها الخلاقة في كل فروع العلم المعروف إذ ذاك، فعلماء الأزهر في محاولاتهم لصون التراث الإسلامي، لم يكونوا آلات صماء، يحاكون ويحفظون عن ظهر قلب، بل وأنشئوا معاجم اللغة الكبرى التي حفظت مفرداتها في تعقب حي للحياة المتطورة التي تسلسلت فيها سيرة كل مفردة منها، وأنشئوا من كتب النحو ما قيل عنه بعد ذلك إنه من أعظم ما شهدته العربية في تاريخها، وكتبوا التاريخ كتابة جعلته أقرب إلى العلم المنهجي، لا مجرد حكايات تروى، إلى آخر ما أبدعوه في شتى ميادين الفكر والأدب ومختلف العلوم.
تلك هي الطبقة العميقة الخصبة التي يمكن أن يصل إليها نصل المحراث، ودع عنك ما قد سبق بكل ما احتوى عليه من عظمة ومجد، فلماذا نترك وقفاتنا تلك، التي كانت لتصلح كل الصلاحية للتفاعل المنتج مع العلم الحديث، ونقنع بإطار نأخذه من فترة العقم والظلام؟ ولست أعني بذلك - طبعا - أن يحدث التفاعل المطلوب بين مادة العلم الحديث ومادة العلوم التي شغل بها علماء مصر في الحقبة التاريخية التي أشرنا إليها، بل الذي أعنيه هو أن يحيى في نفوس الدارسين «علمية المنهج»، فهذا وحده يكفل لدارسينا أن يتلقوا علوم العصر بروح أخرى، غير الروح التي لا تعرف فيما تتلقاه إلا الحفظ والتسميع.
بقعة زيت على محيط هادئ
بقعة الزيت عائمة على سطح الماء، محال عليها أن تغوص إلى غوره؛ لأن طبيعة الزيت وطبيعة الماء لا تأتلفان. قد تترك آثارها اللزجة في الماء الذي يلاصقها، ويترك الماء فيها ملوحته، لكن الزيت يظل زيتا، ويظل الماء ماء. يهتز الماء بموجه صاعدا هابطا، فلا تملك بقعة الزيت - مهما اتسعت رقعتها - إلا أن تهتز معه صعودا وهبوطا، لكن هذه المصاحبة الحركية لا تغير من الأمر شيئا، فالماء يظل ماء، ويظل الزيت زيتا، وعلى صورة تشبه ما بينهما من تجاور وتنافر معا، ومن اتصال في المكان مع انفصال في الطبع، رأيت العلاقة بين كتلة الشعب من جهة، وجماعة «المثقفين» من جهة أخرى، على امتداد الفترة الطويلة، التي هي عصر نهضتنا الحديثة، ممتدة من أول القرن الماضي، وإلى هذه اللحظة من ثمانينيات هذا القرن.
ولعلك قد لحظت أني وضعت كلمة «المثقفين» بين علامات تحصرها لتقف العين عندها قليلا، وإنما فعلت ذلك لأن هذه التفرقة نفسها، بين جمهور الشعب في ناحية، والجماعة التي أسميناها «المثقفين» في ناحية أخرى، كانت بين ما استحدثته النهضة الحديثة. وأما قبل ذلك - في القرن الثامن عشر وما قبله - فلم تكن هذه التفرقة معروفة على نحو ما نعرفها نحن اليوم - أو هكذا أظن - لأن تجانسا شديدا كان يربط من يعلمون ومن لا يعلمون، وكل ما في الأمر هو أن يرشد الذين يعلمون من لا يعلمون. وكان هؤلاء يريدون الإرشاد من أولئك ويتوقعونه؛ لأن علم الفئة الأولى يدور كله على أركان العقيدة وأحكام الشريعة، وهو علم يسعى إلى شيء منه سائر المواطنين، فكلما صادفت أحدهم مشكلة، التمس لها الحل الصحيح عند من تعلموا ودرسوا أصول الدين وأحكام الشرع ، فجاءهم علم باللغة العربية تبعا لذلك.
فلما فتحت علينا أوروبا أبوابنا، وجاءتنا بعلم جديد، وفكر جديد، وأدب جديد، وتلقت فئة منا هذه الألوان الجديدة، أصبحت تلك الفئة هي جماعة «المثقفين» وهم يتميزون بأن محصولهم الذي حصلوه، قد يؤدي بأشخاصهم هم إلى كثير أو قليل من التهذيب ورهافة الحس، لكنه محصول لا يشعر سائر أفراد الشعب أنهم في حاجة إلى شيء منه فلن تصادف أحدا منهم في حياته العملية أو الدينية مشكلة يلتمس حلها عند من أحاط علما بكل شيء عن الأدب الفرنسي أو الإنجليزي، أو ألم بكل شيء عن فلاسفة أوروبا من اليونان الأقدمين، فنازلا إلى الفلاسفة المحدثين والمعاصرين. وهنا انشقت فجوة رهيبة بين الشعب في مجموعه من جهة، وجماعة «المثقفين» من جهة أخرى، حتى لقد رأيت شبها بينهما وبين بقعة الزيت العائمة على سطح المحيط. وواضح أنني أستخدم لفظ «الثقافة هنا بمعناه الدقيق» وهو معنى لا يدخل «العلوم» في مجاله، كالكيمياء - مثلا - أو علم الطبيعة وما إليهما؛ لأن موقف الإنسان من هذه العلوم لا يتغير باختلاف الشعوب، وأما الثقافة بمعناها الضيق فتختلف باختلاف الشعوب وباختلاف العصور. ونستطيع القول - على وجه الإجمال - إن العلوم هي وسيلة الإنسان إلى تغيير بيئته، وأما بالثقافة فهو يغير من نفسه.
وإذن فقد استطاعت جماعة المثقفين عندنا أن تغير من نفوسها أفرادا، بحيث أصبح كل فرد منها أشد حساسية للقيم الخلقية والقيم الجمالية، وللإنسان وحقوقه وواجباته. ولكن هل استطاعت أن تنفذ إلى كتلة الشعب فتهزها وترهف حسها إلى تلك القيم، وإلى هذه الحقوق والواجبات؟ وإذا كانت قد استطاعت ذلك فإلى أي حد استطاعت؟
الذي أزعمه هو أنها لم تبلغ من ذلك إلا إلى قليل، وكان معظم هذا القليل في مجال السياسة، إذ أخذ الشعب - خلال المثقفين - يدرك حقوقه السياسة حيال المستعمر الأجنبي أولا، والمستبد الداخلي ثانيا. فإذا استثنينا بعد ذلك جوانب قليلة أخرى - لها أهميتها البالغة - كتحرير المرأة، قلنا إن الشعب في مجموعه لم يتأثر بجماعة «المثقفين» إلى الحد الذي يغير به رؤيته واهتماماته واتجاهاته الأساسية.
بلغت جماعة المثقفين ذروتها في إرادة التغيير وفي التبشير بكل ضروب الحرية وفي غزارة العطاء، إبان العشرينيات والثلاثينيات من هذا القرن ؛ إذ ما كادت ثورة 1919م ترفع لواءها مطالبة برحيل المحتل عن أرضنا، حتى شهدنا فروعا لحرية الإنسان تتفجر في مختلف الميادين، من الاقتصاد الوطني إلى الشعر والفن والنقد الأدبي. وهكذا أخذت آفاق الحرية تتسع أمام أبصارنا، ولكن كم - يا ترى - من تلك الدعوات بلغ آذان الجماهير؟ فإذا قلنا إن تلك الحركة الثقافية كانت تستهدف الأخذ عن ثقافة الغرب ما استطعنا أخذه مما يمكن الملاءمة بينه وبين ثقافتنا الموروثة، وإنها بذلك الاتجاه نفسه إنما كانت تستهدف في الحقيقة أن تكون حياة الإنسان في هذا العالم الدنيوي مدار الاهتمام، فهل شارك جمهور الشعب في التطلع إلى تلك الأهداف؟
أو إنه ظل - في مجموعه - كما كان سلفه قبل النهضة، لا يعرف من رجال الفكر إلا رجلا واحدا، هو عالم الدين الذي يستطيع بعلمه، أن يبصره بأمور عقيدته وشريعة دينه، وهذا - بالطبع - جانب لا غنى عنه لإنسان يستمسك بالعروة الوثقى، ولكن سؤالنا منصب على الإضافة التي كان يمكن أن تضاف، بعد أن فتحت أبوابنا لعلم العصر وثقافته، فهل أضافت كتلة الشعب اهتمامات جديدة إلى اهتمامها القديم؟ وبعبارة أقصر وربما كانت أوضح نقول: هل تغير شيء جوهري في وجهة النظر العامة عند الإنسان العادي، بفضل ما يكتبه «المثقفون»؟ جوابي على هذا السؤال هو بالنفي، إلا استثناءات قليلة، أهمها خاص بالوعي السياسي، فلقد أفلح المثقفون - حقا - في تنمية ذلك الوعي، إلى الحد الذي دفع الشعب إلى ثورات كبرى ثلاث: ثورة عرابي، وثورة 1919م، وثورة 1952م. وأما ما عدا ذلك مما ينادي به «المثقفون» فلا يكاد يستمع إليه المثقفون أنفسهم، فكأنما هم في ناد خاص بهم، يتحدث بعضهم إلى بعض، وأما المحيط الشعبي الفسيح العميق، فباق على هدوئه وسكونه.
اضرب لي مثلا بدعوة لها أهميتها، وجهتها جماعة المثقفين، وأبى الشعب أن يستمع. هكذا قال لي قائل ذات يوم، ونحن في مثل هذا السياق من الحديث ، قلت: الدعوة إلى اكتساب النظرة العلمية في غير مجالات العلوم، بمعنى أن يتلقى الأفكار من يتلقاها، بشيء من دقة التحليل والتمحيص لا لقبول المتسرع الغشيم . وهي دعوة واحدة، لو وجدت شعبا يصغي لها ويعيها، لتعذر على مستبد أن يستبد، وعلى مخادع أن يخدع، فلقد صادفت بين رجال الفكر من يعرف (بتشديد الراء) المثقف بأنه هو ذلك الذي يحلل الأفكار إلى ما يندرج فيها من ظلال الفوارق بين فروعها، فإذا قيل له - مثلا - «اشتراكية»، أخذ من فوره يمعن النظر في صنوف الاشتراكية وما يميزها بعضها من بعض؛ فالاشتراكية هنا غيرها هناك. وإذا قيل له «ديمقراطية» لم ينخدع بهذه اللفظة الواحدة، فيظن أن الديمقراطية واحدة كذلك أينما ظهرت، فوحدانية الاسم لا تدل بالضرورة على وحدانية المسمى، وهل تحت اسم «الزهور» يأتي نوع واحد من الزهر، وتحت اسم «البرتقال» لا يكون إلا صنف واحد من البرتقال؟ وقل مثل هذا - بل قل أكثر منه - إذا ما كان الأمر أمر «أفكار» مجردة. وأنت مثقف بمقدار ما تجد في نفسك دافعا لا قبل لك برده عنك، دافعا نحو أن تحلل المعاني التي يعرضونها عليك في بساطة، وكأن محتواها واضح ظاهر ظهور الشمس ووضوح النهار. وكم من ملايين البشر خدعها خادعون بألفاظ كهذه، يخطفون ببريقها أبصار الناس في سذاجتهم، فيتبعونهم عميا، وهم لا يفقهون أي شيء يتبعون.
ألم تطلب مني أن أضرب لك مثلا لما أردته حين زعمت لك أن جماعة «المثقفين» عندنا في واد، وجمهور شعبنا في واد آخر، فالأولون يقذفون بأفكار كبرى من شأنها أن تقلب وجهات النظر قلبا، ولو تلقاها الشعب بوعي كامل لمعانيها، لزحزحت جلاميده من ماض ذهب وانقضى، إلى حاضر مليء بمشكلات جديدة تريد لها حلولا، لكن أفكار المثقفين تلك، ترتد إليهم كما أرسلوها؟ فضربت لك مثلا بدعوة الناس إلى شيء من روية العقل الناقد للأفكار قبل الأخذ بها في ترحيب أبله.
وانظر إلى السنوات الثلاثين الأولى من هذا القرن، وإلى الأفكار العظيمة التي حاول «المثقفون» أن تنفذ إلى عقول الناس وقلوبهم . ولو فعلت لتبدلت الحال غير الحال: الشيخ محمد عبده في دعوته إلى الذهاب مع حكم العقل إلى آخر مداه في فهم الدين، فإذا بقيت بقية تستعصي على العقل، اكتفينا في قبولها بمجرد الإيمان. ويمكن القول بأن عباس العقاد سار على الطريق نفسه، ولطفي السيد في فكرته عن الحرية السياسية بمعناها الليبرالي الذي يجعل لكل فرد حسابه المستقل في كفة الميزان، وطه حسين في محاولته نزع قناع القداسة عن وجه الماضي، لنخضعه للتحليل العلمي في غير تردد وخوف، وهكذا وهكذا. لكن هل بلغت الرسالة غايتها؟ لو أنها فعلت لما رأينا الناس - وبينهم كثير جدا من المتعلمين غير المثقفين - يسرعون إلى تصديق كل ما يقال لهم عن الخوارق واللامعقول، فإذا قيل لهم إن أشباح الموتى ظهرت من قبورها واندست في زحمة الناس، صدقوا، وإذا قيل إن أرواح من انتقلوا إلى العالم الآخر إذا استحضرها خبير حضرت، ونظمت شعرا، وتحدثت نثرا ليسمع السامعون، صدقوا، وإذا قيل لهم إن العفاريت الزرق عبثت بمنزل فلان، وأخذت تزحزح له قطع الأثاث، وتحطم له ألواح الزجاج، صدقوا. ولك بعد ذلك أن تعجب ما شئت، إذا رأيت هؤلاء الذين لم يترددوا في تصديق الخوارق غير المعقولة، يترددون ألف مرة قبل أن يصدقوا ما يستطيع العلم في عصرنا أن يصنعه.
في كتاب «شجرة البؤس» للدكتور طه حسين، تصوير لجانب من حياة الناس في أواخر القرن الماضي وأوائل القرن الحاضر، وهو الجانب الذي يبين لنا كيف، وإلى أي حد بعيد، ينصاع هؤلاء الناس لما يشير به «الشيخ» حتى في أخص خصائص حياتهم، وكان لكل مشكلة مهما كان نوعها، حلها عند «الشيخ». وإذن فلم يكن التفكير العقلي عندهم هو المدار في تسيير الحياة - بل والحياة الخاصة - وإنما كان هو «الشيخ وما يحكم به»، وها قد انقضى الجزء الأكبر من القرن العشرين، وبعد كل ما كتبه محمد عبده، ولطفي السيد، وطه حسين، والعقاد، وهيكل وغيرهم من «المثقفين» شاء لي ربي أن أسمع بأذني أكثر من رجل وأكثر من امرأة - ممن ظفروا وظفرن بدرجات عليا من التعليم - يروون لمن يتحدثون إليهم أنهم اشتروا كذا، وباعوا كيت، وألحقوا أولادهم وبناتهم بالكلية الفلانية من الجامعة ... إلخ، بعد أن استشاروا «الشيخ »، وهذا معناه أن الصورة التي قدمها طه حسين في شجرة البؤس، ما زالت هي الصورة، وذهبت صرخات «المثقفين»، وذهب معها التعليم بكل درجاته السفلى والعليا، ذهب كل ذلك مع عواصف الريح، وكان مقصودا «بالشيخ» في الحالات التي ذكرتها، شيخ الجماعة الصوفية التي ينتمي إليها كل متكلم على حدة، وليست المؤاخذة هنا على الشيخ الذي تطلب منه الشورى، إذ هو على الأرجح رجل طيب القلب، سليم النية، ورع تقي، ولكن المؤاخذة على من يطلبون منه الرأي والإرشاد عندما لا يكون الرأي والإرشاد، مما يمكن الركون فيهما إلى القلوب الطيبة والنوايا الحسنة وحدها. وعلى أية حال، فالذي يعنيني هنا هو أن قرنا من الزمان قد انقضى، بين الفترة التي صورها طه حسين في «شجرة البؤس» والفترة التي تحيط بنا الآن، ومع ذلك فليس ثمة فرق جوهري في «النظرة» التي ينظر بها الناس إلى العلاقات السببية بين الظواهر، ونوع الإجراءات التي لا بد من اتخاذها لنغير موقفا نريد تغييره: أهي كلمات ينطق بها رجل طيب، أم هي إجراءات تستند إلى فكر علمي يربط المسببات بأسبابها، لا بل هنالك فرق بين الفترة التي صورها طه حسين في كتابه المذكور، وهي أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن، في إقليم معين من أقاليم مصر، والفترة الراهنة، والفرق هو أن أفراد الناس الذين ورد ذكرهم في «شجرة البؤس» هم «على قدر حالهم» «كما يقال» في درجة التعليم، وأما الذين أشرت إليهم ممن سمعت عنهم، ومنهم يلجئون إلى شيخ الجماعة الصوفية في حل مشكلاتهم، فهم من الحاصلين على أعلى مراتب التعليم. ومعنى ذلك كله هو أن حاجزا كثيفا يفصل فئة «المثقفين» وجمهرة الشعب، ومنها - كما أسلفت - المتعلمون الذين لم يضيفوا «ثقافة» إلى علمهم. ثم جاءت السنوات العشرون الأخيرة، فحدث خلالها تغير رهيب، إذ بينما لبثت جماعة «المثقفين» في عزلة وحدها دون سائر الشعب - المتعلمين منه وغير المتعلمين - انتقل محور الجذب، فبعد أن كانت جماعة المثقفين هي التي تحاول جذب الجمهور إلى أعلى، وأعني جذبه إلى أن تكون نظرته متجهة إلى المستقبل، أصبح جمهور الشعب هو الذي يحاول شد المثقفين - أصحاب الفكر الجديد - إلى أسفل، بحيث تتجه أنظارهم إلى الوراء. وواضح أنه أفلح - إلى حد كبير - في تحقيق ما أراد، وبات الصوت الأعلى لأصحاب الدعوة إلى أن يوكل الرأي في كثير من أمور الحياة إلى القلوب الطيبة، وتقلصت بقعة الزيت التي لا تزال بقيتها سابحة على سطح محيط هادئ، لا يريد لأحد أن يفسد عليه سكونه المريح.
كلمات تحت كلمات
كنا معا في جوف حوت طائر، يعبر بنا المحيط إلى أمريكا، لنقضي بضعة أيام في مهمة علمية دعينا من أجلها، وجلسنا على مقعدين متجاورين، فأخذنا نسمر حينا ونصمت حينا - كما هي عادة المسافرين - وفجأة، وبغير مقدمات قال لي: أنا لا أقرأ الصحف، أكتفي بنظرة خاطفة إلى صفحاتها الأولى، وتبقى الصحيفة مطوية كما اشتريتها، فرددت عليه مسرعا: وأنا كذلك أفعل، ثم بدأت معنا بعد ذلك فترة صمت طويلة، أسندت خلالها رأسي على ظهر مقعدي، وتقاطرت الخواطر تترى، خاطر منها يشد خاطرا. وأما الخاطر الذي بدأت به السلسلة، فهو - بالطبع - ما قاله زميل السفر عن قراءته - أو عدم قراءته - للصخف، وما رددت به عليه! فمنذ اللحظة الأولى لم تخامرني ذرة شك في أنه لم يكن في قوله صادقا، كما أني أعلم عن نفسي علم اليقين أنني كذلك لم أكن صادقا في الرد، فلا هو ممن يتركون الصحيفة مطوية غير مقروءة، ولا أنا! فلماذا كذب ولماذا كذبت؟ على أن كلينا حين كذب، فإنما كذب في ظاهر القول ليكون صادقا مع خوالج النفس من باطن، فهو حين قال إنه لا يمس الصحيفة إلا بلمحة سريعة وهو منها على مبعدة، فإنما أراد أن يقول لي: أنا لا أقرأ ما تكتبه، بل ولا أعلم أنك تكتب، فلئن كذبني القول في الظاهر، فلا شك أنه قد كان صادقا في التعبير عن شعوره أو قل في التعبير عن نفوره! وأما أنا حين رددت عليه كذبا بأنني كذلك أفعل مع الصحيفة كما يفعل أردت أن أقول - صادقا: لا عليك، وماذا لو قرأت؟ لن يتغير من الأمر شيء لا خيرا ولا شرا.
كلانا نطق بكلمات لم يردها، ودس تحتها كلمات خرساء، وكانت هي التي أرادها. تلك كانت فاتحة خواطري؛ إذ أسندت رأسي على ظهر مقعدي، مفتوح العينين، لكني لا أنظر بهما إلى شيء! وكان أول ما توارد بعد ذلك من خواطر، هو أن تذكرت عبارة عن طبيعة الشعر، قالها ناقد إنجليزي، وقرأتها له، غير أني لا أذكر أين قرأتها، ولا متى، بل لا أذكر اسم قائلها، وماذا يعنيني من كل ذلك ما دمت أذكر العبارة نفسها، كما أذكر كم رأيت فيها من الصدق، وما أزال أرى، فهي تقول في تعريف الشعر: إنه كلمات تحت كلمات. وفي هذا القول الموجز إشارة إلى كثير جدا مما يميز لغة الشعر من لغة العلم، بل إن الأمر في ذلك لا يقتصر على الشعر وحده دون سائر الأجناس الأدبية، بل إنه ليصدق على لغة الأدب، كائنة ما كانت صورته، إذا ما قورن بالعلم، فالمثل الأعلى في دنيا «العلوم» هو أن يجيء المصطلح العلمي محدد المعنى تحديدا لا لبس فيه ولا غموض ولا ترادف ولا إيحاء ولا أي شيء من شأنه أن يجعل المصطلح العلمي دالا على أكثر من مدلول واحد، فلا تحته مدلول آخر، ولا فوقه ولا إلى جواره، فإذا قلت كلمة «مثلث»، فيستحيل أن تعني في علم الهندسة إلا المثلث بتعريفه المحدد، وإذا قلت «أوكسجين» فلن يفهم من الكلمة إلا ما أراده علم الطبيعة بهذا الاسم، حاملا للخصائص المعينة المحددة التي يتميز بها ذلك العنصر. هذا هو العلم وما يقيد نفسه به في لغته. ولما كان مثل ذلك التحديد القاطع للمعاني، قلما يتوافر في اللغة المتداولة في الحياة الجارية، لجأ العلم - كلما أمكن ذلك - إلى خلق لغة خاصة به، قوامها رموز من حروف أو أرقام، حتى لا يفسح المجال لأحد أن يفهم من المصطلح العلمي، أو من العبارة العلمية إلا شيئا واحدا فقط، هو ما اتفق على أن يكون مدلول ذلك المصطلح أو تلك العبارة. وبقدر ما يتعذر على علم من العلوم تحويل لغته إلى مصطلح لا تشاركه فيه لغة الحياة الجارية بين الناس يكون بعد ذلك العلم عن الدقة المثلى كما هي الحال في مواضع كثيرة من العلوم الإنسانية.
وأما الشعر - والأدب عامة - فشأنه في لغته غير ذلك، فلئن كان المثل الأعلى عند العلم أن يحال دون ازدواجية المعنى للمصطلح الواحد أو العبارة الواحدة، فالمثل الأعلى في لغة الشعر هو أن توحي اللفظة الواحدة، أو العبارة الواحدة، بألف معنى ومعنى إذا أمكن ذلك. موضع المباهاة عند العلم أن كل قارئ له، مهما كان مكانه أو زمانه، فهو ككل قارئ آخر من حيث المدلول الذي يشير إليه الرمز العلمي، وأما موضع المباهاة عند الشعر، فهو أن يفهمه كل قارئ على نحو يختلف به عن سائر قرائه، وكلما كانت اللغة التي استخدمها الشاعر في شعره قابلة لتعدد الإيحاءات وكثرة التأويلات، كان ذلك أدل على موهبته في اختيار ألفاظه وتركيب صوره. وبعبارة أخرى كلما كان تحت كلماته الظاهرة كلمات دفينة، يظهر منها شيء لكل قارئ وفق ما تستدعيه الخبرات السابقة لهذا القارئ كان الشاعر أعلى رتبة في موهبته الشعرية. ومن هذه النقطة نفسها جاز الغموض في الشعر؛ إذ كان من شأن ذلك الغموض أن تتعدد الإيحاءات عند مختلف القارئين، فإذا قال شاعر في وصف الخمر وكأسها إن زجاج الكأس قد رق وإن الخمر قد راقت إلى الحد الذي يتعذر معه على الرائي أن يفرق بينهما، فإما أن تكون الكأس المليئة بخمرها في عين الرائي خمرا بلا كأس، أو كأسا بلا خمر، أقول إن الشاعر إذا قال شيئا كهذا فهمه قارئ بالمعاني المباشرة لألفاظه، وفهمه قارئ آخر أنه إنما يعني قلبه وما امتلأ به من حب الله، حتى بات القلب ومحبوبه وكأنهما شيء واحد.
وإنما ضربت هذا المثل لأنه هو الذي ورد على ذهني وأنا أكتب هذه السطور، إذ تذكرت جلسة جلستها مع نفر من أدباء وشعراء منذ أعوام طويلة، وكان ذلك في بيروت - وا حسرتاه عليك يا بيروت - وحدث أن تغنى أحدهم بهذين البيتين:
رق الزجاج وراقت الخمر
فتشابها وتشاكل الأمر
فكأنما خمر ولا كأس
وكأنما كأس ولا خمر
ودار حولهما نقاش، وكان لكل من الحاضرين طريقة في الفهم، فلم يكن هذا الاختلاف نفسه إلا شاهدا على شاعرية الشاعر.
ولم أكد أفرغ من تذكري لتلك الجلسة البيروتية وما دار فيها، حتى وثبت إلى خاطري - في تسلسل الخواطر، ورأسي مسند إلى ظهر مقعدي في جوف الحوت الطائر بنا فوق المحيط - وثب إلى خاطري كلام جميل قرأته لأبي حيان التوحيدي، حول بيت الشعر الذي يقول:
أغرك مني أن حبك قاتلي
وأنك مهما تأمري القلب يفعل؟
فيسأل أبو حيان نفسه: قلب من يا ترى الذي أراده الشاعر؟ أأراد قلبه هو، وأن ذلك القلب يفعل كل ما تأمره به الحبيبة؟ أم أراد قلبها هي، وإنها تملك زمام قلبها، فيأتمر بأمرها، إن شاءت أذنت له بأن ينبض للحبيب، وإن شاءت له أن يمسك أمسك؟ وأبو حيان يختار هذا المعنى الثاني، بل ويستهجن أن يؤخذ بالمعنى الأول؛ لأنه ما دام حبها قد قتل الحبيب كما ورد في الشطر الأول من البيت، فلم يعد هنالك إمكان أن يظل قلبه حيا يفعل ما تأمره الحبيبة بفعله، كما قد يفهم من الشطر الثاني.
فالشعر - إذن - كلمات تحت كلمات، وها هنا أوشكت أن أصحو من أسر الخواطر المتعاقبة، لولا أن سؤالا نشأ عندي هو: أهو الشعر وحده الذي يقال عنه إنه كلمات تحت كلمات؟ أليست الفلسفة هي الأخرى، في كثير جدا مما أورده أصحابها فيما قالوه أو كتبوه، كلمات تحت كلمات؟ وعدت من جديد إلى انسياب خواطري، أقفز من فيلسوف إلى فيلسوف باحثا عن الشواهد، كما يقفز العصفور المرح بين أفنان الشجر.
خذ أفلاطون نموذجا بارزا لفيلسوف عظيم، لا يجادل في ذلك مجادل، من داخل الأسرة الفلسفية أو من خارجها ، وراجع محاوراته - ومحاوراته هي مؤلفاته - وانظر فيم تبحث، تجدها تتناول أفكارا مما يتداوله عامة الناس في حياتهم اليومية، كلهم يتداولونها وهم على غير وعي بما تتضمنه تلك الأفكار من تفصيل. وإذن فالفيلسوف هنا بمثابة من يكشف عما يستتر وراء كلماتهم من كلمات، وهل رأيت بين عامة الناس من لا يتحدث عن الحب، والجمال، والصداقة، والعدالة، والفضيلة والشجاعة؟ وتلك وأمثالها هي الموضوعات التي يتناولها أفلاطون في محاوراته ليسبر أغوارها، ويتحسس أبعادها، فهو يحاور على لسان سقراط عن الحب في المأدبة، وعن الجمال في هبياس، وعن الصداقة في ليسيز، وعن العدالة في الجمهورية والقبيادس، وعن الفضيلة في خرميدس، وعن الشجاعة في لاحيس وهكذا. واختياره لأسلوب الحوار في البحث عن حقائق تلك الأفكار وأمثالها، هو في حد ذاته دليل على أنها تحتمل الاختلاف في وجهات النظر، فما يراه فيها هذا المفكر، قد يرى فيها شيئا غيره مفكر آخر، أي إن المتحدثين عن المعاني التي من هذا القبيل إنما يضمرون حقائق لها، وأبعادا هي التي يكشفها الفيلسوف - من وجهة نظره على الأقل - فيكشف بذلك ثقافة معاصريه عند جذورها.
وأترك أفلاطون ممثلا للفلسفة في عصرها القديم، لأقفز نحو خمسة وعشرين قرنا من الزمان، فأقف عند واحد ممن يمثلون الفلسفة في عصرنا، وليكن برتراند رسل، فأجد الصورة قد ازدادت وضوحا بأن العمل الفلسفي في كثير من حالاته إنما هو كشف لكلمات قد اختبأت تحت كلمات، أي عن أفكار قد استترت في جوف أفكار؛ فمن أشهر الأمثلة على طريقة التحليل عند برتراند رسل، تحليله لهذه العبارة «مؤلف رواية ويفرلي هو اسكوت»، وهو التحليل الذي قيل عنه إنه النموذج الدال على اتجاه الفلسفة المعاصرة في تصورها لعلمها كيف يكون، ولماذا اختار رسل عبارة كهذه لا يبدو على مفرداتها ولا على تركيبها شيء من العسر الذي يتطلب التحليل؟ إنه فعل ذلك؛ لأن ما يستهدفه هو بيان ما تنطوي عليه أية عبارة تشير إلى مسماها عن طريق صفاته، فها هنا في عبارة «مؤلف رواية ويفرلي» مركب وصفي يراد به الإشارة إلى شخص بعينه، فيحللها الفيلسوف لتكون مثالا لكل عبارة وصفية أخرى، وليس هنا مكان التفصيلات في تلك القطعة التحليلية النموذجية، فالذي يعنينا في سياق هذا الحديث الآن هو أن نذكر كم أخرج رسل من هذه الجملة البسيطة مضمرات لا تخطر لنا على بال لا عند الوهلة الأولى ولا الوهلة العاشرة. وإذن فهنالك كلمات كثيرة جدا قد اختفت وراء هذه الكلمات، ولم يرفع عنها القناع إلا فيلسوف في مثل قامة برتراند رسل في براعة التحليل.
عند هذا المنعطف من خواطري المنسابة - وما زلت على جلستي المسترخية في جوف الحوت الطائر بنا عبر المحيط - أوشكت على الوثوب من ميدان الفلسفة إلى ميدان آخر، لعله أوضحها دلالة على طبيعة الإنسان كيف تطوي كلمات تحت كلمات، وأعني ميدان التحليل النفسي، وكدت عندئذ أنطق بصوت مسموع: وماذا تقول في فلتات اللسان وقدرتها على فضح المستور في صدر من أفلتت منه خلال الحديث؟ لكن رفيقي في تلك اللحظة ذاتها أخرجني من دنياي الباطنية، بسؤال ألقاه في أذني:
قال: أراك تحدق بعينيك في لا شيء، فأين سرحت بك الأفكار؟
قلت: في الكلمات التي تكمن تحت كلمات.
قال: ما تعني؟
قلت: أعني شيئا كالذي قرأته ذات يوم من زمن بعيد، لكاتب إنجليزي، يروي عن خادمة له في مسكنه في الريف، فيقول إنها كانت تراسل رجلا مجهولا لها، سمعت عنوانه مما تذيعه نوادي هواة التراسل، ولبثت تبادله خطابا بخطاب مدة طويلة، وفاجأت مخدومها ذات صباح بأنها تريد السفر إلى لندن لتقضي يومين؛ إذ جاءتها دعوة ممن يراسلها ليلتقيا هناك، وقدمت للكاتب ذلك الخطاب الذي حمل لها الدعوة، فقرأه الكاتب، وقطب جبينه عند موضع منه، ثم سأل وكأنه يوجه السؤال إلى نفسه: لماذا أقحم هذه الكلمة إقحاما هنا؟ فقالت الخادمة: أية كلمة يا سيدي؟ أجابها: قوله عن نفسه «أنا مسيحي»، فماذا دعاه إلى ذكر ذلك؟ سألته الخادمة في شيء من الدهشة؟ وماذا لو قالها؟ أجابها الكاتب: أنا لا أقولها عن نفسي في خطاب ويقيني أنك كذلك لا تقولينها. قالت: لست أرى في ذكرها بأسا، فأجابها: بل فيها البأس كل البأس؛ لأنها كلمة زائدة واحذري يا ابنتي من أمثال هذه الكلمات التي تشعرين أنها جاءت مقحمة في السياق بغير داع؛ لأنها تنبئ بأن تحتها كلمات حذفت عن عمد، لكن الفتاة ألحت في طلب الإذن بالسفر، وسافرت إلى لندن، وكان مراسلها قد حدد لها مكان وقوفه انتظارا لقدومها تحت الساعة في محطة بادنجتن، وستكون في عروة سترته وردة حمراء، وذهبت الفتاة إلى المكان المحدد في الموعد المحدد، فلما أن أصبح الرجل ذو الوردة الحمراء، الواقف تحت الساعة، في مرأى بصرها، وجدته أبعد ما يكون إنسانا عما كانت قد تصورت، لونا وعمرا وصورة وجه، فلم تكمل طريقها إليه، وعادت إلى مخدومها في الريف، وما إن التقت عيناهما حتى قالت في لعثمة الخجل: نعم يا سيدي كانت الكلمة التي في خطابه تخفي تحتها كلمات.
أبراج بلا نوافذ
إذا كانت الذاكرة أمينة فيما تمدني به من قراءات الماضي البعيد، فأذكر أنني قرأت لحافظ إبراهيم - وربما كان ذلك في كتابه «ليالي سطيح» - قوله عن المصري: «المصري والمصري كشعبتي المقراض، لا تلتقيان على شيء إلا افترقتا.» ولم أكن حين قرأت ذلك فيما أذكر قد جاوزت الخامسة عشرة من عمري، وأعجبتني العبارة بإيقاع لفظها، وصدقتها، ومن ذا الذي في مثل تلك السن المراهقة، كان في وسعه أن يتشكك في أي شيء مطبوع في كتاب؟ لا سيما إذا كان مؤلف الكتاب تحيط به هالات من النور، وإذا كان ذلك المراهق القارئ قد نشأ نشأة تخيفه من أصحاب السلطان، كائنا ما كان نوع السلطة التي يتسلطون بها على الناس، ومنها سلطان الشهرة لمن كانت أسماؤهم تملأ القلوب والأسماع.
قرأت تلك العبارة، وأعجبتني، فصدقتها، ثم ذهبت من الحياة أعوام وجاءت أعوام، وأراد لي الله خيرا؛ إذ هيأ لي ظروفا أرهفت عندي حاسة النقد، فأصبحت حاسة قادرة على النظر إلى الأمور من شتى جوانبها، وعندئذ عادت إلى ذاكرتي تلك العبارة القديمة، محمولة مع غيرها في تيار الذكريات، وفجأة وقفت عندها: أحقا يكون المصري مع المصري الآخر، كشعبتي المقراض، لا تكادان تتلاقيان تحت ضغطة الأصابع، حتى يعودا ليفترقا من جديد؟ كلا، كلا لقد أخطأ صاحب هذا القول من وجهين: أولهما هو أن الصورة التي اختارها ليدل بها على امتناع روح التعاون بين أبناء مصر، إنما هي صورة تدل على عكس ما أراد؛ وذلك لأن شعبتي المقراض حين تفترقان بعد إذ تلاقتا، تكونان قد فرغتا من أداء ما تلاقتا لأدائه، أي أن التعاون بينهما يكون قد تم وأنجز ما أريد له أن ينجزه. وأما الوجه الثاني لخطأ ذلك القول، فهو أهم وأخطر؛ لأنه زعم يكذبه تاريخ مصر، منذ أول خطوة له على الطريق وإلى عدة قرون توالت بعد ذلك على امتداد الزمن، وتكفيك نظرة سريعة إلى منجزات الحضارة المصرية، لترى أن كثيرا جدا من تلك المنجزات هو من ذوات الجسامة والضخامة مما يستحيل على فرد واحد، أو عدد قليل من الأفراد، أن يؤديه بل لا بد له من جماعات كبيرة تتعاون على إنجازه كالأهرامات والمسلات وأعمدة الهياكل، وإقامة الجسور أيام الفيضان وغير ذلك، فكيف جاز لمصر أن تصنع كل هذا، إذا كان المصري بطبيعته لا يتعاون مع زميله المصري على إنتاج مشترك؟
ولم يكن ذلك التعاون - كما يبدو في منتجاتهم الضخمة المتروكة لنا - مقصورا على عصور الحضارة الفرعونية من تاريخنا، بل نراه ظاهرا كذلك فيما تركته العصور التالية، فحتى المصنوعات الخشبية أو النحاسية أو غيرهما، هي في معظمها مما كان يستحيل إنجازه بغير تعاون وثيق بين العاملين. ولقد حدثني خبير في الفنون - إبداعا، ونقدا، وتاريخا - عن مزاج موروث عند الفنان المصري، منذ عهود أسلافه القدماء، في أن يستخدم الوحدات الضخمة في عمله كلما أمكن ذلك، وأذكر أنه في حديثه ذاك، قد ساق شاهدا جامع السلطان حسن بالقاهرة، قائلا: إن أحجاره في ضخامتها، تعيد إلى الذاكرة أحجار الأهرامات، فالمبدأ واحد في الحالتين، ولا ينفيه أن تكون أحجار الأهرامات أكبر حجما من أحجار المسجد المذكور.
فكرة التعاون بين المصري والمصري، هي - إذن - فكرة أصيلة في ثقافته ، التي نشأ عليها ودامت معه قرونا، حتى لقد تبلغ بنا أحيانا حد الإسراف، بحيث تنطمس معالم الفرد المستقل بشخصيته المتميزة مما قد يعاب علينا، بل وقد نعيبه نحن على أنفسنا حين نراه قد جاوز الحدود، فأخفى غير العامل في زحمة العاملين.
وربما كان المصري - بانصهاره في مجتمعه - قد شذ عما كان سائدا في شعوب أخرى، حيث كانت الفردية المستقلة بذاتها عن سائر الناس، هي الصورة المثلى، قبل أن يجيء عصرنا هذا الذي نعيش فيه، فتجيء معه صورة أخرى، لا نرى في الفرد الواحد من أفراد الناس، إلا محورا لعلاقات متشابكة تربطه بغيره من الأحياء والأشياء، وأصبحت تلك الفردية المستقلة وحدها، والتي لعبت بخيال السابقين، ضربا من ضروب المحال.
نعم، كان المصري لا يعرف الحياة إلا تعاونا مع آخرين، من أبناء أسرته، وقريته، وأمته، حينما كان الإنسان في شعوب أخرى، على وهم بأنه يستطيع أن يستقل بذاته معزولا عن سائر الأفراد، وكأنه جزيرة قائمة وحدها، يفصلها الماء عما سواها من جميع أقطارها وهو وهم تراه منعكسا في تصورات الفلاسفة والأدباء على تعاقب العصور «قبل عصرنا» وفي مختلف الشعوب، بل وكان من هؤلاء من هو عربي في بلد غير مصر.
ونسوق أمثلة على ذلك، بادئين بفيلسوف عربي، هو ابن طفيل، في قصته الفلسفية «حي بن يقظان» التي أراد أن يبين بها، كيف أن الإنسان لو ترك وحيدا في جزيرة لا يسكنها بشر سواه، وليس فيها معه إلا الطبيعة بنباتها وحيوانها، لاستطاع بقدراته العقلية الخالصة أن يدرك وجود الله سبحانه وتعالى، وأن يستدل الحقائق الأساسية التي تتكون منها العقيدة الدينية، مريدا بهذا أن يقول إن الديانة وإن تكن قد نزلت وحيا على النبي عليه الصلاة والسلام، فهي قائمة على أسس عقلية، وفي مستطاع الفرد المستقل بعقله إدراكها. وأما أحداث هذه القصة التي أراد بها ابن طفيل إظهار هذه الحقيقة، فخلاصتها أنه ألقي بطفل فور ولادته، في جزيرة لا يسكنها إنس، فتولت إرضاعه ظبية، وكبر الطفل حتى بلغ النضج الذي أتاح لقدراته العقلية أن تتفاعل مع الظواهر والحوادث التي تجري من حوله، فاستطاع بذلك النشاط الذهني وحده، أن يدرك كل ما يراد للمؤمن أن يدركه.
ولما كان الشبه شديدا بين عزلة «حي بن يقظان» في جزيرته، وعزلة «روبنسن كروزو» في جزيرته أيضا (في القصة المشهورة للكاتب الإنجليزي دانيال ديفو) فقد ذهب كثيرون منا إلى أن قصة روبنسن كروزو مستوحاة من قصة «حي بن يقظان» التي سبقت شبيهتها الإنجليزية بسبعة قرون، لكن واقعة تاريخية ثابتة، هي التي حركت خيال الكاتب الإنجليزي، خلاصتها أن رجلا حقيقيا، اسمه «إسكندر سيلكيرك» اسكتلندي المولد والنشأة، كان يشتغل بحارا على سفينة تحطمت بالقرب من جزيرة عند أقصى الطرف الجنوبي من أمريكا الجنوبية، وكتبت له النجاة دون سائر زملائه، فحمله الموج إلى تلك الجزيرة النائية الخالية إلا من النبات والحيوان، فعاش بها وحيدا عدة أعوام، انتقل بها من شباب إلى كهولة، حتى شاء له الله أن تمر سفينة عابرة، فأخذته وعادت به إلى وطنه. ومن الطريف أنه لم يصبر على العيش هناك إلا بضع سنين، وعاد إلى البحر، ومات وهو على السفينة التي يعمل بها، وكان ذلك بالقرب من الشاطئ الغربي لأفريقيا، وما إن شاعت أخباره عند عودته إلى بريطانيا، حتى باتت قصته موضوعا للحديث في كل مكان، ثم كان أن أوحت تلك الحادثة إلى «دانيال ديفو» برواية «روبنسن كروزو»، ومع ذلك كله فيظل احتمالا نظريا جائز الحدوث، وهو أن يكون «ديفو» قد سمع بقصة «حي بن يقظان».
ونعود بعد هذا الاستطراد إلى موضوعنا، فنسوق نموذجا ثالثا مما كتبه الفلاسفة والأدباء فيما مضى، تصويرا للفردية المستقلة بكيانها عن كل ما عداها، وليكن مثلنا هذه المرة هو «ديكارت» الذي نعرفه جميعا بقولته المشهورة «أنا أفكر، إذن أنا موجود.» فتأمل جيدا ما ينطوي عليه هذا المبدأ، فديكارت إذ أراد أن يقيم علمه على أساس يقيني لا يحتمل الشك افترض بادئ ذي بدء، أن كل ما عنده من معرفة مشكوك في صحته، لكن الذي لم يستطع أن يشك فيه، هو تلك الفاعلية، الفكرية الباطنية ، أليس هو في حالة من الشك في معرفته المحصلة سابقا، لكن ذلك الشك نفسه حالة باطنية يستطيع رؤيتها في نفسه رؤية مباشرة، وتلك الحالة الباطنية الشاكة هي في ذاتها تفكير، وعلى هذا الأساس أيقن بحقيقة وجوده من حيث هو كائن يفكر. ومعنى ذلك أنه حتى ولو لم يكن في الكون كله كائن آخر، فيظل هو موجودا وحيدا. ولم يكن عسيرا على فلاسفة عصرنا أن يكشفوا عن موضع الخطأ، إذ يكفي أن نسأل فيم كان يفكر ديكارت حين قال: «أنا أفكر»؟ ليتضح أنه لا بد أن يكون هنالك شيء ما يتعلق به ذلك التفكير، أي إنه محال عليه أن يكون وحيدا ويفكر، لكن الذي أعان فلاسفة عصرنا على إدراكهم هو أنهم يعيشون في عصر آخر، تحولت فيه الفردية إلى شبكة من علاقات وأصبحت «الأنا» غير ممكنة بغير «الأنت».
ونسوق نموذجا رابعا وأخيرا، للفردية المطلقة كما انعكست فيما كتبه فلاسفة الماضي وأدباؤه، والنموذج هذه المرة هو للفيلسوف «ليبنز» - من المدرسة الديكارتية - ولعله يقدم ذلك التصور للفردية المطلقة في أوضح مثال لها، إذ جعل الفرد من الناس «وكل كائن حي» كيانا مغلقا على نفسه، كأنه برج موصد الجدران لا نافذة فيه لتصل ما بداخله مع الخارج المحيط به، فالفرد الواحد إنما يولد وفي فطرته التي ولد بها انطوت جميع الحالات والأحداث التي ستظل تتوالى على فترة من الزمن، فتتكون من توالي ظهورها سيرة ذلك الفرد من مولده إلى موته. ويمكن تشبيه ذلك بشريط السينما، وقد التف حول نفسه، طاويا معه صورا، إذا أتيح لها الظهور بدوران الشريط تكونت منها قصة كاملة. بعبارة أخرى فإن الإنسان إذ يعيش حياته بكل مراحلها وتفصيلاتها، فهو إنما ينشر ما قد انطوى في طبيعته، وإذا رأيت أن أفراد الناس يبدون وكأنهم يتفاعلون بعضهم مع بعض، فليس هو بالتفاعل الذي يتم بالتواصل والتعامل كما قد يبدو، أعني أنه ليس تفاعلا طارئا لحظة حدوثه، بل إن الله سبحانه وقد خلق لكل فرد سيرة حياته مستقلة عن سائر السير، دبر منذ الأزل كذلك، أن تجيء تلك السير المتزامنة متسقة بعضها مع بعض، كأنها تشبه - في تناسقها - مجموعة من ساعات ضبطها صانعها، ليتوافق سيرها معا في الدلالة على الزمن.
هكذا كان تصور الإنسان لنفسه «من الوجهة النظرية» فيما مضى، كما يشهد بذلك ما صوره كثيرون من رجال الفكر والأدب فيما كتبوه، ثم جاء عصرنا هذا بفكر جديد عن حقيقة الإنسان، مؤداه أن تفهم الفردية على صورة أخرى، فبدل أن ننظر إليها على أنها كيان مستقل بذاته ننظر إليها على أنها مجموعة علاقات، يرتبط بها «الفرد» مع سائر ما حوله، فأنت لا تعرف أحدا من الناس، إذا لم تعرف على أي نحو يتصل بآخرين.
ولم يكن المصري إبان تاريخه لينتظر حتى يجيء هذا العصر بجديده في أن حقيقة الإنسان كائنة في تعاونه مع غيره، لا في تفرده بالمعنى القديم للتفرد، إذ كان التعاون والتواصل في صميم جوهره منذ أول التاريخ، فإذا رأيناه اليوم وكأنه قد تنكر لحقيقته، وتملكته أنانية لا تبالي أن تطأ بأقدامها رءوس الآخرين وصولا إلى منافعها، أيقنا أنه عارض عابر؛ إذ لا يعقل أن يسير في اتجاه مضاد للعالم كله، في الصواب وفي الخطأ، فبينما كانت الصورة المثلى عند شعوب أخرى كثيرة هي تفرد الأنا، كان المصري يعيش متعاونا مع مواطنيه. ولما صحح العالم من تصوره لحقيقة الإنسان، يرتد المصري إلى الخطأ الذي كان.
لكن ماذا أقول، وقد جاءتني رسالة من صديق عزيز على نفسي أخذ يعرض لي فيها أمثلة مما يعانيه من الطريقة التي يريد بها الآخرون أن يفترسوه افتراسا، وأن يتجاهلوا حقوقه، كأنه قد بات في عينهم نهبا مباحا، ثم ختم رسالته بسؤال يريد له جوابا، هو: ماذا أصابنا في حياتنا فاستبدلنا بما كان بيننا من تعاطف وتعاون وتراحم، عدوانا وقسوة وافتئاتا على الحقوق؟
فكان أول خاطر ورد إلى ذهني هو صورة الأبراج المصمتة التي تخلو جدرانها من النوافذ، تصويرا للأفراد حين ينحصرون في ذواتهم، فلا يفتحون أعينهم ليروا أن في الدنيا سواهم، لكنني سرعان ما استدركت قائلا لنفسي: ألا إن تلك الصورة قد شاعت في أوهام الناس قبل هذا العصر، وفي أراض غير أرض مصر، وقد عدل عنها العالم؛ ليضع مكانها من الوجهة النظرية صورة أخرى كالتي أسلفنا ذكرها، اللهم لا، فإن كانت فئة منا قد انحرفت عن جادة الطريق، فمصيرها عودة إلى حقيقتها استمرارا لتاريخها.
حرية الذين يعلمون
أردت لنفسي شيئا، فساقتني الخواطر إلى شيء آخر، وذلك أني أردت أول الأمر، أن أتقصى ما كتبه الأقدمون عن الصداقة والصديق، فإذا بالطريق ينعطف بي - بعد خطوات قلائل - إلى فكرة «الحرية» وأبعادها، على أن تلك الانعطافة نفسها، إنما انبثقت تفريعا من موضوع الصداقة والصديق. ولكن لماذا قصدت - ابتداء - إلى الأقدمين، ألتمس عندهم بغيتي؟ كان ذلك مني لسبب بسيط، وعجيب، هو في حد ذاته جدير بالنظر، ألا وهو أن رجال الفكر المحدثين والمعاصرين - لأمر ما - لم يعنوا بتحليل الصداقة عناية القدماء، ولعلهم قد استبدلوا به موضوعا آخر، قريبا منه، وهو «الحب»، فبينما الصداقة - عادة - تكون بين فردين من جنس واحد، يكون الحب - عادة أيضا - بين الجنسين.
ولماذا حدث هذا التحول في الاتجاه؟ قد يكون ذلك نتيجة للتحول الذي طرأ على جوهر الحياة الأسرية وأساسها، فلم تكن العلاقة بين الرجل وزوجته قديما، كالعلاقة بينهما حديثا؛ إذ كانت تلك العلاقة قديما أقرب إلى شهوة الغريزة، منها إلى المودة بين الصديقين، وأما حديثا فقد أصبح المثل الأعلى المنشود بين الزوجين، هو أن يكونا كذلك صديقين؛ ومن هنا بحث الزوج - قديما - عن الصداقة خارج الأسرة، وأما في عصرنا فكثيرا ما يؤدي كل من الزوجين دور «الصداقة» للآخر.
على أية حال، فالأمر الواقع هو أني أردت قراءة شيء عن الصداقة والصديق عند الأقدمين، ورسمت خطتي على ثلاث مراحل: فأبدأ بشيء مما ورد عند أفلاطون في محاوراته، وفي محاورة «ليزيس» على وجه التحديد، ثم أنتقل منها إلى الفصلين الثامن والتاسع من كتاب «الأخلاق» لأرسطو (وهو بين ما نقله إلى العربية أحمد لطفي السيد) فذانك الفصلان معقودان لموضوع الصداقة، وأختم سيري بالفيلسوف العربي ابن حزم في كتابه «طوق الحمامة». ورأيت أن هذا القدر يكفيني، لكنني لم أكمل مراحل سيري كما رسمتها؛ لأن طريقي قد انعطف بي - كما أسلفت - إلى موضوع آخر ، هو فكرة «الحرية». وجاءتني تلك الانعطافة وأنا بين صفحات محاورة «ليزيس» التي بدأت بها، وبسبب ما ورد في تلك المحاورة أثناء تبادل الرأي بين المتحاورين.
السؤال الرئيسي الذي تطرحه محاورة «ليزيس» ليدور حوله النقاش، هو هذا: ما طبيعة ذلك الدافع القوي الخفي، الذي يجذب الصديق إلى صديقه؟
وإذا أمعن قارئ المحاورة النظر فيما يقرأ، لحظ جانبين، أرادهما أفلاطون معا، أولهما نفسي «سيكولوجي» أراد به أن يبين ما تؤديه الصداقة في إشباع الحاجات النفسية عند من ينشدها، وثانيهما أخلاقي يوضح فيه الأساس الحقيقي الذي تقام عليه العلاقة بين صديقين، فإذا هو نفسه الأساس الذي تقام به مبادئ الأخلاق.
وأما الجانب النفسي من الصداقة، فهو ما يشعر به الصديق من أن الخير الذي يصيب أحد الصديقين، هو للصديق الآخر. وإذن فهو بالصداقة يزداد اقترابا من المثل الأعلى للإنسان الكامل. ولعل أرسطو، فيما بعد، قد تأثر بهذا الجانب من محاورة «ليزيس»، وذلك حين كتب كتابه في الأخلاق، وجعل للصداقة الفصلين السابقين مباشرة على الفصل الأخير، الذي رصده للحديث عن الحياة المثلى، وهي الحياة التي يوجه فيها الإنسان تأملاته إلى الله، فيرى عندئذ كيف هانت المنافع الشخصية المادية العابرة، أمام ذلك الموقف الذي يدمج الإنسان دمجا في الصورة الإلهية في تأملاته، حتى لتسقط عنه كل عوارض العالم الفاني. ولقد كانت علاقة الصداقة في حياة ذلك الإنسان المتأمل، بمثابة التمهيد لذلك الموقف؛ إذ إن اندماج الصديق في صديقه اندماجا روحيا، هو في طبيعته قريب من اندماج المتأمل في الله «سبحانه وتعالى».
تلك - إذن - هي الناحية النفسية من «الصداقة» كما صورها الفيلسوف في محاورة «ليزيس»، وأما الناحية الأخلاقية منها، فلها شأن آخر، فها هو ذا «ليزيس» في صباه، يعلم أن والديه يرعيانه أتم رعاية، ويريدان له أن يسعد بحياته أكمل ما تكون السعادة، ولكن كيف تتوافر له السعادة المنشودة، إلا أن يكون سيد نفسه، يفعل ما يشاء، ويدع كما يشاء، فيكون هو صاحب الإرادة في تصريف حياته على النحو الذي يريد؟ ومع ذلك فوالداه اللذان يسعيان إلى إسعاده، هما اللذان يتدخلان في شئونه، فيأذنان له بهذا، ويمنعانه عن ذاك، فإذا أراد ركوب الجواد، ألزماه بأن يكون في رعاية سائس الجياد، وإذا جاءت ساعة الدرس، كان عليه أن يسلم أمره للمعلم، فالمعلم يوجه وعلى الصبي أن يطيع. وهكذا كان للوالدين في كل شأن من شئونه حق المنح وحق المنع، فأين هي السعادة التي يرجوانها له، وهو في كل موقف تابع لسواه؟ أي أنه ليس حرا في تصريفه لحياته.
ويدرك «ليزيس» هذه المفارقة، ويقول: لعل العلة كامنة في صغر سنه، وأنه حين يكبر ستطلق له حريته، لكن العلة في حقيقة الأمر لم تكن في عدد السنين التي عاشها؛ لأنها لو كانت كذلك، لشملت كل جوانب حياته، بيد أن هنالك من جوانب حياته ما تركت له الحرية الكاملة فيها، فهو حين يلهو بلعبه، وحين يطالع كتابه، وحين يكتب في كراسته ما يكتبه، لا يتدخل أحد ليحد من حريته، لماذا؟ ما هو الفارق - يا ترى - الذي يفصل موقفا تطلق له فيه حرية التصرف، عن موقف آخر يتدخل فيه آخرون ليلزموه بأشياء وليمنعوه عن أشياء؟
ولا يلبث الفكر عند هذا السؤال، أن يهتدي له إلى جواب، والجواب هو أن الفارق الفاصل بين الموقفين، هو «المعرفة» بدقائق المجال الذي يتعرض للتصرف في حدوده، فإذا كان القائم بفعل ما، ملما بمجال فعله، أطلقت له الحرية في أدائه، ولكن الناس يأخذهم القلق إذا ما رأوا مجالا قد ترك لغير العالمين بحقائقه ودقائقه، أن يكونوا أحرارا فيما يعملون، فمن ذا الذي يتدخل في عمل طبيب قادر عليم بالطب، إذا ما تولى معالجة مريض؟ وقل ذلك في كل عمل يتولاه من «يعرف» طبيعة المجال الذي يؤدى فيه ذلك العمل. فللذين «يعلمون» الحقيقة عن شيء ما، كل «الحرية» فيما يصنعون، أما الذين يتصدون لمعالجة شيء يجهلونه، فليس من حقهم أن تطلق لهم حرية التصرف، بل إن أصدق أصدقائهم ليأبون أن يروهم، وقد أمسكوا بزمام أمور يجهلونها، كأن يعالج المرضى غير الأطباء، وأن تكون الفتوى لغير الفقهاء فيما يفتون فيه. وهكذا تنتهي محاورة «ليزيس» بقارئها إلى نتيجة هامة، وهي أنه لكي يكون الناس سعداء وأحرارا في فعل ما يفعلونه، لا بد أن يتولى أمورهم في شتى الميادين، أولئك الذين يعلمون كل شيء عما يتصدون لأدائه.
فلما بلغت هذا الحد من المحاورة، تركتها، وانصرفت عما كنت قد رسمت الخطة لقراءته عن موضوع الصداقة والصديق، لأتفرغ لهذه الفكرة التي انبثقت من سياق الحوار، وهي فكرة «الحرية» متى، وبأي معنى من معانيها، تكون من حق الإنسان، ومتى لا تكون؟
لقد قيل إننا إذا أردنا الكشف عن الاهتمامات الحقيقية التي تشغل شعبا معينا من الشعوب، فما علينا إلا أن نراجع ما كتبه الكاتبون من أبناء ذلك الشعب، لنرى أي الأفكار يتردد أكثر من سواه، فيكون هو موضع الاهتمام الأول. وفي ظني أننا إذا رجعنا صحائف حياتنا الأدبية والفكرية منذ أواخر القرن الماضي حتى اليوم، لم نجد كلمة تنافس كلمة «الحرية» في ترددها على أقلام الكتاب، وألسنة الخطباء والمتحدثين. فالحرية - إذن - كانت هي قضيتنا الأولى، وقضيتنا الكبرى، لكن المتعقب لمسار هذه القضية في حياتنا، لا يتعذر عليه أن يرى كيف أخذت فكرة «الحرية» تزداد مع الأيام في تصورنا لها اتساعا وعمقا، فبدأت بأن يكون للمصريين حق الشورى في أمور بلدهم، ثم جاء المحتل البريطاني، فأصبحت الحرية السياسية، معنى التحرر من المستعمر الأجنبي، هي الشغل الشاغل لأصحاب الرأي وحملة القلم، إلى أن عبئت بها النفوس، فتفجرت بثورة 1919م، ثم لم نلبث أن أخذنا نسمع دعوة في أثر دعوة لضروب أخرى من الحرية، غير مجرد التحرر من المستعمر، كحرية الاقتصاد الوطني، وحرية المرأة، وحرية الفنان والأديب. وهكذا أخذ تيار الحريات يتصاعد قوة وتنوعا، إلى أن جاءت ثورة 1952م، ففتحت أبوابا واسعة لحريات أخرى اجتماعية، تحرر الفلاح من تسلط صاحب الأرض، وتحرر العامل من تحكم صاحب العمل.
لكن نظرة فاحصة مدققة في تلك الحريات بكل فروعها، كفيلة أن تكشف عن حقيقة لها خطرها، وهي أن أهدافنا من تلك الحريات، كادت تنحصر في الجانب السلبي وحده، بمعنى أن تكون المطالبة بالحرية مقصورة على «التحرر» من قيود تكبلنا في هذا الميدان أو ذاك، كالتحرر من الاحتلال البريطاني، وتحرر المرأة من طغيان الرجل، وتحرر العامل الزراعي من استبداد مالك الأرض، وتحرر العامل الصناعي من تحكم صاحب رأس المال، وتحرر كذا من كيت. بعبارة أخرى أوشكت كل جهودنا المبذولة طلبا للحرية، أن تنحصر في الأغلال وتحطيم القيود، وهو أمر واجب ومطلوب.
لكن الأغلال كلها إذا فكت، والقيود جميعها إذا حطمت، يبقى بعد ذلك أهم جانب من جوانب الحرية، وهو الجانب الإيجابي، الذي يتصل بقدرة الإنسان على أداء عمل معين؛ إذ ترتبط تلك القدرة ارتباطا وثيقا بمقدار ما عند العامل من «معرفة» بما يريد أن يؤديه.
لقد رأينا في المحاورة الأفلاطونية التي قدمنا خلاصة لها، أن الفتى «ليزيس» لم تطلق له الحرية في ركوب جواده إلا في حدود ما يشير به سائس الجياد. وتتم المفارقة هنا، حين نعلم أن ذلك السائس كان «عبدا» - يملكه والد الفتى بين من يملك وما يملك - فمن هو «عبد» من الناحية الاجتماعية والشرعية، كان هو نفسه «حرا» فيما يخص الجياد وساستها، كما أن من كان «حرا» من الناحية الاجتماعية والشرعية في ذلك الموقف نفسه - وأعني الفتى «ليزيس» - كان في منزلة العبد الذي لا حول له ولا قوة ولا رأي، فيما يختص بالجياد وطرائق استخدامها. وبهذه المفارقة تبرز أمام أعيننا الفوارق التي تميز حرية العمل التي هي من حق العارف بأسرار المجال الذي يتم فيه ذلك العمل، عن ضروب أخرى من الحريات يكون مدارها مجرد التحرر من أغلال وقيود تميزها.
ولست أظن أن التحرر من الأغلال والقيود، في مستطاعه وحده أن يذهب بالمتحرر منها شوطا بعيدا؛ لأنه في حقيقته لا يزيد على أن يفتح باب السجن لينطلق السجين «حرا» بالمعنى السلبي للحرية، أي أنه لم يعد مغلول الحركة مقيد الخطى. ولكن ماذا بعد ذلك، ماذا «يصنع» ليحيا؟ ها هنا تبدأ الحرية بمعناها الإيجابي، الذي لا بد فيه من «قدرة» الإنسان على أداء عمل ما، ولا قدرة في أي ميدان إلا لمن عرف حقيقة ذلك الميدان وما يتعلق به.
قارن طفلا أمامه ورقة وفي يده قلم، ظفر بهما بعد بكاء عنيد، قارنه بفنان أمامه لوحة وألوان وفي يده الفرشاة، فالطفل «حر» في أن يخط بالقلم ما شاء أن يخطه على الورقة، والفنان «حر» في إقامة بنائه اللوني على اللوحة، لكن ما أبعد الفرق بين حرية وحرية! لقد أزيلت الموانع التي كانت تحول دون حصول الطفل على ورقة وقلم، فلما بلغ مراده وكان حرا، انطلقت تلك الحرية المجنونة «تشخبط» الخطوط على الورقة بلا هدف، وأما الفنان العارف بأسرار فنه، فقد استطاع بحريته «المقيدة» بقواعد الفن وأصوله، أن يبدع ما قد يضاف إلى كنوز الجمال.
وتسأل الآية الكريمة:
هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون
والجواب الذي تمليه البديهة أنهما لا يستويان، على أن من أراد أن يفصل القول في الفوارق بين الجماعتين، ينبغي له أن يذكر بين تلك الفوارق، أن حق الحرية بمعناها الإيجابي المنتج، مقصور على أولئك الذين يعلمون، أو هكذا تقضي الحكمة بأن يكون.
بل من هنالك نبدأ
كان الكاتب الإسلامي التقي النقي، الصادق مع نفسه ومع الناس، المرهف الحس، اليقظان الضمير، الأستاذ خالد محمد خالد، قد أصدر كتابه المعروف «من هنا نبدأ» (1950م) فجاء علامة أخيرة على الطريقة المؤدية إلى ثورة يوليو 1952م. ونستطيع أن نضيف إليه استكمالا لموقف واحد، كتابه الثاني قبل الثورة «مواطنون لا رعايا» فكانت نقطة البدء كما رآها الكاتب، هي - قبل أي شيء آخر - أن يرتفع في حياتنا العامة لواء الحرية والعدالة، ليشعر كل مواطن بأنه ابن لهذا الوطن، وليس «رعية» لذي سلطان.
ومضت بعد ذلك عشر سنوات أو أكثر قليلا، وانعقدت «اللجنة التحضيرية» التي كان من شأنها أن تمهد للمؤتمر القومي الذي أصدر «ميثاق العمل الوطني». وكان من أهم الجوانب في ذلك التمهيد، أن تنظر «اللجنة التحضيرية» في تحديد الجماعات التي منها تتألف قوى الشعب العاملة، وذلك يقتضي تحديد الفئات التي يجب عزلها وحرمانها من الحقوق السياسية. ومعظم هؤلاء - بالطبع - من قادة العمل السياسي قبل الثورة، وممن ملكوا الضياع الواسعة والأموال الطائلة. وكان خالد محمد خالد عضوا في اللجنة التحضيرية، وكنت.
ولم تكد اللجنة تبدأ جلستها الأولى، وتطرح مسألة «العزل السياسي»، حتى نهض خالد محمد خالد ليرفع صوته جهيرا بأنه لا عقاب ولا عتاب على من كانت حياته قد جرت وفق القوانين القائمة إذ ذاك؛ إذ كيف يحاسب صاحب أرض أو مال، جمع ثراءه في إطار قانون قائم؟
فلما عقدت اللجنة التحضيرية جلستها الثانية في اليوم التالي، حضر اجتماعها الزعيم جمال عبد الناصر، وفتح باب الحوار مع خالد محمد خالد فيما كان خالد قد أثاره في الجلسة الأولى عن فكرة العزل السياسي ومدى مشروعيتها. ولم يكن خافيا على أحد من الحاضرين، ما انطوى عليه الحوار من تقدير عبد الناصر لخالد، تقديرا لم يكن ليتعارض مع رفضه لفكرته بالنسبة لمن كان يطلب حرمانهم من حقوق سائر المواطنين.
ثم جاءت الجلسة الثالثة في اليوم الثالث، فرأى كل ذي بصر أن خالد محمد خالد يجلس وحده على صف طويل من المقاعد، فقد حرص جيران الأمس على البعد قليلا أو كثيرا، اتقاء للشبهات خشية أن يقال عنهم إنهم يشاركونه الرأي. ولم يطمئنهم كل ما أبداه عبد الناصر نحو خالد من تقدير وتكريم، فأبى على خالد حسه المرهف إلا أن يزيد المسافة بعدا بينه وبين هؤلاء عسى أن تطمئن قلوبهم بين ضلوعها. كل ذلك أذكره في وضوح، وكأنني أروي عما شهدته وسمعته صباح هذا النهار، وحتى إذا خانتني الذاكرة في تفصيلة هنا أو تفصيلة هناك - والذاكرة تخون - فالذي لا أشك فيه هو أنني عندئذ قد همست لنفسي قائلا: كلا، يا أستاذ خالد، فليس «من هنا نبدأ»، بل كان ينبغي أن تجعلها «من هنالك نبدأ». والذي قصدت إليه من هذه التفرقة، هو أننا قبل البدء بقيم الحرية والعدالة وما إليهما مما نطالب به من حقوق للإنسان، لا بد أولا أن نعد نفوس الناس إعدادا يهيئهم للإصرار على أن يكونوا أحرارا ومنصفين، إذ ماذا يجدي أن تقدم للناس حقوقهم الإنسانية جاهزة «معطرة مبخرة» (كما يقولون) إذا كانوا في أعماقهم لا يريدونها؟
وكأني أسمع بين القراء قراء تأخذهم الدهشة الغاضبة، فيصيحون: ما هذا الذي يقوله كاتب المقال؟ هل رأيتم - يا خلق الله - بين الناس إنسانا لا يريد لنفسه حرية وعدالة؟ لكن هؤلاء القراء الذين أخذتهم الدهشة الغاضبة المغيظة، لا يفرقون بين معان يرددها الإنسان بلسانه مع من يرددونها، ومعان أخرى يؤمن بها ذلك الإنسان؛ لأنها انبثقت من صميم فؤاده. ففي الحالة الأولى قد يهتف بحياة الحرية والعدالة هتافا تنشق له الحنجرة، حتى إذا ما لاحت في الأفق نذر الخطر لاذ بالفرار، وأما في الحالة الثانية فهو هو الذي يحيا فتحيا بحياته الحرية والعدالة؛ لأنهما يجريان في عروقه مع الدماء، وإذا ما تجهمت له سحائب الخطر، تصدى لها ليقشعها من سمائه، أو أن يلفظ الروح دون مسعاه.
ليس حقوق الإنسان مجرد قائمة بأسماء، وعلينا حفظها كما يحفظ التلميذ «محفوظاته» عن ظهر قلب، حتى وإن لم يفهم لها معنى، وإنما هي أسلوب حياة وطريقة عيش. فإما أن نراها مجسدة في التعامل الحي مع الناس، وإما هي لا تعدو أن تكون أشباحا صوتية لا ينفخ فيها الروح أن تنشق لها الحناجر بالهتاف. ولقد جاء في حديث شريف أن الدين المعاملة (أو كما قال)، ومعناه أن القيم العليا قد خلقت لتكون أسسا تقام عليها الحياة الفعلية التي يحياها الناس في البيت والدكان والمصنع وديوان الحكومة، ولم تخلق لتكون زخارف نعلقها على الجدران، أو نقوشا نزركش بها صفحات الكتب والمعاجم، فإذا قلنا «حرية» فقد وضعنا خريطة للطريقة العملية التي يسلك بها الناس بعضهم تجاه بعض، فيكون لكل منهم الحق - أستغفر الله - بل يكون على كل منهم الواجب المحتوم في أن يعبر عن نفسه، فيفصح عن فكره في وجه الدنيا بأسرها، شجاعا كريما واثقا بنفسه في غير غرور، دون أن يغضب منا أحد لما يقوله ذلك الإنسان الحر تعبيرا عن ذات نفسه بالقول أو بالسلوك. وإذا قلنا «عدالة» فكأننا - هنا أيضا - قد وضعنا خطة سلوكية لأبناء المجتمع كيف يتفاعلون دون أن يطغى منهم أحد على أحد، وتفصيلات تلك الخطة تضعها القوانين والتقاليد والعرف بين الناس.
لا، لا تصدق إنسانا يدعي لك أنه مؤمن بحق «الحرية» لنفسه وللناس، ثم تنظر إليه في سلوكه الفعلي، فإذا هو يبتلع في جوفه كل من عداه لكي لا يبقى حيا على ظهر الأرض أحد سواه، فهو في سعيه كالتنين الجبار الذي تحكي عنه الأساطير بأنه لا يحيا «مع» الآخرين، بل يحيا «بالآخرين» طعاما. وبالله لا تقل: لكن ذلك أقوال في الأساطير لا تعرفها حياتنا التي نحياها معا في تعاون ووئام، فانظر حولك متأنيا، وستجد المتحدث الذي لا يريد لأحد أن يتحدث سواه، وستجد التاجر الذي لا يريد لأحد أن يطعم وينعم سواه، وستجد صنوفا أخرى من البشر، يخيل للواحد منهم أن الله سبحانه وتعالى لم يخلق بشرا آخر ما عداه. لا، لا تصدق إنسانا يملأ شدقيه بلفظ «العدالة» يطالب بها لنفسه وللناس، ثم تنظر إلى سلوكه، فترى العدالة التي يعنيها عجبا من عجب؛ إذ هي عنده خطف الغنائم لنفسه ولأبنائه دون سائر الناس، ولا يضيره في سبيل مآربه أن يدوس على رقاب الآخرين إذا رآهم عقبات على الطريق. وهل هو من القليل النادر في حياتنا أن نقول في العلن كلاما ليسمعه الناس، حتى إذا ما أوينا إلى ديارنا بحنا لخلصائنا بكلام آخر؟ هل هو من القليل النادر في حياتنا أن نحرم زيدا من حقه لنعطيه لعمرو، ذلك إذا كان زيد خافت الصوت، وكان عمرو من السلاطين وأبناء السلاطين، وقد يذهب عن هؤلاء سلطانهم غدا، فعندئذ فقط تسمع من زيد المغلوب على أمره شكواه.
ما جدوى أن نبدأ من «هنا» كما أراد خالد محمد خالد بكتابه المعروف، أي أن نبدأ بالدعوة إلى الحرية والعدالة، إذا لم تكن نفوسنا قد تهيأت حقا لأن نجعل من الحرية والعدالة دستورا لحياتنا العملية كما نحياها؟ أليس الأجدى أن نبدأ من «هنالك»؟ أي أن نبدأ من نقطة تقع فيما قبل الحرية والعدالة؟ وأعني بها «إرادة» الحرية و«إرادة» العدالة، وإرادة غيرهما من القيم الرفيعة التي نستهدف إقامتها في حياتنا. وإذا لم نستطع تحقيق ذلك في جيلنا الراهن، فلنمد الأمل إلى جيل أبنائنا.
روى لي صديق حميم، يؤنسني بطلاوة حديثه كلما امتد بيننا حبل الحديث. ولقد عهدت فيه الصدق والإخلاص، روى لي عن حادثتين وقعتا له في حياته الفكرية منذ عهد ليس ببعيد، والحادثتان شبيهتان في طريقة البدء وطريقة النهاية، وإن كانتا مختلفتين في الموضوع، ففي كل منهما كان رئيس الدولة قد طرح على رجال الفكر والثقافة رأيا ما في موضوع ما، لكنه برغم إعلانه لرأيه الذي يراه، طالب أصحاب الرأي بأن يعرضوا ما عندهم، وفي كلتا الحالتين تقدم صديقي برأيه، في الحالة الأولى تقدم به إلى إحدى الصحف مكتوبا في مقال مشروح، وفي الحالة الثانية تقدم به إلى إحدى اللجان الرسمية منطوقا في معرض الحوار حول الموضوع الذي طلب فيه إبداء الآراء. وواعجباه كيف تشابهت النهاية في الحالتين! إذ كانت إجابة رئيس التحرير في الحالة الأولى، وإجابة رئيس اللجنة الرسمية في الحالة الثانية إجابة واحدة كأنها «منقوشة» على ختم من المطاط، وهي بألفاظها وحروفها كما يلي: عندما يعرض رئيس الدولة رأيا في موضوع معين، ويطلب من رجال الفكر آراءهم، فإنما يكون المطلوب هو أن يدلي رجال الفكر بوجهات نظرهم في طريقة التنفيذ، فماذا كان يصنع رئيس الدولة حرصا على الشورى، أكثر من أن يطلب الرأي من أصحاب الرأي في حرية ونزاهة؟ لكن ماذا يصنع قوم لا تصلح «الحرية» عندهم أن تكون نقطة ابتداء؛ إذ سبقتها في صدورهم قيود تغل الإرادة التي تريد الحرية، فيا ليتنا نواجه حقيقة الأمر الواقع بشجاعة، لكي نغيره من جذوره، لا من فروعه الظاهرة تاركين الجذور الدفينة تفعل تحت الأرض فعلها، وإذن فليس «من هنا نبدأ»، بل نبدأ من هنالك، من بعيد، من الأعماق، من دخائل النفوس ؛ لأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
إن حرص الإنسان على حياته - مجرد حياة - أمر واجب ومشروع، لكنه كذلك أمر يتقاسمه الحيوان مع الإنسان، حتى الحشرة الضئيلة خلقت ومعها الجهاز الفطري الذي تصون به تلك الحياة من الخطر. ولعلها كانت قصيدة من أروع ما قرأت في حياتي من قصائد الشعر، تلك القصيدة التي كتبها الشاعر الأمريكي «فروست» يصف فيها مناورته مع حشرة خضراء لا يزيد حجمها عن هباءة مما يكاد يخفى عن البصر، وذلك أن الشاعر وقد جلس إلى مكتبه، وأضاء مصباحه، ووضع أمامه ورقة ليسطر عليها ما أراد أن يسطره، رأى تلك «الهاموشة» قد نزلت على الطرف الأعلى من الورقة، وكان كلما حرك القلم في أسفل الورقة أحست الهاموشة في أعلاها بالحركة وفزعت، وإذا سكن القلم في يد الشاعر سكنت واطمأنت، وسبحان من خلق الحياة مزودة بما يصونها ويحميها.
لا، ليس حرص الإنسان على حياته عيبا يؤاخذ عليه، لكن يعلم أنه في «إرادة الحياة» - مجرد الحياة - ليس وحيدا ولا فريدا، بل يشاركه الحيوان كله والنبات كله. وأما الذي يتميز به الإنسان فهو أن يمتد بحرصه ذاك ليشمل الحياة في درجاتها العليا، التي هي حياة مقرونة بمجموعة من القيم التي جعلت من الإنسان إنسانا، وفي مقدمتها «الحرية» و«العدل». وانظر إلى الآية الكريمة التي تقول:
ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ...
انظر إلى كلمة «حياة» هنا وقد تجردت من أداة التعريف، لتعني مجرد حياة نكرة خلت مما يكرم به الإنسان، وها هنا يأتي الواجب الصعب الذي ينقض الظهر بحمله الثقيل، وهو أن يتصدى الإنسان للدفاع عن حياته «إنسانا» بكل تكاليفها، ولا يكتفي بمجرد «حياة» يحافظ فيها على قوته وقوت عياله مهما بهظ الثمن الذي يدفع من حريته وكرامته.
إنه إذا كانت مصر قد امتحنت لبضع سنوات بمن يستخف بالحرية والعدالة والعزة والكرامة «من أجل قبضة من فضة، أو شريط يلصق بسترته» (كما قال شاعر إنجليزي في القرن الماضي معاتبا شاعرا تعلق بأذيال العرش)، فليست هذه هي مصر؛ إذ المصري الأصيل، إذا تعرضت كرامته لما قد يهددها بالضياع، ثم ضاقت به سبل المقاومة، انطوى على نفسه، مكتفيا بأسرته وداره، معزيا نفسه بمبدأ وضعه لنفسه، وأجراه في مثال من أمثلته السائرة، التي يستعد بها لمواجهة المواقف الطارئة، والمبدأ في هذه الحالة متمثل في قوله: «من ترك داره قل مقداره.» فاعتزاله بين جدران بيته حماية له من هوان يتعرض له ولا يرضاه، وأنه في انطوائه ذاك ليدعو الله أن يكون العبث بحقوق الناس لا يعدو أن يكون عرضا من مرض وشيك الزوال.
وإنه لمرض كانت علته الأولى في بضعة الأعوام الأخيرة من حياتنا، هي - في ظني - أن نسبة ملحوظة من مواقع القيادة في مختلف الميادين، قد تركت لأصحاب القدرات المتوسطة أو المتواضعة، ممن لا يلمع لهم بريق إلا على ضوء مصابيح المناصب، فلا يكون أمامهم من بديل سوى التشبث بمواقعهم، مهما بلغ الثمن المدفوع من طغيان على حقوق الناس، وهي علة لا تلبث أن تزول إذا ما عولجت، وعلاجها يسير، يكمن في أن نعطي الخبز لخبازه، والجواد لفارسه، ولو فعلنا لعاد إلى المصري إيمانه بالحرية والعدالة، وعندئذ فقط يصح القول مع خالد محمد خالد «من هنا نبدأ».
أضداد تتزاحم!
كم من الماء جرى به النيل - يا ترى - منذ لمحت الصورة العجيبة التي تصورها أبو العلاء المعري عن صنوف البشر المتضادة، التي تتزاحم في لحد واحد، فصورها لنا في بيت من قصيدة لعلها أشهر ما نظم وأعظم ما نظم، وهي قصيدة - لحسن الحظ - يعرفها كل عربي ظفر من التعليم بنصيب، وهي القصيدة التي يستهلها بقوله:
غير مجد في ملتي واعتقادي
نوح باك ولا ترنم شاد
وبعد أبيات قليلة، ينبه فيها القارئ إلى ما قد يكون غافلا عنه، وهو أن أديم الأرض الذي نطؤه بأقدامنا أثناء سيرنا، إنما هو أجساد بشرية تحولت بعد موتها إلى تراب، أقول إنه بعد تنبيه القارئ إلى هذه الحقيقة المروعة، يورد البيت الذي أشرنا إليه:
رب لحد قد صار لحدا مرارا
ضاحك من تزاحم الأضداد
فالموقع الواحد من الأرض، على امتداد الزمن قرونا ذكر عشرات بعد عشرات، لا بد أن يدفن فيه إنسان بعد إنسان إلى ما شاء الله من عدد الأناسي الذين يدفنون في لحد واحد ، وأي أناسي هؤلاء؟ إنهم مختلفون صنوفا وأشكالا، فهذا تقي ورع عاش حياته عابدا متبتلا، جاء بعده شقي عربيد قضى عمره جموحا عاصيا، وثالث ورابع، عرفتهما الحياة عدوين لدودين، فإذا هما يلتقيان هنا فيرقدان جنبا إلى جنب، وهكذا وهكذا مع توالي السنين، فلا يجد اللحد إزاء هذه الأضداد البشرية التي كتب عليها أن تتجاور في تلك الحفرة الضيقة، تجاورا لصيقا لا يدع لأي منهم فرصة ليستريح، أقول إن اللحد الذي يشهد هذا كله، لا يجد مفرا من الضحك المتعجب الساخر.
ولما كانت عقول الجبابرة - مهما اختلفت مواطنهم وعصورهم - تتشابه، فكثير ما تتلاقى على فكرة واحدة أو صورة بعينها، فلقد وقعت على الصورة نفسها التي تخيلها شاعر العربية أبو العلاء المعري، لأضداد الناس يتنافرون أحياء، ثم يتلاقون أمواتا في لحد واحد، عند الروائي الروسي دستويفسكي في إحدى رسائله المجموعة وكل الفرق بين الأديبين هو أن أبا العلاء ضغط الصورة كلها في بيت واحد من شعره، وأما دستويفسكي فقد استرسل في تفصيلات الاعتراك بين الأضداد في قبرهم المشترك إذ أخذوا يتنابذون بالشتائم، ويتدافعون بعظام الأرجل والأيدي على أن صورة التضاد عندهما معا كانت مقصورة على الموتى.
لكن ضربا آخر من التضاد الباعث على الضحك السافر نراه عند شكسبير، وهو هذه المرة بين الأحياء والموتى، فإذا صادف الشاعر إنسانا فقيرا، يقضي حياته في كوخ متواضع، ثم يثقب له ثقب في جدار كوخه تهجم منه الرياح المثلوجة مدوية بصفيرها، فيعد لها صاحب الكوخ كرة من الطين يسد بها الجدار المثقوب، فهنا يلقي الشاعر بسؤاله: ألا تكون هذه الكرة من الطين التي حجبت عن صاحبنا المسكين هجمة الهواء ببرده وصفيره، جزءا من رفات ملك كان في زمانه صاحب عرش وصولجان؟
وإن هي إلا خطوة قصيرة تخطوها بعد تضاد الأموات والأموات، ثم تضاد الأحياء والأموات لتصل إلى ما يملأ علينا الأرض من تضاد بين أحياء وأحياء، وهو تضاد يتسع ليشمل العالم كله في عصرنا هذا، ثم يضيق ليشمل مصر فيما شمل، وأما أرجاء العالم فقد تكون مفتوحة الأعين على أضدادها، وأما نحن في مصر، فلا أظننا على بينة واضحة بما تشهده أرضها من تزاحم الأضداد، ولو تنبهت لكان الأرجح أن تعالج أمرها بما يعود بها إلى صورة الحياة المتناسقة المنغومة التي ألفتها فيما مضى من تاريخها.
فلننظر إلى العالم في عمومه أولا، ثم إلى مصر في خصوصها ثانيا، لعلنا ندرك سر هذا التضاد الذي تزاحم فملأ الأرض والسماء، فما من صحيفة يومية تقرؤها أو نشرة إخبارية تسمعها إلا وجدتها منبئة عن قنابل انفجرت فقتلت ودمرت وطائرات خطفت ومدافع أطلقت فهدمت وهشمت. والذي يزيد من أسى المأساة أن ذلك العنف الذي أصبح طابعا للعصر لا تقتصر أسبابه على اختلاف حول شئون الدنيا، بل إن تلك الأسباب لتمتد، حتى يكون جزء كبير منها متصلا باختلاف الناس في الدين: فالمسيحي الكاثوليكي والمسيحي البروتستانتي، كما هي الحال في أيرلنده والمسلم الشيعي والمسلم السني، كما حدث في إيران وفي سوريا واليهودي من ناحية والمسلم والمسيحي معا في ناحية أخرى كما هي الحال بين إسرائيل والعرب؟ فماذا وراء هذه الشحناء التي أصبحت تثير غبار الكراهية في كل بقعة من بقاع الأرض لأسباب تنوعت أشكالها؟
إنه لئن كان القرن الماضي قد نعم باستقرار اجتماعي في معظم أنحاء العالم، فقد كان هو نفسه القرن الذي أفرز مجموعة من الأفكار الكبرى، التي أسلمها إلى القرن العشرين ليتولى نشرها وهضمها وتطبيقها، وهي أفكار قلبت الصورة العلمية والثقافية رأسا على عقب وباطنا لظاهر، وكان من غير الطبيعي أن تظهر تلك الأفكار، وتختفي لا تترك أثرها في حياة الناس. والحق، إنها لظاهرة تلفت النظر في تاريخ الحياة العقلية، وأعني أن يلد القرن الماضي: هيجل، وماركس، ودارون، ونيتشه، وشوبنهاور، وفرويد، وأينشتين ليضيفوا إلى الدنيا ثمارا فكرية هي من أغنى ما شهدته في تاريخها من ثمار. فمن هيجل كان التحول من النظرة السكونية الآلية تجاه الكون إلى النظرة الدينامية الحيوية، ومن ماركس جاء لفت الأنظار إلى وجوب التغير الجذري في علاقة العامل بناتج عمله، ومن دارون جاءت فكرة التطور التي من شأنها - على الأقل - أن تبين أن الحياة لا تجمد على صورة واحدة من الأزل إلى الأبد، ومن نيتشه وشوبنهاور (على المستوى الفلسفي) وفرويد (على المستوى السيكولوجي) جاءت اللفتة إلى طبيعة الإنسان على حقيقتها، وهي أنه كائن تسيره - إلى جانب المنطق العقلي - فطرة لا تسير وفق ذلك المنطق، ومن أينشتين تغيرت صورة العالم من حتمية إلى نسبية احتمالية، فتغيرت صورة العلم تبعا لذلك.
لكن القرن الماضي وقد أنجب هؤلاء الجهابذة جميعا لم يكتب له أن يكون هو العصر الذي يشهد نتائج تلك التحولات الفكرية على صعيد الحياة العملية، بل كان ذلك نصيب القرن العشرين، غير أن انتقال شحنة فكرية كهذه من المستوى النظري إلى أرض الواقع العلمي لا يتم بين يوم وليلة، بل ها هو ذا قد استنفد معظم أعوام القرن، ولم يصل بعد إلى غايته المستقرة الثابتة. ولم يخطئ قادة الفكر في العالم - عند أوائل هذا القرن - حين تنبئوا بأن المرحلة التاريخية التي كانت الدنيا يومئذ مقدمة عليها ستكون متميزة بضروب من الثورة لم تكن مألوفة من قبل؛ لأنها ثورات تشمل شرائح كبرى من البشر، متخطية الحدود الإقليمية الفاصلة بين الأقطار المختلفة، وذلك ما قد كان.
فأولا تحققت نبوءة «دي بوا» التي تنبأ بها أن القرن العشرين سيتميز بأنه عصر ثورة الشعوب الصفراء، الصين واليابان، لكن الثورة اللونية لم تقف عند حدود اللون الأصفر، بل تعدتها إلى سائر الشعوب الملونة كما يسمونها، وثانيا شهد العصر ما يصح تسميته بثورة الأيدي العاملة، فبعد أن كانت السيادة على تلك الأيدي لأصحاب الجباه العالية (وهو وصف لطبقة المثقفين) أصبح للأيدي العاملة مكانة إن لم تكن هي العليا فلا أقل من أنها مساوية لأصحاب الرءوس، سواء في ذلك رءوس الفكر أو رءوس المال. وثالثا شهدت هذه الفترة من التاريخ ثورة المرأة، فإذا لم تكن قد ظفرت بالمساواة المطلقة بالرجل، فهي توشك أن تكون، ولنا أن نضيف إلى تلك الثورات الشاملة ثورة الشباب في سبيل أن يكون لهم حق المشاركة بالرأي فيما يتصل بحياتهم وهكذا . وهكذا شملت ثورات هذا القرن جميع أهل الأرض فئات فئات، وتفرع عنها بالطبع ثورات إقليمية في بلدان العالم المختلفة كل يطالب بحقه السليب سياسيا كان أو غير سياسي.
في كل ثورة من تلك الثورات كان هنالك الثائر من جهة، والمثور عليه من جهة أخرى، فلا الثائر يريد أن يستسلم دون انتزاع حقوقه من غاصبها كاملة، ولا المثور عليه يريد أن يتنازل عما كان اغتصبه إلا مغلوبا على أمره، ومن هنا كان القتال والقتل والإرهاب، وسائر ضروب العنف التي لا ينقضي في حياتنا يوم واحد، إلا ويحدث شيء منها.
هكذا تتزاحم الأضداد في أرجاء الدنيا فليس في جنباتها ركن واحد خلا من الشحناء والضغينة بين فئة وأخرى. فماذا عن مصر؟ إنها جزء من الدنيا ومشكلاتها هي مشكلاتها. إذا كنا نتحدث عن المشكلات التي تناولت شرائح عريضة من البشر، فالمرأة عندنا طالبت بحقوقها، وظفرت منها بشيء، وبقي لها شيء، والأيدي العاملة أخذت مكانتها وكرامتها، والشباب يطالب بالمشاركة فينال جانبا وننازعه في جانب وهكذا.
لكني لا أريد أن أختم الصورة عن مصر عند هذا الحد الذي تشارك فيه بقية العالم الثائر، بل أريد أن أضيف عنها ضربا من الأضداد المتزاحمة قد لا يكون قائما في سائر أقطار الأرض بصورة متشابهة، وهو التضاد الذي أراه غريبا في حياتنا الثقافية، وكان ينبغي لتلك الحياة أن تتوحد تحت أهداف مشتركة وفي مناخ متجانس، ثم يكون الاختلاف فيها بين الأفراد اختلافا في الدرجة.
الأصل في الحياة الثقافية لشعب من الشعوب - بغض النظر عن تقدمه الحضاري أو تخلفه - هو وحدة الاتجاه، ومن هنا أمكن لمؤرخي الثقافات أن يميزوا الشعوب بعضها من بعض بما يميز كلا منها: فشعب تصطبغ ثقافته بصبغة روحانية، وآخر تصطبغ ثقافته بصبغة واقعية، أو علمية أو غير ذلك. ولقد كانت مصر قبل أن تواجه الحضارة الأوروبية متجانسة في مناخها الثقافي كذلك، فالمصريون شعب متدين عميق التدين بحكم تاريخه، ولذلك فهو شعب يصل هذه الدنيا بآخرة تجيء لتقيم موازين الحساب، وعلى هذا الأساس ترى المصري يتصرف في حياته آخذا في اعتباره ما هو كائن وما سوف يكون.
لكن الغرب واجهه بحضارة جديدة، وتسلل إلى ثقافته بخيوط من عنده أدخلها في نسيج ثقافته، وهنا حدث للمصريين تشتت ودب فيهم تباين، فأصبح بين المصري والمصري من الفوارق الثقافية ما يكاد يجعلهما من أمتين مختلفتين ومن عصرين متباعدين. فهنالك من المصريين من أتيحت له فرصة السفر إلى الغرب، حيث عاش وتعلم وربما تزوج أيضا، فعاد إلى مصر وكأنه من غير أهلها، وهنالك أيضا من المصريين من لم يغادر الكفر أو العزبة أو القرية التي يعيش فيها فلبث على حياة أسلافه لم يغير منها شيئا، وبين الطرفين درجات كألوان الطيف.
بل إن من نطلق عليهم اسم «جماعة المثقفين» تختلف في اتجاهات أفرادها اختلافات بعيدة المدى، حتى لتجد منهم من يعيش بكل ثقافته في الماضي، ومن يعيش بكل ثقافته في العصر الجديد. ولست هنا معنيا بالمفاضلة والنقد والاختيار، بل هي صورة أستعرضها وأعرضها، وهي أننا نعيش أضدادا متزاحمة يغار كل فريق من الفريق الآخر خشية أن يكون له السبق في خطف الأضواء. وحدث بالفعل أن تبدلت الأيدي على لواء السباق، فكان في أيدي أنصار الثقافة العصرية في النصف الأول من هذا القرن، ثم انتزعته أيدي الفريق المؤيد لفكرة العودة إلى الماضي خلال الفترة التي انقضت من النصف الثاني وبيان ذلك تفصيلا، شرحه يطول. ومن حقه وقفة أخرى تتناوله في روية وعلى مهل.
طالبة وطالب
عشت حياتي معلما بالمهنة، ولقد جاءت تلك المهنة متفقة مع طبيعتي، لا مضادة لها، فأقوى ما تميل إليه تلك الطبيعة عندي، هو أن تزداد علما لنفسها، وأن تنقل إلى الناس علما من علمها، ففي طبيعة المعلم الحق - كما أراه - شيء من طبيعة بروميثيوس، وذلك بإصراره على أن يقبس النور من أربابه لينثره في عامة الناس. والنور هنا هو نور المعرفة، التي كثيرا ما يحبسها الكهان في صدورهم، فإذا ما تصدقوا منها بشيء على عباد الله من عابري السبيل، بثوا عطاءهم في عبارات مبهمة؛ ليتعذر فهمها على المتلقي حتى لا يسبق إليه الظن بأن ذخيرة الكاهن أمرها يسير، يلقاها كل من أرادها ملقاة على قارعة الطريق. وإنني لعلى يقين بأن غموض العبارة عند أي متكلم، مشتق من غموض المعنى في ذهنه، ومحال أن يكون المعنى واضحا عند صاحبه، ثم يلتاث عليه القول ليخرج في عبارة غامضة. وإن طبيعتي التي أشرت إليها، لتجد نفسها كاملة كلما استوت لديها فكرة واضحة، فنقلتها إلى الناس بدورها في كلام واضح.
ولست أفرح لشيء فرحتي بطالب علم - أو طالبة - يسعى إلى لقائي ليناقشني في شيء ورد فيما كتبته، مناقشة واعية؛ لأنني أشعر عندئذ بأن بروميثيوس قد أوصل الشعلة إلى قابسيها ولا فرق في ذلك بين من قبل فكرتي المعروضة ومن رفضها ما دام القبول والرفض كلاهما قد جاءا بعد فهم واضح. وهذا هو ما حدث منذ أيام قلائل مع طالبة وطالب ينتميان إلى كليتين مختلفتين من كليات الجامعة، ولم يكونا أول من ناقشني فيما أكتبه من الطلاب، فمن ناقشوني - قبولا ورفضا - يعدون بالمئات إما بالبريد وإما باللقاء المباشر، لكنهما كانا آخر من لقيت. •••
وشاءت المصادفة أن يكون اعتراض الطالبة هو نفسه اعتراض الطالب وقد رأيتهما في يومين متلاحقين ومع ذلك فقد كان يمكن أن يذهب لقاؤهما كما ذهب لقاء المئات من قبلهما دون أن يحفزني ذلك إلى حمل القلم، ولكن المصادفة قد شاءت كذلك أمرا آخر، وهو أن تجيء زيارة الطالبة وزيارة الطالب في لحظة تسرح فيها خواطري حول خطاب كان أحد أصدقائي قد تركه في صندوق بريدي منذ مدة طويلة. وإني لأكذب على الله والناس إذا أنكرت الأثر العميق الذي تركه ذلك الخطاب في نفسي، بحيث إن خواطري لا تكاد تنساب مرسلة بغير قيد، حتى أجد ذلك الخطاب ماثلا أمامي ففيه قال الصديق - بين ما قاله عني- ما معناه: إنك مجهول نكرة، فإذا ظننت نفسك غير ذلك كنت تعيش في أوهامك، وهي أوهام ساعدتك عليها عزلتك عن الناس، ثم أردف صديقي قوله ذاك بأن عيرني بفقدان البصر، وما عرفت أني أسأت إلى صديقي بكلمة أو فعل اللهم إلا أن يكون مجرد وجودي على ظهر الأرض حيا قد بدا له وكأنه رضوى حجب عنه ضوء الشمس، أم هو إلف ألفناه في حياتنا العلمية والثقافية أن يسفك بعضنا دماء بعض من أجل لا شيء؟ وأيا كانت العلة فقد أحزنني أن تكون تلك هي حقيقة أمري كما انعكست على مرآة صديقي، والصديق مرآة صديقه كما قال شكسبير لا سيما أني قد عهدته صادقا، ومنذ ذلك اليوم الذي صدمت فيه بخطاب الصديق أصبح للقائي بمن يسعون إلى مناقشتي في شيء كتبته فرحتان: فرحة المعلم بمهنته وطبيعته وفرحة من يرجو أن تكون رؤية صديقي لحقيقة أمري قد جاءت على شيء من الإجحاف، على أن الجانب الأهم هو أن الطالبة والطالب كليهما قد سألاني سؤالا واحدا يثير اهتمامي هو:
ألا ترى أن موقفك قد طرأ عليه في الفترة الأخيرة تغير حاد؟ فبعد أن كنت تدعو في إصرار إلى منطق «العقل»، وما يتبعه من حقائق «العلم»، ثم ما يترتب على العلم من صناعة وتصنيع، أخذت تعلو عندك نبرة «القلب» وما ينبع منه على طريق العقائد والمشاعر.
كان السؤال بالغ الأهمية عندي، إذ ما أفصح عنه السائلان قد يكون هو ما يدور في صدور كثيرين ممن يعنيهم ما أكتبه، فرأيت من الخير أن أوضح موقفي الفكري الذي لم أجد حتى الآن ما يدعوني إلى تغييره لا لأنني أراها جريمة أن يغير رجل من أفكاره ما تثبت له الأيام بأنه خطأ واجب التصحيح، بل لأن الأمر الواقع هو أنني لم أتحول عن موقف رأيت صوابه، واستمسكت به، ودافعت عنه، فما هي خلاصته؟ •••
يتحرك الإنسان بحياته في مجالين أساسيين لا يكاد يتصل أحدهما بالآخر إلا تماسا من الخارج كما يتماس مربع ودائرة فهما مجالان مستقلان لكل منهما مبدأ يدور عليه غير المبدأ الذي يدور عليه المجال الآخر، ولا تتكامل حياة الإنسان إلا بهما معا شريطة أن يظل لكل منهما منهجه وموضوعه لا ينافسه الآخر في شيء منهما. أما أولهما فموضوعه «العلم» ومداره منطق العقل، وأما الثاني فيشمل عالم الوجدان بشتى فروعه وارتكازه، إنما يكون على الشعور الباطني المباشر.
ومفتاح الفهم الواضح هنا هو تحديد المقصود بكلمة «عقل» في هذا السياق، فماذا نعني عندما نقول عن المجال الأول - مجال العلوم أو ما يجري مجراها - أن «العقل» هو مداره؟ الذي نعنيه هو أن الفكر فيه يكون في حركة انتقالية ينتقل بها من المقدمات إلى نتائجها أو من الشواهد إلى ما يبنى عليها، أي أن الفكر فيه يسير شوطا، قصر ذلك الشوط أو طال، كأنه قطار لا تكتمل وظيفته إذا ظل واقفا عند محطة البداية؛ إذ لا بد أن يتحرك منتقلا من محطة القيام إلى محطة الوصول، حتى الغاية المنشودة، وهكذا يكون العقل في حياتنا الفكرية أشبه شيء بسيارة تنقلنا من المعلومات الأولية التي بين أيدينا إلى ما يمكن الوصول إليه من نتائج قابلة للتطبيق الفعلي على دنيا الوقائع. •••
وما هكذا الحال بالنسبة إلى مدركاتنا في المجال الثاني مجال الحياة الوجدانية، فها هنا تكون نقطة البدء هي نفسها نقطة الانتهاء، محطة القيام هي بعينها محطة الوصول؛ المقدمة هي ذاتها النتيجة، فالإنسان حين يدرك حالته الباطنية إدراكا مباشرا يكون الموقف قد اكتمل عنده. فافرض مثلا أن قلبه نبض بالحب أو أنه أحس ألما في رئتيه أو شعر بصداع في رأسه، فهل في وسع أحد أن يطالبه بالبرهان على صدق دعواه؟ إنه أمام نفسه على صواب؛ لأنه يعلم ما في جوفه شعورا مباشرا. ولا يقلل من صحة دعواه أمام نفسه أن تعارضه الدنيا بأسرها، لكن قارن هذا بأي موقف علمي كان العقل فيه هو أداة الإدراك كأن نقول إن الغاز إذا زاد عليه الضغط قل حجمه، أو أن الماء يتركب من هيدروجين وأوكسجين بنسبة 2 إلى 1، أو أن السلعة المعينة إذا زاد المعروض فيها على المطلوب قل ثمنها أو أية حقيقة علمية تصادفك، فها هنا نجد الأمر قد اختلف؛ لأن على صاحب الدعوى أن يثبت صوابها بالتجربة أو بالبرهان النظري إذا طلب إليه ذلك، فيبين الخطوات (لاحظ أننا الآن إزاء حركة ذات خطوات تبدأ من نقطة، وتنتهي عند أخرى) التي يسيرها الباحث إلى أن يبلغ النتيجة المزعوم صوابها.
الفرق بعيد بعد ما بين السماء والأرض إذا ما قورن موقف الإنسان وهو في المجال الأول بموقفه وهو في المجال الثاني: في الأول علم قائم على برهان، وفي الثاني إيمان لا تقام عليه البراهين. الأول مجال مشترك بين الناس جميعا، فإذا قلنا إن زوايا المثلث على سطح مستو تساوي زاويتين قائمتين، وأقمنا البرهان على ذلك لم يعد أمام أحد خيار بين قبول ورفض، ولا دخل هنا لعقيدة الإنسان الدينية أو لنوازع قلبه من حب وكراهية أو غير ذلك من حالات الشعور، فكل إنسان أمام الحقيقة العلمية ككل إنسان آخر؛ لأن الأداة هي منطق العقل ومنطق العقل مشترك بين الناس أجمعين حاضرهم وماضيهم، ومن سيولد منهم إلى آخر الدهر. الحقيقة المعينة من حقائق المجال الأول «موضوعية»، وأما الحالة المعينة من حالات المجال الثاني فهي «ذاتية». في المجال الأول يوصف قائل القول بأنه قد أصاب، أو أنه قد أخطأ وفقا لما تبينه قواعد الاستدلال الصحيح، وأما في المجال الثاني فلا يقال لمن آمن أو شعر أو تذوق أنه أخطأ، وإلا كانت لفظا بغير معنى، فصاحب الحالة أدرى بما فيه ولا يعرف الشوق - كما قال الشاعر - إلا من يكابده ولا الصبابة إلا من يعانيها.
ولا يعلم إلا الله مدى الضرر الذي يلحق بحياة الناس إذا هم خلطوا بين المجالين فما هو علم قائم على منطق العقل يقال عنه إنه مستمد من مصدر من مصادر المجال الثاني، أو ما هي حالة شعورية في المجال الثاني يقال عنها إنها مستندة إلى براهين العقل.
نعم إن من حق كل إنسان أن يختار الأولوية في هذين المجالين أين تكون بمعنى أن يكون في حياته أكثر اهتماما بحقائق العلم من صرف الوقت في الاستماع إلى نبضات قلبه، أو أن يكون أكثر اهتماما بحياته الوجدانية في أي جانب من جوانبها، الدين والأدب والفن منه بكل ما يقوله العلماء. لكن الذي ليس من حق أحد هو أن يمحو أحد المجالين إعزازا فيه للمجال الآخر، أو أن يطالب أحد المجالين بالإذعان لما يتطلبه المجال الآخر، فالمجالان مختلفان موضوعا ومنهجا، لكنهما ضروريان معا في حياة الإنسان المتكاملة. •••
والذي استوقف نظري منذ الأربعينيات هو أننا - أبناء مصر بل وأبناء الوطن العربي - في حياتنا الثقافية قد ارتكزنا على المجال الوجداني أكثر جدا مما ينبغي، وجاءت عنايتنا بالمجال العقلي أقل جدا مما هو ضروري للحياة الإنسانية السليمة، بله الحياة كما تريدها حضارة هذا العصر وثقافته، فكنا كمن يريد المشي على ساق واحدة. لا بل لاحظت في حياتنا الثقافية ما هو أسوأ من العرج إذ رأيت جهودا تبذل في تيار لا ينقطع، وحماسة لا تنطفئ نحو إخضاع العقل وعلومه لسلطان الوجد وفنونه، فجعلته هدفا أسعى من أجل تحقيقه ما وسعني الجهد والقدرة. وإن الجهد لضعيف مهما بلغت عندي قوته، وإن القدرة لضئيلة محدودة مهما اعتصرتها واستنفدت كل قطرة فيها، لكنني جعلته هدفا أسير نحوه، حتى ولو اقتصر سيري على خطوة واحدة، وما هدفي ذاك إلا أن أدق طبول الحياة العلمية المرتكزة على العقل وحده. وأما مجال الوجدان فله من السدنة الذين يقومون على خدمته ما يكفيه.
فلما جاءتني الطالبة وجاءني الطالب كل منهما يسأل على أثر شيء قرأه لي فقرأ ما يدل على اهتمام بالوجدان هل غيرت موقفي العقلاني الذي اصطنعته منذ سنين تعد بالعشرات. وأخذت أوضح لها وله كيف أن اهتمامي بالمجال المهمل لا يتضمن إنكاري للجانب الظافر بالرعاية، وضربت المثل الآتي: إذا كنت أعيش في منزل له حديقة، ورأيت أن الحديقة مهملة إلى حد ذبلت معه الأشجار، فتساقطت أوراقها عن جفاف، وماتت زهورها وثمارها، فأخذت أحث البستاني كل يوم على العناية بالحديقة ريا وتقليما للشجر في فروعه الذاوية وغير ذلك، أيقال لي عندئذ هل أنكرت على منزل السكنى وجوده ما دمت لم تذكره يوما فيما تذكر؟ ألا يجوز أن يكون السكوت عن مكان السكنى صادرا عن الاكتفاء بما يبذل فيه من رعاية؟ وذلك هو موقفي عندما بذلت معظم جهدي في الدعوة إلى حياة العقل، وما يتبع العقل من نظر علمي وتطبيق. وأما جانب الحياة الوجدانية فخدامها والحمد لله كثيرون، وربما كان الخطب في عزوفنا عن العناية بتنمية النظرة العلمية يهون لولا أننا بحكم ثقافتنا السائدة أكثر نزوعا نحو رفض العقل وقيوده حتى لنرتاب فيمن يركن إلى أحكام العقل وحدها، ونطمئن لمن يقال عنهم أنهم يستمعون إلى ضربات قلوبهم في توجيه شئونهم، وهو موقف ثقافي كانت له آثاره البعيدة على طريقة معالجتنا للشئون المادية نفسها كالزراعة والتجارة والصناعة والسياسة والتعليم وسائر شئون حياتنا التي من هذا القبيل؛ إذ ترانا نمزج العقل بالعاطفة مزجا يميل بنا نحو التورط في الخطأ. •••
سألني أستاذ جامعي جليل، وكنا في ندوة عامة تحدثت فيها عن ضرورة أن تكون الكلمة الأولى والأخيرة للتفكير العلمي وحده ما دام الأمر المعروض من شأن العقل ومنهجه، أقول سألني زميل جليل عندئذ فقال: ضد من توجه هذه الدعوة الملحة للعقل؟ فأجبته قائلا: ضد نفسي يا سيدي، فأنا مصري منقوع في الثقافة المصرية، وأحس من داخلي كم أميل بقلبي نحو مواقف بعينها في تضاد مع ما يأمر به منطق العقل فلا ينقذني إلا أن ألح على نفسي بضرورة الاهتداء بأحكام العقل ما دمنا في ميدانه، وأحسب أن هذا الذي أقوله عن نفسي يصدق بدرجات متفاوتة على سائر المواطنين.
أهو احتجاج على أنهم أحياء؟!
لم تكن لي سابق صلة بالوالد وابنه الشاب، وإنما هي مصادفة الطريق في رحلة صيف. ولقد حرصت معهما أن أظل مستمعا لما يتبادلانه من حديث، أكثر جدا مما أكون مشاركا فيه. والحق أني لحظت فيهما مثالا نادرا لوالد وولده، لا أظنه شائعا في الأسرة المصرية، إذ رأيت الوالد يخاطب ولده كما يخاطب الصديق صديقه، لا يستخف به في عرض الرأي، ولا يستصغره حين يجعل الأمر بينهما شورى، فيها الأخذ والعطاء، وأما ابنه الشاب، فقد رأيته بدوره يبادل أباه فكرة بفكرة في ثقة متزنة بنفسه، وفي غير خوف من سطوة الوالد وسلطانه، وهو نمط من العلاقة الأبوية البنوية جميل ومحمود، لم أكن قبل ذلك أراه في الأسرة المصرية. وكان مما زاد الحوار بينهما جذبا لسمعي، أنهما جامعيان مختلفان في التخصص، فالوالد أستاذ في إحدى كليات العلوم، وابنه طالب في إحدى كليات الآداب، مما كان له انعكاسه على زاوية النظر عند كل منهما.
وطال بنا الجلوس ذات مساء في بهو الفندق الذي أقمنا فيه معا أثناء مرحلة من مراحل الطريق، وطرح موضوع الحوار بينهما عرضا وبغير تدبير مقصود، لكنه جاء موضوعا بعيد الأغوار، متشعب الجوانب، متعدد الأبعاد، قابلا لأن تختلف فيه الآراء، بدأه الطالب الشاب بسؤاله لأبيه: كيف يفسر ظاهرة متكررة في حياة الشعب المصري، وهي أنه برغم أنه شعب عريق وغزير الخبرة لامتداد وجوده الحضاري منذ بدأ فجر التاريخ، نراه يتملق السلطان، فلا يفصح عن حقيقة رأيه فيه، إلا بعد أن يزول عنه سلطانه، والأغلب ألا يزول ذلك السلطان إلا مع موته؟ فأجابه أبوه قائلا: ذلك لأنه - كما قلت - شعب عريق غزير الخبرة، فلقد علمته تلك الخبرة أن كل سلطان إلى زوال، فلماذا لا يصبر عليه حتى يزول؟ وزواله وشيك مهما طالت إقامته. إن الشعب المصري لطول تاريخه وغزارة خبرته، لا يقيس الأحداث بالمقاييس الزمنية التي يقيسها بها الأفراد، فإذا كان العام الواحد أو بضعة الأعوام مهمة في حياة الفرد الواحد، وفي حياة الشعب حديث الولادة، فهي ليست بتلك الأهمية كلها إذا قيست بآلاف السنين.
أسرع الطالب الشاب إلى الرد على أبيه بنبرة هادئة واثقة بنفسها، فقال: كان ينبغي في هذه الحالة أن تكون لرؤية الأفراد أولوية على رؤية الجماعة، فإذا كانت السبعون عاما ليست بذات وزن في حياة شعب عمره آلاف السنين، فهي بالنسبة إلى كل فرد على حدة كل عمره، فلماذا يغض طرفه عن ظلم يمتد معه ما امتدت به الحياة؟ تلك واحدة ، والأخرى هي أنه إذا كان الشعب في مجموعه على باطل فمن الذي يغيره سوى أفراده؟
قال الوالد: أراك تفرق بشيء من المبالغة بين الفرد من حيث هو فرد قائم بذاته، وبينه من حيث هو مواطن في مجموعة الشعب، وحقيقة الأمر هي أن حياته فردا ومواطنا، إنما هي حياة واحدة، لا يستقل فيها جانب عن جانب، وانظر إلى حديثك هذا نفسه؛ فهل تقول ما تقوله باعتبارك فردا، أو تقوله باعتبارك مصريا؟ لأننا إذا قلنا إنك «مصري» يتكلم، فكأننا قلنا إنك تتكلم من حيث أنت واحد من مجموعة شعبك، فرؤية الشعب لموقف معين، هي حاصل جمع لرؤى أفراده حين التقت تلك الرؤى في نقطة واحدة.
لبث الابن صامتا بضع ثوان، ثم قال: إنه برغم التداخل الشديد بين وجود الفرد فردا قائما برأسه، ووجوده مواطنا في شعب، فلا بد من إقامة الفواصل الحادة بين الوجودين، وإلا أضعناهما معا، ويصبح وجودنا شبيها بالعدم، واسمح لي بأن أبدأ المسألة من فاتحتها، ليسهل علينا الحكم بعد ذلك.
وفاتحتها هي أن سر الحياة كلها، بادئة من نباتها فصاعدة خلال حيوانها حتى تبلغ إنسانها، هو في «تفرد» الكائن الحي بما يميزه عن جميع ما شهدته الدنيا، وما تشهده، وما سوف تشهده من كائنات حية. إن الكائن الحي - نباتا أو حيوانا أو إنسانا - فرد فريد، حتى بالنسبة إلى سائر أفراد نوعه. إن أشجار الجميز وأشجار البلوط وأشجار السنديان أو ما شئت، وإن أعواد القطن وأعواد القمح وأعواد الذرة أو ما شئت، قد تنقسم فيما بينها أنواعا أنواعا كما ترى، لكن معجزة الحياة هي في استحالة أن تجيء شجرتان من أشجار الجميز، أو عودان من أعواد الذرة أو القمح أو القطن، شبيهين شبها لا يجعل واحدا يختلف عن واحد، فكل شجرة، وكل شجيرة، بل وكل ورقة من أوراق النبات كائنا نوعه ما كان، لها تفردها الفريد الذي لا يتكرر في سواها، وقل ذلك، وأكثر منه، في أفراد الحيوان. وإذا ما بلغت مرتبة الإنسان وجدت تفرد الأفراد قد اشتد ظهورا لكل عين تبصر، وسبحان الله الخالق المصور الباري، جلت قدرته.
فإذا وجدنا تمايز الأفراد في الإنسان أوضح منه في أفراد النوع الواحد من أنواع النبات، أو النوع الواحد من أنواع الحيوان، فذلك - أولا - لأن تفرد الأفراد في الإنسان هو بالفعل أشد وأقوى، وثانيا لأن عنايتنا بأفراد الإنسان أهم من عنايتنا بأفراد النبات والحيوان. وتظهر تلك الأهمية في وجوب أن نطلق على كل فرد من الناس اسما خاصا به يميزه، لكننا في الوقت نفسه نلاحظ أننا كلما اتجه اهتمامنا إلى حيوان بعينه أو إلى شجرة بذاتها، فكثيرا ما نعبر عن هذا الاهتمام بإطلاق الأسماء الخاصة عليها، وذلك واضح في محبي الكلاب والقطط والخيل وغيرها. وقد أتصور حدوث ذلك نفسه في عالم النبات. وهنا التفت الشاب إلي، وطلب مني الرأي، ولعله فعل ذلك تأدبا؛ ليخرجني من صمتي، وليشعرني بوجودي معهما مشاركا.
فقلت: نعم لقد قلت الصواب، حدث لي ذات يوم، وكنت عندئذ في مدينة كولمبيا بولاية كارولينا الجنوبية بالولايات المتحدة، أن مررت - مدعوا - بحديقة ورد، عرف صاحبها ببراعته في رعاية حديقته تلك، وفي توليده لصنوف جديدة من الورود، فأطلعني ذلك الرجل على ما عنده، وإذا هو يتحدث عن أفراد الورد في حديقته كما يتحدث عن أفراد أسرته، إنه لا يخلط بين وردة وأخرى، ولا يجمع الورود كلها في عنوان واحد يطمس فردياتها، بل هو يروي عن كل وردة منها، وكأنها شخصية لها ما يميزها، وقد ربط بالعنق من كل وردة بطاقة صغيرة عليها رقم، وسجل تلك الأرقام في دفتر، جاعلا لكل منها صفحة خاصة، يثبت فيها تسلسل أحداثها وأطوار نموها.
وعاد الشاب إلى حديثه، فاستأنف يقول: هو ذاك، إننا كلما ازددنا علما بنوع ما من أنواع الأحياء، ازددنا قدرة على التمييز بين أقسامه الفرعية، تمييزا في كل قسم منها بين مفرداته. وعلى أية حال فالذي يهمني في هذا الحديث هو الإنسان؛ لأرتب على تمايز أفراده ما سوف أرتبه من نتائج، على أنني أحب أن استطرد هنا استطرادا مفيدا عن صفة «التفرد» وكيف نراها أخص خصائص الإبداع الفني، فحين أشار أرسطو في كتاب «الشعر» إلى المبدأ النقدي الذي بات بعد ذلك مشهورا ذائعا بين نقاد الفن والأدب، وهو مبدأ أن تجيء القطعة المبدعة من الفن بكل ضروبه، محاكية للطبيعة، لم يكن يقصد - فيما أعتقد - أن تؤخذ فكرة المحاكاة بالمعنى الذي تنعكس به صورة الشيء على سطح لامع كالمرآة، ربما كان هذا الفهم المرآوي للفن هو ما عناه أفلاطون وهو يتحدث عن موضع الفنان في الجمهورية كما «تصور صورتها المثلى»، بل الأصح هنا أن نقول: وهو يتحدث عن ضرورة ألا يكون للفنان موضع في جمهوريته تلك؛ إذ كان الفنان في رأي أفلاطون إنما يحاكي الطبيعة التي يصورها بالكلمات أو بالألوان أو بالحجر، فإذا كانت الأصول الطبيعية موجودة بين أيدينا، فما حاجتنا إلى ما يحاكيها؟ أما المحاكاة التي أرادها أرسطو وهو يتحدث عن الشعر وسائر ضروب الفن، فأحسب أن المقصود بها هو ضرورة أن يصنع الفنان في مجال فنه مثل ما تصنعه الطبيعة في كائناتها، وهو أن يجيء الكائن فريدا لا يشبهه من سائر الكائنات شيء، ومثل هذا التفرد شرط أساسي في نتاج الفن.
واستطرد الشاب في حديثه، ولم يخرج قط عن نبرته الهادئة الرزينة برغم شبابه، الذي لم يزد على عشرين عاما، فقال: وإذا كان هذا هكذا في عالم الفن وفي عالم المخلوقات بمختلف أجناسها وأنواعها، أيجوز بعد ذلك أن يشذ الإنسان مع أنه أولى من سائر الكائنات الحية بتمايز الأفراد؟ وإنه لتمايزه لا ينفي أن يكون الفرد عضوا في أسرة، وفي أمة، وفي الإنسانية جمعاء.
ضحك أبوه، وسأل ابنه مقاطعا لذلك السيل المنهمر من حديث ابنه، سأله: وما علاقة هذا كله بما كنا بصدد الحديث فيه، ولقد بدأناه بالشعب المصري في صبره على السلطان المنحرف عن الحق، حتى يختفي من وجه الأرض - وسرعان ما يختفي - كالموجة العاتية على سطح المحيط، لا تلبث أن تعلو حتى تزول؟
فأجابه ابنه - في شيء يسير من الانفعال هذه المرة - قائلا: بل العلاقة وثيقة بين تفرد الفرد، وما كنا نتحدث عنه، فتفرده هو شخصيته، والتفريط في شخصيته إهدار لآدميتها. وإذا كانت الخصائص البدنية وحدها هي أساس التمايز في أفراد النبات والحيوان، فإن الإنسان يضيف إليها ما هو أهم منها، وأعني خصائص فكره، فإذا رأى رأيا في أمر، فلن تكتمل له آدميته إلا إذا أفصح عنه، وأعلنه بكل الوسائل التي يملكها ويستطيع استخدامها. إن الإنسان مسئول عن إعلان رأيه أمام ضميره؛ لأنه مسئول عن تلك أمام الله، فليس «الرأي» من الإنسان كالقطعة من ملابسه، يلبسها أمام الناس أو يخفيها في خزائنه، تبعا لمزاجه المتقلب يوما بعد يوم، بل الرأي هو صميمه، هو لباب كيانه، هو «فؤاده» فيما قصد إليه الشاعر حين قال:
لسان الفتى نصف، ونصف فؤاده
فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
ونحن وإن كنا اليوم لا نكتفي من الإنسان بفؤاد يرى الرأي، ثم بلسان يعبر عن ذلك الرأي، بل نطلب جزءا ثالثا هو «العمل» بناء على ذلك الرأي، إلا أننا نذكر قول الشاعر هنا لنبين كم يكون الرأي والتعبير عنه من حقيقة الإنسان، فإذا رأيت إنسانا تخلى عن رأيه وإعلان رأيه، فاعلم أنه اختار لنفسه أن يكون كيسا من لحم ودم يتحرك على الأرض. إن كتمان الرأي فيما يهم الناس، وفيما يؤثر في الوطن ومصيره هو سكوت عن الحق، والساكت عن الحق شيطان أخرس. بماذا يجيب الإنسان الذي أغمض عينيه عما حوله، أو فتح عينيه ورأى ثم لم يحرك ساكنا بماذا يجيب حين يسأل:
ألم نجعل له عينين * ولسانا وشفتين
إنه مسئول يوم الحساب عما اعتقد هو، وعما فعل هو
يوم يفر المرء من أخيه * وأمه وأبيه * وصاحبته وبنيه .
إذن لتسمح لي يا والدي أن أعود إلى سؤالي الذي بدأت به أول الحديث: بماذا تفسر تلك الظاهرة في شعبنا المصري؛ ظاهرة سكوته على خطأ يراه، إلى أن يزول المخطئ عن الدنيا، فيمتنع عندئذ سؤاله عما فعل لعله يجيب؟ إذا كان جوهر الحياة وسرها في الكائن الحي، هو تفرد شخصيته تفردا يشتمل فيما يشتمل عليه عند الإنسان أن يرى الرأي فيعلنه، ثم يعمل على هداه إذا لم يتبين أنه خاطئ ففيم سكوت الشعب بكل أفراده عن إعلان ما يرونه صوابا؟ أهو احتجاج منهم على أنهم أحياء؟ أقول: لماذا ، وهو شعب عريق الأصول، غزير الخبرة، ثابت العقيدة؟
لم يجبه أبوه، فالتفت إلي الشاب بسؤاله، قائلا: أعندك جواب يا عمي؟ فأجبته متلعثم اللسان: إنني أعترف لك عن نفسي بحقيقة أمقتها في نفسي، ولكن مقتي إياها لا يمنع أن تكون صفة من صفاتي، وهي أني على طول ما عشته من سنين رأيت نفسي في عشرات المواقف، في مئاتها، أتلقى ما لست أرضاه، ثم أعجز عن رد الاعتداء بمثله، وألوذ بالصمت، ولا تسلني ماذا يحدث لي بعد ذلك، فالجرح تزداد مع الأيام ضراوته، أحس آلامه في صحوي وفي نومي، وتتحول به أحلامي إلى كوابيس تخنق الأنفاس، وتسألني: ولماذا لم تنطق عند اللطمة الأولى؟ فأجيبك بأنني لا أدري لماذا، إنه طبع نشأت عليه، ثم أضيف: ألا يجوز أن يكون شعبنا في مجموعه قد نشأ على ذلك الطبع نفسه؟ فما جاز عند فرد واحد يجوز عند ملايين الأفراد، على أني كلما تذكرت الموقف الذي تلقيت فيه العدوان، ولم أجب عليه بعدوان مثله، أراني أرد على الإساءة في خيالي، كمن يريد أن يعوض بأحلام النوم، أو أحلام اليقظة تقصيرا أو قصورا أصيب به في الحياة الواقعة. ومرة أخرى أسأل: ألا يجوز أن تكون هذه هي حقيقة شعبنا كذلك فيه من الخجل ما يمنعه عن التحدي والتصدي مباشرة، فينتظر إلى أن تزول عنه عوامل الحرج والحياء؟ أقول ذلك - يا بني - ولا أدافع عنه.
شكرني الشاب على إجابتي، شكر من لا يوافق، ثم اتجه نحو أبيه مرة أخرى بسؤال جديد، الله أعلم ما الذي دار في ذهنه، فأثار فيه هذا السؤال:
قل لي يا أبي: ماذا كانت الدنيا لتنقصه، إذا لم أكن قد ولدت؟ فأجابه أبوه بقوله: كانت لتنقص نمطا فريدا من أنماطها التي أشرت أنت إليها، حين حدثتنا عن طبيعة الكائنات الحية. إن الموقف عندئذ كان ليكون شبيها بديوان المتنبي محذوفة منه إحدى قصائده.
قال الشاب: هذا جميل، وفيه فصل المقال، فما دمت إنسانا، وجب أن تكون لي أخص خصائص الإنسان، وهي أن يفكر في طرائق عيشه، فيرى فيها الرأي، فيعلنه ليحيا - ويحيا معه الناس - على هداه.
ونهض الفتى مستأذنا، ليقضي بعض شئونه، ونظر كلانا - والده وأنا - أحدنا إلى الآخر، بعيون متسائلة، وشفاه باسمة.
قلت لوالد الفتى: كان ابنك محقا فيما عرضه أمامنا من وجهة النظر، وأجاب الوالد: نعم، كان على حق، ولئن أخذت أحاوره، فما كان ذلك إلا لأستزيده، فخورا به.
قلت: إذا كنا جميعا على رأي واحد - شيوخا وشبابا - في وجوب المصارحة بالرأي الحر المخلص الشجاع، فيما يخص الوطن وقضاياه، أليس عجيبا أن نظل على ما نحن عليه من كتمان، ولا نغير من أنفسنا شيئا؟!
مفلسون في ثياب الأغنياء
هو شاب أديب، له في النقد نظرات ثاقبة، أخذنا معا نتحدث في الثقافة والمثقفين، ندور بالحديث من الشرق إلى الغرب، ومن الماضي إلى الحاضر، ثم نرتد به من الغرب إلى الشرق، ونقيس الحاضر إلى الماضي. وكان محورنا الرئيسي - بالطبع - هو مصر في حياتها الثقافية الحاضرة. هذا الأديب وذلك، هذا الكتاب وذاك، موقف النقد من نتاج الأدب والفن وأمثال هذه الموضوعات التي لا يفرغ لنا حديث فيها، وقد كنا متقاربين في الأحكام برغم أننا ننتمي إلى جيلين متعاقبين لولا أنه يكثر في حديثه من ذكر الرواسم (الكليشيهات) التي أشك في مدى إلمامه بالأبعاد والمعاني التي تنطوي عليها تلك الرواسم، فالكلاسية، والرومانسية وردتا في حديثه مائة مرة، والواقعية، والمعادل الموضوعي، والرمزية، وغير ذلك من أسماء صماء، أخذت تتناثر في عباراته حيث يكون لذكرها داع من سياق الحديث، وحيث لا يكون، حتى لقد خيل إلي أن أهم فارق بينه وبيني، هو أنه يحفل بأمثال تلك الأسماء أكثر جدا مما يحفل بمضمون الأعمال ذاتها. وأما أنا فأكثر اهتماما بما قاله فلان في كتابه الفلاني، وكيف قاله، وما حسناته وما أوجه قصوره. أكثر جدا مما اهتم بتنميطه كلاسيا أو رومانسيا أو غير ذلك. واختصارا فقد كان الفارق بينه وبيني هو في منهج النظر، فبينما هو يهبط من تعميم نظري وعاه في ذاكرته، إلى ذكر الأحكام التفصيلية عن فلان وعلان، كنت أنا أميل إلى الصعود من تفصيلات الحياة الثقافية كما هي حادثة بالفعل على أرض الواقع، إلى ما يمكن أن يجمع تلك التفصيلات من تيارات واتجاهات.
وأشرت لمحدثي إلى هذا الفارق بيننا في النظر، وسألته: هل يكون أحد الفوارق بين الجيلين، فالجيل الأحدث يبدأ بالمذاهب في صيغها الشكلية، والجيل الأقدم يبدأ بكيف الحياة كما هي واقعة؟ وصمت محدثي قليلا، ثم سألني بدوره: وما الفرق بين الحالتين في نهاية المطاف؟ ألا ينتهي كل منا إلى مذهب وما يندرج فيه من مفردات، سواء اتجهنا من المذهب إلى المفردات، أو اتجهنا من المفردات إلى المذهب؟
أجبته بالنفي قائلا له: إن بدءك بالمذهب يحسبك فيه، ولا تستطيع بعد ذلك أن ترى من الواقع إلا ما ينخرط في قالبه، فكأنك بدأت الرؤية بمنظار أزرق، فلا ترى الأشياء بعد ذلك إلا زرقاء، قال: اضرب لي مثلا من حياتنا الثقافية يوضح لي ما تقول، فأجبته قائلا: إنني ألمح في تلك الحياة ظاهرة غريبة، لا أظن أن لها مثيلا عند غيرنا، بل لا أظن أنه قد كان لها مثيل عندنا نحن فيما مضى، ولعلها قد أفلتت من أعين المعاصرين للسبب الذي ذكرته لك، إذ لو بدأ مسار التفكير مما هو واقع بين الناس، لما أفلتت تلك الظاهرة من أعين المشاهدين، وأعني بها تلك الفئة القليلة التي ظفرت بنصيب كبير في توجيه حياتنا الثقافية، لا بناء على ما أسهموا به في تلك الحياة - لأن منهم من لم يسهم بشيء أو كاد - بل لأنهم عرفوا كيف يحيطون أنفسهم بهيل وهيلمان، فكأننا أمام موقف يشبه الصورة التي صورها برنارد شو حين قال: إنه لو فقست بيضة كبيرة عن شاب كامل النضج، يفتح عينيه لأول مرة على هذه الدنيا وأحوالها، ثم سئل فور خروجه: ما أعجب شيء تراه فيما حولك؟ فإنه بعد أن يرسل البصر فاحصا هنا وهناك، يجيب: إن أعجب ما أراه هو أن الذين يملكون لا ينتجون، والذين ينتجون لا يملكون، فكأنما المفلسون هم الذين يرفلون في ثياب الأغنياء، وأما الأغنياء حقا بما ينتجونه، فنصيبهم أسمال المفلسين.
ولا شك في أن ما أخفى عن أبصار الناس هذه الظاهرة العجيبة وأمثالها، هو أن النقاد المحدثين، وأنت أحدهم قد ألفوا أن يبدءوا التفكير من صور مجردة، لا من الواقع وتفصيلاته، فهم - مثلا - قد يجعلون بداية السير عبارة «حياتنا الثقافية»، وكأنهم يعالجون مسألة من مسائل الرياضيات البحتة، التي تدار في الأذهان دون أن تكون لدى من يديرونها حاجة إلى مراجعة العالم الواقعي المحسوس، ليروا إن كانت - أو لم تكن - تلك التصورات الذهنية ذات صلة بدنيا الأشياء، فعلماء الرياضة البحتة، كما يقول عنهم برتراند رسل (وهو أحدهم، بل هو إمام من أئمتهم) إذ يتكلمون لغة الرياضة، فهم لا يعرفون، ولا يريدون أن يعرفوا، عن أي الأشياء في عالم المحسوسات يتكلمون، وكذلك نقادنا - فيما يبدو - إذا ما تحدثوا عن «حياتنا الثقافية» كانوا كمن يتحدث عن تصورات مجردة، لا يعنيهم أن يراجعوها على عالم الواقع مما ينتجه المنتجون في ميادين الأدب والفن، فلو أنهم بدءوا بدراسة الأفراد والمفردات، دون أن يسبق ذلك في أذهانهم «خانات» مذهبية فارغة، لأسقطوا من حسابهم، بطبيعة الحال من لا إنتاج له؛ لأنه غير وارد، وبهذا تختفي من تلقاء نفسها تلك الظاهرة الغريبة التي أشرت إليها.
لقد تذكرت تلك الفئة القليلة التي دخلت حياتنا الثقافية بهيلمانها لا بإنتاجها، تذكرتها منذ أشهر قلائل، عندما وقعت على نظرية جديدة في تحليل التركيبة الاجتماعية بصفة عامة، تقسم الإطار الاجتماعي ثلاث درجات، أو أقل، إنها في الحقيقة درجتان، إحداهما تنشطر شطرين، شطر منهما أعلى وشطر أدنى، ويمكن أن نطلق على تلك الدرجات أسماء توضح وظائفها، فهنالك عند الذروة «سلاطين» يأمرون و«يشخطون وينطرون»، ولكن لا ينتجون، ثم يأتي دونهم أتباع يؤمرون، لكن هؤلاء الأتباع قسمان: الأدنى منهما قوامه غمار الناس، الذين لا يشاركون في اللعبة، ولا يريدون أن يشاركوا، وأما القسم الأعلى فهم الذين يبعثون على الضحك ويثيرون الأسى؛ لأنهم هم الموهوبون القادرون المبدعون المنتجون، لكنهم بغير حول ولا طول، فهؤلاء هم الأدوات التي يستخدمها «السلاطين» يصدرون لهم الأوامر، ويعدونهم بالجزاء الأوفى إذا هم فعلوا كما يؤمرون، والذي يبعث على الضحك ويثير الأسى، هو أن السلاطين يحرصون أشد الحرص على أن هؤلاء العاملين المنتجين إذا ما فرغوا من أداء ما أمروا بأدائه، عليهم أن يقفلوا راجعين إلى مواقعهم من منازل الأتباع، حتى لا يزاحموا السلاطين مزاحمة الأقران.
قلت لمحدثي: إننا لو دربنا تدريبا كافيا على النظرة العلمية الصحيحة، لحرصنا على ألا نستخدم تعميمات - كقولنا: «حياتنا الثقافية» - إلا وفي أذهاننا الرصيد الحي من الذي يشير إليه كل تفصيلات الأمر، الواقع تعميم نورده في سياق الحديث. افرض - مثلا - أننا نتحدث عن «الربيع في مصر»، فالأغلب أن نمضي في الحديث، وكأننا أمام صورة معلومة لا إشكال فيها ولا جدال، وكأنه لا فرق بين ربيع وربيع، فربيع مصر كربيع سواها من أقطار الأرض، أما إذا فاجأتك بسؤال: أين هو الربيع الذي نتحدث عنه؟ فها هنا تأخذ في تحليل الربيع في مصر إلى مجموعة العناصر التي تميزه، وسترى عندئذ أن الأمر في حاجة إلى ملاحظة واعية للظواهر التي حولك، فقد يكون معنى «الربيع في مصر» ألوانا معينة من الخضر والفاكهة ونبات الحقول، واكتساء بعض الأشجار بأوراقها بعد أن تعرت عنها في فصل الشتاء، وزوابع الخماسين على فترات متباعدة وصحوة الصراصير بعد سباتها. وهكذا تتجمع لديك العناصر التي هي قوام «الربيع في مصر»، فإذا ما تحدثنا عنه وهذه التفصيلات في ذهنك، جاءت أفكارك أملأ بمضمونها.
إنك لو تناولت «الحياة الثقافية في مصر» بمثل هذه الرؤية العلمية التحليلية، فلن تخطو الخطوة الأولى في محاولتك إصدار الأحكام النقدية عليها، إلا وقد هالتك جسامة ما اضطلعت به، وتريثت وترددت قبل أن تصدر على تلك الحياة حكما واحدا، لكن نقادنا - كما تعلم - لا يتريثون، وبالتالي فكثيرا ما لا ينصفون.
لو كنت لأنظر إلى «حياتنا الثقافية» نظرة تحليلية تكفل لي سداد الرأي لبدأت أولا بالتفرقة بين «صانع» الثقافة و«متلقيها»، فكلاهما «مثقف»، لكن ما يصدق على أحدهما من الأحكام قد لا يصدق على الآخر. فربما وقع إنتاج «صانع » ضعيف على «متلق» قوي، وربما وقع صانع قوي على متلق ضعيف، على أنه قد يجتمع في الفرد الواحد الجانبان معا، فهو صانع للثقافة في ميدان الرواية - مثلا - ومتلق لها في ميدان الموسيقى أو الشعر.
هذه التفرقة بين مبدع الثقافة ومتلقيها مهمة عند الناقد؛ لأن الحكم على عمل ما لا بد أن يؤسس أولا على نوع المتلقي، فمن يكتب قصة للأطفال يقاس عمله بما يصلح للأطفال، ومن يكتب للشريحة العليا من المثقفين لا ينبغي أن يقال له: لماذا لا تكتب ما تفهمه الجماهير.
والخطوة الثانية لمن يتناول حياتنا الثقافية بالتحليل قبل أن يصدر عليها حكما هي أن يتذكر أن مجال «الكلمة» ليس هو كل الحياة الثقافية، وهو خطأ كثيرا ما يقع فيه الناقد، ففي تلك الحياة عالم الأنغام وعالم الألوان، فيها شتى أنواع الفنون وفيها الرياضة، فيها القديم الموروث، وفيها الجديد المضاف، ولهذه النقطة أيضا أهميتها في العملية النقدية إذا أرادت لنفسها الإنصاف؛ لأن القوة والضعف لا يشملان بالضرورة كل جوانب الحياة الثقافية دفعة واحدة، فمجال «الكلمة» قد يكون أميل إلى الضعف، بينما مجال الفن أميل إلى القوة، وهذا هو بالفعل ما يراه كاتب هذه السطور؛ إذ عنده يتلخص في أن لدينا في نتاج التصوير والنحت، وفي مجال الإخراج المسرحي (بما في ذلك الإذاعة مرئية ومسموعة) ما نجرؤ على التقدم به إلى العالم الخارجي في ثقة وقدرة على التنافس، وأما في مجال الكلمة فالأدب الخالص فيه أكثر توفيقا من الإنتاج الفكري، فنحن فقراء «فكر»، ولكننا لسنا على هذه الدرجة نفسها في الشعر والرواية.
استطرد معي الحديث، فبت أصور لمحدثي بعض المعالم التي هو لا بد واجدها في حياتنا الثقافية إذا هو سار بقدميه على أرضها، والتي هو لا بد فاقدها إذا ملأ وعاءه بأسماء المذاهب النقدية التي يغلب ألا نجد لها تطبيقا مباشرا. وهل يتاح لك وأنت في الطائرة أن تشهد ما يغطي الأرض من الرمل والزلط والتراب والحصى؟ أإذا وقفت عند أسماء التيارات الأدبية والمذاهب النقدية قرنا من الزمان يتاح لك أن ترى أولئك الذين أخذوا مكانتهم العلمية أو الأدبية «بالذراع» لا بالقلم والورق والكتاب؟ وهل يتاح لك أن ترى الذين استعانوا بالطبل والزمر تضج أمامهم، وتضج وراءهم، فتلمع بذلك أسماؤهم نجوما مع النجوم؟ هل يتاح لك أن تغرز الأعلام الذين صنعتهم وسائل الإعلام وليس بأيديهم ما يتقدمون به أمام ربهم يوم الحساب؟ هل يتاح لك أن ترى الذين يصدرون أحكامهم الأدبية على عباد الله العاملين مستندين في ذلك إلى إشاعات يسمعونها جارية على الشفاه، فكم من مرة سمعت هجوما على كتاب ممن لم يقرأ الكتاب؟ وكم من مرة قرأت نقدا لكاتب يصعد بمؤلف أو ليهبط بمؤلف، دون أن يكون الناقد على علم إلا بأشخاص الرجال، فذلك يستحق الضرب على رأسه، وهذا جدير بوردة توضع على صدره.
ابدأ يا صديقي من الواقع الحي، ابدأ بدراسة الأعمال ذاتها، ثم اصعد منها إلى حيث شئت من تصنيف وتبويب، فإذا خلصت من دراستك إلى نتيجة كالتي خلصت أنا إليها من حيث الموازنة بين الأعمال من جهة وقيم أصحابها من جهة أخرى وجدت الكثرة الغالبة والحمد لله ترتدي من الثياب ما يتناسب مع «فلوسها»، لكن هنالك فئتين أخريين إحداهما مفلسة، وترتدي ثياب الأغنياء، والأخرى غنية بأعمالها وكان نصيبها أسمال المفلسين.
النفخة الكذابة
شريط حياتي ينبسط وينطوي في مخيلتي كل يوم، ماذا أقول؟ أأقول إنه ينبسط وينطوي مرة كل يوم؟ مرتين؟ لا، بل إنه يفعل ذلك مرات قد تبلغ العشر أو تزيد، أردت ذلك أو لم أرد، فما إن تأخذ خواطري في الانسياب كلما جلست أو استلقيت لأستريح، حتى ينبسط ذلك الشريط ليعود فينطوي، بعد أن يكون قد نشر أمامي مرحلة من مراحل العمر، لا أتدخل بإرادتي في انتقائها، بل إنها لتفرض نفسها فرضا، فهي من مرحلة الطفولة مرة، ومن الكهولة مرة، ومن مرحلة المراهقة والشباب ثالثة، ومن نضج الرجولة رابعة، ولكن مرحلة من تلك المراحل لا تعرض نفسها أمامي إلا أرى نفسي بإرادتي في هذه الحالة قد أسرعت إلى التقاط مواضع ضعفي، ومواضع قوتي في الطريقة التي أرد بها الفعل في مختلف المواقف، ويشهد الحق أنني كلما وقعت على قوة في الرد مرة، وجدت ضعفا عشرين مرة أو ثلاثين، فليس لدي القدرة على رد الكلمة الجارحة أو الفعل المسيء بكلمة أو فعل يتكافأ مع ما تلقيته جرحا وإساءة ردا مباشرا يجيء في حينه، بل أراني قد لجأت - دون تدبير وتصميم - إلى الانسحاب والتواري حينا يطول أو يقصر.
وكان لا بد لي كلما تعقبت نفسي في مواقفها على شريط الحياة، أن ألحظ الآخرين وكيف يتعاملون معي، ومع بعضهم بعضا، في تلك المواقف نفسها، وقلما وجدت نظري قد وقف عند من يشبهونني، فالذي يستوقفه - دهشة وتأملا - هم أولئك الذين لا يعقد ألسنتهم حياء، ولا يقيد جوارحهم عن الحركة العدوانية تردد أو خوف.
فقلت لنفسي: لماذا لا تضع هؤلاء البواسل تحت المنظار المكبر، لترى في وضوح ماذا يقولون ويفعلون، وكيف، ولماذا يقولون ما يقولونه أو يفعلون ما يفعلونه؟ وما أسرع ما رأيت تحت المجهر ما لم أكن قد رأيته بالعين العارية؛ إذ رأيت أن هؤلاء صنفان، قد يتشابهان في شعورهما بالزهو - زهو الإنسان بنفسه - لكنهما بعد ذلك يختلفان اختلافا بعيدا، فصنف منهما يزهى بنفسه عن امتلاء داخلي، وأما الصنف الآخر فزهوه بنفسه إنما ينبعث عن شعور بالخواء.
وها هنا ورد إلى خاطري ما ضحكت له، إذ تذكرت قول عامة الناس في وصف النفخة التي ينتفخ بها الصنف الثاني بأنها «نفخة كذابة» كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد، كما قال الشاعر تمييزا لها من نفخة الصنف الأول التي تستند إلى رصيد باطني قوي. وإذن فهذا الذي تطلب مني منظارا مكبرا لا أراه، قد أدركته عامة الناس بالخبرة العملية المباشرة. وللتفرقة بين أصحاب النفخة الصادقة الواثقة بنفسها، والنفخة الكذابة التي تخفي خواءها، أهمية كبرى؛ لأن رجال الفئة الأولى إنما هم العظماء حقا، الذين هم ذخيرة أوطانهم وشعوبهم، بل والإنسانية كلها أحيانا، وأما رجال الفئة الثانية فهم - على المدى الزمني الطويل - نكبة على أوطانهم وشعوبهم؛ لأنهم كثيرا ما يحجبون الحق بباطلهم ، إلى أن يشاء الله للحق ظهورا وانتشارا. •••
وأعود إلى مجهري مرة أخرى لأنظر، فأكشف الغطاء عن تفرقة أخرى بين أصحاب النفخة الكذابة والنفخة الصادقة، وهي تفرقة نزداد بها علما بطبائع الناس، ولكنها ليست بذات خطر كبير، وإن من المزهوين بأنفسهم من العظماء من يحسن الزهو فيصدقه الناس، ومنهم من لا يحسنه فينفر منه الناس، فيصفونه بالغرور أو حتى بالجنون. كان برنارد شو من النوع الأول، وكان نيتشه من النوع الثاني، وكان لطفي السيد وطه حسين من النوع الأول، وكان العقاد وزكي مبارك من النوع الثاني.
فقد كان نيتشه يفاخر بنفسه، فيكتب مرة تحت عنوان: «ما السر في حدة ذكائي»، ومرة أخرى تحت عنوان: «لماذا كانت كتابتي رائعة؟» فوصفه الواصفون بالجنون، وكانت هذه العناوين بين الشواهد التي استشهدوا بها. وأذكر أن عباس العقاد كتب مرة ليرد على من وصفوه بالغرور، فقال: إنه لا يكون غرورا إلا إذا كان غير مرتكز على حق.
والظاهر أن الفرق بين مزهو بنفسه يصدقه الناس، ومزهو بنفسه آخر لا يصدقونه - مع افتراض العظمة فيهما معا - هو أن الأول تتحقق فيه شروط لا تتحقق في الثاني: منها أن يسوق المتفاخر فخره بأعصاب باردة، وبشيء من نبرة المزاح، أما صاحب الحساسية الشديدة والأعصاب المنفعلة الهائجة، فتراه عادة إذا ما ساق فخره بنفسه، ساقه في جهامة الجاد الذي لا يعرف المزاح، فتفقد اللعبة حلاوتها وينصرف عنه الناس. •••
على أن الذي لا شك فيه، هو أن جرأة الإنسان في التفاخر بنفسه سواء جاء ذلك من رجل يعرف كيف يجذب القارئ، أو من رجل لا يجيد هذا الفن، خير من تواضع المرء في عرض نفسه؛ لأن المزدهي بنفسه والمتواضع كليهما قد يصدقه القراء فيما يقوله عن نفسه، فإذا صدقوا الأول ارتفع أمام نفسه وأمام الآخرين، وإذا صدقوا الثاني في تواضعه انخفض في رأي نفسه وفي رأي الآخرين.
تركت مجهري، وجلست أستجمع خواطري، فلم ألبث إلا لحظة «خاطفة» تبين لي منها أن مصدر الخطر علينا، بين هذه الصنوف البشرية كلها، هو «المغرور » صاحب «النفخة الكذابة» الذي يدعي ما ليس له، يدعي العلم وهو من العلم بريء براءة الذئب من دم ابن يعقوب، ويدعي الأدب وهو في حياته لم يكتب أدبا ولم يقرأ أدبا، ويدعي ويدعي. وقد ينطلي علينا ادعاؤه، فنسلمه أمورنا، ويكون بعد ذلك ما يكون. أفلا يستحق منا «الغرور» وقفة هادئة لنكون بحقيقته أبصر؟
إنه إذا كان الغرور هو أن يظن إنسان بنفسه التفوق على الآخرين حين لا تكون تلك هي حقيقة الأمر. فليس من شك في أن كل إنسان - بناء على هذا التعريف - مغرور بطبعه، ولو أنها صفة تتفاوت درجاتها بين الناس. على أنه إذا كان كل إنسان على درجة من الغرور بنفسه بحكم فطرته ذاتها، فكل إنسان هو كذلك عاقل بحكم فطرته، ومن شأن العقل أن يحد من الغرور، كلما وجد عدوان المغرور على الآخرين يوشك أن يعرضه للخطر.
لكن هذا القول يحتاج منا إلى شرح وتحليل، وسنهتدي فيهما برأي «هوبز». •••
إن أساس السلوك كله، هو أن يحفظ الإنسان بقاءه أولا، فهو يأكل ليبقى، ويرتدي الثياب ليبقى، ويسكن البيوت ليبقى، وهو يحاول الكشف عن قوانين الطبيعة ليبقى، ويقاتل الأعداء ليبقى، إنه يقيم لنفسه الحكومات ليبقى، ويسن لنفسه القوانين ليبقى، ويخاف الله ويعبده ليبقى في آخرته كما بقي في دنياه، والآخرة في ذلك خير وأبقى.
وكلما ازداد الإنسان قوة كان أقدر على حفظ بقائه، والقوة قد تكون قوة العضلات، لكنها كذلك قد تكون شيئا آخر أو أشياء.
فالفضيلة قوة، بمعنى أنك إذا سلكت السلوك الذي يعده الناس فاضلا، وعرف الناس فيك هذه الصفة، شملوك بحمايتهم، يذودون عنك فلا تكون هدفا للمعتدين، فلا عن حب لسواد عينيك، بل لأنهم عرفوا فيك شخصا مأمون الجانب لا يخشى منه عدوان على ما لهم من حقوق، ألا تسمعهم يقولون إن حب الثناء طبيعة الإنسان؟ ذلك لأن طبيعة الإنسان الأصيلة هي أن يحافظ على بقائه، فإذا عرف أنه في الناس موضع ثنائهم، عرف بالتالي أنه موضع حمايتهم، وأنه بمأمن من شرهم. •••
وهل المجد بكل أنواعه وضروبه في أن يثني عليك الناس ويمدحوك؟ إنك تنشد المجد لتظفر بالثناء، ولست تريد الثناء؛ لأن له وقعا في الآذان فنغما جميلا، بل تريده لأنه دليل على أنك قد اتقيت الشر والخطر، فضمنت لنفسك البقاء.
حتى الجمال، تنشده المرأة؛ لأنه لها مصدر قوة، فمن حازت نصيبا منه، ضمنت لنفسها البقاء بمقدار ما حازت. إن الإنسان ليسعى ليحقق لنفسه أكبر سعادة ممكنة في ظروفه القائمة من حوله، وأكبر السعادة هو بعينه أكبر الضمان لاستمرار البقاء، فالصحة سعادة، والمال سعادة، والجاه سعادة والبنون سعادة؛ لأنها جميعا ضمانات للبقاء المستمر الآمن، فإذا رأيت الناس يلتمسون ما يهيئ لهم المتعة والراحة، ويجتنبون مصادر الألم والتعب، فما ذلك إلا لأن اللذة والألم - في حقيقة أمرهما - إن هما إلا قوة الإنسان وضعفه، يسير الإنسان نحو القوة في عافية، أو مال، أو جاه، فيسير بنفس الخطوات نحو الشعور بالسعادة، ويسير نحو الضعف في عافيته أو ماله أو جاهه، فيسير بالخطوات نفسها نحو الشعور بالألم والشقاء، لكن الإنسان إذ ينشد القوة - ليضمن البقاء - لا يقنع بمقدار معين منها، بل يسعى ليظفر بمزيد ليزداد قوة على قوة، فهو يريد مالا على مال، وجاها على جاه، وفتوة في الجسد فوق فتوته ... إنه في ذلك كله لا يريد الزيادة لذاتها؛ لأنه قد يعلم حق العلم أن ما لديه يكفيه، لكنه يريد هذه الزيادة ليزداد ضمانه ببقاء هذا الذي يكفيه، فيضمن بالتالي ألا تتعرض حياته لخطر أو فناء.
فإذا كانت هذه طبيعة الإنسان، كان من طبيعته - تبعا لذلك - أن تشتد به الرغبة في أن يخشاه الناس ويطيعوه؛ لأنه بمقدار ما يجد عندهم من خشية وطاعة، يتحقق له ما ينشده من ضمان وجوده. إن الإنسان بطبعه يريد أن يكون له السبق على غيره في ميادين التنافس، وهو يريد السبق لهذا السبب نفسه، أي أن يكون في موقف حصين فلا يسهل الاعتداء عليه أو النيل منه. إنه لا يهتم بالسبق ذاته ولذاته، بل يهتم به؛ لأنه وسيلة للغاية التي لا غاية له بعدها، وهي أن يبقى بقاء آمنا، ولذلك كان كثيرا جدا ما يكفيه أن يعترف له الناس بالسبق، ولو لم يكن سابقا بالفعل، يكفيه أن يعترف له الناس بأنه أقوى أبناء البلد جسدا، أو أكثرهم مالا، أو أعزهم نفرا، أو أغزرهم علما، أو أبرعهم فنا، حتى لو لم يكن كذلك في حقيقة أمره؛ لأن اعتراف الناس بسبقه عليهم، يصرفهم عن تناوله بالأذى، فيأمن بذلك ما عسى أن يخشاه على بقائه من ضروب الخطر. •••
وإذا كان هذا الذي ذكرناه صحيحا بالنسبة إلى ما تتميز به طبيعة الإنسان، عرفنا لماذا يكون الإنسان مغرورا بطبعه. إنه يولد وفي جبلته وهم بأنه خير من سواه، ولذلك نراه يتصرف على هذا الأساس، حتى تعلمه الضربات التي يتلقاها من خارج نفسه، بأنه ليس في حقيقة الواقع خيرا من سواه كما توهم. وهنا يأتي دور العقل الذي من شأنه أن يحد من غرور صاحبه استدلالا من حقائق الدنيا المحيطة به، وغرور الإنسان بنفسه وعقله الذي يسلم به هذا الغرور كلاهما فطرة.
فالعقل - هو الآخر - أداة في طبيعة الإنسان يحفظ بها بقاءه، وهو لا يبدأ نشاطه في هذا السبيل إلا إذا شط الغرور بصاحبه وشطح، وأوشك أن يودي بصاحبه إلى مواضع الدمار. وتفصيل ذلك أن الإنسان - متروكا على فطرة الغابة - يأخذ في التصرف على أساس أنه سيد مسيطر، ويطالب غيره بالإذعان والخضوع، حتى إذا ما خرج هذا الواهم من كهفه إلى حيث الناس، وجد أحد أمرين: فإما أن يأخذه هؤلاء الناس مأخذ الجد فيما زعم، فتثور في أنفسهم هم الآخرين فطرة السيادة، ويكون بينهم وبينه قتال يظهر الأقوى، حقا وفعلا، لا خيالا ووهما، وإما أن يأخذه الناس في زعمه مأخذ المزاح فيهملونه، وعندئذ يثور غروره، فيقاتلهم، حتى يتبين هنا أيضا، من هو الأقوى حقا وفعلا، لا خيالا ووهما، ففي كلتا الحالتين يقع قتال ليبلو الناس بعضهم بعضا أيهم أقوى وأحق بالسيادة على الآخرين. •••
فماذا يكون موضع المغلوب في هذا القتال؟ موقفه هو الشعور بالدافعين معا: فالغرور لا يزال يملي عليه استئناف القتال حين يسترد ما كان توهمه لنفسه من سيادة، لكن العقل الذي هو أيضا جزء من فطرته، يجد من ذلك الغرور الشاطح، ولا بد للهازم والمهزوم معا في نهاية المطاف أن يتهادنوا لتصبح الحياة المنتجة لكليهما في حدود المستطاع.
وفي ضوء هذا التحليل المستفيض نقول: إن في حياتنا من أصحاب النفخة الكذابة كثيرين، والنفخة الكذابة هي الغرور الواهم الذي لم يجد من سلطان العقل ما يعيده ويرده إلى صواب، فلا يبقى أمامنا إلا أن تنشط حركة النقد البصير الواعي، الذي هو بمثابة العقل الرادع، لينكشف للناس أيهم إذا ازدهى بنفسه فعن امتلاء، ومن حقه أن يزهى وأن نزهى به، وأيهم إذا ازدهي بنفسه فعن خواء، وبذلك يكون مغرورا يستحق الردع، حتى لا ننخدع فنسلم له زمامنا وهو به غير جدير.
قالت الشمس للسحب
لمنزلي شرفة طويلة عريضة فسيحة، مطلة على النيل العظيم الهادئ الوقور. ومنذ تضاءلت قدرتي على الخروج لأسعى مع الناس في الشوارع والميادين، ومع تلك القدرة المتضائلة قلت رغبتي في مغادرة داري، حتى وإن أسعفتني قواي، أقول إني منذ ذلك الحين، جعلت شرفة داري ممشاي، أظل أطويها جيئة وذهوبا، من طرفها الأدنى إلى طرفها الأقصى، ممسكا لهذا البندول البشري عدد الوحدات التي يتردد بها بين الطرفين. وكنت قبل ذلك قد ضبطت الحساب، وعرفت على وجه الدقة كم وحدة من تلك الحركة البندولية تستغرقها الساعة بدقائقها الستين، وهي الفترة التي أقضيها في رياضة المشي داخل القفص.
وليس لتلك الساعة الرياضية وقت معلوم، فقد أبكر بها مع مطلع النهار، وقد تضطرني ظروفي أن أرجئها إلى الضحى. واستطعت صباح اليوم أن أجعلها بعد شروق الشمس بقليل، وكانت السحب تملأ جو السماء، مع رذاذ خفيف - بل أخف من الخفيف - أحسست برودة قطراته على وجهي، لم تكن السحب من الكثافة بحيث تحجب الشمس الطالعة حجبا كاملا، فقد كان في وسع العين أن ترى وراء السحب بؤرة أشد ضوءا مما جاورها، فتعلم أنها الشمس من فوق السحاب، تدل الشاخص ببصره على وجودها، وإن لم تستطع بعد أن تهتك براقع السحب التي حجبت وجهها. وتخيلت كأن الشمس تخاطب السحب الحاجبة، تخاطبها وهي هادئة واثقة بقوتها، قائلة لها بأن انقشاعها أمر محتوم، فلم تعرف الدنيا منذ الأزل، ولن تعرف إلى الأبد، شعاعا كتمت أنفاسه ظلمات، فشعاع الضوء مصيره إلى ظهور، مهما طال احتباسه وراء الحجب.
كنت ما أزال في شرفتي، أمشي بين طرفيها، وأحرص على عد الوحدات، ومع هذا فلم أملك زمام خواطري، التي تدفقت تيارا متلاحقا، وكأنها ترج رأسي رجا لتخرج ما تختاره من كوامن الماضي - بعيدة وقريبة - فما وقعت تلك الخواطر بين كوامن الماضي إلا على بقع سوداء، تشبه قطع السحاب الأدكن في محاولاتها أن تطمس ينبوع الضياء، لكنني كنت - والحمد لله - كلما قذفت خواطري المنسابة في وجهي بواحدة من تلك القذائف السود، أشرت لنفسي - بإصبعي - إلى الشمس المحتجبة وراء السحب، قائلا لها: إن النصر محتوم آخر الأمر لأشعة النور.
لقد أحاطت بي في فترات متقطعة من حياتي، جماعات من صغار النفوس، لهم أجسام الرجال، ولكن أحلامهم وأفكارهم كأحلام العصافير وأفكارها. وإنه لمن أصعب الصعاب أن يتم تفاهم بين راشد وأرعن؛ لأن لكل منهما ميزانه، فربما وجدت فكرة معينة قد رجحت بها الكفة في ميزان الراشد، فإذا وضعتها هي نفسها في ميزان الأرعن خف مثقالها، والأرعن معذور؛ لأن تلك هي طبيعته وموازينها. وشيء شبيه بهذا، ما يحدث بين الآباء وصغار أطفالهم، حين يتوقع الآباء من الأطفال الصغار أن يتصرفوا تصرف الرجال، مع أنهم أطفال صغار.
كنت منذ أمد بعيد، قد وقعت على كتاب إنجليزي يضم مجموعة مختارة من قصص الأطفال، والذي استوقف نظري منه، هو أن الذي كتب عنه التعليق، رجل كان يومئذ مديرا لبنك إنجلترا، فعجبت أن تكون لرجل كهذا، ملئت أيامه بأرقام المال وأحداث الحياة الاقتصادية، علاقة بأدب الأطفال. وقرأت ما كتبه، فوجدته قطعة رائعة بارعة في نفاذ البصيرة، وما أزال أذكر منها تلك المقارنة الجميلة التي أخذ الكاتب يصف بها الفجوة الواسعة بين رؤية الآباء والأمهات لصغارهم، ورؤية الصغار لآبائهم وأمهاتهم ، فبينما الأولون لا تنقطع لهم دهشة من الصغار، كيف يتركون غرف الدار على نظافتها وحسن ترتيبها، ويتسللون خفية إلى الخارج يلطخون ثيابهم بالطين؟ لكن الصغار من ناحيتهم لهم دهشتهم كذلك التي لا تنقطع، من هؤلاء الآباء والأمهات، كيف يرضون لأنفسهم حياة حبيسة بين الجدران، جالسين في ركود على مقاعدهم، بينما في وسعهم أن يتسلقوا الأشجار ليجلسوا على فروعها العليا، تهتز بهم كأنها الأراجيح. نعم، إنه لا سبيل إلى تبادل التقدير بين طرفين، في أحدهما رجاحة الراشدين، وفي الآخر خفة الأطفال.
وصادفني من أمثال هؤلاء الصغار كثيرون، كانت لهم براءة الأطفال حينا، ولكنهم مزجوا صغار عقولهم ونفوسهم بسموم الخبث أحيانا، فكأنما نحن مسلطون بعض على بعض، فإذا كان لأحدنا أنف أفطس، كره أن يرى من يجاوره ذا أنف أشم، حدثني كاتب كنت أعرف له قيمته ومكانته، قال إنه لبث فترة يرسل مقالاته إلى الصحيفة التي كانت تنشر له، فلاحظ أن مقالته - خلال تلك الفترة - تحاط برسوم كاريكاتورية وإعلانات، وأن أعمدتها لا تتصل متراصة متماسكة ليتمكن القارئ من متابعتها، بل كانت تلك الأعمدة تتقطع، ليقع جزء منها في الشمال الشرقي للصحيفة، وجزء آخر في جنوبها الغربي، وجزء ثالث معزول في صفحة أخرى، فظن صديقي الكاتب الذي روى لي الرواية، أن الأمر مصادفة اقتضتها ضرورة الظروف الطارئة، لكن المصادفة أخذت تتكرر أسبوعا بعد أسبوع، حتى لم تعد فيها طبيعة المصادفات، وأراد أن يكشف السر، فأبى عليه حياؤه أن يفعل، حتى أراد الله للسر أن ينكشف من تلقاء نفسه، إذ سعى إليه النبأ وهو في داره، أن مسئولا كبيرا في الصحيفة قد أصدر أوامره بأن تهال أكوام التراب على مقالات صاحبي، تخلصا منها؛ لأنها لا هي تعجبه فيحتفل بها، ولا هو من الجرأة بحيث يعلن رفضها. ولما كنت أعرف لصاحبي الكاتب قيمته ومكانته، سألته: بماذا يعلل ذلك الموقف؟ فضحك وقال: سأترك لك أن تعلله كيف تشاء.
مسلطون نحن بعض على بعض، نعم إنه لم يحدث لي كالذي حدث لصاحبي، لكن حدثت له أشباه، هي التي أخذت صورها تتقاطر مع خواطري، وأنا أقطع شرفة منزلي ماشيا من طرفها إلى طرفها، وأمسك لنفسي حساب العدد حتى تبلغ لي وحدات المجيء والذهاب مائتين وخمسين وحدة، فتكتمل الدقائق الستون. ومع انشغالي بالعد، تدفقت خواطري تترى، لتستخرج لي من المخزون صورا للسحب الدكناء كيف جاهدت أن تحجب الضياء، لكن النصر كان آخر الأمر محتوما للضياء.
ولعل الفرصة هنا سانحة لأضع بين يدي القارئ في إيجاز: لماذا أكتب؟ ولمن أكتب؟ وكيف أكتب؟ أما لماذا أكتب؟ فلأن عندي ما أقوله، وما كان ليستريح لي جنب على مضجع إذا لم أقله، وخلاصته أن ننظر إلى ماضينا بمنظار حاضرنا، وليس العكس، فهنالك كثيرون بيننا يروق لهم أن يزنوا حياتنا في يومنا هذا بموازين الماضي، وهو موقف يرفضه منطق التاريخ. إن أمامنا حضارتين، ولا مناص لنا من قبولهما معا، فحضارة آبائنا نحن من جهة، وحضارة هذا العصر من جهة أخرى، لكن هاتين الحضارتين على خلاف هو أوسع ما يكون الخلاف بين موقفين: إحداهما تدور أساسا حول أخلاقيات السلوك الذي يرضى عنه الله سبحانه وتعالى، وبالتالي فهو السلوك الذي يرضى عنه الناس، وأما الحضارة الأخرى فتدور أساسا حول العلوم وما يترتب عليها من ضروب العمل. الحضارة الأولى مدارها «الكلمة»، والحضارة الثانية مدارها «الآلة»، الأولى تنتج بشرا أسوياء، والثانية تنتج مصانع وصواريخ تغزو الفضاء. وعلينا أن نوفق بين الحضارتين لنعيشهما معا، وهو هدف لا يستهدفه الغرب؛ لأنه لا يملك بين يديه إلا حضارة واحدة هي الحضارة التي صنعها هو لهذا العصر، وأخذنا عنه ما استطعنا أخذه منها، على أننا إذا أردنا الوصول إلى الصيغة الحضارية الجديدة التي تلائمنا في موقفنا، كان لا بد من تغيير في المعايير التي ألفناها، وفي سبيل استحداث هذا التغيير أكتب ما أكتبه.
وللكتابة عند الكاتبين نوعان أساسيان: فمنهم من يكتب ما يريد جمهور القراء أن يقرءوه، ومنهم من يكتب ما ينبغي للقراء أن يعرفوه. الطائفة الأولى تسترضي زبائنها، والطائفة الثانية ترشد وتهدي، حتى وإن أثارت الغضب في النفوس. النوع الأول يمسك بمرآة لتنعكس على سطحها صورة الناس كما هم، والنوع الثاني يمسك بمصباح لينير الطريق أمام السائرين؛ لأنه - على الأغلب - طريق جديد لم يألفوه. ولقد اخترت لنفسي أن أكون من الصنف الثاني، مع تقديري لرجال الصنف الأول، وما كان لي إلا أن أختار الصنف الثاني من الكتابة؛ لأن عندي الجديد الذي أقوله، سعيا به نحو حياة جديدة، وأما كتاب المرآة - على أهميتهم - فليس في حوزتهم جديد، وكل فضلهم هو في أنهم يشاهدون الواقع كما يقع ليصفوه، لا ليغيروه. إنني في كتابتي لا أشبه صاحب دكان الخردوات، يحاول أن يجمع في دكانه ما يتوقع أن يطلبه أصحاب الحاجات، ولكنني أقرب شبها بالطبيب الذي يصف طريقة العلاج وطريق الشفاء.
وأما عن السؤال الثاني: لمن أكتب؟ فليس لي حق اختيار قارئ دون قارئ، فأنا أكتب ما أكتبه لمن يطيب له أن يقرأ، لكنني لا أستهدف أن أسري عن الناس همومهم، بل ربما زدتهم هموما على همومهم، ولا أتملق أحدا، فإذا رأيت الشعب الذي أنا واحد منه، بحاجة إلى تغيير مساره، أعلنت ذلك تأدية لأمانة الفكر. وأما أن أكون فيما أعرضه مخطئا أو مصيبا، فذلك ما لا حيلة لي فيه، ما دمت أضع نفسي وفكري على الورق صادقا ومخلصا. وإنني لأعلم أن أولئك الذين اعتادوا القراءة وهم على فراش النوم استجلابا للنعاس إذا استعصى عليهم، لن يلبثوا - إذا ما بدءوا قراءة مقالي - أن يتركوه إلى سواه؛ لأنهم سيجدونه موقظا ومؤرقا وهم ينشدون النعاس. إنني لا أسكب على الورق دردشة تتناثر كلماتها كما تتناثر رمال الشاطئ بين أيدي صغار يلهون في إجازة الصيف، بل أفترض في قارئي جدية المأخذ، وشعورا بالتبعة الملقاة علينا جميعا، وهي تبعة أن نغير حياتنا نحو ما هو أفضل وأعلم وأقوى.
على أن الكتابة - بغير شك - تتفاوت مستوياتها ارتفاعا وانخفاضا، وإنه لمن الخير أن تتفاوت على هذا النحو أقلام الكاتبين؛ لأن القراء الذين نتجه إليهم بالحديث متفاوتون، كما تتفاوت الفرق الدراسية في معاهد التعليم من أدناها إلى أعلاها، فلكل فرقة منها ما يلائمها مادة وأسلوبا، وهكذا أتصور البناء الثقافي في صورة الهرم، تزداد طبقاته اتساعا كلما نزلنا من القمة إلى الأساس، وتصدق هذه الصورة الهرمية على القارئين صدقها على الكاتبين أيضا، فقد يكتب الكاتب للقلة ذات المستوى الأرفع؛ لأن هذه القلة نفسها هي التي ستكتب لمن هم دونها. ولست ممن يضحك على عباد الله مخادعا، قائلا لمن ليس يعلم أنك العبقري الذي هو أعلم العلماء. إن في أبناء الشعب من يعرف أمرا لا يعرفه آخرون، وعلى من يعرف أن ينقل معرفته إلى سواه إذا كانت مما ينفع ذلك السوي.
وبقي سؤالنا الأخير: كيف أكتب؟ إنني لم أكتب، ولن أكتب فقط حرفا ما بقيت بين الأحياء، إلا إذا كنت مؤمنا بالمعنى الذي يدل عليه ذلك الحرف ساعة كتابته، وإذا ألقيت نظرة شاملة، إلى ما كتبته طوال فترة زادت على نصف قرن كامل، رأيت خطا فكريا مطردا هادفا نحو غاية مقصودة، هي فقد قيم قائمة في حياتنا، لو ظللنا نسلك على هداها، لتعذر علينا قبول حضارة عصرنا قبولا يجعل تلك الحضارة ملكا لنا، ونستطيع أن ندمجها فيما بين أيدينا من إرث أسلافنا، لتتكون لنا بهذا الدمج رؤية جديدة وحياة جديدة.
ولقد كانت لي طريقتي الخاصة في صياغة ما أكتبه، إذا كان ما أكتبه مقالا يراد به أن يحمل فكرة تضم إلى سائر الأفكار التي أعرضها على فترات متقاربة حينا، متباعدة حينا، كما تضم خيوط اللحمة إلى خيوط السدى لتنسج منها قماشة واحدة. وأعني بتلك الطريقة الخاصة أسلوبا في تحميل الفكرة على شكل مختار يتلاءم مع طبيعة الفكرة المبثوثة فيه، ومن شأن ذلك - كما هي الحال في جميع الصور الأدبية على اختلافها - أن تعرض الفكرة على قارئها بطريقة غير مباشرة، إذ يجد القارئ نفسه أمام راوية يروي له حلما، أو يزعم أنه عثر على مخطوط قديم ، أو يتكئ على أسطورة من أساطير الأقدمين، أو يجري حوارا تخيل له أشخاصا يناسبون موضوع الحوار، وهكذا وهكذا. على أن هنالك عددا كبيرا من المقالات اضطررت فيه إلى عرض الفكرة عرضا علميا بصورة مباشرة تلتزم تسلسل القضايا في تتابع منطقي، وذلك حين أرى أن الضرورة تقتضي اللجوء إلى إقامة الحجة بالبراهين العقلية الواضحة الصريحة.
ولماذا لجأت - حين لجأت - إلى طريقة الأدب في تضمين الأفكار أشكالا أختارها لها، مما يحتاج في حالات كثيرة إلى استخدام الرمز الذي من خلاله أعرض فكرتي؟ فعلت ذلك أولا لأن في طبيعتي ما يميل بي إلى التصدير الأدبي للأفكار، وثانيا لأنني أعتقد أن البناءات الفنية أدوم بقاء على الزمن، وأرسخ أثرا في ذهن المتلقي، مما لو عرضت الأفكار على الطريقة التي تعرض بها المواد العلمية الخالصة، لكن الثمن المدفوع في سبيل أن أكسو الأفكار بأشكال أدبية، قد كان باهظا فيما يبدو، إذ تزداد درجة الاحتمال بأن تصادف الكتابة قراء لم يخلقهم الله للقراءة الجادة المتأنية المتفهمة، بل خلقهم لينظروا إلى المكتوب بأطراف أعينهم، ثم يتثاءبون، ويلقون بالكتاب أو الصحيفة ليأخذهم النعاس إلى مدينة الأحلام، فماذا يقول قراء كهؤلاء إذا استيقظوا في الصباح، وسئلوا: ماذا قرأتم بالأمس؟
كانت تلك هي خواطري، التي انسابت متدفقة يشد بعضها بعضا، عندما كنت أقضي الساعة الرياضية مشيا في شرفة منزلي، في وقت مبكر من الصباح، والشمس خلف حجاب السحب تجاهد لتنفذ إلى الأرض بنورها. وكنت مع سيل الخواطر حريصا على ألا يفلت مني عدد الوحدات التي أقطع بها الشرفة رائحا غاديا، واكتملت الساعة بدقائقها الستين، وقبل دخولي إلى حيث تحضرني الجدران، نظرت إلى الشمس، فإذا هي موشكة على كسح السحب الحاجبة، فقلت: ألا إن النصر محتوم آخر الأمر للضياء.
حوار مع وراق
كان يوما صائفا من سنة 1963م، عندما قصدت إلى وراق، لأشتري رزمة من الورق الأبيض المسطر، الذي اعتدت الكتابة عليه، كلما كتبت كتابا أو مقالا، وكنت أعلم أن الورق يومئذ قد قل عرضه في السوق وغلا ثمنه، ولكنني لم أتوقع أن أجد الثمن قد بلغ ذلك الحد من الارتفاع، وذلك أني حين طلبت من الوراق رزمة الورق التي أريدها، جاءني بواحدة لا تزيد أوراقها على مائة ورقة وكنت أعهدها قبل ذلك تشتمل على خمسمائة، فأخذت أقلبها بين يدي، على نحو قصدت به أن أنقل إلى الوراق دهشتي من ضآلة حجمها، وما هو إلا أن دار بيننا حديث:
قلت: بكم هذه؟
قال: بثمانين قرشا (ولم تكن الثمانون يومئذ كالثمانين في يومنا، بل كانت بمثابة عشرة أضعاف في قوة شرائها).
قلت: هذا أمر عجيب؛ لأن الكتاب تبلغ ورقاته مائة ورقة، لا يبلغ ثمنه ثمانين قرشا.
قال: وهل تريد أن تسوي بين ورق أبيض، وورق طبع في كتاب؟
قلت: كلا، لست أريد ذلك؛ لأن ورق الكتاب هو ورق أضيفت إليه زيادة، هي المعرفة التي تحملها كلماته، وأما الورق الأبيض فهو فارغ لم يحمل بعد شيئا.
قال: يؤسفني ألا أرى ما تراه، إذ أرى الورق بعد طبعه في كتاب، هو ورق بالنقصان، لا بالزيادة، فالمادة المكتوبة - في معظم الحالات - هي مداد لطخ بياض الورق ونقاءه، كالثوب يسيء إليه لابسه بالقذر فتهبط قيمته.
قلت: إنك تمزح ولا ريب.
قال: كلا، كلا، بل إني جاد ولا مزاح، ولتعلم أني وراق وقارئ، فأنا أبيع الورق فارغا، ثم أطالعه مليئا بما يكتبه الكاتبون، فلا أشعر بالكسب مقدار ما أشعر بالخسارة.
قلت: أراك قد بدأت بتشبيه خاطئ، فأضلك عن الصواب، وذلك حين شبهت الفرق بين الورق خاليا والورق مكتوبا عليه، بالثوب جديدا والثوب ارتداه من أصابه بالقذر، والأصح هو أن تقول إن الفرق بين الحالتين، كالفرق بين أكواب تبيعها فارغة، فيملؤها الشاري بشراب سائغ، ثم هي لا تفرغ من شرابها أبدا، مهما تعاقب عليه الشاربون، جيلا بعده جيل، بعده ثالث ورابع وعاشر.
قال: الخلاف بيني وبينك يا سيدي هو في كلمة «سائغ»، نعم إن أكواب الورق التي أبيعها فارغة، يلمؤها الكاتبون شرابا، ولكن كم مرة يجيء ذلك الشراب سائغا حقا، وكم مرة يجيء - على أحسن الفروض - مائعا تموع به أمعاء الشاربين؟
قلت: أحب أن أسمع منك أنت الجواب، فمتي تنفر ومتى تسيغ؟
قلت ذلك، وقد تغيرت نبرة صوتي نحو الاهتمام بما يقوله الرجل، ولعله أدرك التحول، فدعاني إلى الجلوس ليكون الحوار بيننا مطمئنا هادئا، فالساعة بعد الظهر بقليل، والجو حار، وأنا زبونه الوحيد.
قال: سألتني متى أنفر مما أقرأ ومتى أسيغه؟ وأقول: إن أشد ما يصيبني بالغثيان، هو كاتب يشهد ما نغوص فيه من مشكلات الدنيا والآخرة فيتركها ليركب جواده ركوب الفرسان في العصور الوسطى، شاهرا قلمه في يده، وكأنما يصيح قائلا: هل من مبارز؟ كثيرون - يا سيدي - هم الكتاب الذين يأخذهم بأنفسهم العجب (بضم العين)، فتراهم يلتمسون مواقع الضوء، ليكونوا على مرأى من كل ذي عين تبصر، ويختارون من فنون القول ما يشد السمع، لا ما يتصدون به لمشكلات الناس على اختلافها وكثرتها، نعم إنك تراهم يبحثون عن مواقع الضوء، ومقاعد الرئاسة، بدل أن يتجهوا نحو مناطق الظلام ليشعلوا فيها المصابيح، تاركين مقاعدهم إلى حيث ساحات العمل والجهاد، إن عشقهم الشديد للأضواء ينصب على رءوسهم، هو الذي يدفعهم دفعا إلى الملق فيما يكتبون، إنهم يتملقون جمهور الناس بقولهم عنه إنه قد بلغ الكمال، ويتملقون الشباب من ذلك الجمهور، بقولهم عنه إنه شباب بلغ الرشد والرشاد، ويتملقون الحكام بقولهم إنهم قد أقاموا للعدالة ميزانها، ولم يعد في الإمكان أحسن مما كان. هكذا هم يتملقون فيما يكتبونه، ابتغاء لمعة ضوء من منصب أو مال أو زلفى، مع أنهم موقنون فيما بينهم وبين أنفسهم أن الجمهور الذي زعموا له الكمال تنقصه المعرفة، والشباب الذي زعموا له الرشاد تعوزه الإرادة، والحكام الذين قالوا عنهم إنهم أقاموا للعدالة ميزانها، كثيرا ما انحرف في أيديهم ذلك الميزان. إنهم يتملقون وكأنهم بيننا أضياف غرباء يبتغون الرضا من صاحب الدار ليأذن لهم بطول الإقامة، فهل تفوتهم الحقيقة البسيطة الواضحة، وهي أننا جميعا إخوة في الوطن، نتبادل النصح كما يتبادله أفراد الأسرة الواحدة؟
قلت: ألا ترى أنك قد عممت الحكم فأسرفت في التعميم؟ وأقل ما أقوله لك الآن: من أين لك أنت هذه القدرة على نقد الحياة ونقد الكتاب، إن لم تكن قد اكتسبتها مما قرأته لهؤلاء الكتاب أنفسهم؟ ومع ذلك فاضرب لي مثلا بموقف معين محدد، رأيت فيه كل ذلك الملق من أصحاب الأقلام، لكي أتبين على وجه الدقة ما تريد.
قال: أما أن أكون قد بالغت في تعميم الحكم، فذلك جائز، ولعلك توافقني على أن المعول بالنسبة لي ولأمثالي من عامة القارئين، هو على الانطباع العام الذي يخرج به القارئ من مجموع ما قرأ، وما قلته هو الانطباع الذي خرجت به، وأما عملية التحليل والتمحيص التي تميز الصحيح من السقيم، والتي قد تشير في الكتاب الواحد أو في المقالة الواحدة، إلى فقرة فيها صواب، وفقرة أخرى فيها خطأ، فهي من خصائص الباحثين الدارسين، وليس من هؤلاء يتكون الرأي العام. وأما أن أضرب لك مثلا يوضح شيئا مما أريد، فأقرب الأمثلة إلى ذهني، هو تقسيم شعبنا إلى طوائف خمس، قيل عنها إنها لو تركت على سجاياها لتصارعت، ولهذا وضعت الخطط وسنت القوانين التي تجنبنا ذلك الصراع. وعقيدتي الخاصة - وأنا مواطن من المواطنين - هو أن مثل هذا التقسيم لشعبنا خطأ من جهة، ومن شأنه مع الأيام من جهة أخرى أن يولد بين الناس كراهية بعضهم لبعض، لم تكن في الأصل قائمة بينهم. أما وجه الخطأ - كما أراه - فهو أن التقسيم إلى فلاحين وعمال وجنود ومثقفين ورأس مالية وطنية، إنما هو تقسيم أفقي، يحدد اختلافات في ضروب العمل، وليس هو بالتقسيم الرأسي، الذي لو وقع لكان بين الناس طبقية تستحث المقاومة كأن ينقسم الناس إلى أحرار وعبيد، أو إلى نبلاء وعامة، أو ما يشبه ذلك من تقسيمات عرفتها بالفعل بعض الشعوب. ولعل أوضح دليل أقدمه لبيان الصواب في وجهة نظري، هو أن الفرد الواحد في شعبنا، قد تجتمع فيه كل ضروب العمل التي وزعناها - نظريا - على الطوائف الخمس، فقد يكون الفرد الواحد صاحب أرض يشرف على زراعتها، وضابطا ومثقفا وقائما بمشروع يندرج في الأعمال المالية الوطنية، كأن يملك مزرعة للدواجن. وما دامت هذه الجوانب كلها قد اجتمعت في شخص واحد، فهي - إذن - ليست مما يقسم الناس إلى طبقات متصارعة. وإذا كان من النادر أن تجتمع هذه الأعمال في فرد واحد، فليس من النادر أن تجتمع في أفراد أسرة واحدة، ومع ذلك فنحن لا نقول عن أفراد الأسرة الواحدة إنهم ينتمون إلى طبقات مختلفة.
ومضى الوراق في حديثه قائلا: إنني أتوقع لهذا التقسيم أن يخلق بين الناس شيئا ليس هو الآن قائما (لنتذكر أن هذا الحديث جرى سنة 1962م)، وهو أن يتضخم الشعور عند الفلاح أو العامل - مثلا - بأنه صاحب مصلحة ليست هي بالضبط مصلحة المثقف، وينتج عن ذلك شيء من المنافسة الخفية، يؤدي إلى الرغبة في استغلال بعضنا لبعض، فإذا أصلح العامل للمثقف تليفزيونه أو أسلاك الكهرباء أو أحواض الماء طالبه بالمعجز الذي يجاوز كل معقول، وكذلك إذا لجأ عامل مريض إلى طبيب، أو لجأ مزارع إلى مهندس، جاء رد الفعل مساويا للفعل الأول وهكذا. وسكت المتحدث لحظة، ثم قال: أنا لا أزعم أنني محق حتما فيما قدمته، لكن الذي أقوله هو أنه إذا كان هنالك من الكتاب من يرى مثل رأيي هذا، فلماذا لم نقرأ في ذلك كلمة واحدة؟ وكان كل ما قرأناه في هذا الصدد تأييدا لا يداخله، ولو قليل من التردد، فهل تراني قد أخطأت حين قلت إنهم يؤثرون الملق كسبا للرضا؟
ولما بلغ الوراق بحديثه هذا المدى، جاءه زبون، فنهض لقضاء واجبه، ونهضت معه مستأذنا في الانصراف، وقائلا له: إن ما سمعته منك جدير بالنظر، ولعلي ملاقيك في فرصة أخرى لنستكمل الحوار.
لكن الفرصة المرجوة لم تسنح قط، ومضى بعد حديثنا ذاك عشرون عاما، وحفظته الذاكرة، لتعيده إلى وعيي هذه الأيام، فكلما تعنت معي عامل في تقدير أجره، وفي عدم الوفاء بوعوده تذكرت ما تنبأ به الوراق، مما رأى أنه قد يترتب على تقسيم شعبنا إلى طوائف، وقد عرفه تاريخه الطويل شعبا واحدا؛ إذ لا يعقل أن يكون العنت الذي يبديه المواطنون اليوم بعضهم لبعض إلا مرارة ملأت قلوبهم حقدا وكراهية، حتى أصبحت «الطيبة» التي يوصف بها بحاجة إلى تحليل وتوضيح.
لقد حدثت أحداث في إنجلترا إبان القرن السابع عشر، استدعت من فلاسفتهم أن يطرحوا على أنفسهم سؤالا يتطلب منهم جوابا يقيمونه على تأمل عميق، هو: كيف نشأ المجتمع بادئ ذي بدء، بعد أن لم يكن هناك إلا أفراد يتصارعون ويتنازعون، بحيث لم يستطع العيش منهم إلا قوي يفترس الضعيف افتراسا، وكان أهم من قدم جوابا عن السؤال، هما «جون لوك» و«توماس هوبز»، وعلى الرغم من أن الجواب عند أحدهما جاء نقيضا للجواب عند الآخر، إلا أن الجوابين معا يتركان الدارس، وقد تحركت في ذهنه الدوافع ليتأمل المشكلة لنفسه. وأعيد السؤال على قارئي مرة أخرى: كيف يمكن أن تخرج من مجموعة أفراد متناحرة متنازعة، كل منهم يود لو حول الآخرين إلى طعام يأكله أقول كيف تتحول مجموعة أفراد كهذه إلى مجتمع متعاون؟ فسؤال كهذا هو الذي كان يكمن في المشكلة التي أخضعها هؤلاء الفلاسفة للفكر العميق، وتبعهم جان جاك روسو في فرنسا بعد ذلك ليتجه بفكره إلى المشكلة ذاتها، وكانت فكرة «التعاقد الاجتماعي» باعتبارها أساسا لنشأة المجتمع هي في رأي لوك وروسو أصلح الأسس التي يقام عليها المجتمع. أما هوبز فكان له رأي آخر.
وأقول ذلك لما أصبحنا نراه في مجتمعنا مما يشبه الحياة الفردية التي سبقت نشأة المجتمع، حين لم يكن للفرد حياة إلا على حساب فرد آخر، فكل منهم يتربص بأخيه بدل أن يسعى للتعاون معه، وإلا فكيف نفسر ما يطلبه المهني - أيا كانت مهنته - وما يطلبه الحرفي - أيا كانت حرفته - من أجور لا تتناسب قط مع المستوى العام الذي يعيش عليه أغلب المواطنين؟ لقد علمت من ذي علم وخبرة أن العامل الحرفي الذي يطلب منا المستحيلات أجرا على عمل يؤديه في بضع دقائق يكتفي من الأسبوع كله بيوم واحد أو يومين - ليقضي بقية الأسبوع في المقهى والنرجيلة تكركر أمامه، كما تكركر أمعاء الذين اغتالهم بأجوره يوم أمس فلا يحق لنا، بل ينبغي علينا أن نطرحه على أنفسنا سؤالا جادا، لا مجاملة فيه، ولا تهوين من خطورته، وهو: كيف نخرج مجتمعا متعاونا متعاطفا من مجموعة أفراده الذين تنافرت أهدافهم وتناحرت وسائلهم ؟
كان أرنولد توينبي - فيلسوف التاريخ المعروف - قد كتب مقالا قصيرا في صحيفة الأبزيرفر البريطانية - قبل وفاته بقليل - وكانت وفاته منذ بضعة أعوام، وأتيح لي أن أقرأ ذلك المقال عند نشره، وأخذني العجب والإعجاب معا، كيف استطاع ذلك الكاتب القدير أن يضع في نصف صفحة ما يصح أن يكون تشخيصا وعلاجا لمشكلة هي من أخطر المشكلات التي تعكر صفو الحياة العصرية جميعا ألا وهي مشكلة العنت الذي يتعنت به المهني أو الحرفي في تقدير أجوره معتمدا على أن الضحية لن يسعها إلا الرضوخ، ولتأكلها بعد ذلك الرضوخ ألسنة الجحيم، فماذا يضيره هو ما دام قد ظفر بأجر يمكنه - والكلام الآن يصدق على العامل المصري بصفة خاصة، أقوله أنا ولم يقله توينبي - من الاكتفاء بيوم أو يومين من كل أسبوع، ليقضي بقية الأسبوع في حياة لاهية؟
كان توينبي قد علل ذلك العنت في العامل البريطاني، بأنه رد فعل للمرارة التي غصت بها حلوق الكادحين، عندما استبد بهم أصحاب رءوس المال، ولكن توينبي وجه حديثه إلى العامل البريطاني ليقول له إن ذلك الرد العنيف، وإن يكن له ما يبرره فيما مضى، فهل يبرر له اليوم أن ينتحر وينحر الشعب كله معه؟ وكان مما قاله وهو ينذر العمال ويحذرهم من أن يدمروا الوطن بأسره في سبيل أطماع تنبعث في نفوسهم من مرارة الماضي، إنه يشهد ما يحدث من مغالاة العامل في أنانيته، فيرى كأنما هو واقف عند شاطئ النهر، على بعد أمتار قليلة من شلالات نياجرا، وقد مرت أمامه سفينة متجهة نحو تلك الشلالات الجبارة، لكن ربانها لا علم له بها، فهلاكه وشيك إذا مضى بسفينته حيث يمضي، وإذن فواجب توينبي أن يصيح به: قف هنا على الشاطئ؛ لأنك من التهلكة على مقربة.
وإني لأسأل: أأجاوز حدي لو صحت صيحة توينبي بمن قست قلوبهم، وغلظت أكبادهم، فيذبحون مواطنيهم ذبحا عندما يتقاضون أجورا تهلكهم وتهلك دافعيها معا، ويتحول بها مجتمعنا إلى مجموعة أفراد كل منهم يضمر الغدر بأخيه؟
مغامرات محسوبة!
في اليوم السادس عشر من سبتمبر سنة 1953م، كنت في طريقي إلى الولايات المتحدة، لأقضي بجامعاتها عاما أستاذا زائرا، وكانت تلك هي رحلتي الأولى التي أعبر بها المحيط الأطلسي إلى العالم الجديد. ولقد عدت بالأمس إلى ما كتبته يومئذ في وصف الطريق، فكأنما كنت أقرأ شيئا جديدا، لم أخطه بقلمي ذات يوم، فاقرأ معي هذه الفقرات:
بعد أربعين دقيقة من إقلاع الطائرة، أعلن الميكروفون أننا الآن فوق مدينة الإسكندرية، فنظرت، فإذا الإسكندرية لا تزيد على خطوط رقيقة مرسومة بالقلم الرصاص على الورق، فقلت لنفسي: إذا كانت المدينة الضخمة قد استحالت إلى هذه الخيوط الرقيقة، فبأي منظار يمكن أن أرى الفرد الواحد من الناس؟ والإنسان في هذه الحالة أميل إلى التسرع بالحكم على نفسه بالتفاهة والضآلة، فقليل من الارتفاع في جو السماء يمحوه، فماذا يكون أمره عند الرائي من أفلاك أخرى، وأكوان أخرى؟ ولكن الخطأ هنا هو نسيانه أن الطائرة التي مكنته من الصعود، هي من صنعه، ووليدة فكره وطموحه وخياله الوثاب، فأول سطر ينبغي أن يكتب في كتاب ثورتنا، وأن يقرأ ألف مرة كل يوم، هو أن نقرر لأنفسنا عن عقيدة، قوة الإنسان وجبروته، وأن نمحو من صفحات أذهاننا هذا الوهم الذي ما ينفك يعاودنا ويخيفنا، وهو أن الإنسان مخلوق تافه ضعيف. (وبينما كانت الطائرة تعبر بنا المحيط أثناء الليل) ظللت أنظر خلال زجاج النافذة إلى الجو المفضض بضوء القمر، وقلت لنفسي: ما أبعد الفرق بين إنسان وإنسان، قارن بينك الآن، وأنت تعبر المحيط، على هذا النحو، وبين كولمبس وهو يعبر المحيط نفسه، لتعلم كم يكون الفرق بين الفرد المبدع الخلاق المبتكر، وبين الأفراد الذين يجيئون بعد ذلك ليتبعوه! إن خيال رجل واحد وجرأته، فتحت للناس عالما جديدا، وشقت لهم طريقا جديدا إلى حضارة جديدة، ولكن سرعان ما يختلط علينا الأمر، فنظن ألا فرق بين من يبدع ومن يبيع. سرعان ما يختلط علينا الأمر، فلا ندرك الفرق بين من ابتكر الطائرة - مثلا - ومن اشتراها أو سافر على متنها! سرعان ما يختلط علينا الأمر، فلا نرى المسافة الشاسعة بين باحث علمي يشق بنتائجه العلمية أرضا جديدة لم تطأها أقدام قبل قدميه، وبين من يأتي بعد ذلك ليقرأ تلك النتائج، ويدرسها، وقد يحفظها عن ظهر قلب، وينشرها مترجمة إلى لغتنا أو غير مترجمة، كاملة أو ملخصة، ثم يقول - ونقول معه - إن منهم علماء ومنا علماء، ولا فرق في العلم بيننا وبينهم! لكن الفرق يا صاحبي هو نفسه الفرق بيني وبين كولمبس في عبور المحيط: عبره هو لأول مرة مغامرا مخاطرا متخيلا متعقلا، وعبرته أنا بعده تابعا، فلا مغامرة ولا مخاطرة ولا خيال ولا فكر.
كان ذلك ما كتبته يومئذ، وقد مرت بعد كتابته ثلاثون عاما، فهل تغير الموقف مثقال ذرة واحدة؟ أم لا يزال هو الموقف الذي كان منذ ثلاثين عاما، ومنذ ثلاثمائة عام؟ فسوانا يصنع حضارة العصر، ونحن نشتريها، أو نشتري ما استطعنا شراءه منها، ثم لا نستحي من القول بأن صانع الحضارة ومستعيرها سواء! لا، بل قد يصل بنا الشطح أن نباهي بأن «الخواجة» مسخر لنا كما سخرت لنا البغال والحمير، إذ هو يقيم لنا أسباب الحياة الدنيا، لنفرغ نحن للعبادة أملا في نعيم الحياة الآخرة، أي والله قالوها!
ولم تمض سوى أيام قلائل، منذ سألني شاب عربي في ندوة عامة: لماذا تخلفنا وقد كنا ذات يوم في الطليعة؟ فأجبته قائلا: كنا في الطليعة يوم كنا نفرز أفكارنا كما يتفصد العرق من جلودنا، ثم تخلفنا حين تركنا لسوانا أن يغامر ويغامر، حتى شق بصواريخه أجواز الفضاء، بينما جلسنا نحن القرفصاء ننظر إليه بأفواه فاغرة، انتظارا لما يلقي به إلينا من فتات. كان الفرق بيننا وبينهم ذات يوم فرق غرب وشرق، فالغرب يتعلم ليغزو الدنيا بعلمه، والشرق يتصوف لتخبو شعلة الحياة بزهده، فما كدنا نستيقظ لنبرهن لهم ألا فرق بين شرق وغرب، حتى فصل بيننا فارق جديد، فأصبح الفرق بيننا فرق شمال وجنوب، فالشمال يزداد ثراء، بعلمه مرة، وبسطوته الباغية مرة، بينما الجنوب يزداد فقرا، بجهله مرة، ومرة أخرى بضعفه الذي مكن للشمال أن يستذله ويستغله، وها نحن أولاء نشهد على مسرح الأحداث صراعا بين غرب وشرق، ونسمع حوارا بين شمال وجنوب، لكن «الغرب الشمال» في مركز القوي و«الشرق الجنوب» في مركز الضعيف. ولو سألتني لألخص لك الفرق بين الجانبين في كلمة، قلت: إن «الغرب الشمال» يغامر، بينما «الشرق الجنوب» يجلس القرفصاء.
قال السائل في لهفة قلقة: زدنا توضيحا يا أخانا، ولا تخف الحقائق في لفائف التشبيه والمجاز، زدنا يا أخانا في بيان الفرق بين الغرب العالم الذي هو أيضا شمال غني، والشرق الغافل الذي هو في الوقت نفسه جنوب فقير.
أجبته بصوت مرتفع: إذن فاسمع كيف جاءت نقطة التحول بين الجانبين، ومتى جاءت؟ فتستطيع أن تقول: إن «الشرق الجنوب» كانت له اليد العليا منذ أول التاريخ إلى أن نهضت أوروبا في القرن السادس عشر، ومهدت لنهوضها ذاك بمؤشرات كثيرة قبل ذلك بقرن من الزمان أو أكثر قليلا، ذلك إذا استثنينا عصر اليونان القدماء، الذي وضع الأساس العقلي «للغرب الشمال»، ثم اختفى، لتنقضي بعد ذلك نحو خمسة عشر قرنا قبل أن يتاح لذلك «الغرب الشمال» أن يقيم طوابق البناء فوق الأساس الذي وضعه له أسلافه اليونان.
وأما ما قبل اليونان، وما بعدهم حتى نهضت أوروبا نهضتها، فقد ظلت «للشرق الجنوب» اليد العليا فكرا وحضارة وروحا وكل شيء. ولماذا حدث التحول؟ حدث ذلك لأن الجمود قد شاء لهذا «الشرق الجنوب» أن يظل في حياته العقلية على منهج، كان صالحا في ظروف الحياة القديمة، ولم يعد صالحا فيما استحدثه الزمان بعد ذلك من ظروف أخرى، وأما «الغرب الشمال» فقد فتح الله عليه بأن أخذ يبدل منهجا بمنهج كلما اقتضته العصور المتجددة أن يبدل.
كان «العلم» في المراحل الأولى من تاريخ الحياة العقلية، علما بلفظ منطوق أو مكتوب، فلما أراد العقل أن يرسم لنفسه منهجا يجري تفكيره على مبادئه، كان ذلك المنهج هو الطرق التي يمكن بها توليد جملة من جملة، مع اليقين بأن الجملة المتولدة إنما خرجت من جوف الجملة الوالدة، فإذا كانت الجملة التي بين أيدينا - مثلا - هي أن الناس جميعا يولدون أحرارا، تولدت عن ذلك جملة صحيحة، هي أن زيدا وخالدا وعمرا ولدوا أحرارا؛ لأنهم أفراد من الناس، وهكذا تدور عجلة الفكر في مجموعات لفظية، يشتق بعضها من بعض، وكانت هذه العجلة الفكرية في دورانها حول نصوص تستخرجها من نصوص، تشملنا وتشمل غيرنا؛ لأن الدنيا لم تكن في المراحل الأولى مضطرة إلى اللجوء إلى طريقة أخرى، فتلك كانت طبيعة علمهم، وذلك كان المنهج الملائم لذلك العلم. ولا بد لنا أن نلحظ هنا، أن علم الرياضة الذي بدأ ازدهاره مع القدماء، قبل أن يولد ما يسمى بالعلوم الطبيعية بزمن طويل، أقول إن علم الرياضة هو في حقيقته توليد جمل من جمل، أو معادلات من معادلات، بالطريقة التي أشرنا إليها، فلا غرابة أن يكون سابقا في الظهور.
وكان الفيلسوف اليوناني أرسطو هو الذي متن هذا المنهج، فضبط القواعد التي تضمن لنا الصواب عند توليدنا نتيجة من مقدمة وجدناها بين أيدينا، ثم جاءت بعد ذلك الحضارة الإسلامية وثقافتها، فجعلت المنطق الأرسطي عمودا أساسيا من عمدها، حتى لقد كان ذلك المنطق الأرسطي ودراسته والإلمام به، علامة لا بد من وجودها ليكون العالم عالما، والفقيه فقيها، والمثقف مثقفا، مهما كان ميدان التخصص.
ودار الزمان دورته، وأخذت القرون تتوالى لتدنو من الخامس عشر والسادس عشر، فإذا الناس في أوروبا - شيئا فشيئا - يستبدلون قراءة بقراءة، أو قل إنهم أخذوا يضيفون إلى الضرب القديم من القراءة، ضربا جديدا منها، فبعد أن كان المقروء كله نصوصا من ألفاظ مسطورة في صحائف (أو منطوقة يرويها رواة) اشتدت الرغبة في أن تضاف إلى ذلك قراءة الظواهر الطبيعية بطريقة مباشرة. فافرض - مثلا - أن الموضوع المراد معرفة شيء عنه، هو حركة الأجسام، بما في ذلك حركة الكواكب والنجوم، فقد كان الأغلب عند القدماء أن تكون وسيلتهم إلى المعرفة، قراءة كتاب كتبه من هو أقدم، ليطالعوا فيه شيئا عن حركة الأجسام. وأما النوع الجديد من القراءة، الذي استحدثته النهضة الأوروبية، فهو أن يبحث الباحث عن وسيلة بصرية يراقب بها الأجسام ، وهي في حركتها محاولا أن يستخرج لتلك الحركة قوانينها، كما فعل جاليليو، وكبلر، وكوبرنيق ونيوتن، لكن قراءة الطبيعة بهذه الطريقة المباشرة، كان لا بد لها من منهج جديد، يجد له من فلاسفة العلم من يقننه، كما قنن أرسطو قديما منهج القدماء. وهذا ما قد حدث، وأصبح للعقل الأوروبي منهجان؛ يستخدم أحدهما إذا كان بصدد عملية توليدية، كما هي الحال في الرياضة وفي كثير جدا من ضروب استدلال النتائج التي تتولد من شيء مكتوب، ومنهج آخر يستخدمه إذا كان المقروء ظاهرة طبيعية، يراد دراستها بطريقة مباشرة، لاستخراج قوانينها. وبينما «الغرب الشمال» منطلق في سبيله على ساقين، اختار «الشرق الجنوب» لنفسه أن يحجل على ساق واحدة، فيفكر بمنهج واحد كان فيما مضى صالحا لكل ميادين النشاط العلمي، ولم يعد اليوم صالحا إلا في جانب ضيق من جوانب الحياة الجديدة، فدخل «الغرب الشمال» عالما جديدا، لغته الآلات والأجهزة التي لو بعث من الأقدمين أحد ليرى شيئا منها لجن جنونه. وأما «الشرق الجنوب» فقد وقف بمنهجه التوليدي، يستولد جملة من جملة، ونتيجة من مقدمة، حتى إذا ما رزقه الله مالا، اشترى بماله بعض ما يجود به «الغرب الشمال» من أساليب الحضارة الجديدة ووسائلها.
ولما بلغت من حديثي هذا المدى، اتجهت نحو الشاب العربي الذي طلب مني أول الأمر، أن أزيده توضيحا: لماذا تخلفنا في موكب الحضارة، بعد أن كنا طلائع، وخاطبته قائلا هذا هو جوابي على سؤالك يا أخي الصغير، إننا تخلفنا؛ لأن ضرورة التطور كانت تقتضي أن نضيف منهجا جديدا إلى منهج قديم، كما فعل «الغرب الشمال»، فاستطاع بهذه الإضافة أن يجمع بين علوم الرياضة وعلوم الطبيعة، وأن يجمع بين قراءة الصحائف وقراءة الظواهر في آن معا، لكننا أبينا أن نفعل ذلك، جهلا، أو ضعفا، أو عنادا، فكان ما كان.
وليس الفرق بيننا وبينهم بمقتصر على مجرد فرق بين إنسان يسير على قدمين، وآخر يعرج على قدم واحدة، بل إن الأمر ليتسع ليشمل جانبا آخر، ربما كان أهم وأخطر، وهو أن المنهج القديم الذي ما زلنا نحن نعيش في كنفه، من شأنه أن ينتهي بصاحبه إلى عدة أمور كلها ضار؛ منها أن العقل يبدأ الطريق بمقدمات مفروض فيها الصواب، فيصبح كالسجين الذي ضربت حوله الأسوار، ولا يجوز له أن يجاوزها، ثم هو منهج يفتح المجال لصاحبه أن يختار مقدماته اختيارا يساعده على الوصول إلى النتائج التي كان يشتهي مقدما أن يصل إليها، فيوهم نفسه بعد ذلك أنه أقام البرهان على صحة موقفه. وإن صاحب هذا المنهج ليستطيع أن يحيا عمره ويموت، وهو لم ير من الدنيا التي حوله شيئا، ومع ذلك يعد نفسه «عالما»، عالما بماذا؟ لا أدري ولا أظنه هو يدري.
وأما المنهج الجديد، الذي يستخدمه قارئ الظواهر الطبيعية، فإلى جانب كونه منهجا يكشف لصاحبه عن قوانين الظواهر المقروءة، فهو أيضا يقتضي من صاحبه روح المغامرة؛ إذ بينما زميله صاحب المنهج القديم ينشد اليقين الثابت (وهو يقين لأنه لا يضيف إلى الدنيا كشفا جديدا، ويكتفي بتكرار المجموعات اللفظية المسطورة في الكتب) أقول إنه بينما صاحب المنهج القديم ينشد اليقين الثابت، ليركن إليه ركون المستسلم الراضي، ترى كاشف أسرار الكون بالمنهج الجديد، لا محيص له عن الاكتفاء بما هو محتمل الصواب، ومن ثم فهو قابل للتصحيح غدا وبعد غد، فلا ثبات هنا ولا كون ولا ركود ولا جمود عند نتائج بعينها يقال عنها إنها الحق الذي لا يتغير مع الأيام، ولا يتبدل.
على أن العلم الجديد بمنهجه الجديد، وهو يبث في أصحابه روح المغامرة والقلق، إذا قيست بما يقتنع به أهل المنهج القديم من طمأنينة الساكن المستقر، فإن المغامرة هي مغامرة محسوبة تهدي ولا تضلل، وإن القلق هو قلق النبض الحي، أرأيت يا صاحبي كيف يكون الفرق بين منهجين، فرقا بين حياة وموت؟
قوة المستغني
من الذي وضع الابتسامة المشفقة الساخرة على شفتي أبي الهول، ثم من بعده على كل شفتين في تمثال نحته إزميل فنان من الأقدمين؟ إنها ابتسامة ساخرة من صغائر الناس وعوابر الأحداث، مشفقة على من يوسوس له الشيطان بأن يشتري لنفسه لحظة من حياة خاطفة بعالم الخلود! ومن الذي أقام المعابد على عمدها الشوامخ الرواسخ، ورفع المسلات في الأبراج والمآذن في سمائنا مشيرة بأصابعها إلى خالق الأرض والسماء؟ ومن الذي علم الدنيا كيف يستطيع الإنسان أن يستغني عن هذه الحياة وزخارفها، فينتبذ لنفسه صومعة قصية في قلب الصحراء، وهناك يترجم الوجود كله إلى معبود وعابد؟ إنه المصري على امتداد العصور.
وهذا المصري هو نفسه الذي بات يحيرني بمفارقات مواقفه وسلوكه! فلماذا وقف الرجل الذي رأيته في الصباح واقفا أمام من وقف أمامه، وذراعاه مكتوفتان على صدره، وعيناه مصوبتان نحو الأرض، كأنه أمام ربه يؤدي فريضة الصلاة؟ ترى هل أخطأ وجاء يطلب المغفرة من سيده، أو أراد لنفسه نفعا، فخشع في حضرة من بيديه المنافع؟ لست أدري، فقد كنت ساعتها عابر طريق، لكنني عدت إلى داري، والدماء تغلي، وأخذ السؤال يلح على فكري، حتى صرت لا أكاد أقعد على الكرسي حتى أقوم، ولا أكاد أقوم حتى أقعد، ومع القعود والقيام يتكرر سؤالي: لماذا يخشع المصري كل هذا الخشوع، ويضع نفسه مواضع الضراعة، سواء أراد اجتلاب المنفعة أم أراد دفعا للضرر؟ لماذا، وهو يعلم أنه هو هو الإنسان الذي رسم بإزميله ابتسامة ساخرة مشفقة، متجها بها نحو من تشغله الصغائر، ثم هو هو العارف لعظمة الخالق، فأقام لعبادته المعابد على عمدها الشوامخ الرواسخ، ورفع إلى السماء أكف الدعاء في مسلاته وأبراجه ومآذنه، وعلم الدنيا بأسرها كيف يمكن للإنسان أن يستقطب الوجود كله في صومعة لا حضور فيها إلا لمعبود وعابده؟
كثيرا ما سمعت من غير المصريين تعليقا وتساؤلا عن هذه الظاهرة المصرية، التي ينخدع بها من لا يعرف عن المصري حقيقته، فكنت أسمع السائل وهو يسأل: ما سر هذا «الخنوع» عند المصري؟
فأنتفض مجيبا: خنوع؟! هل ترى عذوبة المتحضر ووداعته خنوعا؟ هل تنقلب وداعة من هذبته الأديان خنوعا؟ لا يا سيدي، اقرأ ملامح المصري في تعامله مع الناس، اقرأها ومعك عمق التاريخ، كما تقرأ أحرف السماء - أعني كواكبها ونجومها - في أبعادها الفلكية، فإذا رأت عيناك نجما في حجم الدرهم، فاعلم أن موقفك الأرضي هو الذي يوهم عينيك، وأما النجم على حقيقته، فقد يعدل في حجمه أرضك كلها أضعافا مضاعفة.
نعم، أقول ذلك كلما اقتضى الظرف أن أقوله، لا لأنني أكذب مخادعا، بل لأنني أعلم علم اليقين أن هذا هو المصري على حقيقته، وأنه هو هذا اليقين نفسه الذي يجعلني ألقي السؤال على نفسي: لماذا وقف الرجل الذي رأيته في الصباح أمام من وقف أمامه، واضعا كفيه على صدره في ضراعة من يؤدي الصلاة لربه وخالقه؟ ولو كنت أعلم أن تلك هي طبيعة المصري وحقيقته، لما ألقيت السؤال، وهل أسأل: لماذا يجري الماء في النهر، ويخضر الزرع في الحقول، ويولد الإنسان ويموت؟
إذا صدقتني الذاكرة، فهو الإمام علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - هو الذي قرأت له هذه العبارة في كتابه «نهج البلاغة»، وقد قرأتها قراءة شاب صغير يحفظ محفوظات مقررة عليه، وكان كتاب «نهج البلاغة» من الكتب التي وزعت على التلاميذ (وأقول استطرادا إن كتاب نهج البلاغة للإمام علي، إنما جمع مادته، وعنونه بهذا العنوان، الشريف الرضي بعد علي بنحو أربعة قرون)، وأعود إلى ما كنت بصدد الحديث فيه، وهو العبارة التي حفظتها أيام الشباب الباكر، عن الإمام علي، فأصبحت عندي كما تكون البوصلة عند ربان السفينة يهتدي بها إلى أين يتجه، وتلك العبارة الهادية مؤلفة من ثلاث جمل، كل جملة منها تقطر حكمة وتقول حقا، وهي كما يلي: احتج إلى من شئت تكن أسيره، واستغن عمن شئت تكن نظيره، وأحسن إلى من شئت تكن أميره (أو هي هكذا في ذاكرتي).
ولنجعل وقفتنا الآن عند الجزء الأوسط؛ لأنه موضوع هذا الحديث الذي نجريه الآن: استغن عمن شئت تكن نظيره، ولست أريد أن أضخم صورتي في عيني القارئ، بل أروي له حقيقة حياتي، وكيف عشتها، مهتديا بهذا المبدأ، فالله وحده أعلم كم هي حقوقي التي أهدرتها، كلما وجدت أن الحصول عليها يتطلب مني الوقوف بين يدي رجل من طبعه التسلط. إن أخشى ما أخشاه هو أن تضطرني ظروف الحياة أن أقف موقف السائل من أحد سؤال المحتاج؛ لأنني أعلم كيف ينقلني هذا الموقف من منزلة الزميل إلى منزلة التابع، فأستغني حتى عن حقي، لأحتفظ لنفسي بمكانه النظير، وربما كانت بيني وبين أحد الأصدقاء أوثق الروابط، فإذا وضع ذلك الصديق في منصب له سلطان، وضعت صداقته بين قوسين، لا أرفعهما إلا بعد أن يزول عنه ذلك السلطان.
لقد أنعم علي الله بما لا أستطيع إحصاءه، وأعظم تلك النعم هو أني بحكم طباعي قليل الرغبات، وحتى إذا كانت بي رغبة في شيء يتعذر الوصول إليه، كان من أيسر اليسر عندي أن أسقطه من حسابي مستغنيا، وكأنما الذي أفلت من يدي حصاة من الرمل، وأنا مع الشاعر العربي الذي نفذ ببصيرته إلى حقيقة النفس البشرية، فقال عنها إنها تنزع إلى الرغبات نزوعا يشتد إذا دفعها صاحبها إلى ذلك، لكنها - بطبيعتها أيضا - تكتفي بالقليل إذا راضها صاحبها على مثل هذا الرضا (والنفس راغبة إذا رغبتها (بتشديد الغين) وإذا ترد إلى قليل تقنع).
على أني بهذا القول، لا أدعو إلى زهد ولا إلى خشونة عيش، وإنما المثل الأعلى كلما أراه، هو أن يملك الإنسان زمام نفسه، بحيث يعرف متى يرغب ومتى يستغني، حتى لا تستعبده الرغبات، فهذا الجمع بين أن أسعى نحو تحقيق الأهداف بكل ما وسعني من قوة ونشاط، وأن أستغني - في الوقت نفسه - عن الأهداف التي تجر وراءها ذلة النفس، أقول إن هذا الجمع بين الموقفين هو المثل الأعلى كلما أراه، وهو نفسه الصورة المثلى التي تحققها الحياة الرياضية، لمن يحيا تلك الحياة كما ينبغي لها أن تكون؛ فلاعب الكرة - مثلا - لا بد أن يبذل أقصى جهد مستطاع للفوز، لكنه كذلك مطالب بأن يعرف كيف يتقبل الهزيمة دون أن يفقد ذرة من الثقة بنفسه، فمثل هذا الميزان الحساس الذي نقيمه في حياتنا لنهتدي به إلى اتخاذ الموقف الصحيح كلما تحققت لنا رغبة أو تعذرت أخرى، هو الذي يجنبنا الوقوف في مثل ما رأيت من رأيته هذا الصباح ضارعا خاشعا، وكأنه في الحضرة الإلهية يؤدي فروض الصلاة.
لعله من أميز ما يميز الشخصية المصرية، قدرتها على الجمع بين دينها ودنياها، فانظر إلى المصري في معظم مراحل تاريخه، تجده هو الصانع البارع، والزارع الخبير، والمعماري القدير، وهذا كله خبرة وعلم بشئون الدنيا ومادتها، ولكنه من الناحية الأخرى يتجه بخبرته وعلمه نحو تحقيق أهداف كبرى تتصل بما بعد الموت، فماذا كان في قلب المعماري الذي أقام المعابد القديمة أو الحديثة على السواء، إلا شعور فيه طبيعة العبادة، بأن فنه مستخدم في خدمة الدين؟ لقد قرأت للفيلسوف «البريطاني-الأمريكي» هوايتهد قوله بأن حضارة الإنسان قامت على رجال ثلاثة: المصري بصناعته، والفلسطيني بديانته، (ولعله بهذا يشير إلى اليهودية والمسيحية فنحن نضيف الإسلام)، واليوناني بفلسفته وعلمه. والذي يهمنا في سياق حديثنا هذا، هو القدرة الصانعة من طبيعة المصري، والصنعة المشار إليها تشمل بالطبع صنعة الفنان، من تصوير ونحت وعمارة، إلى جانب غيرها من الصناعات التي اقتضتها الحروب والحياة اليومية. ولو بحثنا عن محور رئيسي كانت تلك الطاقة الصانعة تدور حوله وتستهدفه، لما ترددنا في القول بأنه محور متصل بالحياة الآخرة، أي أنه متصل بالروح، فلم يجد المصري القديم صعوبة في أن يدمج الطرفين في حياة واحدة، وهذا هو نفسه الذي نتبينه في حياة المصري خلال المرحلة المسيحية، التي امتدت نحو ستة قرون، ثم المرحلة الإسلامية بعد ذلك، إذ إن أهم ما خلفته لنا المرحلتان من فن وصناعة، متصل بالحياة الدينية.
ومن هنا تعذرت التفرقة في سلوك المصري، بين ما هو روحاني وما هو مادي. نعم إننا نجريها على ألسنتنا في غير تردد، بأننا روحانيون، بينما أصحاب الحضارة العصرية من أهل الغرب ماديون، ثم ترانا نتخذ من هذه النقطة مبررا لنا في أن ندير ظهورنا للفكر الوافد من الغرب ، ولكنني أعترف أمام القارئ، بأنني كثيرا جدا ما أمعنت النظر - ما وسعني الإمعان - للوقوع على الفارق الجوهري الذي يميز ما نسميه بالروحاني، مما نسميه بالمادي، فلأهل الغرب عقائدهم الدينية من أغلبية مسيحية إلى أقليات يهودية وإسلامية، ولأهل الغرب جمعيات خيرية لا حصر لها تعين العاجز والفقير، ثم لأهل الغرب فنون وأدب، لهم موسيقى وشعر ومسرح ورواية وتصوير ونحت. وماذا تكون هذه الأشياء كلها إن لم تكن لمعات روحية؟ إذن، أيكون الفارق الذي يميز ماديتهم من روحانيتنا هو العلم، وما يلحق به من أجهزة وآلات؟ لكن دقق النظر معي قليلا، وانظر إلى ما وقعت عليه عيناك من أجهزة وآلات، كالراديو أو التليفون، أو مصباح الكهرباء، وسل نفسك: أهذا الذي أراه مجرد كتلة من مواد ركمت بعضها فوق بعض؟ أم هو بناء يسري في أجزائه وفي أوصاله «عقل» يتمثل في «العلم» الذي على أساسه أقيم، وعلى أساسه يعمل، وإذا كان ذلك كذلك، فبأي حق نتخذه علامة على حضارة مادية، ولا نتخذه دليلا على حضارة «عقلية» أو «علمية»؟ والعلم والعقل هما بغير شك أقرب إلى الروحاني، منهما إلى المادي.
على أنني بعد أن أعرض على نفسي أمورا كهذه، كلما حاولت الوقوع على الفارق الرئيسي بين الروحانية والمادية، أجدني ما أزال أمام مشكلة لم تحل؛ إذ أشعر أن ثمة فارقا، برغم أني لم أقع عليه، وآخر جهدي في هذا السبيل هو أن الروحانية علامتها تعليل الظواهر والوقائع والحوادث - تعليلا كليا أو جزئيا - بقوة غيبية، لا قبل للإنسان حيالها إلا أن «يؤمن» بها؛ لأنها ليست مما يدخل في ميدان العلوم ومناهجها. وأما المادية فهي تلك التي تصر على تعليل الواقع الفعلي بواقع فعلي آخر، ثم تستخرج من المتلازمات قوانينها التي تقنن ذلك التلازم بينها تقنينا رياضيا كلما أمكن ذلك.
ومع ذلك، فإذا كان هذا هو الفارق الرئيسي بين الروحانية والمادية، فمن الواضح أن الجانبين لا يتناقضان، بمعنى أن الفرد الواحد يمكن أن يكون في حياته روحانيا وماديا معا، فهو روحاني في المجال الذي يرجع فيه إلى قوة الغيب، وهو مادي في المجال الذي يجد أن الواقع الحسي يكفي نفسه بنفسه، وهو أمر يتم بمشيئة الله.
وقد يكون ذلك هو نفسه معنى الجمع بين الدين والدنيا في حياة واحدة.
وعند هذه النقطة نعود إلى المصري، وما تميزت به وقفته الحضارية خلال العصر، وقد قلنا إنها تميزت بمثل هذا الجمع في وحدة عضوية متسقة ومتماسكة، إلا في فترات ضعفه، عندما يفقد قدرته على الإبداع الحضاري، فلا يبقى له بين يديه إلا جناح واحد، يرفرف به، ولكنه لا يطير، وفي هذه المناسبة أقول إنه قد لفت انتباهي ذات يوم، أن قيصر والمسيح (عليه السلام) قد جاء كلاهما إلى مصر، لم يفصل بين مجيئهما في الزمن إلا خمسون عاما أو ما يقرب منها، فما وسعني ساعتها إلا أن أتساءل مع نفسي: ألا يكون هذا في حد ذاته مذكرا للمصري بأن مشيئة الله قد أرادت لمصر أن تكون نقطة التقاء بين مجد الدنيا وعظمة الدين؟
فلو كانت أخلاق المصري لتستقطب هذه المزاوجة بين الدين والدنيا، استقطابا حيا صادقا، لرأيناه دائما طائرا بجناحين: جناح العبادة، وجناح العلم والعمل والإنتاج، ولشاهدنا مئذنة المسجد ومدخنة المصنع متجاورتين في حياته، كل له واجبه وله حكمته، ثم لوجدنا المواطن المصري عزيز النفس بإيمانه وبإنتاجه معا مستغنيا بذلك الإيمان، وبهذا الإنتاج عن أي موقف يأتيه بالإذلال، وعندئذ ما كنت لأرى مثل ذلك الرجل الذي رأيته في الصباح واقفا بين يدي من وقف أمامه، باسطا كفيه على صدره، خاشعا ومصوبا عينيه نحو قدميه، وكأنه ماثل أمام ربه يؤدي فروض الصلاة.
قراءة في كراسة مجهولة
كان شابا في نحو الخامسة والعشرين، لكن عينيه كانتا تلمعان بنضج أكبر من عمره، وفي نبرات صوته هدوء وعمق، كأنما هو قد جاوز الأربعين، وحالته في مجموعها تنطق بالهموم التي لعله كان رازحا تحتها كما يرزح عائل أسرة كبيرة. كنت أعرف عنه أكثر مما أعرفه باللقاء المباشر، فقد كان أبوه صديقا عزيزا، وكان كثيرا ما يذكر لي في أحاديثه ولده هذا إسماعيل.
فوجئت بزيارته لي في منزلي، وأحسنت لقاءه، فما كاد يجلس على حافة المقعد، كأنه يخشى إزالة الكلفة بيننا إذا هو استند إلى ظهر المقعد، أو أراح مرفقيه على الجانبين، أقول إنه ما كاد يجلس تلك الجلسة القلقة، حتى هم بالحديث عما جاء من أجل الحديث فيه، فقال وهو على شيء من لهاث التعب والقلق والرهبة: مات أبي منذ عام ونصف عام.
قلت: أعلم ذلك يا ولدي، أعلم ذلك، فقد كان والدك صديقا كريما، ولطالما قضيت معه الساعات الطوال في مكتبته، أعني بين أكوام الكتب التي وضعها في غرفة مكتبه أكداسا أكداسا.
قال: لقد بعنا مكتبته منذ قريب.
قلت: لمن؟
قال: لإحدى الجامعات.
قلت: هذا خير، فسوف يظل أبوك حيا بك وبإخوتك، وبها كلما أشعت بنورها في طلاب العلم. كانت مكتبة أبيك فريدة في نوعها، فقد كنت أشعر كلما زرت أباك، وقضينا الأمسية في غرفة مكتبه، وحولنا خزائن الكتب تدور مع جدرانها الأربعة، وبحذاء تلك الخزائن أكداس من الكتب ركمت في غير نظام، كنت أشعر بعبير المعرفة يفوح، وما كل مكتبة توحي للجالس فيها بهذا الشعور، فما أكثر ما جالست أصدقاء في غرف مكاتبهم، وحولنا كتب، لكنها كانت كأنها قوالب الطوب أعدت للبناء. إنني أذكر الإجابة التي أجابني بها أستاذ الفلسفة في جامعة لندن، منذ عشرات السنين، أذكرها وأذكر دهشتي لها، إذ أملى علي قائمة بأسماء المراجع، ثم سألني: أتعرف من أين تشتريها؟ قلت له: نعم سأشتريها من المكتبة الفلانية، فقال بسرعة وبانفعال ظاهر: لا، لا إن المكتبة التي ذكرتها تبيع الكتب، وكأنها قطع من الفحم لوقود المدافئ، إنني لا أشتري الكتاب إلا من مكان يعرف أصحابه قيمة الكتاب من حيث هو كتاب، وأما أصحاب المكتبة التي ذكرتها فيعرفون ثمن الكتاب، ولا يعرفون قيمته، وهكذا يا إسماعيل يا ولدي، كنت وأنا مع أبيك في مكتبة داره، أحس بعطر المعرفة، وهنالك آخرون لا أشم في مكتباتهم إلا رائحة الورق. فابتسم الشاب ابتسامة حزينة، ثم قال: لقد حرصنا كل الحرص، قبل أن نسلم المكتبة لشاريها، على أن نفحص الكتب وما بين الكتب؛ لأن والدي رحمه الله، كان يبعثر أشياءه بغير حساب، فوجدنا أشياء كثيرة لم نتوقعها: وجدنا نقودا ورقية داخل الكتب، ووجدنا أوراقا بالغة الأهمية متناثرة خلف صفوف الكتب، ثم وجدنا هذه الكراسة، التي أظنها تحتوي على كتابات أدبية، فرأينا أن نتركها معك لترى فيها ما تراه. وناولني الكراسة في غلافها كما وجدها.
أخرجت الكراسة وتصفحتها تصفحا سريعا، فكان أول ما لحظته فيها، عبارة كتبها في صفحة وحدها، هي الصفحة الأولى من الكراسة، يقول فيها: إنه لا يريد لشيء مما ورد في هذه الصفحات أن ينشر في حياته، وإذا نشر منه شيء بعد موته فلا يذكر اسمه. كان المحتوى أشبه بيوميات، لكن كاتبها لم يذكر لأي منها تاريخها، وكانت تتباين في طولها، فبعضها لا يملأ صفحة واحدة، وبعضها الآخر قد يطول عدة صفحات على أن معظمها كان يتوسط بين القصر والطول.
تركني الشاب، فلم أملك على الكراسة صبرا، وأخذت أقرأ، فوقفت عند يومية منها برهة أتأمل مضمونها ومغزاها، ثم قررت نشرها كما وردت، وها هي ذي بين يديك:
إن ضمير الوالد إزاء ولده، ليتأزم إذا ما وجد الوالد نفسه بين أمرين: أحدهما يوجب عليه ألا يوصي ولده إلا بما ترضى عنه الأخلاق في مثلها العليا، بينما يوحي إليه الأمر الآخر ألا ينصح ولده إلا بما يكفل له النجاح في حياته. ولو كان هذا النجاح المأمول يتحقق للراغبين فيه تحت مظلة الأخلاق القويمة، لما كان هناك إشكال، لكن الأمر الواقع في حياتنا العملية لا يترك لنا مجالا للتشكك أو التردد، في أن المواطن الطموح قد يصادف في طريق حياته عشرات المواقف التي يكون الأمر فيها هو إما ... وإما ... أي أنه يكون إما أخلاقا قويمة ولا نجاح، وإما نجاحا ولا شيء من تلك الأخلاق القويمة فأيهما يختار.
وتلك هي أزمتي اليوم مع ضميري، فأنا أكتب هذه الصفحات، راجيا أن تتهيأ الظروف التي تتيح لولدي إسماعيل أن يقرأها، فلست أجرؤ على مواجهته بها، فضلا عن أني أوثر لولدي أن يجمع بنفسه حكمة الحياة لنفسه، وماذا كنت لأقول له إذا أردت له الهداية، اعترافا من خبرتي؟ أأوصيه - مثلا - بالتواضع كما تريد لنا الأخلاق المهذبة الكريمة أن نكون؟ ولكن كيف وأنا أريد له النجاح، بالمعنى الذي لا يفهم شعبنا النجاح إلا به؟ وخلاصة ذلك المعنى هي أن يكون الإنسان في موقع يمكنه من السلطة والتسلط. القيمة العليا، التي لا تعلو عليها قيمة أخرى في ترتيب القيم عندنا هي أن تكون ذا سلطان، لتكون نافذ الكلمة، تنفع وتضر، فيكون لك الأتباع والرعايا يحيطون بك ضارعين مادحين، التماسا للنفع ودفعا للضرر، ومواقع السلطة لا تتحقق لعشاقها إلا بشروط، أولها وأهمها: أن يحسن الواحد منهم إساءة الأدب! كلا، لا تضحك من عبارتي فأنا أقصدها بكل كلماتها وحروفها فقد يسيء الإنسان أدبه بغير تدبير محكم، فيسقط في الهاوية، لكن الذي يسيء الأدب ليصعد بتلك الإساءة سلم المجد، لا بد له من الروية والتدبير في رسم الخطة لتلك الإساءة لكي تأتي النتائج بطريقة طبيعية لا تصدم العرف بين الناس.
وأضرب لك مثلا واحدا لما أعنيه بالإساءة المدبرة في روية وإحكام، والمثل الذي أضربه هو ما أسميه بفن المسافات. كأني أراك قد رفعت حاجبيك دهشة وتساؤلا: فن المسافات! ماذا تريد؟ فأقول: نعم يا ولدي فن المسافات، فلطول المسافة بينك وبين الآخر إذا وقفتما تتحادثان، أو جلستما معا في مكان، علاقة وثيقة بالرتبة الاجتماعية التي لكل منكما، فإذا تساوت بينكما تلك الرتبة تساويا معترفا به، فلا ضير عندئذ في أن تجلسا على مقعدين متجاورين، أو على أريكة واحدة، أما إذا قر في نفس أحدكما أنه أعلى رتبة حرص حرصا شديدا على ألا تقصر المسافة بينكما إذا وقفتما، وألا يتجاور المقعدان إذا جلستما، وها هنا يتميز من يحسن إساءة الأدب طلبا للصعود عمن لا يستطيع تلك الإساءة المدبرة، فلا يكون له بإذن الله صعود. أما الأول فيعرف لنفسه مقدما أين يقف أو يجلس، ولا يترك الأمر فوضى تلعب به المصادفات، ولقد رأيت يا ولدي من لعبة المسافات هذه فنونا كلما ذكرت منها شيئا تحيرت حيالها بين الضحك والبكاء.
وأعود إلى ما كنت بصدد الحديث فيه، وهو عن الأزمة التي يتأزم بها ضميري إذا أردت لولدي شيئين معا، وهما أن يكون ذا خلق مهذب، وأن يكون في الوقت نفسه ناجحا، بمعنى النجاح الذي يفهمه شعبنا، فبماذا أوصيه إذا وجدت أن حياتنا كثيرا جدا ما تأبى أن يجتمع هذان الشيئان معا، وكأنهما نقيضان؟ أأوصيه بالتواضع فأضيعه أو أوصيه بقلة الأدب، فأضيع الأخلاق؟
أم هي يا ترى أزمة الضمير لا تقتصر علينا، بل تجاوز حدودنا لتشمل العالم كله؟ إنه ليخيل إلي أن ثمة شبها قريبا بين ما كنت أعرضه في الأسطر السابقة، وما ورد في جمهورية أفلاطون، أثناء محاورة المتحاورين عن العدالة ومعناها، فقد طرح موضوع العدالة، وتحديد معناها - كما نعلم - في مستهل كتاب الجمهورية، لكن الحديث فيه قد طال، وتفرع حتى شمل شطرا كبيرا من ذلك الكتاب، وكان الغرض منه هو أن يكون الفيلسوف على بينة تامة بمعنى العدالة؛ لأنها هي أساس الدولة كما أراد أن يتصورها ويصورها. طرح السؤال على المتحاورين وكان سقراط بالطبع محور المناقشة، يديرها ببراعته المعهودة، فيبدأ كيفالوس بالقول بأن العدالة هي في صدق القول، والوفاء بالدين (بتسكين الياء)، لكن بعد مناقشة قصيرة ظهر قصور هذا الرأي ورفض، فتقدم بعده بوليمارخوس برأي آخر يقول فيه إن العدالة هي في مساعدة الأصدقاء، وإلحاق الضرر بالأعداء، فنوقش هذا الرأي مناقشة طالت بعض الشيء، وهنا ضاق صدر ثراسيماخوس بتلك المناقشات التي تتناول العدالة من هوامشها وتترك الصميم، موجها اللوم إلى سقراط في مماطلته تلك. وبعد أخذ ورد بين سقراط وثراسيماخوس، كان فيه العتاب الجميل، طولب ثراسيماخوس بطرح الرأي الذي يراه، فقال: «إذن فاصغ إلي، إنني أعلن أن العدالة ليست إلا صالح الأقوى.»
وقعت هذه الإجابة وقع الصواعق على آذان الحاضرين، فماذا عسى أن تكون العدالة التي ينحصر معناها في خدمتها لمصالح الأقوياء؟ وأراد سقراط بتهكمه المعهود أن يستخف بالرأي فبدأ بسؤاله لصاحب الرأي قائلا ما معناه: إنني أسألك لأفهم، أيكون اللحم الذي يأكله المصارع هو معنى العدالة عندك إذ المصارع قوي، وصالحه من أجل قوته تلك هو أن يأكل اللحم؟ فقاطعه ثراسيماخوس ضيقا بتهكمه على رأي جاد وفي صميم الموضوع ؛ فليس الأمر هنا أمر مصارعين، وما يأكلونه لتقوية عضلات أجسادهم، بل الأمر متعلق بأنواع الحكم. «ألم تسمع قط أن أنواع الحكم تتباين، فمنها حكم الطاغية، ومنها الديمقراطية، ومنها الأرستقراطية؟ وأن العنصر الحاكم هو الأقوى دائما؟ وأن الحكومة في كل حالة تصنع القوانين لصالحها؟ فالديمقراطية تصنع قوانين ديمقراطية، والملكية تجعلها ملكية وهكذا، وبعد سن هذه القوانين تعلن الحكومات أن ما هو عادل بالنسبة لرعاياها، هو ما فيه صالحها هي نفسها، وتعاقب من يخالف ذلك على أنه خارج على القانون وعن العدالة.»
لكن مؤلف المحاورة - أفلاطون - عرف كيف يتناول المتحاورون هذا الرأي بالنقد، حتى انصرفوا عنه إلى غيره. وظني أنا كاتب هذه السطور أن المحاورة لم تعط رأي ثراسيماخوس هذا، العناية التي كان يستحقها؛ إذ فيه من الحق أكثر جدا مما يبرر أن يتناوله الحوار بالاستخفاف الذي تناوله به.
على أنني يا إسماعيل يا ولدي ما ذكرت هذا الجزء من الحوار الأفلاطوني الطويل عن العدالة ومعناها، إلا لأوجه انتباهك إلى ما يحدث في حياتنا نحن، فالقوي بجاهه ونفوذه أو من هو في سبيله إلى أن يظفر لنفسه بقوة الجاه والنفوذ، ليس من البلاهة بحيث يسيء إلى الناس، ثم يسمي إساءته إساءة، بل يبحث لإساءته عن اسم خلاب جذاب، كأن يطلق عليها اسم العدالة أو النزاهة أو حسن الإدارة، أو ما إلى ذلك من أسماء تمتلئ بها قواميسهم.
كنت أحدثك منذ لحظة قصيرة كيف بدأت المناقشة عن معنى العدالة كما وردت في محاورة «الجمهورية»، وكيف ألقى ثراسيماخوس بقذيفته في وجوه زملائه، وفي وجه سقراط بصفة خاصة؛ لأنه هو الذي كان يدير المناقشة، وذلك حين رآهم يحومون حول الموضوع، ولا يقعون على صميمه، وذلك الصميم عند ثراسيماخوس هو أن الأقوى هو الذي يقرر ماذا يكون عدالة، وماذا لا يكون، مؤسسا ذلك على مصلحته الخاصة، وزاعما أنه إنما أراد الحق كما ينبغي أن يكون. وإني لأتساءل وما زلت أتساءل منذ قرأت هذه المحاورة العظيمة لأول مرة في أول الثلاثينيات: لماذا لم ينصف المتحاورون رأي ثراسيماخوس ، مع أنه الحقيقة الواقعة التي تصدم كل من أراد إنكارها؟ أيكون ذلك لأن شيخ الفلاسفة أفلاطون، قد أراد أن يسير بالمناقشة سيرا يؤدي به، لا إلى واقع العدالة كما يقع كل يوم أمام أبصارنا، بل إلى المثل الأعلى كما ينبغي أن يكون؟ أظن ذلك، وأما ذلك المثل الأعلى الذي قصد إليه، فهو أن العدالة في حقيقتها ليست كائنا قائما بذاته، بل هي محصلة عناصر أخرى، فإذا ما اجتمعت تلك العناصر في مجتمع قلنا عنه إنه مجتمع تسوده العدالة. وخلاصة رأيه في ذلك هي أن المجتمع الذي تسوده العدالة هو ذلك الذي يوضع كل فرد من أفراده في الموقع الذي يناسب قدراته الفطرية.
وإنما أردت الإفاضة في الشرح - يا إسماعيل يا ولدي - لكي أفتح عينيك لواقع الحياة في بلادنا، فلا تقل - مثلا - إنني أكثر علما من فلان، فلماذا لا أوضع فيما خلقني الله له، ثم يوضع فلان ذاك الذي هو أقل موهبة وأقل علما فيما لم يخلقه الله له، لا، لا تقل هذا يا إسماعيل يا ولدي؛ لأن ذلك معناه أنك تريد لبلدنا عدالة من الصنف الذي تخيله أفلاطون، وهو المثل الأعلى، لكن أفلاطون ومن لف لفه - كما تعلم - فلاسفة يطيرون بأجنحة من الشمع فوق السحاب لا تكاد تمسها لسعة الشمس الصافية، حتى تذوب الأجنحة، ويهوي المساكين إلى سطح الأرض ركاما من حطام، فخير لك إذا أردت النجاح أن تعترف بعدالة الأمر الواقع، التي قدمها ثراسيماخوس، والتي هي العدالة كما نعرفها نحن في حياتنا؛ وأعني العدالة التي يقيم الأقوياء موازينها، فكن قويا بمعيارهم تكن عادلا في كل ما تقول وتفعل، إلى الدرجة التي تستطيع عندها أن تكون عالما بلا علم، وأديبا بغير أن تمسك بالقلم. إنها أشياء أشبه بالمعجزات يا ولدي ... لكن لا، وألف مرة لا - يا إسماعيل يا ولدي - فهؤلاء العلماء بغير علم، والأدباء بغير كلمات، والفنانون بغير الفراجين والإزميل سيبحث عنهم أبناء الجيل التالي، فلا يجدونهم، لا، بل لن يبحث عنهم أحد؛ لأن أحدا لن يسمع لهم صوتا ولا ذكرا.
اعمل يا إسماعيل ما وسعك العمل، صل ليلك بنهارك، كن دءوبا وراء أهدافك العليا دأب الكوكب الدوار، اجعل لنفسك رسالة تؤديها للآخرين، وإلا كانت حياتك نافلة لا تغني أحدا ولا تغنيك. وقد يطول بك الزمان قبل أن تقطف الثمر، لكنك بإذن الله بالغه وقاطفه. انظر إلى من حفظ الناس أسماءهم وحمدوا أفعالهم أو أفكارهم أكانوا من أنصار العدالة على نموذج ثراسيماخوس أم كانوا من أنصار العدالة على طراز أفلاطون؟ أكانوا ذوي جعجعة بلا طحن، أم عرفوا مواقع قدراتهم، فأنتجوا وبقي ذكرهم حيا على صفحات التاريخ، إن الله - يا ولدي - لا يضيع أجر من أحسن عملا.
تلك هي الرسالة التي استوقفتني في الكراسة المجهولة، لم يجرؤ الوالد أن يواجه بها في حياته ولده، فرأيت نشرها لعل ولده يتلقاها، فيستريح أبوه في مثواه.
هيا إلى اقتحام العقبة
إنني لا أعرف - يا عزيزي القارئ - من أنت؟ أي مرحلة من مراحل العمر عسى أن تكون وكم خبرت - يا ترى - حياتنا وحياة العالم من حولنا؟ ثم لا أعرف عنك ما هو عندي أهم من ذلك كله، وهو موقفك مما أكتبه إذا كنت تتابع قراءته. أأنت في موقف المتقبل أم في موقف الرافض؟ فحتى الرسائل التي تأتيني من القراء، لا تدلني على كثير مما أريد الآن أن أعرفه؛ لأنها رسائل تعكس اتجاهات مختلفة اختلاف أطياف الضوء السبعة بعد اختراقه قطعة من البلور، فأين أنت - عزيزي القارئ - من تلك الأطياف؟ ذلك ما لست أعرفه. ومع ذلك فإني أوجه إليك أنت الخطاب؛ لأنني إذا كنت أجهل عنك كل شيء مما ذكرت، فأنا على يقين من أنك لا بد أن تكون قد علمت عني مما قرأته لي، أني أقول ما أعتقد أنه الحق، ولا أجامل أحدا، أو إن شئت عبارة أصدق وأدق، فقل إني لا أجامل أحدا إلا بالحد الأدنى من المجاملة، وهو الحد الذي يقتضيه مني كوني عضوا في مجتمع، وعلى هذا الأساس وحده، أذنت لقلمي أن يتقدم إليك بهذه الصفحات، بكل ما فيها من جرأة وصراحة ، فهي إن لم تجد عندك القبول والرضا، فلا أقل من أنها ستلقى منك العفو والمغفرة، فمصر هي مصرنا جميعا على السواء. وحسب المصري أن يصدق القول ويخلص النصيحة، فما بالك إذا كان هذا المصري المخلص الصادق قد بلغ من عمره ما بلغت، ومن حقه أن يفصح عما في نفسه قبل أن ينسدل الستار!
ولعلي أحسن صنعا لو بدأت بما كان ينبغي أن يكون الختام، وهو أننا إلى يومنا هذا لم ندخل بعد في حضارة القرن العشرين وثقافته، مع أنه لم يبق منه - عند كتابة هذه السطور - إلا سبعة عشر عاما، ويا ليتنا نستطيع الدخول فيه من آخر أعوامه، عندما توصد الدنيا دونه الأبواب، لتدخل مرحلة جديدة. ويكفينا أن ندخل من حيث يخرجون، وأن نبدأ شوطا انتهوا منه وطووه وفرغوا لسواه. ولكن كيف حدث لنا هذا كله، ولماذا؟ وإذا كانت في طريقنا عقبة، فما هي؟ وما الذي يحول دون اقتحامها لينفتح الطريق؟
اصحبني يا عزيزي القارئ، وسننتقل معا خطوة خطوة، حتى يتبين بياض الحق من سواد الباطل، وسأحتكم في كل خطوة نخطوها معا إلى عقلك، وقلبك، وضميرك! سأحتكم إلى عقلك كلما استخرجنا نتيجة من المعطيات التي بين أيدينا، راجيا ألا تكون من هؤلاء الذين يقرون بأن المعطيات هي كذا وكيت، حتى إذا ما رأوا النتيجة التي تترتب على تلك المعطيات، أخذهم الفزع وفروا هاربين. وسأحتكم إلى قلبك من حيث أنت وأنا مصريان، يمتلئ قلبانا حبا لمصر وأملا في ازدهارها، فلا يتأتى السكوت على عقبات نراها ملقاة في طريقها، لتحول بينها وبين سيرها إلى أمام، وسأحتكم بعد هذا وذاك إلى ضميرك؛ لأنه المحكمة التي تكمن لك بين جوانحك لتحكم لك أو عليك؛ إذ قد يرى عقلك الرأي الصواب، وقد ينبض قلبك عطفا على ما ارتآه العقل، ومع ذلك تجمد في مكانك لا تحرك ساكنا ولا تسكن متحركا، فعندئذ يأتي مهماز الضمير الحي ليدفعك إلى القيام بواجبك.
والخطوة الأولى في طريق سيرنا، هي أن نضع أصابعنا على مفتاح العصر الذي أسميناه بالقرن العشرين ، والذي زعمت لك أننا لم نخط فوق عتبته دخولا في رحابه، مع أنه قد دنا من ختامه. وأقول إن الخطوة الأولى هي أن نقع على «مفتاح» العصر؛ لأنني أعلم كم ننخدع، أو قل كم نخدع أنفسنا بما نحن فيه، فنتوهم، أو نوهم الناس، أننا قد بلغنا الأوج، والعلة هنا هي أننا نخلط بين ما هو مجد قديم، وبين ما كان ينبغي أن يكون مجدا جديدا. على أن هنالك فوق تلك العلة علة أخرى أشد استعصاء، وهي أن عددا ضخما من أولي الرأي فينا، لا يعرفون عن روح عصرنا لا قليلا ولا كثيرا، وإلى جانب العلتين علة ثالثة تؤدي بنا إلى حالة خداع النفس التي نعيش فيها، وهي أننا ننظر إلى حياتنا فنجد على ساحتها كل صنوف الآلات والأجهزة التي عرف بها عصرنا، فنظن أننا قد دخلنا العصر من أوسع أبوابه، ما دامت السيارات تملأ الشوارع، وأجهزة التليفزيون والثلاجات والأدوات الكهربائية المختلفة تملأ المنازل، والطيارات تدمدم في جو السماء، والمصانع على أرضنا أشكالا وألوانا، وننسى حقيقة هي أوضح من الشمس في ظهيرة الصيف، وهي أن ذلك كله صنعه غيرنا، والعلوم المجسدة فيه هي علوم غيرنا، وأن دورنا لا يزيد على أن اشترينا ما صنعه الآخرون، وحفظنا عن ظهر قلب - إذا كنا قد حفظنا - ما وصل إليه الآخرون من علوم.
تجتمع في صدورنا تلك العلل الثلاث جميعا، فننخدع ونظن أننا من أبناء القرن العشرين حقا، حضارة وعلما وثقافة، وما نحن كذلك. ولكي نوضح حقيقة الأمر، علينا أن نبحث في هذا العصر عن «مفتاحه» لنرى إذا كان ذلك المفتاح في أيدينا، أم هو شيء لم يدخل عقولنا بعد، بل ربما إذا عرفناه تنكرنا له ورفضناه. وأما ذلك المفتاح فيما أرى - ومن حقك أن ترفض الرأي، وتبحث لنا عن مفتاح آخر إذا استطعت - ذلك المفتاح هو أن الأقطار الرائدة في حضارة العصر وثقافته، قد استبدلت بالطريقة القديمة في قراءة الكون وكائناته، طريقة أخرى جديدة، فكان ما كان من نتائج لا تقع تحت الحصر. فأما قراءة الكون على الطريقة القديمة، فكانت ترى في الكون من حيث هو كل، وترى في أي كائن من كائناته، كالشمس والقمر والشجرة والنهر والفرد الواحد من حيوان أو إنسان، أقول إن الطريقة القديمة في قراءة الكون وكائناته هي أن ترى كل كائن على أنه ذو هوية ثابتة، فالشمس أولها شمس، وأوسطها شمس، وآخرها شمس، والنهر الذي يجري في بلادنا كان هكذا في أول عهده، وفي أواسط عهوده، وفي آخر عهده على السواء، وأنت وأنا وهذا وذاك، كل منا ذو كيان ثابت الهوية منذ ولد وإلى أن يموت، وهكذا وما يقال في هذا عن مفردات الأشياء، يقال مثله على الكائنات المعنوية أيضا، فالحضارة الفرعونية، أو الحضارة العربية، أو حضارة الغرب المعاصر، والأدب في كل موطن من مواطنه، والعلم والفن وسائر أعضاء هذه المجموعة من المعاني ينظر إلى كل منها وكأنه كائن ذو هوية ثابتة يحتل بها مكانا معينا وزمانا معينا. وكان فلاسفة العصور السابقة قد اصطلحوا على أن يطلقوا على جانب الثبات من هوية شيء معين اسم «الجوهر». وإذن فمن حقنا أن نقول إن مفتاح الرؤية القديمة كان هو الإشارة الضمنية أو الصريحة إلى «جوهر» الشي الذي نتحدث عنه، مما يضمن لذلك الشيء حقيقة ثابتة كانت له بالأمس، وهي له اليوم، وستظل له غدا وبعد غد.
وقبل أن أستخرج من هذه الرؤية القديمة نتيجتها التي تهمني في هذا الحديث، أود أن أنتقل بالقارئ إلى الرؤية الجديدة التي على هداها يقرأ عصرنا حقائق الأشياء على اختلافها لتسهل على القارئ مقارنة الرؤيتين إحداهما بالأخرى، فيسهل عليه بالتالي أن يتعقب النتائج الهامة التي تترتب على ما بين الرؤيتين من اختلاف.
أما هذا العصر الراهن، الذي نعيش فيه - منذ أواخر القرن الماضي وإلى يومنا الحاضر - فهو يؤسس رؤيته للكون وكائناته على أن كل شيء إنما هو سيرة، أو هو تاريخ، أو قل إنه أحداث متتابعة في خط موصول، كأنه السلسلة وحلقاتها. كانت الفكرة قبل ذلك - كما قلنا - هي أن لكل شيء جوهرا ثابتا، تطرأ عليه الأحداث، لكنه في جوهره لا يتغير مع تلك الأحداث الطارئة، أما الفكرة الجديدة عن الشيء المعين، أو عن أي كائن حي، فهي أنه هو هذه الأحداث نفسها. خذ مثلا يوضح لك الفرق بين الفكرتين، مدينة القاهرة، فلأننا نستخدم هذا الاسم استخداما يفهمه المتكلم والسامع معا على أنه يسمي مدينة بعينها، يسارع خيالنا إلى التصور بأن تلك المدينة المعينة إنما هي كيان قائم منذ أنشأها المعز لدين الله، حتى اليوم وما بعد اليوم، ولم يكن هذا الوجود الثابت لمدينة القاهرة ليتحقق ما لم يكن لتلك المدينة جانب أساسي لا يزول مع السنين برغم ما قد طرأ عليها، وما يزال يطرأ عليها، وسيظل يطرأ عليها من أحداث فسكانها يزيدون وينقصون ويتغيرون بالموت والولادة جيلا بعد جيل، وبيوتها وشوارعها ومتاجرها تبنى وتهدم وتتسع وتضيق، حتى ليمكن القول إنه ليس في قاهرة اليوم شيء واحد ظل كما هو من قاهرة المعز، ومع ذلك فهي هي القاهرة. ولا تفسير لمثل هذا الثبات مع ما يطرأ من تغيرات، إلا أن نقول مع القدماء إن لها «جوهرا» ثابتا هو الذي يخلع عليها هويتها الثابتة، ثم تأتي الأحداث على ذلك الجوهر وتمضي، والقاهرة باقية بجوهرها ذاك.
وأما رؤية هذا العصر فتختلف؛ لأنها رؤية لا ترى في القاهرة إلا أنها سلسلة طويلة من أحداث، ولا شيء غير ذلك. إن الدوام المزعوم ليس إلا دواما للاسم فقط، اسم «القاهرة» هو وحده الذي يبقى، فنتوهم أن مسماه قائم كما كان قائما عبر القرون. إن حقيقة القاهرة هي أنها «تاريخ» أو هي «سيرة» كأي سيرة نرويها عن إنسان أو عن بناء معين، أو عما شئت من كائنات. حقيقة أي كائن في هذا الكون، بل وحقيقة الكون في مجموعه، إنما هي شبيهة كل الشبه بمعزوفة موسيقية أو بمسرحية، أو فيلم سينمائي ، فنحن نشير إلى كل واحدة من هذه الأشياء باسم يميزها، فنقول مثلا: هذا هو السلام الجمهوري، وهذه هي مسرحية شهرزاد، وذلك هو فيلم البؤساء، لكن كلا من هذه الأشياء هو في حقيقته سلسلة أحداث صوتية أو ضوئية، تتابعت مترابطة بعضها مع بعض بروابط تجعلها في أذهاننا موحدة على نحو ما، هو الذي يبرر لنا أن نطلق عليها اسما واحدا، ثم نظنها جزئية واحدة.
وكان انتقال القرن العشرين وأهله من رؤية الكائنات على أنها ثوابت بهوياتها الدائمة، إلى رؤيتها على أنها خيوط من أحداث متعاقبة، هو نفسه الانتقال من عصر فكري إلى عصر فكري آخر.
ولكن ماذا يهمنا نحن من هذا كله؟ الذي يهمنا هو الآتي: إن صاحب الرؤية القديمة كان في وسعه أن يتصور «الماضي» وكأنه كالكرة يمكن أن يدحرجها التاريخ فوق رءوس الأعوام، قرنا بعد قرن، إلى أن يستقر أمام أعيننا حاضرا لا بد لنا من التعامل معه، كما كان يتعامل معه الناس في أي زمن مضى، ولم لا؟ إنها هي هي الكرة، كانت وما تزال، وسوف تبقى إلى أبد الآبدين، والذين يتغير هو جماعات اللاعبين، وليس هو الكرة. أقول إن مثل هذا التصور للماضي بالنسبة إلى الحاضر وإلى المستقبل، كان واردا بل كان مفروضا على الناس، وهو تصور ناتج عن وجهة النظر التي كانت سائدة في فهم الناس لحقائق الأشياء، فإذا قلت لهم - مثلا - حضارة عربية، أو ثقافة عربية، تبادر إلى أذهانهم كيان ذو ثبات وذو دوام بفضل جوهره الكامن في أصلابه.
وأما صاحب النظرة المعاصرة، فإذا قلت له «حضارة عربية» أو «ثقافة عربية» ارتسم في ذهنه خط طويل من أحداث تتابعت. فالحضارة العربية هي «تاريخ» وليست «شيئا» ثابتا بهويته، فإذا كان في مستطاعنا أن نتبين ملامح مميزة لما نسميه بالحضارة العربية أو بالثقافة العربية، فتلك الملامح المميزة هي في نمط الروابط التي ترتبط بها الأحداث في تتابعها، وليست هي في «جوهر» لا حيلة لنا فيه.
ولننظر الآن إلى الفرق الشاسع في نظرتنا إلى الماضي بالنسبة إلى الحاضر ، على أساس الرؤية القديمة، وعلى أساس الرؤية الجديدة، فبينما نتصور في الحالة الأولى إمكان أن يبعث الماضي بحذافيره ليكون هو حاضرنا، نرى في الحالة الثانية أن ذلك ضرب من المحال؛ إذ ما دام الأمر أمر سيرة تتعاقب أحداثها تعاقب حكاية يرويها «التاريخ»، إذن فالماضي قد ابتلعه الحاضر ابتلاعا، ولم يعد له وجود قائم بذاته، إلا من حيث هو غذاء يسري في دمائنا. فإذا كان في تصور الرؤية القديمة أن «الكمال» قد كان متحققا في حياة السلف، ولا بد لنا من شده إلى عصرنا شدا لنحيا على دعائمه كما فعل هؤلاء الأسلاف، ففي تصور الرؤية الجديدة أن «الكمال» سوف يكون، ولا بد لنا من رسم الخطوات التي نتحرك بها نحو ذلك الهدف المستقبلي المنشود.
أريدك - عزيزي القارئ - أن تعلم بأننا حين نقول «الرؤية القديمة» و«الرؤية الجديدة» فلسنا بذلك نقول عبارات لا تزيد على كونها مرقومة بالمداد على الورق، أو منطوقة في أفواه المتحدثين، بل هي مترجمة إلى أفراد أحياء ذوي أجساد من لحم ودم، يأكلون معك ويشربون ويتكلمون ويضحكون. وحين زعمت لك في أول الحديث أننا لم نخط بعد على عتبة القرن العشرين، مع أنه قرن يدنو من ختامه، فإنما أردت بذلك أن أقول إنك إذا أمعنت الفكر فيما يقوله معظم أصحاب الرأي المؤثر في حياتنا، وجدته منطويا على فرض، والفرض هو أن الماضي شيء له رأس وأذنان وعينان، ولسان وشفتان، وساقان يمشي عليهما ويجري، وأن هذا الشيء يمكنه السير إلينا في يومنا هذا، أتيا من حيث لا أدري. وأصحاب الرأي هؤلاء يستحثونه ليسرع الخطى، فيجيء ليسيطر اليوم - إذا استطاع - قبل الغد، فخلاصنا من كل ما نحن غارقون فيه إلى أذقاننا من مشكلات، مرهون بقدوم ذلك الشبح، ولكنهم في انتظارهم لعودة الماضي ليخلصهم مما هم فيه، أشبه بمن كانوا ينتظرون «جودو» في مسرحية صموئيل بيكت المعروفة، لماذا؟ لسبب واضح وبسيط، وهو أن الماضي كان صفحة في سيرة، كان فصلا في تاريخ، وقد انطوت الصفحة انطواء لا حيلة لنا فيه، وانتهى الفصل التاريخي انتهاء لا قبل لنا في بعثه من جديد لا لأن ذلك الماضي قد انعدم، كلا، فهو حي، لكنه حي فينا نحن، هو حي باللغة العربية التي نتكلمها، وهو حي بقواعد السلوك الأساسية في تعاملنا، وهو حي في وجداننا الشاعر، الذي يقرأ البحتري فيطرب، ويتأمل الفن العربي على جدران المساجد فينتشي، لكن حياتنا تلك، التي هضمت الماضي هضما وحولته إلى إفرازات الغدد وإلى دم يجري في الشرايين، إنما هي - كأي حياة في أي كائن حي - حياة متحركة في تيار يدفعها أبدا إلى أمام، حاملة في جوفها ما قد كان، متجهة نحو تحقيق ما سوف يكون.
فليس أقتل للإنسان في موقفه الثقافي والحضاري، من أن يحاكي مرحلة تاريخية سبقت المرحلة التي يعيش فيها، محاكاة تفصيلية حرفا بحرف وفعلا بفعل، لا بل ليس أقتل للنموذج السلفي نفسه من أن يظل الخلف يعيدونه ويكررونه بمثل هذه المحاكاة التفصيلية التي أشرنا إليها، فلب الحياة وصميمها إنما هو في إبداعها للجديد الذي تتكيف به مع المواقف الجديدة. سر الحياة، وسحرها، وإعجازها هو في إبداعها، فليس الأمر مقصورا على أن لكل كائن حي ما يميزه عن سائر الكائنات، حتى تلك التي تقع معه في نوع واحد، بل إن تلك المعجزة الإبداعية لتمتد حتى تشمل جوانب الحياة الفكرية. ويكفيك أن تنظر إلى القوة الإبداعية الكامنة في اللغة وطرائق استخدامنا لها، فالطفل منذ التقاطه لبضع كلمات وبضع جمل، يأخذ بقدرة فطرية في تركيب جمل تركيبا لم يسمعه من أحد، فالمعنى المراد يمكن أن يوضع في صور مختلفة، لا يلزم للطفل أن يسمعها كلها ممن حوله، بل هو قادر قدرة تلقائية على تنوع التركيبات اللغوية التي تؤدي المعنى المعين الذي يريد التعبير عنه، تلك هي الحياة وطبيعتها على كل مستوياتها، إلى أن تصل إلى المستوى الحضاري الشامل، وجدته يبدع في كل جوانب حياته صورا غير مسبوق إليها، وإلا فالوقوف عند تكرار ما قد سبق، نذير بالضعف، وربما انتهى الضعف بالحضارة المحاكية لسوابقها إلى الفناء، حتى لو كانت تلك السوابق قد بلغت كمالها في حينها؛ لأن ذلك الكمال نفسه إذا جمدت صورته انقلب ضربا من النقصان، فلكل معركة سلاحها، وأكمل سلاح في معارك الماضي هو أعجز سلاح في معارك اليوم.
فإذا كان السؤال العسير الملقى علينا ليتحدى قوانا وملكاتنا هو: ما هي تلك العقبة الكأداء التي وقفنا أمامها عاجزين عن الدخول في القرن العشرين بأمواجه وتياراته وتحولاته، مع أن هذا القرن العشرين قد دنا من ختامه، ليدخل الناس في مرحلة تاريخية أخرى، أرجح الظن أن تجيء أعتى موجا، وأعنف دفعا، وأشد تحولا؟ أجبنا بأن تلك العقبة إنما كانت هي الوقوف عند نمط ثقافي حضاري لا نريد له أن يتغير مع الزمن، وقد ظللنا نمسي معه ونصبح، حتى أشبعناه تكرارا، وقتلناه محاكاة (والقتل هنا بمعناه الحرفي)، وإن الحياة نفسها بدفعتها الكامنة لتوشك أن تصيح بنا وفينا، هيا جميعا إلى اقتحام العقبة، قاصدة بصيحتها أن نبدع ولا نحاكي.
سؤال عن الثقافة وجوابه
كما يتلقى الجد من حفيدته رسالة، فيشعر وهو يقرؤها وكأنما هو شاخص ببصره إلى تيار الزمن، يراه كالنهر دافقا من بعيد بعيد، ومتجها إلى مصب بعيد بعيد، وما هو والحفيدة والرسالة إلا حلقة من سلسلة، أولها في الأزل وآخرها في الأبد، أقول إنه كما يتلقى الجد من حفيدته رسالة، تلقيت رسالة من طالبة تدرس الفلسفة، وهي الآن في آخر شوطها الجامعي، والطالبة تسألني - راجية أن تسمع مني الجواب - عن «الثقافة» ما معناها؟ تقول: هنالك موضوع يشغل بالي وبال زملائي؛ وهو موضوع «الثقافة»، فماذا تعني كلمة «ثقافة»؟ وما هو دور الثقافة في حياة الإنسان المعاصر؟
وأول ما أجيب به عن سؤالك يا ابنتي، هو أنك قد اخترت كلمة رواغة، لا يكاد صائدها يمسك بطرف من أطرافها، حتى تفلت من بين أصابعه؛ وذلك لأن أطرافها كثيرة ومتفرقة، حتى لتستطيع إذا أنت أمسكت بأحدها، وظننت أنها الآن قد باتت في قبضتك، أن تستغني عن ذلك الجزء من أجزائها وتفر هاربة، وتظل مع ذلك «ثقافة». فإذا كان التعريف الجامع المانع يشبه أن يكون محالا، إلا في المعاني الرياضية أو ما يجري مجراها، فهو أشد استحالة في تحديدنا لمعنى «الثقافة»، ومن هنا كان لها من التعريفات بقدر من تناولوها بمحاولات التحديد، فلكل من هؤلاء تعريفه لها ، وكأننا نعيد على أنفسنا حكاية الفيل في مدينة العميان، إذ التفوا حوله كل يلمسه بأصابعه من حيث استطاع أن يلمسه، فلما سئلوا بعد ذلك: كيف وجدتموه؟ فكان لكل منهم جواب يختلف عن أجوبة الآخرين.
وها أنت ذي تسألينني: ما الثقافة؟ وسأقدم لك جوابا، لا أدعي أنه الجواب الذي لا جواب سواه؛ إذ هو جواب أصف به مسقط أصابعي على جسم الفيل، وللآخرين أجوبتهم، لكن هذا الاختلاف لا يعني بالضرورة أننا جميعا على قدم المساواة من حيث الصواب والخطأ، بل سيكون بيننا تفاوت يقاس بمقياس المنفعة وملاءمة الظروف؛ فالجواب الذي يجعل المثقف أكثر صلاحية لزمانه، أصدق من الجواب الذي من شأنه أن يقيم حجابا بين المثقف والحياة في عصره. ولقد أحسنت يا فتاتي، عندما ذكرت كلمة «معاصر» في سؤالك: ما دور الثقافة في حياة الإنسان المعاصر؟ إذ لا شك في أن شروط «المثقف» قد تغيرت بتغير العصور، فكان لكل عصر ضرورات معينة يشترط توافرها فيمن يسمى بالمثقف، فحينا كانت الفروسية شرطا، وحينا آخر كان التفلسف شرطا، وحينا ثالثا كان الإلمام بشرائع الدين وقواعد اللغة شرطا، وحينا رابعا كان اصطناع النظرة العلمية شرطا، وهلم جرا. وبالطبع لم يكن لكل عصر شرط واحد يطالب بتوافره في المثقف، ولكنها كانت دائما مجموعة قليلة من صفات أساسية هي التي يتطلبها كل عصر من مثقفيه.
فإذا تعددت بين أيدينا الآراء في تحديد «الثقافة» في عصرنا كيف يكون؟ فلا بد من الاحتكام عند المفاضلة إلى الحياة في عصرنا وما تتطلبه من المثقف، لنرى أي الآراء أقرب استجابة للعصر وظروفه. وفي هذا الإطار أتقدم إلى السائلة بجوابي.
لعل أكثر المداخل إلى موضوعنا يسرا ووضوحا، هو أن نبين أولا، كيف أن إدراك الإنسان لأوضاع الحياة التي يعيشها، ويعيشها معه سائر الناس، إنما يتم على ثلاث درجات متصاعدة ، كل درجة منها تقام على الدرجة التي سبقتها، لكن بينما يتحتم على كل فرد من الناس أن يمارس حياته على مستوى الدرجة الأولى، فإنه لا يتاح الصعود إلى الدرجة الوسطى إلا لبعض الناس دون بعض، ثم لا يتاح الصعود من الدرجة الوسطى إلى الدرجة التي تليها إلا للعدد الأقل من سكان الدرجة الوسطى.
أما أولى تلك الدرجات، وأدناها، فهي تلك التي لا بد فيها للإنسان من الإلمام بكثير جدا من تفصيلات المكان الذي كتب له أن يعيش فيه، وبغير هذا الإلمام، الذي يتفاوت فيه الأفراد كثرة وقلة، يتعذر الحصول على الطعام والشراب، وما يتبع ذلك من معلومات أولية ضرورية، فلا بد لكل إنسان أن يعرف - مثلا - أين تكون وسيلة المواصلات، ومتى تتحرك، وأين يجد العلاج إذا أصابه مرض، وما هي الصحف اليومية التي تباع وأين تباع، وأن يعرف أين مكتب البريد، ما الطريق إلى المدارس التي يلحق بها أبناءه؟ وما هي الإجراءات التي تتخذ في هذا السبيل؟ وهكذا من تفصيلات الحياة اليومية الجارية. وإلى هنا لا «ثقافة».
وقبل أن أترك هذه الدرجة الأولى، التي لا مناص من معرفة ما استطعنا معرفته من تفصيلاتها، لكي تدور معنا عجلة الحياة، أود أن ألفت النظر إلى أن هنالك من ضروب المعلومات الأولية التفصيلية ما ليس له أول ولا آخر، وبعضها قد يخدع بحيث يظن أن الإلمام به نوع من «الثقافة»، في حين أنه لا يندرج في دنيا الثقافة، بناء على المقياس الذي أنا في سبيل عرضه وشرحه، فمثلا قد تجد من الناس من يعرف كم فدانا تبلغ مساحة الأرض المزروعة في مصر، وكم من هذه المساحة يزرع قطنا، وكم منها يزرع قمحا، كم يبلغ عدد السكان في عواصم المحافظات، وما شابه ذلك من تفصيلات الأمر الواقع، كل هذه تدخل في نطاق الدرجة الأولى من الدرجات الثلاث التي أشرنا إليها، وأكرر القول بأن هذه المرحلة الأولى والأولية لا بد من الإلمام بجوانبها تفصيلا، ولكنها ليست «ثقافة».
ومن هذه المرحلة الأولى والأولية، يصعد بعض الناس دون بعض، إلى مرحلة أخرى، ترتكز على الأولى، ولكنها ليست منها، ولها طبيعة غير طبيعة المعلومات التي تستلزمها المرحلة الأولى، فالصاعدون بعقولهم إلى الدرجة الأعلى، يحاولون هناك أن يستخلصوا من تفصيلات الدرجة الأولى، تعميمات تختصرها في قوانين علمية، أو ما يشبه القوانين العلمية من أحكام عامة، فإذا كانت المعرفة في المرحلة السابقة قد اقتصرت على مفردات جزئية متفرقة، فالمعرفة في هذه المرحلة الثانية تتخذ صورة التعميم الذي يضم تحت جناحيه أسرة كاملة من تلك التفصيلات الجزئية، كأن تقول - مثلا - إن معدلات الدخل بين الحرفيين هذه الأيام، أعلى من معدلات الدخل بين جماعة المتعلمين في الكليات النظرية، ففي قول كهذا ضرب من المعرفة، يبنى على مفردات المرحلة الأولى، لكنه ضرب يعمم الحكم ولا يقتصر على معرفة الأفراد كل منهم على حدة.
وقوانين العلوم بكل أنواعها، هي من هذا الصنف نفسه، حتى وإن كانت على درجة من الدقة الرياضية تبلغ الغاية القصوى؛ إذ هي بكل دقتها تلك، لا تخرج عن كونها تعميمات تستقطب مفردات المرحلة الأولى في أحكام شاملة، وإلى هنا - أيضا - لا «ثقافة»، فالفرق بين تفصيلات ما حولنا من ظواهر الطبيعة وعناصر البيئة، وأحداث الحياة، أقول: الفرق بين هذا كله من جهة، والأحكام العامة التي تستخلص منه (بما في ذلك قوانين العلوم الطبيعية والاجتماعية على السواء) من جهة أخرى، هو الفرق الذي ينقلنا من مجرد معلومات متفرقة عن الأحياء والأشياء، إلى ما يستحق أن يسمى «معرفة»، فمثلا قد يجمع التاجر وزبائنه خبرات كثيرة عن مسار الأسعار ارتفاعا وانخفاضا، لكنها مجرد خبرات جزئية حصلوها من الممارسة الفعلية في أسوق البيع والشراء، لكن «عالم الاقتصاد» وحده هو الذي يصعد من مستوى الخبرات الجزئية إلى مستوى «المعرفة»؛ لأنه هو الذي يستخرج القوانين التي تحكم ارتفاع الأسعار وانخفاضها. والإنسان العادي يتعلم من خبراته عاما بعد عام، أنه إذا سقطت أمطار في مصر، فذلك يحدث في فصل الشتاء، ولكنها مجرد خبرات يجمعها من مشاهداته، لكن «عالم» الجغرافيا الطبيعية هو الذي يرتفع من مستوى الخبرات إلى مستوى «المعرفة» حين يستخرج لنا القوانين الطبيعية الكامنة وراء سقوط الأمطار في مصر في فصل الشتاء. وهكذا تستطيع أن تستعرض مئات الأمثلة لما هو عند عامة الناس في حياتهم اليومية معلومات جمعوها بالخبرة ، ثم يجيء رجال العلوم المختلفة، فينتقلون بتلك المعلومات الجزئية نفسها إلى مستوى القوانين العلمية، فتصبح الخبرة عندئذ «معرفة» أو قل إنها تصبح «علما».
لكن لا المعلومات والخبرات المكسوبة من ممارسة الحياة العملية، ولا العلوم التي تستخرج من تلك المعلومات والخبرات قوانينها، هو مما نعده «ثقافة»، لماذا؟ لأنه لا المرحلة الأولى، ولا المرحلة الثانية، في وسعها أن تقدم للإنسان البوصلة التي توجه طريق سيره في هذا الاتجاه أو ذاك، فقد تعرف قوانين الاقتصاد كلها، لكنها لا تهديك: هل تأكل اليوم لحما وأرزا، أو تصوم اليوم عن الطعام؟ وقد تعرف قوانين الضوء كلها وقوانين الصوت كلها، لكنها لا تهديك؛ هل تقضي سهرتك الليلة مشاهدا للتليفزيون بصوته وضوئه، أو تأوي إلى فراشك في ساعة مبكرة من الليل؟ فليس في صلب خبراتنا وفي صلب علومنا ما يبين لنا ماذا ندع وماذا نختار، فهي وإن كانت الأدوات التي نستخدمها في تحقيق ما اخترناه لأنفسنا أهدافا لحياتنا إلا أنها ليست هي نفسها التي تحسم لنا عملية الاختيار. ويمكن تشبيه ذلك بذراعيك ورجليك، فالذراعان لا تقرران لنا ماذا نتناوله من أشياء، والرجلان لا تقرران لنا إلى أين نسير، ولكن ثمة مصدر آخر هو الذي يقرر لنا هذا وذاك، ثم يأتي بعد القرار استخدام الذراعين والرجلين للتنفيذ، فإذا وقعنا على ما يقوم فينا مقام البوصلة التي تشير إلى اتجاه السير، كان ذلك المصدر هو ما نسميه «بالثقافة». وبصورة أخرى نقول: إن المرحلة التي نجمع فيها معلومات وخبرات من حياتنا اليومية الجارية، تضع لنا ما حصلناه في خط أفقي، فالمعلومة إلى جوار المعلومة، لا تفصل إحداهما الأخرى، ثم تأتي المرحلة الثانية، التي هي مرحلة «المعرفة» أو «العلم»، فتقوم فوق ذلك الخط الأفقي كما تقوم طوابق المبنى فوق الأساس، لكن هذه التركيبة كلها ليست معضونة، أي أنها لا تدب فيها حياة، ولا تستطيع وحدها أن تحدد لنفسها غايات، إنها لا تشبه الكائنات العضوية الحية، من نبات وحيوان وإنسان؛ لأن كل كائن من تلك الكائنات يستهدف الغايات التي تمليها عليه فطرته ، فشجرة التوت تستهدف ثمار التوت، والحصان يستهدف أن ينسل حصانا مثله، والإنسان يستهدف ما تهديه «ثقافته» أن يستهدفه.
وبهذا يتحول «أضفنا» ليتخذ صورة أكثر تحديدا ووضوحا، فيصبح السؤال: ما الذي يضاف إلى كومة المعلومات الأولية التي يجمعها الإنسان بخبراته، ويضاف كذلك إلى الطوابق العليا التي تبنى فوق تلك المعلومات الأولية في صورة علوم مختلفة، أقول: ما الذي يضاف إلى هذه المواد الهامدة بذاتها، المتحركة بغيرها؟ ما الذي يضاف إليها فتكون كأنما أضفنا إلى السفينة دفة وبوصلة توجهانها إلى غاياتها؟ إذا وقفنا على الجواب، كان ذلك الجواب تحديدا لمعنى «الثقافة».
والجواب عندي هو أن الذي يضاف إلى هيكل المعلومات المتفرقة التي جمعناها، والعلوم التي أقمناها على تلك المعلومات الأولية، أقول إن الذي أضفناه إلى ذلك الهيكل الهامد، فأصبح كالكائن العضوي الحي، يتحرك نحو غايات وضعها لنفسه ليسعى إلى بلوغها، هو مجموعة من القيم السلوكية والخلقية والذوقية، استقيناها من ثلاثة مصادر رئيسية، هي الدين، والفن والأدب. أما الدين فهو الذي يقدم إلينا المبادئ الأساسية التي نسلك على هداها، والتي من شأنها أن تبلور لنا رؤية خاصة، وموقفا معينا من الكون والحياة بصفة عامة، ومن هنا كان لكل جماعة تؤمن بدين معين، رؤيتها الخاصة بها، والتي تصبح أهم العوامل في تشكيل الشخصية المشتركة (إذا جاز هذا القول) بين أفراد تلك الجماعة، فللإسلام رؤيته، وللمسيحية رؤيتها، ولليهودية رؤيتها، وللهندوكية رؤيتها، وللبوذية رؤيتها، وهلم جرا على أن الديانات الثلاث الأولى (الإسلام والمسيحية واليهودية) تكون أسرة واحدة أبوها هو إبراهيم عليه السلام، وديانات الشرق الأقصى من هندوكية وبوذية وغيرهما تكون أسرة أخرى، ولكل من الأسرتين اتجاه عام في رؤية الأشياء والمواقف، والمفاضلة بين شيء وشيء، وبين موقف وموقف. وخلاصة القول هي أن العقيدة الدينية ذات أثر عميق في تشكيل وجهة النظر، أي في الوقفة الثقافية عند الإنسان المثقف.
وأما الفن بشتى فروعه من موسيقى إلى تصوير ونحت وعمارة، فهو وإن يكن في مجموعه انعكاسا لأذواق الجماعات البشرية التي تفرز تلك الفنون، إلا أنه يعود فيصبح مؤثرا قويا في تشكيل وجهات النظر عند الأفراد، أي في وقفاتهم الثقافية، لماذا؟ لأن الفن - على اختلاف فروعه - هو في صميمه نسب محسوبة بين العناصر التي تكونه، ومن ثم كانت معايشة الإنسان للمبدعات الفنية المحيطة به، لا بد أن تنتهي به إلى ميزان داخلي في تكوينه، يجعله مستريحا لما يراه أو نافرا منه، أي أنه يجعله قابلا لأوضاع الحياة من حوله أو رافضا لها، أو بعبارة أخرى، تجعله ذا وقفة ثقافية لها طابعها الخاص المميز، فقد يقبل المصري وضعا ما، هو نفسه الوضع الذي يرفضه الإنجليزي أو الفرنسي، والعكس صحيح كذلك، فاختلاف الشعوب في تلك الموازين هو اختلاف في وقفاتها الثقافية، ثم هو اختلاف نشأ عن الاختلاف في الذوق الفني.
وهنالك أخيرا مصدر الأدب، من شعر ونثر فني، ورواية، ومسرح، فالموضوع الرئيسي للأدب على اختلاف فروعه، هو الإنسان نفسه، وماذا يضمر في ذات نفسه، وكيف يتفاعل مع زميله الإنسان حبا أو كرها. ومعايشة الإنسان للنتاج الأدبي في المجتمع الذي ينتمي إليه، لا بد أن تنتهي به - كما رأينا في الفن - إلى وقفات خاصة تجاه الآخرين، وتلك الوقفات هي من مقومات ثقافته.
تجتمع تلك القيم، أو المعايير، كلها في نفس المتلقي، فتكون هي «الحالة» العامة التي نخلع عليها اسم «الثقافة»، فالثقافة «حالة» توجه الإنسان في اتجاه سيره، وفي ردود أفعاله وليست الثقافة محصولا من معارف ومعلومات في حد ذاتها، بل هي الزهرة التي تنبتها تلك المعلومات والمعارف.
ألخص ما أسلفته فأقول: إن ثمة مرحلتين يجتازهما الإنسان، ليصل عن طريقهما إلى ثمرة تتولد عنهما من جهة، ولكنها من جهة أخرى تفرض عليهما وتوجههما وتقيم لهما الأهداف. وأما المرحلتان فهما:
أولا:
جمع معلومات عن أنفسنا وعن الدنيا التي نعيش فيها.
وثانيا:
إنتاج العلوم المختلفة عن شتى الظواهر الطبيعية والبشرية على السواء، وكلتا المرحلتين في حد ذاتهما ليستا «ثقافة»، إذ الثقافة هي الروح التي تسري لتدفع ذلك البناء المعرفي (المعلومات والعلوم) نحو غايات معينة يريد الإنسان تحقيقها، وبالطبع لا تسري تلك الروح التي هي الثقافة آتية من عدم، بل إن لها مصادر تنبع منها. ولقد ذكرنا أن أهم تلك المصادر ثلاثة: الدين، والفن، والأدب، وبمقدار ما يملأ الإنسان وعاءه من تلك المصادر، تكون غزارة ثقافته وقوة دفعها.
وتلك المراحل الثلاث التي ذكرناها، قد تكون - فيما أظن - هي نفسها الوحدات الثلاث التي أشار إليها الشاعر الإنجليزي المعروف «ت. س. إليوت» في قول له قاله استهجانا لهذا العصر الذي نعيش فيه، إذ قال: لقد ضاعت منا «الحكمة» في بحر «المعرفة»، ثم ضاعت منا «المعرفة» في بحر «المعلومات المتفرقة»، وما أسماه إليوت هنا بالحكمة، هو نفسه ما تحدثت عنه تحت اسم «الثقافة»، ففي المجتمع السليم، يكون لكل من العناصر الثلاثة دوره، لا يفرقه موج العنصر الآخر، ولكننا نلاحظ في عصرنا، أن وسائل الإعلام الجديدة قد أدت إلى كثرة المعلومات المتفرقة، دون أن ترتبط تلك الكثرة برباط «المعرفة» الموحدة، أو قل برباط النظرة العلمية الموحدة، ثم ازدادت حالتنا سوءا على سوء، حين أصبحت تلك المعرفة العلمية ذاتها بغير «ثقافة» تقيم لها الأهداف، وترسم لها الطريق.
ترى هل تجد طالبة الفلسفة صاحبة السؤال، ولو بصيصا من نور في تحديد معنى للثقافة كما أرادت؟
مدينة الفكر كثيرة الأبواب
في مستهل الخمسينات - على ما أذكر - صدر كتاب عربي عنوانه «علمتني الحياة»، يضم مجموعة من مقالات كتبها كاتبون، ليروي كل كاتب منهم في مقالته أبرز ما تعلمه من حياته، وكان هناك كتاب إنجليزي قريب الظهور، يدور في مثل ذلك الفلك، إذ احتوى على ما قرره في هذا الصدد عدد من أعلام الفكر في الغرب، وكان الكتاب الإنجليزي بعنوان: «تلك هي عقيدتي»، وأذكر أن الناشر العربي قد أراد لكتابه أن يضم نفرا من أصحاب الفكر من العرب، إلى نفر من الأعلام الغربيين الذين وردت أقوالهم في الكتاب الإنجليزي، بعد ترجمتها إلى العربية ، وكنت ممن اختارهم الناشر من العرب.
فكان أبرز ما علمتني إياه الحياة، كما رأيته في ذلك التاريخ، هو أنه كلما امتدت الأعوام بالإنسان، قلت حدة انفعاله، وزادت رجاحة عقله؛ بمعنى أن الموقف الواحد، يعرض للإنسان الواحد مرتين تفصلهما فترة من الزمن كالفترة بين سن العشرين وسن الأربعين - مثلا - أو بين الأربعين والستين، فيكون لذلك الموقف الواحد وقع مشتعل بانفعالاته، وذلك في المرة الأولى، ووقع يتسم ببرودة الفكر في موازناته لشتى الجوانب، وذلك في المرة الثانية. ولما كان الإنسان يزداد مع العمر نضجا، أمكن القول بأن هدوء العقل في تقليب الأمور قبل الأخذ في رد الفعل على الموقف المطروح، هو مؤشر دال على ارتقاء صاحبه بقدر ما يكون المنفعل الهائج السريع مؤشرا دالا على فجاجة صاحبه.
وضربت لذلك أمثلة من حياتي، كان منها ما شهدته في جدتي لأبي، في حالتين من موت أبنائها، كان بينهما نحو عشرين عاما. أما في الحالة الأولى فقد جيء فيها بولدها الذي كان مدرسا في أسوان، وغرق هناك أثناء رحلة نيلية بالقرب من الشلالات، وجاءها جثمانه في قريتنا فقل ما شئت في هلع يبلغ بها حد الجنون، وأما في الحالة الثانية فقد كنت أنا الذي حمل إليها جثمان عمي - وكان موته بالقاهرة - فقرعنا عليها باب الدار بعد منتصف الليل، ولم تكن تعلم من الأمر شيئا، فلما فوجئت بجثمان ولدها الأكبر، لبثت صامتة نحو دقيقتين، ثم صرخت «يا ولدي» وصمتت بعدها عن الكلام طوال الأيام التي مكثناها في القرية لنتولى شعائر المأتم. فالموقفان - كما ترى - متشابهان، لكن جاء رد الفعل فيهما مختلفا اختلاف حكمة العقل من جنون الانفعال.
قلت ذلك كله لأتبعه بسؤال وجهته اليوم لنفسي، وهو: إذا جاء ناشر يطلب منك أن تكتب عما علمتك إياه الحياة، فماذا أنت قائل؟ أهو نفسه الجواب الذي أجبت به في مستهل الخمسينيات؟ فرددت لنفسي على سؤالها، قائلا: نعم، إنه هو هو الجواب، بعد أن أضيف إليه إضافة هامة جدا، وهي إضافة خاصة بالحياة العقلية لمن أراد أن يحياها على صورة صحيحة، وخلاصتها ألا يضيق الإنسان على نفسه الأفق، بأن يقف من الموضوع المعروض للنظر، موقفا يقول به إما ... وإما ... ولا ثالث لهما، في حين أن معظم ما يعرض للإنسان في حياته الفكرية، هو مما يحتمل الجمع بين الجانبين - أو عدة جوانب - التي يظن أول الأمر أنهما لا يجتمعان.
فلقد مرت أعوام، كنت خلالها أنا وزملائي من أساتذة الفلسفة، نعترك اعتراكا علميا حول ماذا تكون النظرة الفلسفية الصحيحة، فكان منهم من يقول إنها النظرة المثالية، ومعناها عند المشتغلين بالفكر الفلسفي أولوية الفكر الخالص على تجربة الحواس، وكان منهم كذلك من يقول إنها النظرة الوجودية، ومعناها أن تكون حرية الإنسان في اتخاذ قراره مكفولة له، ليكون بعد ذلك مسئولا مسئولية خلقية، فالإنسان لا تصنعه العوامل من خارج نفسه، بقدر ما يصنع هو نفسه بما يتخذه من قرارات - بإرادته الحرة - في مواقف حياته المختلفة، وكنت أنا أذهب إلى أن النظرة الفلسفية الصحيحة هي ما يجعل المعرفة العلمية موضوعه الرئيسي، وما يجعل لشهادة الحواس المنزلة الأولى في الحكم على تلك المعرفة بالصواب أو بالخطأ، إلى آخر ما كان بيننا من اتجاهات متعارضة.
لكنني فيما بعد سألت نفسي في لحظة نضج أهي اتجاهات متعارضة حقا، أم هي في حقيقة أمرها اتجاهات متكاملة، بمعنى أن النظرة الصائبة صوابا كاملا، هي تلك التي تجمع تلك الاتجاهات كلها في رقعة واحدة؟ ولقد وضح لي هذا الرأي وضوحا أصبحت معه في عجب من نفسي (وفي عجب من سائر الزملاء في معاركهم الفكرية) كيف سبق إلى ظني أنه إما علم تجريبي وإما لا شيء؟ إن حياة الإنسان فيها عدة جوانب، ولا يتكامل الإنسان إنسانا إلا بها جميعا، فهو يحيا حياة علمية، وهو يحيا حياة فنية خلقية دينية، وهو يحيا مواطنا بين غيره من المواطنين في مجتمع واحد، وهكذا. فإذا كنت قد اخترت فيما سبق اتجاها فلسفيا يهتم بجانب الحياة العلمية، فلم يكن ذلك ليعني ألا يهتم غيري بجانب آخر من سائر الجوانب، التي من مجموعها يتكون الإنسان، فالأمر في هذا شبيه بجماعة من الناس، وقفوا جميعا ينظرون معا إلى منظر واحد، لكن كلا منهم أخذ ينظر إليه من زاويته الخاصة، فأحدهم يفكر لنفسه: هل يصلح هذا المكان لإقامة ملعب للكرة؟ وآخر يفكر لنفسه ماذا لو أحضرت أدواتي غدا وجلست أرسم هذا المنظر، فهو أخاذ بتكويناته وخطوطه وألوانه؟ وثالث يفكر لنفسه متسائلا: كيف لم يحدث له أن يصطاد السمك من النهر الجاري هناك؟ ورابع، وخامس؛ فالمكان الذي ينظرون إليه يسع هذا كله، أفنقول في هذه الحالة إن اتجاهات أولئك «متعارضة»؟ أم الأصوب أن نقول عنها إن بعضها يكمل بعضها؟
ومثل هذا التعارض الوهمي، يقع بين مذاهب النقد الفني، إذ هي في حقيقة أمرها زوايا للنظر مختلفة، يمكن جمعها جميعا لتتكون منها نظرة واحدة شاملة، وفي هذه الحالة يزداد المتلقي فهما للقطعة الأدبية أو الفنية التي هي موضوع النظر، وفي سبيل الشرح الذي يزيد المسألة وضوحا، أوجز هنا ما قد سبق لي أن ذكرته مفصلا في مواضع كثيرة:
إنه إذا ما أنتج أديب أو فنان منتجا من منتجاته، كأن يصدر رواية، أو أن يعرض لوحة، أو معزوفة موسيقية، أو ما شئت من صنوف الإبداع، ثم تعرض ذلك المنتج الأدبي أو الفني للنقاد، أمكن أن يكون لكل ناقد منهم زاوية للنظر، من زوايا أربع: فهو إما أن يجد نفسه مشدودا بحكم شيء في فطرته، إلى أن يستشف من القطعة التي يتناولها بالدراسة النقدية شخصية الأديب أو الفنان الذي أنتجها، فمما لا شك فيه أن المبدع لا يملك إلا أن يصب خصائص نفسه فيما يبدعه، لكن الناقد الذي يلتفت من القطعة المنقودة هذه اللفتة، إنما هو امرؤ يميل بفطرته نحو الكشف عن الجوانب «النفسية»، فنحن لا نخطئ إذا قلنا عنه إن الأدب أو الفن في نظره، إنما هو «وسيلة» لما هو أهم والذي هو أهم، هو الكشف عن حقائق النفس، وبهذا المقياس يكون لعلم النفس عنده أولوية على الأدب والفن.
ولكن الناقد ربما اختار زاوية أخرى، فهو أيضا يريد أن يدرس القطعة المنقودة ليستشف منها شيئا عن الحياة الاجتماعية التي لا بد أن تكون قد أحاطت بالأديب أو الفنان، وهو يبدع ما أبدعه، وفي هذه الحالة نقول بحق - كما قلنا في الحالة السابقة - إن الأدب والفن إن هما إلا «وسيلتان» لما هو أهم، وهذا الأهم هو أن تعرف عن حقيقة الحياة الاجتماعية، فكأننا نقول بهذا إن علم الاجتماع هو الغاية والأدب والفن يخدمانه.
وقد يختار الناقد زاوية ثالثة غير الزاويتين السابقتين، وهي أن يدرس القطعة المنقودة ليستشف وراءها شيئا، ليس هو هذه المرة معرفته لنفس مبدعها، ولا هو معرفته للحياة الاجتماعية التي أحاطت بمبدعها وهو يعمل، بل هو أن يتفرس في حقيقة نفسه هو، ليعرفها عن طريق الانطباعات التي تركتها فيه القطعة المنقودة، وفي هذه الحالة يكون للناقد قدرة الأديب والفنان؛ لأن النقد الذي ينتجه هو في حد ذاته أدب، وكل ما في الأمر أنه أدب استوحاه من أدب آخر.
على أن هنالك زاوية رابعة قد يختارها الناقد، وهي ألا يحاول أن يستشف وراء القطعة المنقودة شيئا؛ لأنها غاية في ذاتها، لا مجرد وسيلة لما هو أهم منها، وعندئذ تكون القطعة المنقودة نفسها هي التي ينصب عليها الجهد النقدي، ما أجزاؤها؟ وكيف ارتبطت تلك الأجزاء بعضها مع بعض؟ أو بعبارة أخرى، غاية النقد في هذه الحالة هي دراسة «الشكل» (الفورم) الذي بفضله أصبحت القطعة المعروضة أدبا أو فنا.
فهل هذه الوقفات الأربع «متعارضة»؟ أو أن الأقرب إلى الصواب في أمرها، هو أن نقول إن كلا منها يجيء إضافة للاتجاهات الأخرى؟ فإذا فرضنا أن قارئا قرأ نقدا لرواية من إحدى تلك الزوايا فقط، فالقارئ الذي قرأ نقدا من زاويتين يكون أكثر فهما لأسرارها، ويزداد فهما لو قرأ نقدا من ثلاث زوايا، ويكتمل فهمه لو قرأ نقدا للرواية من الزوايا الأربع جميعا.
وقد كنت في الجهود القليلة جدا، التي بذلتها في مجال النقد الأدبي والفني أميل إلى اختيار الزاوية الرابعة، أي دراسة «الشكل»، إيمانا مني بأنها الزاوية التي تخدم الأدب من حيث هو أدب، والفن من حيث هو فن، ولا تخدمهما من حيث هما وسيلتان لعلم نفس، أو لعلم اجتماع، أو لإبداع أدبي جديد.
وعلى ضوء هذا الذي فرشته فرشا عريضا، أذكر الخطاب الذي ورد إلي من السيد بهاء درويش (ليسانس فلسفة)، وقد أرسله على أثر قراءته عن اتجاهي في النقد، كما شرحته في كتابي «قصة عقل»، وفيه يقول:
جاء في كتابكم «قصة عقل» موقف من النقد الأدبي لكم، فهمت منه أنكم تذهبون إلى أن النقد الأدبي لا بد أن ينحصر في الأثر الأدبي، كائنا ما كان هذا الأثر، فندرس النص ذاته، بغض النظر عن مؤلفه وظروفه، فأمام الناقد تشكيلات لفظية تنحصر كل مهمته في تحليلها. وهنا نقول: إن الفنان نفسه - أديبا كان أم نحاتا أم موسيقارا - هو من نتاج المجتمع والبيئة والعصر الذي يحياه، فالقطعة الأدبية أو الصورة المرسومة، قد تدخلت عوامل كثيرة جدا في إخراجها، ففهم الحياة النفسية والاجتماعية للفنان، يساعد الناقد مساعدة كبيرة، في تحليله للأثر الأدبي.
ترى لو أنك قرأت انشغال سقراط بتحديد معاني «الحرية» «المساواة» «الخير» «الشر» دون أن تعرف أن هذا التحديد قد كتب قبل الميلاد، ألم تكن لتسخر من هذا الذي يشغل نفسه بتحديد معان معروفة عند الناس؟ أم أنك كنت تكتفي بالانشغال بتحليل هذا الأثر كناقد أدبي؟ ألم يأت حكمنا على عظمة هذه الآثار من معرفتنا بأن سقراط حاول أن يصلح ما أفسد السوفسطائيون، ومن معرفتنا الكاملة بالعصر الذي عاشه؟ ولو لم تكن تعرف الزمن الذي كتبت فيه هذه الآثار، وقيل لك إنها وليدة الساعة، فأين كنت تصنفها؟ هل تعتبرها أثرا أدبيا أو فلسفيا؟
انتهى كلام صاحب الخطاب، ونحن نقول:
واضح أن صاحب الخطاب لو كان ناقدا أدبيا، لاختار لنفسه الزاوية التي يحاول فيها الناقد أن يستشف من النص المنقود نفسية مؤلفه من جهة، وظروف مجتمعه ساعة تأليفه من جهة أخرى، ليزداد فهما للنص الذي ينقده، وليس في ذلك بأس، فأظنه قد رأى من شرحنا للزوايا الأربع المحتملة للموقف النقدي أن اختيار الناقد لزاوية منها، لا يعني إلغاء الزوايا الأخرى، إنما هو يتركها لسواه إذا شاءوا. ولقد قلت عن نفسي إنني في النقد الأدبي أختار تحليل النص ذاته بغض النظر عما وراءه، وذلك يشبه أن أدقق في الخيوط التي نسجت بها قبل شرائها، ويجوز لغيري أن يهتم بألوانها لا بخيوط نسجها.
ولا أريد أن يفوتني تنبيه صاحب الخطاب إلى أنه خلط بين الأدب والفلسفة، وذلك حين يسوق لي مثلا من تحليلات سقراط لمعاني ألفاظ بعينها، ثم يسألني: هل كان يمكن أن نغض النظر عن الزمن الذي عاش فيه سقراط؟ وأنا أجيبه بأن ناقد الأدب في موقف مختلف؛ لأنه بينما سقراط يعرض علينا «أفكارا»، فإن الأدب يقدم لنا «أشكالا»، فإذا أعجبتك الهندسة التي رصت بها فروع شجرة وأوراقها، فهل يشترط أن تعرف متى بذرت لهذه الشجرة بذرتها؟
وأعود مرة أخرى إلى الخطاب؛ لأذكر ما ورد في بقيته، ففيها يقول: «وبالنسبة للنقطة التي ذكرتها سيادتكم قائلا:
إن الفن هو التقاط موقف فرد مما يعج به العالم من حولنا. ذلك لا اختلاف عليه، ولكن لماذا يكون من يقول حقيقة عامة، يعد قوله بعيدا عن الفن الرفيع؟ أتراك بموجب هذا تحكم على هذا البيت من الشعر بالبعد عن الفن الرفيع، لكونه يقرر حقيقة تقريرية:
السيف أصدق أنباء من الكتب
في حده الحد بين الجد واللعب.
انتهى كلام صاحب الخطاب في هذه التكملة، ونحن نقول: إنك لو عرفت ما لا بد أن تعرفه عن خصائص الأدب (والفن بصفة عامة)، وهو أنه لكي يكون أدبا على الإطلاق، فيتحتم أن تكون مادته قد صيغت في «شكل» أي «فورم» يختاره الأديب، أقول إنك لو عرفت ذلك، فربما لم تكن لتسأل هذا السؤال؛ لأن بيت الشعر الذي ذكرته، ما كان ليكون شعرا في الأساس، إذا لم تكن مفرداته قد صيغت في هذا النظام الخاص، ووقعت في هذا الوزن الخاص، فهذا وذاك يكونان «الشكل» الذي هو جواز المرور المبدئي لدخوله في دنيا الفن، وبعد ذلك يجيء سؤال آخر هو: هل هو من الفن الرفيع؟ ولماذا؟ فلو كنت أنا لأسلط عليه منهجي في النقد، لركزت انتباهي في المفردات، وطريقة تركيبها بعضها مع بعض، فلماذا - أولا - اختار أبو تمام لقصيدته تلك البحر البسيط؟ ثم انظر - ثانيا - في الثنائيات الواردة في البيت ، السيف والكتب، حده الحد، الجد واللعب، فهي ثنائيات غنية بإيحاءاتها، ثم ألحظ - ثالثا - تآزر الحروف المتجاورة في إحداث النغم، مثل تجاور السين والصاد، وتكرار حرف الحاء، وتجاور الباء والباء، وهكذا.
لكنني لا أتنكر للزوايا الأخرى التي ننظر منها إلى هذا البيت؛ لأنها بكل تأكيد تزيدني له فهما، فمثلا إذا عرفت أن «الكتب» المذكورة هنا لا يقصد بها الكتب على إطلاقها (كما يظن معظم المرددين لهذا البيت)، وإنما هي كتب التنجيم؛ وذلك لأن المعتصم حين أراد الحرب مع الروم، ولم يكن الروم على استعداد في ذلك الوقت للحرب، دسوا له منجما يقول له إن حساب النجوم يدل على أنه لو حارب الروم في ذلك الوقت خسر الحرب، وربما أحدث هذا القول شيئا من التردد عند المعتصم، وهنا أنشد له أبو تمام قصيدته التي هذا البيت مطلعها، ومعناه كما هو واضح، أن النبأ الصادق في نتائج الحرب مع الروم، هو حد السيوف، لا في نبوءات المنجمين، أقول إن معرفتي لهذه الخلفية التاريخية - أي الاجتماعية - تزيدني وضوحا في تقدير البيت من حيث دلالته الفعلية، لكننا حتى لو لم نعلم عنه هذه الخلفية التاريخية، يظل «بشكله» الفني شعرا رفيعا. وأظن صاحب السؤال يستطيع أن يرى «تفرد» الشاعر في تركيب بنائه اللفظي.
والآن فلأجمع أطراف حديثي، لأترك القارئ بنتيجة يسهل حفظها في الذاكرة، ليعود إليها كلما شاء، إما ليأخذ بما فيها، وإما ليعارضها، وتلك النتيجة هي أن حياتي قد علمتني أن مدينة الفكر كثيرة الأبواب، بمعنى أن الموضوع الواحد يمكن للفكر أن يتناوله من عدة جهات، دون أن تجيء الأحكام على الجوانب المختلفة مناقضا بعضها لبعض، بل هي قد تكون متكاملة يقوي بعضها البعض.
حوار على الورق (1)
تراكمت عندي أسئلة القراء، ولم يعد لي بد من الإجابة على بعضها، فبعد أن كان ظني في العلاقة بين الكاتب والقارئ، أنها كالطريق ذات الاتجاه الواحد في حركة المرور، مقيما ذلك الظن على ظن آخر أعم وأسبق، وهو أن الكاتب إنما يضع نفسه على الورق، سواء وجدت تلك النفس من يتلقاها لقاء حسنا أو لقاء سيئا، أم لم تجد، فظلت منشورة على ورقها كالسلعة الكاسدة في سوق البيع والشراء، ولكن لماذا سبق إلى وهمي ذلك الظن في طبيعة العلاقة بين الكاتب والقارئ؟ حدث ذلك - ربما - تأسيسا على مبدأ عندي، أفرق به بين العلم والفن، كائنا ما كان الفرع المعين من فروع المعرفة العلمية، وكائنة ما كانت الدرجة التي يكون بها الفن فنا، فالعلم عام والفن خاص، ومن هنا كان من يتقدم إلى الآخرين بما يزعم أنه حقيقة علمية، مسئولا أمام هؤلاء الآخرين عن إقامة برهان الصدق إذا ما طلب إليه ذلك، وأما من يستخدم وسيلة من وسائل الفن - كتابة أو غير كتابة - ليخرج إلى العلانية شيئا من ذات نفسه بعد أن كان مطويا في جوانحها، فلا ينبغي لأحد أن يسأله: كيف ولماذا؟ فمن شاء فليستقبل تلك الذات التي أعلنت عن نفسها، ومن شاء فلينصرف عنها. ذلك كله هو بعض الظنون التي كانت تساورني - وما زالت تساور - عن طبيعة الكتابة بنوعيها: العام والخاص، وإذا كان القارئ لهذه السطور، ممن تعقبني فيما كتبت وأكتب، لأدرك في غير عسر أنني ألجأ مرة للصنف الأول من الكتابة، وذلك حين أرى أن الفكرة المعروضة من حقها أن تستقل بذاتها؛ لأنها لا شأن لها بخصائص ذاتي، وذلك هو «العلم»، ثم ألجأ مرة أخرى إلى الكتابة من الصنف الثاني، وذلك حين أريد للرأي المعروض أن يكون أقرب إلى «الرؤية» الشخصية، التي لا تلزم أحدا بقبولها، وقد يتمتم القارئ لنفسه هنا قائلا: لكنك يا أخانا تكتب ما تكتبه في الصحف وفي الكتب، وفي ذلك ما يتضمن الاعتراف بأنك إنما قصدت بالكتابة إلى آخرين، وليس من حقك أن تشغل هؤلاء الآخرين بما هو ذاتي خاص. وجوابي على ذلك هو أن الأمر هنا يشبه القطعة الفنية معروضة في معارضها، لا أكثر ولا أقل، فقد تجد من يقف عندها متذوقا متقبلا، وقد تجد من يعرض عنها، وفي كلتا الحالتين يظل الفنان واثقا بفنه المعروض.
وبعد هذا التمهيد، أعود فأقول إن أسئلة القراء قد تراكمت ولم يعد لي بد من الإجابة على بعضها، وقد جعلت أساس اختياري هو ما أتصوره مثيرا لاهتمام كثيرين، سكتوا عن السؤال، لكنهم على رغبة في الإنصات إلى الجواب.
وأبدأ بسؤالين يسألان عن «القراءة» إما عن قراءتي أنا، ماذا قرأت وأقرأ؟ وإما عن قراءة السائل نفسه ماذا تكون وكيف تكون؟ عن الحالة الأولى يسأل السيد طه حسين سليمان قائلا: «في حياة كل أديب شخصية وكتاب، أثرا في مجرى حياته، فهل تتفضلون بذكرهما لجيل الشباب؟»
والجواب هو أن المؤثر كان أكثر من شخصية واحدة وأكثر من كتاب واحد، فلقد كانت العشرينيات من هذا القرن، هي الأعوام التي أحسست فيها بصحوة لما يكتب وما يقال في دنيا الثقافة، وكانت دنياي الثقافية عندئذ مليئة بالفرسان، لكن ثلاثة منهم تميزوا عندي من سواهم، هم: طه حسين، وعباس العقاد، ومحمد حسين هيكل، فكنت لا أترك حرفا واحدا مما يكتبونه إلا وطالعته في حينه أو أرجئه إلى الإجازة الصيفية إذا شاءت لي ذلك ضرورات المذاكرة والامتحان، وبين هؤلاء الثلاثة كانت الأولوية لطه حسين، لا لأنني وجدته أغزر فكرا من زميليه، وإلا فلست أشك في أن تلك الغزارة أولى بها العقاد أولا وهيكل ثانيا، لكن المسألة هنا هي مسألة كاتب وسحر كتابته، وأعود بك إلى ما ذكرته لك عن الكتابة عندما تكون فنا، وعندما تكون أقرب إلى العلم الذي يستند إلى إقامة الحجة والبرهان، على أنني إذ أقول إن هؤلاء الثلاثة هم الذين ارتسموا أمامي مثلا أعلى أنشد بلوغه أو بلوغ ما يقرب منه، فلست أعني أنني ألزمت نفسي بشيء معين مما قالوه، أو بأسلوب معين مما استخدموه، ولكنها هي «الوقفة» العامة هي التي تمنيتها. وبعبارة أخرى رأيت فيهم كاتبين، فتمنيت أن أكون كاتبا.
وأما الكتاب الواحد - بين عشرات الكتب التي قرأتها في تلك الفترة من حياتي - فقد أجده أمرا عسيرا أن أحدد كتابا بعينه، لكنني قد أشير إلى كتابين، على ما بينهما من تباين شديد، وهما «جمهورية أفلاطون» و«في الأدب الجاهلي » لطه حسين، أما أولهما فقد وجدته - وما أزال حتى هذه الساعة أجده - كنزا تغترف منه ما تغترف، ويظل هو الكنز الذي كان، فلا الزمان يبليه، ولا الرجوع إليه تنتهي أسبابه، وربما كان مما يعلل منزلة تلك المحاورة في نفسي، هو ما طبعني ربي عليه من شغف التفكير الفلسفي ومنهجه، وأما ثاني الكتابين، فليست مادته في ذاتها هي التي كانت لها الفتنة، بل هو النهج الفلسفي مرة أخرى، ثم هو - فوق ذلك - إزالته لشعور الرهبة الذي يتولانا كلما مسسنا شيئا من حياة القدماء، فإنني ممن لا يريدون الرهبة أمام شيء في مجال الفكر، ويريدون أن يخضعوا كل فكرة للتحليل والتمحيص. ولعل هذه الرغبة عندي هي نفسها التي جعلتني بعد ذلك من أتباع فلسفة التحليل، كما شرح منهاجها برتراند راسل، وكما طبقها أنصار التجريبية العلمية.
قلت إني تلقيت سؤالين عن «القراءة» كان أحدهما يسأل عن قراءتي أنا ماذا كانت حين كنت في أول الطريق، وقد أجبت عن ذلك بإيجاز، وأنتقل الآن إلى السائل الثاني، وهو السيد فتحي السعيد محمد، فهو يقول: «قرأت لكم مقالا بعنوان: «قالت الشمس للسحب» وقد وردت به ثلاثة أسئلة هي: لماذا أكتب؟ ولمن أكتب؟ وكيف أكتب؟ فسألت أنا نفسي أيضا ثلاثة أسئلة: لماذا أقرأ؟ ولمن أقرأ؟ وكيف أقرأ؟ وهي أسئلة قد تبدو بسيطة، لكنها أكثر صعوبة إذا تعمقناها، فهل تتفضلون بالإجابة؟»
وفي إجابتي سأغض النظر عن الفروق الفردية التي تنشأ عن اختلاف الناس في البواعث والأهداف، وسأنظر إلى موضوع القراءة من جانبه العام المشترك بين القارئين جميعا، فأقول عن الجزء الأول من سؤال السائل: لماذا أقرأ؟ والجواب هو: أنك تقرأ لتضيف إلى عمرك المحدود عشرة أمثاله، أو مائة، أو ألفا، بحسب القدر الذي تقرؤه، والطريقة التي تقرأ بها، لماذا؟ لأنك خلال عمرك المحدود ستجمع خبرات وأفكارا عن العالم وعن الناس وعن حقيقة نفسك، لكن تلك الخبرات والأفكار سيكون مداها مرهونا بقدراتك أنت وحدك على الرؤية وعلى الاستدلال، ومرهونا كذلك بعدد السنين التي كتب لك أن تحياها، فإذا قرأت لكاتب واحد أو لشاعر واحد، ولنختر - مثلا - كاتبا كالجاحظ، وشاعرا كأبي العلاء المعري، فأنت بمثابة من أضاف إلى خبراته وأفكاره التي جمعها لنفسه بنفسه، خبرات وأفكارا جمعها الجاحظ وجمعها المعري، فإذا فرضنا - وليس في هذا الفرض مبالغة - أن الرجل الواحد من أمثال هذين الرجلين، إنما يساوي ألف رجل من أمثالنا نحن الأفراد الذين يقعون في أوساط الناس، أو حتى فوق الأوساط بنسبة معلومة، كان معنى أن تقرأ الجاحظ أو أن تقرأ أبا العلاء، هو أنك قد أضفت إلى عمرك ألف عمر.
على أن الإضافة لا تقتصر على الطول وحده، وإنما هي كذلك إضافة في العرض، وإضافة في العمق أيضا، فأما الإضافة في العرض، فمعناها أنك ستتمرس خلال خبرات من تقرأ له، بخبرات من نوع آخر، أو من أنواع أخرى ليست هي مما ألفت أن تتمرس به في حياتك الخاصة. خذ مسرحية واحدة من مسرحيات شكسبير، واقرأها قراءة من يغوص في أغوارها، تجدك قد عشت ملكا كما يعيش الملوك، وعشت فارسا كما يعيش الفرسان، وعشت عاشقا كما يعيش العاشقون، وعشت مهرجا كما يعيش المهرجون، وعشت عاقلا، وعشت مجنونا، وعشت عشرات الأنواع من ضروب العيش التي لم تصادفك في حياتك الخاصة؛ لأن حياتك الخاصة هي ضرب واحد من تلك الضروب. وإذن فالقراءة لم تجعل عمرك الواحد ألف عمر من حيث الطول، بل جعلته ألف عمر، أو يزيد من حيث العرض كذلك، أي من حيث التنوع.
ثم يضاف إلى زيادة عمرك طولا وعرضا، زيادة أخرى، ربما كانت أهمها جميعا، وهي الزيادة في البعد الرأسي، أعني في عمق الأغوار التي تصل إليها بالنسبة لكل فكرة، وكل معنى، وكل لون من ألوان المشاعر، فلعلك تدرك كم هي سطحية حياة أمثالنا من عابري السبيل، إذا قيست إلى الحياة الإدراكية التي يحياها الفحول، فمثلا قد أستخدم أنا أو تستخدم أنت في الحديث فكرة «الحرية»، لكن قارن فكرتك عن الحرية في أبعادها وأعماقها، بالفكرة نفسها كما وردت عند جون لوك، أو جان جاك روسو، أو جون ستيوارت مل . وقد تستخدم أنت وأستخدم أنا كلمة «فن»، لكن قارن هذه الفكرة في أبعادها وأعماقها عند أمثالها، بالفكرة نفسها عند رسكن، أو سانتيانا، أو كولنجوود. وقد تكون أنت أو أكون أنا قد عرفنا «الصداقة» أو «الحب»، لكن ارجع إلى الصداقة كما رآها أرسطو، وكما رآها ابن حزم، ثم انظر إلى الحب كما كابده وعبر عنه روميو وقيس. وتسألني: لماذا أقرأ؟ فأجيبك: إنك تقرأ لتحيا بدل عمرك الواحد ألف عمر، طولا وعرضا وعمقا.
وأما عن الجزء الثاني من سؤالك: لمن أقرأ؟ فالإجابة هنا موصولة بالإجابة عن الجزء الأول، فهي: اقرأ لمن يضيف إلى خبراتك وأفكارك إضافة توسع من آفاق دنياك في تلك الأبعاد الثلاثة جميعا، فما كل قراءة ككل قراءة، وإنما القراءة التي نعنيها هي قراءة الأفذاذ في كل ميدان، فهل يعقل - في ميدان الفلسفة مثلا - أن أترك أفلاطون وأرسطو وابن سينا وابن رشد وديكارت وكانت وهيجل، لأقرأ فلانا وعلانا؟ وفي ميدان الشعر، هل يعقل أن أترك البحتري وأبا تمام والمتنبي وأبا العلاء لأقرأ فلانا وعلانا؟ نعم، قد نقرأ للأوساط، بل وللصغار أحيانا لنتسلى، وأما الحياة بالطول والعرض والعمق، فمصدرها أفذاذ الرجال. إنني أذكر سؤالا وجهته لأستاذ كبير في دنيا الفلسفة في إنجلترا، وكنت أزوره لأودعه قبل عودتي من بعثتي إلى مصر، إذ سألته: كيف ترى جان بول سارتر؟ فنظر إلي نظرة الذاهل للسؤال، وقال: سارتر؟ ثم أشار لي بيده نحو رفوف مكتبته، وقال: وهل فرغت من هؤلاء السادة القادة، لأنفق ساعاتي في قراءة سارتر؟
ويبقى الجزء الثالث والأخير من سؤالك، وهو: كيف أقرأ؟ وخير جواب عن السؤال هو: اقرأ وكأن الذي معك ليس كتابا من صفحات مرقومة بحروف وكلمات، بل كأنك تتحدث مع مؤلف الكتاب، اقرأ وكأن الذي معك هو الرجل الحي يعرض عليك فكرته أو خبرته بصوت مسموع ، ففي هذه الحالة ستجد نفسك مدفوعا إلى مراجعته ومساءلته ومناقشته جزءا جزءا، ومعنى معنى. وهكذا تكون القراءة الحية بفاعليتها الذهنية، فلا تجعل من نفسك أثناء القراءة شريطا من أشرطة الكاسيت، يتلقى ولا حيلة له فيما يتلقاه، بل تمهل هنا، وقف هناك، واسأل، وحاور، ووافق واعترض، فالذي معك هو إنسان حي بفكره ووجدانه، وقد يكون إنسانا أطول منك باعا وأقدر منك على الغوص وراء الحقائق، لكنك لن تبلغ منه كل ما تريد إلا إذا وقفت منه موقف الأحياء من الأحياء إذ يلتقون في دروب الحياة ومسالكها.
ونكتفي بهذا القدر من الحديث عن موضوع «القراءة» لننتقل إلى موضوع آخر له طرافته، وله كذلك صلته الوثيقة بالقراءة، وهو ما عرضه السيد ع. ع. أ. في رسالته، ويتلخص في وجوب السعي الحثيث الجاد نحو توفير «الأمن الثقافي» على نحو ما نسعى نحو تحقيق «الأمن الغذائي»، وقد تمنيت لو استطعت نشر رسالته كما هي، لولا ما تفضل به من سخاء في وصف ما أكتبه.
وارتكازا على تلك الرسالة وما ورد فيها، أقول: إننا نحسن فهم ما أراده «أحد أبناء مصر المخلصين» (كما وصف نفسه في ذيل الخطاب) إذا سألنا أنفسنا أولا: ما المراد بالأمن الغذائي؟ لنقيس عليه ما نريده بتوأمه «الأمن الثقافي». إنه لو كان لدينا وفرة من مصادر الطعام، تضمن لنا عافية أبداننا اليوم وغدا وبعد غد، لما طافت برءوسنا فكرة الأمن الغذائي، لكننا حتى إذا تلفتنا حولنا اليوم، ووجدنا وفرة في الطعام المعروض في الأسواق، فإننا لتأخذنا خشية الإملاق إذا نحن مددنا أبصارنا إلى غد وبعد غد، حين يسير منحني السكان في صعوده الرهيب الذي نراه، ومن هنا نأخذ في التدبير والحساب، لنأمن المجاعة أو ما يقرب منها، فنزرع من الأرض ما لا نزرعه اليوم، وننشئ من الصناعات ما لم ينشأ حتى اليوم وهكذا.
وعلى هذا النحو ننظر إلى مصادر حياتنا الثقافية اليوم، وقد نجد فيها القليل - وأقل من القليل - مما يضمن الصحة لعقولنا وقلوبنا. وأما الزبد الذي فيذهب جفاء، فهو كثير وأكثر من الكثير. والذي يثير الفزع بصفة خاصة، هو أن القليل النافع الذي يمكث في الأرض، هو - على الأغلب - من صنع بقية باقية من أبناء الجيل الماضي، فماذا يكون من أمرنا غدا، وإن غدا لناظره قريب؟ أفلا يلزم في هذه الحالة شيء مثل ما قمنا به في مجال الأمن الغذائي، فنرعى عقولا واعدة لعلها تنضج وتحمل ثمارها إذا ما جاء ذلك الغد القريب؟
ولا بد لي هنا من إضافة أراها واجبة، دفعا لسوء الفهم والتفاهم، وتلك الإضافة هي أن أحدا لا ينكر «المواهب» في أبناء هذا الجيل من منتجي الثقافة في شتى ميادينها، بل إن لفتة هذا الجيل نحو الإبداع إنما تفوق - بغير شك - لفتة الجيل الماضي؛ لأنه إذا كان الجيل الماضي قد أظهر براعته الفائقة في هضم الثقافتين: ثقافة التراث وثقافة العصر الحاضر، ثم في عرض المادة المهضومة على القراء، فإن أبناء هذا الجيل كان ينتظر لهم أن تكون براعتهم في إبداع شيء جديد، بوحي من الثقافتين معا، لكننا إلى جانب هذا الاعتراف بالفضل لذويه فلا بد كذلك أن نذكر وجه القصور، وهو أن معظم ما يبدعونه من أدب وفن وفكر، لا ينطوي على شيء كثير من تلك الجذور العميقة الفنية التي تضمن الدوام النسبي على امتداد الزمن، ومن هنا تنشأ ضرورة الحيطة بما أسماه صاحب الرسالة المذكورة بالأمن الثقافي.
وقد نسأل عن علة هذه الضحالة، ما دمنا قد اعترفنا بالمواهب، وأخذنا في الاعتبار كثرة الأجهزة الرسمية وغير الرسمية التي أنشئت لترعى الحياة الثقافية. وفي ظني أن العلة كامنة في خلل النسبة الملائمة عند توزيع اهتمامنا بدرجات الحياة الثقافية، فبينما شغلتنا فكرة «الجماهير» انصرفنا عن الدرجات العليا، وكأن تلك الدرجات ليست هي نفسها التي ستقدم الغذاء الثقافي المناسب «للجماهير»، وإذا أردت برهانا على خلل التناسب هذا، فانظر إلى محاور الاهتمام الأساسية فيما تقدمه الصحف ووسائل الإعلام.
إلى هنا وحديثي اليوم قد دنا من ختامه، وبقيت أسئلة أخرى كثيرة تستحق العناية والدخول بها في هذا الحوار، فلا مناص من حديث آخر .
لكنني لا أستطيع أن أترك هذا الحديث، دون أن أوجه كلمة مخلصة إلى «قارئة» لجأت بمأساتها إلي كما تلجأ الحفيدة إلى جدها، كما حلا لها أن تقول في رسالتها، فأريد لك يا ابنتي أن تعلمي أنه ما من مخلوق بشري شهدته الدنيا، إلا وقد تنازعت فيه القوتان، أما إحداهما فتدفع نحو إشباع دواعي الفطرة المغروزة في جبلة الإنسان، والتي لا حيلة للإنسان في وجودها، وأما القوى الأخرى فهي الشكائم التي نلجم بها تلك الفطرة عند جموحها، لكي نسير بها في الطريق المشروع. ولئن كنت يا ابنتي - كما تقولين - تؤدين فروض الله، وتقرئين كتابه، ثم ترين نفسك على شيء من ضعف الإرادة قد ينتهي بك إلى زلل، فإنك في كل ذلك إنما تفصحين عما يكتمه الآخرون، وحسبك هذه اليقظة المؤرقة من ضميرك الحي اللوام، لتكوني على يقين بأن السفينة لا بد راسية آخر الأمر في مرفأ الأمان.
حوار على الورق (2)
وأتابع الحوار مع القراء في رسائلهم، فيسأل السيد صلاح الدين الشرنوبي سؤالين، أثبتهما هنا بكلماته، ثم أجيب، يقول:
أولا:
لماذا وبالذات في الدول النامية تكون هناك هوة عميقة بين القول والعمل؟ مع أنها دول تحتاج إلى تقدم وإلى جدية، ولماذا يصدق القول مع العمل في الدول المتقدمة؟
ثانيا:
ما هو المقياس الذي تتبعه الدول النامية في المشاكل التي تواجهها؟ ويؤدي بها دائما إلى طريق مسدود، وإلى حلول مؤقتة، وما هو المقياس في الدول المتقدمة، الذي يؤدي بها إلى حل جميع مشاكلها في جدية وحزم، مما يؤدي بها إلى التقدم المحسوس الذي نشاهده في هذه الدول؟
وعن السؤال الأول، أود قبل الإجابة، أن ألفت النظر إلى خطورة الخطأ الذي كثيرا ما نقع فيه، كلما عممنا القول تعميما لا يتحوط ولا يتحفظ، فلا القول والعمل «دائما» يتباعدان بهوة عميقة في البلاد النامية، ولا هما «دائما» يتطابقان في البلاد المتقدمة. فكثير جدا من أقوالنا نحن، هنا في مصر على سبيل المثال، ولعل مصر هي التي يعنيها صاحب السؤال، أقول إن كثيرا جدا من أقوالنا قد اتسقت مع أعمالنا، في مشروعاتنا الكبرى، وفي مشروعاتنا الصغرى على حد سواء، فإقامة الصناعة - ثقيلها وخفيفها - أراها مسايرة لما استهدفناه عند أول الطريق. وإذا كانت هنالك عثرات في السير، فلا أظن أنها ترجع إلى ما يجوز تسميته بالفجوة بين القول والعمل، والتوسع في التعليم من أولى درجاته إلى أعلى درجاته، أراه كذلك مسايرا لما رجونا. فإذا وجدنا هبوطا في المستوى العام، فليس ذلك راجعا إلى هوة عندنا بين القول والعمل بقدر ما هو راجع إلى ظروف مادية أخرى، كزيادة الأعداد زيادة رهيبة بالنسبة إلى قدراتنا المالية والبشرية، فلا نحن نرضى لأنفسنا أن نوصد أبواب التعليم في أوجه الراغبين فيه، ولا نحن قادرون من الناحية المالية على الأقل، على أن نواجه ذلك الكم الهائل من التلاميذ والطلاب، مواجهة نحتفظ فيها بارتفاع المستوى، وهكذا قل في كثير من جوانب حياتنا.
وكذلك إذا وجهنا أنظارنا إلى البلاد المتقدمة، فلا أظننا واجدين أعمالهم «دائما» متطابقة مع أقوالهم، وإلا لما رأينا الحكم متداولا بين الأحزاب، فيحكم أصحاب اليمين مرة واعدين بأشياء لا يحققونها، ثم يتولى بعدهم الحكم أصحاب اليسار، وبدورهم يعدون بأعمال يعجزون عن إنجازها وهكذا دواليك.
لكنني بعد هذا التحفظ، لا بد أن أوافق صاحب السؤال على أن البلاد النامية تكثر فيها المفارقات بين القول والعمل، بدرجة لا نراها في البلاد المتقدمة، ولهذه الظاهرة علتان رئيسيتان، إحداهما يمكن أن تفتقر لحسن النية التي يغلب أن تكون كامنة في نفوس العاملين، وأما الأخرى فلا وجه فيها لمغفرة. ولشرح ذلك نقول: إن ما يسمى بالبلاد النامية، هو نفسه البلاد التي ظفرت بحريتها واستقلالها منذ عهود قريبة، فحدث في كل بلد منها أن تولت الحكم فيه حكومة من أبنائه، بعد أن كان الحكم قبل ذلك في أيدي أجانب غاصبين. فماذا وجد الحكام الوطنيون؟ وجدوا شعبا محروما من حقوقه، محروما من إشباع حاجاته الضرورية من تعليم وصحة وعمل، ومحروم من العيش على مستوى اقتصادي معقول. فكان لا بد لهؤلاء الحكام الجدد أن يسرعوا بإشباع جانب من تلك الحاجات بقدر المستطاع، لكن أقل قدر من ذلك الإشباع كفيل بأن يبتلع الجزء الأكبر من الإنتاج، فيرى المسئولون أنفسهم بين اثنتين: فإما أن يواصلوا إشباع الحاجات لمن حرموا منها أعواما طوالا، فيتبخر الناتج كله في غمضة عين، ولا يبقى بين أيديهم فائض يضيفونه إلى تنمية الإنتاج، وإما أن يقيدوا الإنفاق على سد حاجات الجماهير التي طال حرمانها، فيفتئتون بذلك على فكرة العدالة الاجتماعية. فضلا عن تعرضهم لسخط هؤلاء الجماهير أنفسهم. بعبارة أخرى، فإن الحكومات الوطنية سرعان ما تجد نفسها قادرة إما على كفاية الإنتاج، وإما على إشباع حاجات الناس. ولما كان كلا الجانبين مطلوبا، بغض النظر عن تعذر التحقيق، أو حتى عن استحالته، اضطرت تلك الحكومات الوطنية في البلاد النامية أن تعد بما لا تحققه، وذلك بأن تعد الناس بالجانبين معا وهو محال.
وفي مواجهة هذه المفارقة في حياة الدول النامية بعد استقلالها، رفع شعار ينادي بما أسموه بالمعادلة الصعبة. وكان المقصود بها هو أن تحاول الحكومات الوطنية الجديدة، التماس خط يحقق أكثر ما يمكن من آمال الشعوب المحرومة (لأن تحقيقها كلها محال إذا أردنا تنمية الإنتاج) ويحقق في الوقت نفسه أكثر ما يمكن من التنمية الإنتاجية (لأن التنمية بالدرجة الواجبة مستحيلة إذا أردنا أن نشبع شيئا من حاجات المحرومين) لكن شعار «المعادلة الصعبة» عسير، مما يجبر المسئولين إجبارا أن يقولوا (أحيانا) ما ليس يفعلون، لا عن كذب أو قصور أو خيانة، بل عن ضرورة ألزمتهم بها طبيعة الموقف الذي يواجهونه، وذلك هو ما قلت عنه إنه خطأ مغتفر لما ينطوي عليه من حسن النوايا.
لكن هنالك هوة أخرى بين القول والعمل في البلاد النامية لا سبيل فيها إلى غفران، وتلك هي أن من تئول إليهم مقاليد الحكم بعد إخراج المستعمر الخارجي، أو إبعاد المستبد الداخلي، قد تذهلهم السلطة التي جاءت إليهم فجأة، بكل ما يتبعها من مكاسب، فتأخذهم خشية أن يكون هذا «العز» المفاجئ مصيره إلى زوال مفاجئ أيضا (وأنا أتكلم هنا عن حالة شائعة في البلاد النامية)، فيحاولون جمع أكثر ما يمكن جمعه، وفي أقصر مدة ممكنة، قبل أن يباغتوا بأحكام القدر. ومن هنا تراهم يقسمون حياتهم قسمين: أحدهما في العلن، والآخر في الخفاء، فيبشرون بكل ما يطيب وقعه على الأسماع، لكنهم من وراء ظهر المجتمع يكنزون ويكدسون، وما دام المعيار الخلقي قد ازدوج بين خفاء وعلانية، تحتم أن يسود الحياة نفاق يخلق الهوة العميقة التي تفصل بين القول والعمل.
ذلك عن أحد السؤالين اللذين ألقى بهما السائل في رسالته، وأما عن السؤال الثاني الذي يسأل عن العلة التي من أجلها تجيء حلول المشكلات في البلاد النامية مؤقتة، ذلك إذا لم تجد نفسها في طريق مسدود لا يقدم حلولا، لا دائمة ولا مؤقتة، بينما نلاحظ في البلاد المتقدمة ضربا آخر من التناول، يؤدي بتلك البلاد إلى حل مشكلاتها على نحو يكفل لها مزيدا من التقدم.
والعلة - يا سيدي - التي لا علة سواها، هي في منهج التفكير الذي يتناول به الناس حل مشكلاتهم، فبينما ذلك المنهج في البلاد المتقدمة هو أقرب شيء إلى مناهج التفكير العلمي، بكل ما يقتضيه ذلك التفكير من دقة في الإحصاءات ودقة في استدلال النتائج من المعطيات، تجد الطريقة في البلاد النامية يغلب عليها المزج بين علم وعاطفة، وبين صدق وكذب. فمثلا لا يبعد في البلاد النامية أن نضع مقياسا على أساس من قدرة الطالب على التحصيل، ثم ترانا نسرع إلى «الاستثناءات» العاطفية الخالصة، كأن نقول: إن لأولاد الشهداء الحق في تجاوز المقياس، وبهذا يلتحق بكلية الطب مثلا من ليست له القدرة على دراسة الطب، بل وقد يقع البلد النامي في أخطاء أفدح - صدورا عن عاطفة - كأن يتمنى لنفسه ما ليس في وسعه فيتمنى أن يتساوى مع البلاد الغنية والمتقدمة في بعض مظاهر الحكم، في إقامة مشروعات لا قبل له بها، أو غير ذلك مما كان التفكير العلمي ليأباه لو احتكمنا إليه. واختصارا فإن الفرق بين البلاد النامية والبلاد المتقدمة في معالجة مشكلاتها، إنما يكمن في التزام المنهج العلمي أو التفريط فيه.
وأشعر هنا بضرورة إضافة عامل آخر، وهو أن العلاقة بين الحاكم والمحكوم في البلاد النامية ليست متشابهة كل التشابه مع تلك العلاقة في البلاد المتقدمة، فبينما هناك يكاد يمتنع خوف المحكوم من حاكمه، فها هنا نجد عكس ذلك، إذ يكاد ذلك الخوف أن يكون هو قاعدة التعامل، فينتج عن ذلك أن من يطلب منه النظر في معالجة مشكلة بعينها، فالأغلب أن يقدم ما يتوقع أن يصادف الرضا عند رئيسه، لا ما يرضى عنه التفكير العلمي المجرد النزيه. وما أكثر ما رأينا سياساتنا الاقتصادية وغير الاقتصادية تنقلب رأسا على عقب بين عشية وضحاها، لا لأن الباطل قد زهق في دقيقة واحدة ليحل محله الحق في دقيقة واحدة كذلك، بل لأن فكرة عند ولي الأمر قد حلت محلها فكرة أخرى.
وما دمنا نتحدث عن العلم ومنهجه، فهذه فرصة مناسبة لأتناول فيها ما كان أرسله السيد ف. ف. مسائلا عن الحتمية والاحتمال في القوانين العلمية، قال سيادته: قلت في مقالتكم «مغامرات محسوبة» عند الكلام على المنهج الاستنباطي والمنهج العلمي التجريبي، هذه العبارة: إن صاحب المنهج الجديد يكتفي بما هو محتمل الصواب القابل للتصحيح، فلا ثبات ولا ركون عند نتائج بعينها، يقال عنها إنها الحق الذي لا يتغير مع الأيام ولا يتبدل، فهل معنى هذه العبارات أن العالم الذي نعيش فيه أصبح خاليا من الظواهر الحتمية، وأصبح كل شيء فيه احتماليا نسبيا؟
فإذا قلت مثلا باتحاد الأوكسجين والأيدروجين بنسبة معينة، يتكون حتما الماء، وإذا تعرض بخار الماء لسطح بارد، فإنه يتكاثف ويتحول حتما إلى ماء، ودوران الأرض حول نفسها أمام الشمس يؤدي حتما إلى تعاقب الليل والنهار ... إلخ، فأين هي الاحتمالية في مثل هذه الظواهر العلمية الواقعية؟
وجوابي على السيد ف. ف. هو أن مفهوم الحتمية عندما كان ينسب إلى أحداث العالم - وبالتالي فهو ينسب إلى القوانين العلمية التي تصور سلوك تلك الأحداث - إنما كان يتضمن أن الحادثة السابقة تحمل في طبيعتها الحادثة اللاحقة، بحيث يستحيل استحالة منطقية أن تحدث الأولى ولا تحدث الثانية. ولذلك كان أنصار الحتمية خلال الفترة التي امتدت من عهد نيوتن حتى عهد أينشتين، يتصورون أنه يكفينا أن نلم بحقيقة حاضرة لنستدل منها كل الماضي وكل المستقبل بالدقة الرياضية، لماذا؟ لأن الحقيقة الحاضرة إنما هي وليدة حتمية، لما مضى، ووالدة حتما لما هو آت. وحين نقول إن فكرة الحتمية هذه قد فسحت مكانها لفكرة الاحتمالية، فنحن نعني بذلك على وجه التحديد، أن الحادثة اللاحقة في سلسلة الأحداث، قد جاءت «بعد» الحادثة التي سبقتها، لكن ذلك لا يعني أنها كانت منطوية فيها، تماما كما نلحظ اطراد التتابع بين دق الجرس في المدرسة ودخول التلاميذ غرف الدراسة، حتى وإن اختلفت الحالتان من حيث درجة الاطراد. فإذا قر في أذهاننا جيدا أن قوانين العلم ترصد «تتابع» الأحداث حيثما شاهدها اطرادا في ذلك التتابع، نتج عن ذلك نتيجة هامة، وهي أن القانون العلمي قد بني على ما «شوهد» وما «أجريت» عليه التجارب، فهو بمثابة حكاية تحكي عما حدث بالفعل، وليس في حكاية الماضي ما يحتم أنه سيطرد حدوثه في المستقبل كذلك.
فإذا افترضنا أن حادثتين «أ»، «ب» قد شوهد اطراد التتابع أو التلازم بينهما، فصيغ قانون علمي على هذا الأساس، فإن أتباع الحتمية العلمية في هذه الحالة يقولون: إنه يستحيل أن تحدث «أ» إلا وتحدث «ب» بعدها أو معها، بينما أنصار الاحتمالية العلمية يقولون: إن «ب» يستحيل عليها الحدوث إلا إذا سبقتها أو صحبتها «أ»، لكن العكس غير صحيح بمعنى أنه إذا وقعت «أ» فلا ضمان يؤكد حدوث «ب» معها أو بعدها. ونأخذ مثلا من الأمثلة التي أوردها صاحب السؤال، وهو أنه باتحاد الأوكسجين والأيدروجين يتكون الماء حتما، فنقول: نعم إنه إذا كان هناك ماء قلنا إنه لا بد أن يكون ذانك العنصران قد اتحدا، فاتحاد الأوكسجين والأيدروجين هو نفسه الماء، فكأننا بذلك لا نقول شيئا أكثر من قولنا إن اتحاد الأوكسجين والأيدروجين هو اتحاد الأوكسجين والأيدروجين. لكننا إذا كنا قد عرفنا بادئ ذي بدء أن ثمة أوكسجين وأيدروجين، فوجودهما لا يحتم أن يتحدا ليتكون الماء، إذ قد يظلان هكذا عنصرين مستقلين أحدهما عن الآخر، ومرة أخرى أقول إن الحتمية في العلاقة بين «أ، ب»، معناها أن وجود «أ» يحتم أن تلحق بها «ب»، ووجود «ب» يحتم أن تسبقها «أ»، وأما الاحتمالية بمعناها أن وجود «ب» يحتم أن تكون «أ» قد وجدت كذلك، وأما وجود «أ» فلا يحتم أن تلحق بها «ب»، إذ قد تلحق بها أو لا تلحق بها.
وإذا راجع السيد ف. ف. كل أمثلته التي أرسلها إلي في رسالته، والتي اكتفيت بذكر بعضها هنا، وجدها جميعا تصور تتابعات في وقوع الأحداث، رصدناها في صورة قوانين، عندما لحظنا اطراد حدوثها. وأود أن ألفت نظر سيادته إلى الفرق بين نوعين نسوي عادة بينهما، مع أنهما ليسا متساويين وهما: الاستحالة بناء على ما خبرناه في مشاهداتنا وتجاربنا، والاستحالة التي هي استحالة «منطقية». ولنأخذ واحدا من أمثلتك، وهو الذي نقول فيه إن دوران الأرض حول نفسها يؤدي حتما إلى تعاقب الليل والنهار، فكأنك تقول بهذا أنه يستحيل أن تدور الأرض (وحتى في حالة توقف الأرض فرضا عن الدوران، كما قلت أنت في جملة اعتراضية) دون أن يتعاقب الليل والنهار، وهذه - كما ترى - استحالة مبنية على ما قد شاهدناه حتى الآن، لكن ماذا يحدث لتعاقب الليل والنهار إذا ما أراد الله سبحانه وتعالى يوما أن يطمس عين الشمس؟ إن الاستحالة التي تصورتها يا سيدي، هي استحالة «تجريبية»، وليست هي بالاستحالة المنطقية، وإلا فقارن ذلك بمثل قولنا: إنه يستحيل على العدد 2 ألا يجيء سابقا على العدد 3 في سلسلة الأعداد الطبيعية، وأنه يستحيل على المثلث على سطح مستو أن تجيء زواياه غير مساوية لزاويتين قائمتين. وهكذا تجد أن الاستحالة المنطقية لا تكون إلا فيما يسمونه بالجمل التحليلية، أي الجمل التي تعيد شطرها الأول في شطرها الثاني برموز مختلفة عن رموزها في الشطر الأول.
ولقد ذكرت لك فيما أسلفته جانبا واحدا من الجوانب الكثيرة التي دعتنا إلى القول بأن الاحتمالية في العلوم قد حلت اليوم محل الحتمية. ويكفيني هنا أن أشير إلى مثلين آخرين من مجالين مختلفين، لأبين بهما جوانب أخرى من فكرة الاحتمالية في العلوم، أولهما القوانين الخاصة بالذرة من الداخل، أي القوانين التي تضبط لنا حركة الإلكترونات في أفلاكها، فها هنا نجد أنفسنا أمام حركة تحدث على أسس ليست هي الأسس في قانون الجاذبية كما تركه نيوتن (والسيد ف. ف. قد ضرب بقانون الجاذبية هذا مثلا)، وخذ مثلا آخر من مجال آخر، هو اختلاط الغازات أو السوائل حارها بباردها، فأظنك تعلم أن الذي يستخلصه العلم في حالات كهذه، إنما هو متوسطات إحصائية لسرعات الذرات المختلفة، وإذا قلنا «متوسطات إحصائية» فكأنما قلنا نتيجة احتمالية، وهذا نفسه تقوله عن أي قانون علمي نبنيه على مقاييس السرعة أو الطول أو الوزن أو أي شيء مما يقاس، فهنا أيضا لا مندوحة للعلم عن أخذ متوسطات إحصائية للأرقام المختلفة التي نراها على المراقم، فكلما كررنا العملية القياسية للسرعة أو لغيرها، وجدنا رقما مختلفا اختلافا يسيرا، فيلجأ الباحث العلمي إلى استخراج متوسطات الأرقام المختلفة عن الظاهرة الواحدة المعينة، وذلك يجعل النتيجة احتمالية كما ترى؛ لأن كل تقدم نحققه في أجهزة القياس، من شأنه أن يعطينا أرقاما أخرى «أدق» من الأرقام التي حصلنا عليها بالأجهزة القديمة. ولقد ذكرت أنت في رسالتك شيئا كهذا.
وإلى السيد ف. ف. أوجه الخطاب، فأقول: إنني ترددت في أن أجيب على رسالتك؛ لأني كنت أعلم أنها ستدخلنا في تفصيلات لا يسهل عرضها على القراء، وما دمت قد آثرت آخر الأمر أن أجيب هذه الإجابة الموجزة، فلا بد لي من عتاب أتوجه به إلى صاحب الرسالة، لسرعة قفزه من مناقشة تدور حول نقطة علمية خالصة، وتمس أسس المنهج العلمي، إلى الدخول في موضوعات تخص الدين في بعضها، وتخص السياسة في بعضها الآخر، فاستمع إلى عبارتك التي قلت فيها: «العقل يريد يقينا ثابتا ثبوت وجود الله الحق، الذي لا يتطرق إليه أي ذرة من الاحتمال أو الشك، أفي الله شك؟ كما تقول الآية الكريمة، لا أستبعد أن يكون علماء مذهب الاحتمال في العلم من الشيوعيين الذين يريدون أن يقولوا للعالم أجمع في النهاية، وتحت ستار العلم، إن الله يحتمل وجوده ويحتمل عدم وجوده.»
فيا سيد ف. ف. لقد كنت أتوقع من رجل كتب خطابا في مثل مستوى خطابك من الناحية العلمية ألا يخلط كما يخلط من هم دونه بدرجات تخلط بين معان مختلفات مثل هذا الخلط العجيب، ألا فلتعلم يا أخي أنه إذا كانت حادثات الكون تجري على حتمية علمية، فهي تجري هكذا بمشيئة خالقها سبحانه وتعالى، وإذا كانت تلك الحادثات تجري على احتمالية علمية فهي كذلك أيضا بمشيئة خالقها سبحانه وتعالى، وأقول «حتمية علمية» و«احتمالية علمية»؛ لأن الحتم والاحتمال هنا مقصوران على ما يستطيعه «علم البشر»، وأما «علم الله» بما خلق فشيء آخر ولا دخل في هذا الموضوع لشيوعية وغير شيوعية، اللهم إلا إذا كان مكتوبا علينا أن نستهوي عامة الجمهور حتى ولو كان الموضوع من أخص خواص العلوم ومناهجها.
وإني لأراه حراما علينا أن نتعمد الهبوط بأنفسنا لغير داع يوجب علينا ذلك الهبوط.
حوار على الورق (3)
ومرة أخرى أعود إلى القراء في رسائلهم، بادئا برسالة السيد عبد المنعم محمد أبو ريا، التي يشفق فيها على الفلسفة ممن يقولون عنها إنها ذهبت وذهب زمانها، فهو يقول:
اسمح لي أن أسألك، بصفتك أستاذا كبيرا من أساتذة الفلسفة في الجامعة، عما يشيع بين كثير من الناس، في هذا العصر المادي، أنه لم يصبح للفلسفة اليوم مكان، كما كان لها أيام أفلاطون وأرسطو، وما تلاها من عصور، وأن الفلسفة اليوم ليست إلا اللغو الفارغ.
فواضح أن الإجابة هنا، ليست موجهة إلى صاحب الرسالة نفسه، بقدر ما هي موجهة إلى أولئك الناس - وهم «كثيرون» كما وصفهم صاحب الرسالة - ولهذا فلا بد لي من أن أجيب إجابة تتناسب مع من لا يعرف عن الفلسفة لا كثيرا ولا قليلا، لعلي أستطيع أن أضيء لهم ولو عودا واحدا من أعواد الثقاب، لينزاح ما ينزاح من الظلام الذي يلفهم في عتمته فلا يرون أكفهم ولو بسطوها أمام أبصارهم.
والخطوة الأولى في طريق هذه الإجابة البسيطة الميسرة هي أن أطلب إليهم أن يتجاهلوا - مؤقتا - كلمة «فلسفة»، وكأنها سقطت من معاجم اللغة ومحيت من اللغة محوا، حتى لا يشغلوا أنفسهم بلفظة، وسأبدأ حديثي معهم بعرض أفكار معينة، واتجاهات واهتمامات في حياة الناس، وحتى إذا أقروا أنها أشياء لا يستغني عنها الناس في تلك الحياة، ذكرت لهم عندئذ، وعندئذ فقط، أن تلك الأفكار والاتجاهات والاهتمامات هي بعض ما نطلق عليه اسم «الفلسفة». ولست أنا أول من استخدم مثل هذا المدخل إلى موضوع الحديث، فلقد لجأ إلى مثله ذلك المعلم الذي جاء به «مسيو جوردان» (في مسرحية موليير) ليعلمه شيئا عن الأدب، فلما بدأ المعلم بتقسيم الأدب إلى شعر ونثر، وشرح له «النثر» شرحا سهلا بسيطا، قال له جوردان وهو في عجب مما يسمعه: إذا كان النثر كلاما كهذا الكلام الذي نديره الآن بيننا، فهل كنت منذ أول حياتي أتكلم «نثرا» وأنا لا أدري أنه كذلك؟
بل ليست هذه أول مرة أستخدم فيها هذا المدخل إلى الحديث، فقد حدث لي ذات يوم - وكان على وجه التحديد يوما من ربيع سنة 1954م - إذ كنت يومئذ في أمريكا أستاذا زائرا في إحدى جامعاتها، حدث لي أن دعيت إلى ندوة خاصة عقدها أستاذ للفلسفة قديم، جاوز الثمانين من عمره وتقاعد، لكنه لم يكف عن مواصلة نشاطه العلمي في بيته، فيدعو إليه آنا بعد آن جماعة من صفوة العلماء والمثقفين، ويدعو معهم زائرا ليتحدث إليهم في موضوع يختاره لهم. ولقد كنت أنا في ذلك اليوم هو من دعاه ليتحدث، وكان الموضوع الذي اختاره للحديث هو «الإسلام»! ولقد كنت على علم بمدى ما يعرفونه عن الإسلام، وكم هو يوشك أن يكون عدما أو كالعدم، لا بل إنني كذلك كنت على علم تام بأن جهلهم بالإسلام مقرون في أنفسهم بشعور يميل بهم نحو الحكم الظالم، ويكفيه ظلما أنه حكم على عقيدة لا يعلمون عنها شيئا.
فبدأت حديثي وكأنني سأتحدث عن شيء آخر غير ما دعيت للحديث فيه. وأخذت أرسم لهم صورة ثقافية حضارية نتمنى جميعا أن تتجه الإنسانية إلى تحقيقها. فما هي صورة الإنسان الفرد كما نريد له جميعا أن يكون؟ وما هي صورة الروابط التي نتمنى جميعا أن تربط الأفراد في مجتمع ؟ وهكذا مضيت في حديثي معهم، وكان موضوعنا هو مستقبل الإنسان ومستقبل الثقافة ومستقبل الحضارة، حتى إذا ما بلغت بحديثي حدا ظفر منهم بالموافقة والرضا، قلت لهم: لكن هذه الصورة التي رسمتها لكم أيها السيدات والسادة هي صورة الإسلام!
فقال أحدهم قولا شديد الشبه بما قاله مسيو جوردان لمعلمه في مسرحية موليير قال: أكنا إذن طوال زماننا مسلمين ونحن لا ندري؟ وهنا تذكرت ما كان الإمام محمد عبده قد قاله عندما زار إنجلترا، ورأى سلوك الناس هناك في معاملاتهم: جئت إلى إنجلترا لأرى إسلاما بغير مسلمين، وتركت في مصر مسلمين بغير إسلام.
وعلى هذا النهج نفسه سأوجه حديثي إلى من يظن أن الفلسفة قد ذهبت وذهب زمانها، وأنها لغو فارغ، فأقول: امح يا صاحبي من رأسك هذه اللفظة الكريهة، وتعال معي نتكلم فيما هو أهم، بادئين حوارنا بمعنى «الديمقراطية» التي نريد جميعا أن نحياها بالطول والعرض والعمق. إننا نريد للديمقراطية أن تكون أسلوب حكم وطريقة حياة، وما أكثر ما نسمع القادة وهم يطلبون منا «ممارسة» الديمقراطية في حياتنا بشتى جوانبها، ويطلبون منا «ترسيخ» الديمقراطية في نفوسنا، و«تعميقها» في صدورنا إلى آخر ما يرددونه قولا وكتابة كلما أصبح لهم صباح وأمسى بهم مساء، أليس كذلك؟ - نعم هو كذلك!
وإذا لم تضللني الذاكرة، فإني أذكر فيما كنا نسميه بالميثاق خلال الستينيات، صورة جميلة أشبه بالصور الأدبية على أقلام الأدباء، وهي صورة تجعل الديمقراطية وكأنها طائر ذو جناحين، وذانك الجناحان هما «الحرية» من جانب و«العدالة» من الجانب الآخر. نعم كان الأمر كذلك.
ولكني أسألكم يا إخواني سؤالين، عن هذه المعاني الثلاثة التي جسدت نفسها في طائر بجناحيه والتي جعلناها، أو قل هي التي نتمنى في المستقبل البعيد أو القريب أن نجعلها محورا لحياتنا. وأما السؤالان فهما: أولا: ترى من الذي قذف في رءوس الناس بهذه الأفكار الثلاثة حتى اعتنقوها وآمنوا بها، وجعلوها أملا يريدون له أن يتحقق في حياتهم؟ أكان الذي أبدع هذا الطائر الجميل بجناحيه عالما من علماء الكيمياء، أم كان من علماء الفيزياء؟ أكان زارعا للأرض أم كان ممن يعملون في المصانع؟ أكان من العاملين في القطاع العام أو كان من العاملين في القطاع الخاص؟
وأما السؤال الثاني فهو: هل ترون أن تلك المعاني الثلاثة - على أهميتها التي رأيناها - مفهومة لنا أدق الفهم وأوضحه؟ وإذا كانت مفهومة لنا مثل هذا الفهم الدقيق الواضح، فلماذا نغير في شرحها وتفسيرها كل يوم، بحيث تبدو وكأنها معان هلامية مضطرمة في أذهاننا؟ وإذا لم تكن مفهومة لنا، فلمن نلجأ يا ترى لنلتمس عنده الشرح والتوضيح؟
الحق أننا لا ندري، فلا نحن نعرف أي علم من العلوم هو الذي أفرز لنا تلك المعاني الثلاثة، ولا نحن نعرف إلى أي ضرب من ضروب البشر نلجأ للشرح والتوضيح.
إذن فاستمعوا إلي لأدلكم بقدر ما يسمح لي بذلك علمي الضئيل، ووالله لا أقولها متواضعا، وإنما هي الحقيقة العارية أنه علم ضئيل، وليس الأمر فيما سوف أقوله لكم مقصورا على تلك المعاني الثلاثة التي ذكرناها - الديمقراطية والحرية والعدالة - بل هو كذلك يشمل عشرات من المعاني الأخرى التي هي المحاور الرئيسية في حياتنا، فأما التربة التي أنبتت هاتيك الزهرات اليوانع كلها، فهي ما نطلق عليه اسم الفلسفة، وأما الرجل الذي يمكن أن يعين على تحليل تلك المعاني الشريفة كلها ليبسط لنا فحواها ومعناها، فهو الذي نسميه باسم الفيلسوف.
فليست الفلسفة - أيها السيدات القارئات والسادة القارئون - ليست لغوا من اللغو، ولا هي أشباح تطير مع دخان المداخن في الهواء، إنما هي تبدأ مما يجري على ألسنة الناس كلاما وكتابة، هنا على هذه الأرض، نعم إنها تبدأ مما يجري على ألسنة الناس في بيوتهم، وفي مزارعهم ومتاجرهم، وفي ركوعهم وسجودهم، وفي سياستهم وفي أوقات فراغهم. أليس الناس في كل شئونهم يتكلمون عن الحق والعدل والجمال والخير والحب والسلم والعلم والفن والصداقة والانتماء والفرد والمجتمع والإيمان والطبيعة؟ ومن هذه المعاني وأمثالها - أيها السيدات القارئات والسادة القارئون - تبدأ الفلسفة سيرها، أو قل إن أولئك الذين شاء لهم ربهم أن يكونوا بفطرتهم ذوي شغف بمعرفة هذه المعاني وأمثالها لا من أسطحها الظاهرة، بل من مضموناتها الدفينة في أجوافها، وهؤلاء هم الفلاسفة، وأن هؤلاء الفلاسفة إذا ما تناولوا هذه الخيوط المتفرقة تحليلا وتمحيصا وفهما، فهم لا يقفون عند هذا الحد، بل يحاولون بعد ذلك أن يلتمسوا طريقا لنسج هذه الخيوط في ديباجة واحدة، فإذا وفقوا كان المرسوم على تلك الديباجة هو صورة الكون عند هذا الفيلسوف أو ذاك!
وأما الكثرة الغالبة من الناس فهم برغم شعورهم بأهمية تلك المعاني الأساسية المحورية، فهم يكتفون منها بأسطحها المرئية بالعين من بعيد، ومن هنا كانت العلة في أنهم يختصمون حولها. فالجميع يريد الحرية، لكنهم يتفرقون أحزابا وشيعا في معنى الحرية التي يريدون، وقل هذا في كل المعاني الأخرى التي من هذا القبيل. وبعض السبب في أنهم متفقون على مظهر المعنى المعين في جملته، ولكنهم مختلفون في حقيقته وتفصيله، هو أنهم يكتفون من كل فكرة بملمسها الخارجي ولا يغوصون إلى الجوف وما يحويه. وأما إذا شاء الله لأحدهم ألا يكتفي من الفكرة المعينة بملمسها، ويلح في أن يبقر جوفها ليعرف ما هو كامن فيه، فذلك هو الفيلسوف.
إننا جميعا نتساوى عند النظر إلى جبل وهو بعيد، فكلنا يراه في شكله الخارجي العام عند الأفق النائي، ولكن الذي يقترب منه حتى يلمسه بأصابعه، هو وحده القادر على أن يحكي لنا بعد ذلك عما رآه هناك من أنواع الصخور والنبات والحيوان والحشرات وكل شيء، ومثل ذلك الرجل في دنيا الأفكار هو الفيلسوف. وإذا كانت هذه هي خصائصه، فهل ترون أنه رجل لم تعد حياة الناس في حاجة إليه؟
إن تلك الفاعلية العقلية التي يحاول بها الإنسان أن يفهم حياته وما ترتكز عليه في علمها وفي إيمانها، وفي غاياتها، بل وفي هواجسها وأحلامها، إنما هي فاعلية ننشط بها جميعا، في لحظات متفرقة وعلى درجات تتفاوت فينا ارتفاعا وانخفاضا. وهي في أرفع درجاتها تكون عند من نطلق عليهم «فلاسفة» لأن هؤلاء إذ ينشدون ذلك الفهم الذي ننشده جميعا. نراهم وقد أسعفتهم قدرتهم القادرة، وعقولهم الذكية النافذة لا يقتصرون على فهمهم لمعان متفرقة ومحدودة المجال، بل يبسطون أجنحتهم العريضة حتى تحتوي في حماها على الكون بكل ما فيه، يدرجونه كله تحت فكرة رئيسية واحدة منها تتفرع كل التفسيرات المطلوبة لتعليل الجوانب المختلفة التي تصادفنا وتثير اهتمامنا.
وعند هذه النقطة أنتقل بالقارئ إلى رسالة جاءتني من السيد فيكتور وليم ميخائيل، أسوقها هي نفسها مثلا يبين لنا كيف أن الإنسان مهما كانت مهنته في حياته العملية، لا يخلو أن ينشغل حينا بعد حين بمسألة تمس الحياة في صميمها، فيصب عليها تلك الفاعلية العقلية لفهمها، على نحو ما أسلفت القول. وليس المهم هو أن نطلق على رجل يحاول مثل هذه المحاولات اسم «فيلسوف» أو لا نطلقه، لكن المهم هو أن ذلك النوع من النشاط الذهني الراغب في الفهم، شيء لن يكون عنه غنى في عصرنا ولا في أي عصر حتى يرث الله الأرض وما عليها. فالسيد فيكتور قد شغلته فكرة العلاقة داخل الإنسان بين المسائل العلمية والمسائل الدينية، وأراد لنفسه أن تطمئن أن ثمة توافقا بين الخطين بالرغم من اختلافهما الظاهر من حيث المصدر ومن حيث المضمون، فهداه الله إلى فكرة لها وجاهتها وهي فكرة التناغم بين جانبين مختلفين، تناغما يجعل أحد الجانبين يتأثر بمثل ما يتأثر الجانب الآخر، بالرغم من وقوع المؤثر على أحد الجانبين فقط دون الآخر، ويضرب لذلك أمثلة، فيقول إن الموقف عندئذ يشبه: «وترين مشدودين متساويين متجانسين متجاورين، فإذا وضع ركاب من ورق على أحدهما، وهززنا الوتر الآخر شاهدنا الركاب يهتز بنفس القدر، وما ينطبق على الوترين ينطبق على الشوكتين الرنانتين المتشابهتين.»
ويريد بأمثلته تلك أن يقول إنه إذا تشابهت البنية الأساسية في مجالين، فالمؤثر الذي يؤثر في أحد المجالين، يجد صداه في المجال الثاني أيضا. ومن هنا أمكن للفرد من الناس أن يتلقى ما يتلقاه من علوم ومن رسالات دينية موحى بها من عند الله، إذا كان عند ذلك الفرد المتلقي بنية ذهنية أو قلبية تتماثل وتتناغم مع ما يتلقاه.
هكذا أراد السيد فيكتور أن يفهم جانبا من جوانب حياته الإدراكية فبذل الجهد العقلي ليفهم، فهل نقول له: لا، أقلع عن التفكير فلا حاجة بك ولا بنا إلى فهم؟
وهذا ينقلنا إلى الحديث عن «المواهب» استجابة لرسالة السيد سعيد سلام، الذي أرسل يقول: «نريد أن نناقش قضية الموهبة ما هي، وما قيمتها الإنسانية والحضارية؟ وما ضمانات بقائها ونمائها؟ ثم ما الآثار المترتبة على تنميتها ورعايتها أو على طمسها وإهدارها؟»
فكما هو واضح من اسمها في العربية - ومن اسمها في الإنجليزية أيضا - فكل موهبة هبة من الخالق جل وعلا، نفحها لمن يحملها من عباده، ولا فضل لصاحبها في قيامها، ولا لوم على فاقدها، وتتعدد المواهب نوعا، وتتفاوت قدرا، بتعدد الموهوبين وتفاوتهم؛ فهذا موهبته في فن من الفنون، موسيقى أو شعر أو ما شئت، وذاك موهبته في حدة الذكاء الذي قد يظهر في القدرة على الاستدلال الرياضي أو العلمي بصفة عامة، وثالث موهبته في مهارة يديه ورابع في سرعة العدو، وخامس، وسادس، وسابع ... والتعليم والتدريب يصقلان الموهبة، ولكنهما لا يوجدانها من العدم. وإذا بلغت الموهبة ذروة عليا كانت هي ما نسميه بالعبقرية.
هذا كلام معروف ومفهوم، لكن الذي قد نجهله أو نتجاهله هو أن أصحاب المواهب العليا في شتى فروعها، هم قلة قليلة جدا بالنسبة إلى سواد الناس. ولما كانت الموهبة في آخر التحليل، إنما هي القدرة على «الإبداع» أي القدرة على إيجاد الجديد الذي يضاف إلى ما هو كائن، أو الذي يغير ما هو كائن، كانت تلك القلة الموهوبة هي وحدها القادرة على تجديد حياة الناس اتجاها وارتفاعا. وأما الكثرة الغالبة من جمهور الناس فهي تتبع. وإننا لنضلل أنفسنا إذا تعمدنا ألا نفهم فهما جيدا واضحا ماذا يراد حين يقال إن القيادة والريادة والإبداع إنما هي للشعوب لا لفرد معين أو لقلة من أفراد، فحقيقة الأمر في ذلك هي أن الشعب في مجموعه قد تتأزم به الحياة في إحدى نواحيها، فيكون من شأن ذلك أن تتجه الموهبة في أحد أفراده نحو ما قد تأزم به فيجيء على يديه الحل الجديد. فإذا كانت قمة الجبل هي من طبيعة الجبل، لكنها «قمته»، وإذا كانت ذروة الموجة العالية هي من طبيعة الموجة، لكنها «ذروتها» فليس ثمة من تناقض بين أن يكون الموهوب قطعة من النسيج العضوي للشعب الذي هو فرد من أفراده، وبين أن يكون ذلك الفرد الموهوب ذا مكانة خاصة بالنسبة لسائر الأفراد.
وأقول ذلك لأنني أرتب عليه واجبا ملزما للدولة في رسم سياستها في التعليم والتربية، وذلك الواجب الملزم هو أن أخطط البناء التعليمي على أساسين متوازيين، أحدهما هو أن يتعلم الجميع، وأن تتساوى الحقوق والفرص لا نميز أحدا من أحد، وأما الأساس الآخر فهو أن أبحث خلال العملية التعليمية في كل مرحلة من مراحلها، عن أصحاب المواهب، لأخصهم وحدهم برعاية تتناسب مع مواهبهم؛ لأن هؤلاء هم في نهاية الأمر الذين ستكون لهم الريادة في شتى ميادين الحياة. ولست أرى في مثل هذا الانتقاء ما يتنافى مع المساواة بين جميع المواطنين؛ لأن الموهوبين وغير الموهوبين هم مصريون على السواء، وتعرض أمامهم الفرص متساوية، فإذا كان أحد منهم موهوبا في ناحية ما، فإنه يكون إنكارا لنعمة الله، وجحودا لحق الوطن أن نطمس ذلك الموهوب ليغوص مع الآخرين إلى قاع واحد. ولست أريد هنا، ولا أرضى أن أصوغ هذه الفكرة كما صاغها أحد الفلاسفة القدماء، إذ قال إن عملية التعليم ما هي إلا البحث وسط كومة الرمل - التي هي سائر أفراد الشعب - عن بضعة جواهر خفيت في ثنايا الرمل. لا، لست أقول شيئا كهذا؛ لأنه يتضمن أن التعليم الذي يصيب حبات الرمل، إنما هو تعليم بالمصادفة، ما دامت الغاية المنشودة هي البحث عن الجواهر المختفية، فلكل فرد من الشعب الحق في أن يتعلم بقدر ما وسعت فطرته أن يتعلم، على ألا نضحي بقدرات أقوى من أجل قدرات أضعف.
ولقد ذكر لي صاحب السؤال عن «الموهبة» في رسالته، ما يدل على أنه استوحى سؤاله مما قرأه لي في مقالة كان عنوانها «قراءة في كراسة مجهولة»، وكان فيها حكاية والد ينصح ولده أن يمضي في طريق حياته دءوبا لا يبالي ما سوف يتلقاه من ضربات الآخرين. وكان في المقالة ما يوحي إلى قارئها بأننا في مجتمعنا كثيرا ما نعمل على قتل الموهبة بوأدها مع صاحبها في الظلام، مفرقا بين معنيين مع معاني العدالة - وللعدالة معان كثيرة - فعدالة من هو أقوى منصبا، غير العدالة التي مؤداها أن يوضع كل فرد في مكان من البناء الاجتماعي يناسب قدراته. فإذا ساد المعنى الأول كان الأغلب أن يعمل صاحب المنصب القوي على أن يخفي في الظلام أولئك الذين إذا ظهروا هددوه، وأحسبني لا أتجنى إذا قلت إن خبرتي تشير إلى أن مثل هذا البطش كثير الحدوث في حياتنا، مما أنتج لنا نتيجتين:
إحداهما: ارتحال الأكفاء بأعداد ملحوظة إلى حيث يستثمرون مواهبهم في غير وطنهم، فأمسك بزمام أمورنا في حالات كثيرة، أفراد ذوو قدرات محدودة! وهي النتيجة الثانية.
إن الأمة تحيا في تاريخها، وما تاريخها إلا أصحاب المواهب من أبنائها وما صنعوه ليخلدهم، فتخلد الأمة بخلودهم.
مصر هي أنت يا صديقي
عدت من سفر دام معي شهرين، ابتغيت فيه الراحة والعافية، فزارني فيمن زارني أقرباء وأصدقاء، ولم يكد يبدأ حديثنا في كل لقاء، حتى ينعرج به المتحدث نحو شكاة منه صارخة بما آلت إليه مصر، انهارت مصر، انتهت مصر. هكذا كان القول على كل لسان ممن تحدثوا، مهما يكن الموضوع الذي يبدأ به الحديث. فقد يبدأ الحديث بأطراف من حياتنا الفكرية والأدبية، أو قد يبدأ بالأسعار وكيف طارت في السماء، أو بغزو لبنان وقمة فاس، أو بما شئت مما تدور به أحاديث الناس، وهي مرسلة بغير تكلف. وكانت تلك النغمة اليائسة هي نفسها التي سمعتها على أوتار المصريين المغتربين الذين شاءت لي الصدفة أن ألتقي بهم خلال رحلة الشهرين.
كنت أحيانا أحس الإخلاص والصدق في تلك الأحاديث، كما كنت - أحيانا أخرى - أحس الكذب والزور والبهتان؛ فلقد كنت لا أملك إلا أن أصدق مريضا وجد المهارة في الطبيب المصري مقرونة بإهمال التمريض وقذارة المستشفى، ولا أملك إلا أن أصدق باحثا وجد الذكاء في الدارس المصري مقرونا بألغام متفجرة من روح اللامبالاة والتخريب. نعم كنت لا أملك إلا أن أصدق أشياء كثيرة سمعتها؛ لأنني عشتها وعرفتها، لكنني في الوقت نفسه كنت لا أملك إلا أن أتهم المتحدث بالتجني على الحق، حين أجد التناقض في موقفه صارخا، كأن يكون المتحدث أستاذا أو طبيبا أو مهندسا، ممن ارتحلوا للعمل في أقطار شقيقة لمصر أو غير شقيقة، وطفحت جيوبهم بآلاف الدنانير هناك ومئات الآلاف من الدراهم هنالك، وبرغم أنه هو الذي يمسك لتلك الأقطار بمصباح العلم الذي أخذه من مصر، أو هو الذي يطب للمرضى هناك، أو يخطط المدن ويقيم العمران، بطب أو هندسة ذهبت معه في حقائبه، تراه يفاخر بما وجده هناك، ويخجل مما يراه هنا.
وكانت إحدى هذه الحالات العجيبة فيمن تحدثوا إلي، هي التي أثارت غيظي، فانفجرت في المتحدث قائلا: يا صديقي إن مصر هي أنت وهي أنا، وهي كل فرد مصري تراه، فإذا أردت الحديث عن مصر حديثا صادقا منزها عن الهوى، فخذ مصر بمجموعها، خذها هنا على أرضها، ثم تعقبها حيثما اتجهت، وأينما جلت في أقطار الأرض، تعقبها في أشخاص المصريين الذين يعلمون ويطبون ويهندسون ويعمرون الخراب، تعقبها في شخصك أنت، فالذي تصنعه حيث أنت، وتفاخرنا بصنعه، إنما هو مصر تجسدت فيك بعلمها وأدبها ودماثة طباعها.
لقد انطلقت بحديثك - يا صديقي - ترسم لنا أبشع الصور عن تدهور مصر في هذا، وانهيارها في ذاك، فهل سمعت الأسطورة التي تروى عن مارد جبار كيف عاش دهرا، ثم انطفأت جذوته وتحولت رمادا، فظن أصحاب الظنون أن زمان المارد الجبار قد ولى، وإذا به - من الرماد نفسه - تشتعل جذوته من جديد. وتلك - يا صديقي - هي بعينها قصة مصر في انهيارها وتدهورها؛ ففي ميدان التعليم - مثلا - وهو من أكثر الأمثلة دورانا على ألسنة الناقدين، هل سمعت قبل اليوم في تاريخ التعليم المصري أن عشرات الألوف من طلبة الثانوية العامة يظفرون بدرجات تزيد نسبتها على التسعين في المائة كل عام ؟
قف يا سيدي هنا متمهلا متأملا، ومتعقبا بخيالك مصير هذه الألوف التي امتازت على هذا النحو النادر حدوثه في ميادين التعليم أينما كان. إنك مهما بلغت من التشاؤم فلن يسعك إلا أن تقر بأن عددا ضخما من تلك الألوف المتفوقة سيظل لها تفوقها إلى ما بعد الجامعة، فمن أنقاض التدهور ذاتها، صحا الأفراد صحوة لم يسبق لها نظير، ثم ماذا؟ ثم يخرج المارد في بعثه الجديد، فيجد الطريق على أرض بلاده مسدودا إلى حين، فيسافر ليضطلع بما ذكرته لك من تعليم وطب وهندسة وغيرها، لتعمر بجهوده الأرض اليباب. ومن هؤلاء البناة كنت أنت يا أخي، فهل نسيت؟ إنني أعلم أنك بعد أيام قليلة ستعود إلى مهجرك، فأرجوك أن تتلفت حولك فاحصا، لترى مصر في أبنائها ماذا تصنع، وكيف تصنعه.
لقد التقيت في رحلتي الأخيرة بصديق مصري على درجة ممتازة من الثقافة، فكان بين ما سمعته منه أن الشباب المصري فقد ثقته بمصر وثقافتها، هكذا قال صديقي بنبرة تدل على أنه هو أيضا قد فقد الثقة، فسألته: أحقا ما تقول؟ أجاد أنت حين تزعم أن شبابنا قد فقد الثقة بثقافة مصر؟ إنه لو زعم لي ذلك لما صدقته؛ لأن سلوكه عندئذ يفضح ادعاءه؛ إذ ما هي «ثقافة مصر» تلك التي تتحدث عنها وتوهمني بأن شبابنا قد أدار لها كتفيه؟ إن ثقافة البلد المعين إنما هي بأعينها قائمة على أرض ذلك البلد، وارتبطت بها قلوب المواطنين، فليست «ثقافة مصر» هذه سحابة صيف تظهر في السماء حينا وتختفي، إنما هي في ثوابت رواسخ ضوارب بجذورها في الأرض، تراها العين، وتسمعها الأذن، وتمسكها الأيدي، فهل أصبح شبابنا اليوم يخجل أن يرى الهرم ومعبد الكرنك ووادي الملوك؟ هل يخجل شبابنا اليوم أن يرى أديرة الزاهدين في الصحراء «ومنها ما كان أول ما عرفته المسيحية في تاريخها من أديرة منذ قرونها الأولى» أم يخجل أن يرى مساجد آل البيت وأولياء الله؟ هل يخجل شبابنا اليوم أن يرى الجامع الأزهر، وأن يعلم الدور الذي أداه؟ ولندع هذا التاريخ القديم، لنلقي نظرة عجلى على تاريخنا الحديث، فبأي المشاعر - يا ترى - يشعر شبابنا إذا ما ذكرنا أمامه طائفة من رواد الثقافة المصرية الحديثة محمد عبده، قاسم أمين، لطفي السيد، طه حسين، عباس العقاد، الدكتور هيكل، أحمد شوقي، توفيق الحكيم، نجيب محفوظ. بأي المشاعر - يا ترى - يشعر شبابنا إذا شهد تماثيل مختار، ولوحات محمود سعيد، وإذا ما تسمع أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب؟ وبأي المشاعر - يا ترى - يشعر شبابنا إذا ما ذكرنا أمامه ثورات عرابي وسعد زغلول وجمال عبد الناصر؟
لا يا صديقي، إن أحدا من المصريين لم يفقد الثقة في مصر، حتى وإن توهم ذلك. لقد سمعت السيدة تاتشر «رئيسة وزراء بريطانيا» تخطب في قومها لترفع من روحهم المعنوية، فكان مما قالته، إن بريطانيا تفخر بأشياء كثيرة، وأخذت تضرب لهم الأمثلة، فكانت كلها مخترعات علمية، كالثلاجة وطائرة الكونكورد وما أشبه ذلك، فسألت نفسي وأنا أسمع: ماذا تقول عن مصر إذا ما كنت لتخاطب الناس ذاكرا لهم مآثرها الحديثة، ودع عنك مآثر عدة آلاف من السنين. وأجبت لنفسي جوابا رضيت عنه بعقلي وبقلبي معا. إنني أقول إن مصر - أيها السادة - هي التي استطاعت بثورتها الأخيرة أن تبث روح الثقة بالنفس بين الفئات العاملة. كان الفلاح، وكان العامل يكاد لا يشعر لنفسه بكرامة أمام صاحب الأرض أو صاحب العمل، كانت العلاقة بين الطرفين علاقة الأعلى بالأدنى، علاقة السيد بالمسود، فأصبحت - على الأقل - علاقة ندين متعاقدين، إن لم يكن للعاملين فوق الآخرين درجة، فكان انقلابا ما كان ليتحقق بغير ثورة، ولك أن تعده صفحة من صفحات الثقافة المصرية المعاصرة.
ومرة أخرى أسأل: أصحيح أن شبابنا قد فقد الثقة بثقافة مصر؟ إنه لو كان قد فعل، لتنكر لأهم الخصائص التي جعلت المصري مصريا، وفي مقدمة تلك الخصائص «الشعور الديني»، فمصر هي أقدم بلد في الدنيا بأسرها امتلاء بذلك الشعور الديني، ومن طول المدة التي أشرب فيها المصري بوجدانه الديني، أصبح ذلك الوجدان جزءا من كيانه، يلازمه ملازمة اللون الأسمر لجلده. وإنني في هذه المناسبة من سياق الحديث، لأكاد أزعم بأن الصفة التي تميز الإنسان من حيث هو إنسان، هي صفة التدين، فلقد شاع بيننا أن العقل هو ما يميزه، لكن هذا «العقل» إذا ما حللناه إلى آخر المدى، وجدنا منه جانبا كبيرا مشتركا بينه وبين سائر الحيوان، وأما الصفة التي لن تجد منها ذرة عند حيوان فهي صفة التدين، وإنها لصفة أغزر في المصري منها في أي إنسان آخر، ولئن كنت قد ألححت جهدي - وما زلت ألح - على ضرورة اهتمامنا بالجانب الفعلي من حياتنا؛ فذلك لأنه تضاءل إلى حد مخيف، ثم أعود فأسأل: هل رأيت شبابنا يتنكر لهذه الخاصة من مصريته؟ اللهم لا. فما الذي حرك ألسنة البهتان والزور بهذه الأكاذيب عن مصر، تتدفق في أحاديثهم بعضهم لبعض، وفيما يذيعونه ويكتبونه؟ إنه شيء واحد لعين، هو «الحالة الاقتصادية»، وليس هو بالشيء الذي يستهان به، فالناس - قبل كل شيء - تريد الطعام والثياب والمأوى.
ولكننا نخلط الأمور خلطا فاحشا إذا ما خلطنا بين «قيمة» الإنسان من حيث هو كائن ذو تاريخ حضارة وعلم وأدب وفن ودين، من جهة، ومقدار المال الذي يحمله في جيوبه من جهة أخرى، فالغنى والفقر يتناوبان فيظهر أحدهما ويختفي الآخر في مرحلة، ثم يختفي الظاهر، ويظهر المختفي في مرحلة تالية. إن حدثا واحدا كاكتشاف البترول قد بدل الأمر بين عشية وضحاها في أصقاع كثيرة من الأرض، كانت أفقر الأصقاع بالأمس فباتت أكثرها ثراء. والعكس صحيح أيضا، فقد يتحول البلد الموغل في ثرائه، بلدا فقيرا نتيجة الحرب أو لغيرها من عوامل التحول، أما صفة التحضر فليست مما يولد في يوم وليلة.
ألا ما أسرع الإنسان إلى الوقوع في الخطأ عندما تختلط عليه الصفات ويتشابه البقر، فعندئذ قد تبدو في عينيه دماثة المتحضر ووداعته وعذوبته، ذلة وخنوعا، ومن أراد أن يعلم عن المصري في وداعته الظاهرة أهي ذلة أم هي دماثة خلق، فعليه أن يحلل ثقافة المصري تحليلا أعمق وأدق، ليميز فيها بين ما يعده المصري هاما في حياته، وما يعده أمرا عابرا قليل الخطر. ومن أهم المهم في ثقافته: عقيدته الدينية، وانتماؤه الأسري والقومي، فها هنا إذا ما أصيب المصري بسوء، رأيت أي أسد هصور قد انبثق من جلد ذلك الدمث الوديع.
أما بعد، فلقد كنت من أشد الناقدين نقدا للقيم كما هي سائدة اليوم في مصر، ومن شاء فليقرأ كتبي «جنة العبيط» و«شروق من الغرب» و«الكوميديا الأرضية» وغيرها، لكنه نقد صاحب البيت الذي يعرف للسجادة النفيسة نفاستها، فيثور بالغضب إذا ما رآها قد تعفرت لغفلة حراسها.
لك أنت الولاء يا مصر
لا بد لي من أن أضع بين يدي القارئ مقدمات، تمهد له الطريق إلى الفكرة التي أنوي عرضها، فهي على بساطتها من الوجهة النظرية، تراها من الوجهة الواقعية معقدة الأطراف متشابكة الخيوط، وعندما خطر لي أن أكتب فيها - لبالغ أهميتها في حياتنا - حاولت أن التمس إليها سبيلا ممهدة تيسر وصولها إلى عقل القارئ وقلبه، فلم أجد سبيلا، فأويت إلى فراشي، قائل لنفسي: اترك أمرها حتى الصباح، فالصباح رباح كما يقولون، لكن أمرها لم ينتظر حتى الصباح كما أردت له، بل عاجلني في نومي حلما منسقا واضحا، لا يحتاج مني عند اليقظة إلا إلى أن أثبت صورته على الورق، وتلك هي أولى المقدمات التي قلت إنه لا بد لي من أن أضعها بين يدي القارئ.
فأحلامي ليست كلها أضغاثا، ولا أبالغ إذا قلت إن كثرتها الغالبة صور متماسكة ناصعة، حتى ليجوز لي القول بأن حياتي الفكرية والعاطفية مقسمة بين يقظة النهار ورؤى الليل، ولطالما تمنيت أن أسجل في ساعات الصحو ما أراه في أحلام النوم، لكنني قلما فعلت، ولأن تلك هي حقيقتي، لم أجد عسرا في فهم ما يقوله ماثيو آرنولد - الشاعر الإنجليزي - عن طبيعة الشعر، إذ يقول: إن طبيعته هي نفسها طبيعة الأحلام، فالأحلام تجسد المعاني في رموز كما ينبغي للشعر أن يفعل، والأحلام تقيم بقوة الخيال تركيبة ليست هي التي نراها في الواقع الصاحي، لكن بينها وبين هذه الواقع موازاة يستطيع «التأويل» كشفها، وهذا هو نفسه ما يحدث للتركيبة الشعرية إذا ما تناولها ناقد قدير. ولقد اعترف ماثيو آرنولد بأن شعره كله هو من هذا القبيل، فهو يرى الحلم الناصع المتماسك، بحيث لا يبقى عليه إلا أن يهذب أطرافه بعض التهذيب، عندما يصبه في الإيقاع الشعري.
وعلى أية حال، فليس لي شأن بماثيو آرنولد وحقيقة شعره، فسواء أكانت كما وصفها أم لم تكن، فإن هذه هي حقيقتي مع أحلامي التي كثيرا جدا ما تجيء بناءات صلبة متسقة واضحة ناصعة الوضوح برموزها، حتى لكأني أعيش في حياتي حياتين، ومن تلك الأحلام القوية الجلية الدالة، ما رأيته عندما أويت إلى فراشي يائسا من أن أجد سبيلا ميسرة لعرض الفكرة الشائكة التي أشرت إليها في مستهل هذا الحديث، فهناك في عالم الأحلام جاءني الحل.
وأما الفكرة التي أعنيها، فهي فكرة «الولاء» ما هو على وجه الدقة؟ ولمن يكون؟ وكان الذي أثار السؤال في نفسي صورة شهدتها في التليفزيون لجماعة من الشباب، تهتف بالفداء بأرواحها ودمائها «ولاء» لمن تفتديه بتلك الأرواح والدماء. والحق أني شعرت وقتئذ أن في الصورة شيئا يثير القلق، ويتطلب التصحيح. ولعلي لم أقع عليه محددا واضحا، وإنما هو مجرد شعور سرى في نفسي لحظتها بأن شيئا ما يريد التصحيح. وهنا تركت الأمر - كما قلت - للصباح الرباح، وأسلمت نفسي للنعاس، والحمد لله على ما أنعم به علي وهو كثير، منه أن النعاس عندي مناله قريب، لا أكاد أضع رأسي على وسادتي، حتى أعبر العتبة إلى العالم المسحور، وأوشك ألا أعرف الأرق إلا سماعا مما يقوله عنه الآخرون.
ودخلت ليلتها ذلك العالم المسحور - عالم الأحلام - فارتسمت لي اللوحة ناصعة، وكان بطلها سقراط، وها هنا يأتي موضع المقدمة الثانية التي أشعر أنه لا بد من تقديمها بين يدي القارئ، لأمهد له سبيل مشاركتي فيما أنا بصدد عرضه عليه، فقد لا يكون القارئ على علم كاف بذلك الفيلسوف اليوناني القديم، فأحب له الآن أن يعرف عنه بعض جوانبه، قبل أن أحكي له قصة الرؤيا التي رأيتها في الحلم، والتي كان سقراط بطلها ومحورها.
والذي أريد للقارئ أن يعرفه الآن عن سقراط، أمران: أولهما أنه كان كلما دفعه حب المعرفة إلى أن يعلم حقيقة ما، لجأ إلى المختصين بها ليلتمس عندهم معرفة ما أراد أن يعرفه، لكنه في كل مرة كان يرجع خائب الرجاء، فافرض - مثلا - أنه أراد أن يعرف شيئا عن حقيقة الفن، فقد كان يتجه إلى من عرف عنهم الاشتغال بالفن، فيسألهم، وإذا هم بعد قليل من محاورة بينه وبينهم، يتبين - له ولهم - أنهم لا يعلمون عن حقيقة الفن شيئا. وهكذا أخذ الفيلسوف يقضي أيامه، باحثا عند المختصين عن حقائق المعاني التي ما تنفك ألسنتهم تلوكها، والتي يزعمون أنهم العارفون بها ظاهرا وباطنا، فإذا هو أمام من هم أشد جهلا منه بما ادعوا الإلمام به والتخصص فيه.
ذلك أحد الأمرين اللذين أردت للقارئ أن يعرفهما الآن عن سقراط، وأما الأمر الثاني فهو أن ذلك الرجل إنما يحتل في تاريخ الفكر الإنساني مكانا استراتيجيا خطيرا؛ لأنه جاء إلى الناس ومعه منهج جديد، يراد به أن يتحول الحديث عن الإنسان وحياته، من الغموض العائم إلى الدقة العلمية التي تشبه دقة الرياضة، فلا يكفي مثلا أن يقول القائل كلمة «تقوى» بل لا بد له أن يحدد لنا ما هي، على نحو ما يحدد معنى المثلث في الرياضة، بأنه سطح مستو محوط بثلاثة خطوط مستقيمة (ولقد ضربت مثل «التقوى»؛ لأنه كان بالفعل موضوعا للمحاورة بين سقراط ورجل ادعى لنفسه معرفة معناها بالدقة العلمية التي كان ينشدها سقراط)، وإني لأصارح القارئ - في هذه المناسبة - بأنني ما تمنيت شيئا لحياتنا الفكرية الراهنة، بكل جوانبها السياسية والاجتماعية والثقافية، أعز وأهم من أن يجد الناس من يلزمهم بالتحديد الواضح الدقيق لكل ما يعرضونه من أفكار في ميادين الشئون العامة، إذ لو سئلت: ما هي العلة الأولى في حياتنا الفكرية تلك؟ لأسرعت بالجواب قائلا: هي جهل الناس بحقائق المعاني التي يتداولونها زاعمين لها الوضوح، وربما كان مثل هذا العوم في بحر من الغموض، شبيها بما وجده سقراط في أهل أثينا، فأراد أن ينبه إليه الأذهان. ولنا الآن بعد أن فرغنا من هذه المقدمات، أن ننتقل إلى ما وافتني به الرؤيا، عما كان يشغل خاطري ليلتها، عندما سمعت هتاف جماعات الشباب باستعدادهم للتضحية بأرواحهم ودمائهم في سبيل «الولاء»، فكان أن سألت نفسي: الولاء ما هو؟ والولاء لمن؟
رأيتني في الحلم جالسا تحت عريشة على شاطئ النيل، وكأنما المكان هو نفسه الموقع الذي عرفته في قريتنا وبه «زاوية» للصلاة، خلال طفولتي وصدر شبابي، وكان معي تحت العريشة ثلاثة أشخاص، كان أحدهم هو نفسه سقراط الذي أعرف صورته بعينيه الجاحظتين وأنفه الأفطس، وأما الآخران فشابان يبدو أنهما طالبان، وكنا نحن الأربعة نجلس على حصيرة فرشت بها الأرض، وكان الوقت بعد الغروب بقليل، ولا أدري متى وكيف التحقت بتلك المجموعة؛ لأنني لم أذكر الحلم إلا والحوار بين الثلاثة قد انقضى أوله، وأخذ في مرحلته الوسطى، وفيما يلي ما وعته ذاكرتي مما دار به الحديث، على أني جلست خلاله صامتا، ولم يعترض منهم أحد على هذا الصمت المنصت:
سقراط :
لا بد أن تكون على أيقن يقين بمعنى «الولاء» ما دمت على استعداد للتضحية بالروح وبالدم لمن أنت ولي له، واسمح لي هنا بملاحظة صغيرة: لماذا ورد ذكر الدم في ترتيب الفداء بعد الروح، مع أنك إذا بدأت بالروح فلا يبقى لك بعد ذلك دم تقدمه؟
الشاب الأول :
أشكرك لملاحظتك هذه، وأما الولاء ومعناه، فإني على أتم علم بحقيقته.
سقراط :
قل لي ماذا ترى من معناه؟
الشاب الأول :
الولاء لشخص هو الإخلاص له.
سقراط :
وماذا لو غاب هذا الذي أعلنت له إخلاصك؟ أتصبح بغير إخلاص لأحد؟ وأرجوك أن تلحظ هنا أن الولاء الذي هو إخلاص كما قلت يتضمن استغراق كيانك كله، بحيث لا يبقى لك منه شيء إذا غاب الشخص الذي تعلق به ذلك الولاء.
الشاب الثاني :
لا يا أستاذنا، بل تبقى القضية أو الفكرة التي كان ذلك الشخص الأول يمثلها.
سقراط :
هذا جميل، إذن الولاء في حقيقته هو ولاء للقضية أو للفكرة لا للشخص الذي يمثلها.
الشاب الأول :
نعم هو كذلك.
سقراط :
ولكن إذا افتديت الشخص بالروح والدم، كما سمعتك تهتف في الطريق العام، ثم حدث أن غاب بعد ذلك الرجل الذي كان يمثل الفكرة التي نضحي بأنفسنا من أجلها، فمن الذي يتولاها عندئذ؟
الشاب الثاني :
يتولاها أمثالنا من شباب الجيل التالي.
سقراط :
تريد أن تقول إن الفكرة يكفيها رجل واحد يمثلها، وعلى سائر الناس أن يفتدوه بأرواحهم ودمائهم؟
الشاب الأول :
لا ليس هذا هو ما نريده.
سقراط :
ألا تريان معي أن الولاء ليس صياحا بالهتاف، ولا هو انفعال يشتعل به الهاتفون، وإنما هو عمل يؤدى، وفي العمل ذاته يكون الإخلاص؟
الشاب الثاني :
لا شك في ذلك.
سقراط :
وإذا كان الولاء الصحيح هو في العمل لا في الصياح المنفعل، فمن الذي يبقى ليعمل إذا كان الأفراد العاملون على استعداد للتضحية بأرواحهم من أجل رجل يمثل فكرة؟
الشاب الأول :
أصبت، المهم هو أن نبقى لندعم الفكرة بالعمل.
سقراط :
وما هي تلك «الفكرة» التي نشير إليها؟
الشاب الثاني :
هي مصر.
سقراط :
أليس أولى بنا في هذه الحالة أن نجعل هتافنا: بالروح، بالدم نفتديك يا مصر؟ إن الولاء الصحيح يا أصدقائي لا يكون لشخص بقدر ما يكون لقضية معينة، أو لفكرة، أو لعقيدة دينية، أو غير ذلك مما يحيا من أجله الإنسان، ويشعر ألا حياة له بغيره، ولهذا قال قائل - وربما كان على حق فيما قال - إننا لو حللنا معنى الولاء على حقيقته، وجدناه أساسا للأخلاق كلها؛ لأنه ما من فعل يؤسس على القواعد الخلقية إلا وهو يتجه نحو غاية أردناها وأخلصنا لها.
إن سر الولاء هو أن الفرد الواحد يشعر من عمق وجدانه أنه لا يستطيع العيش وحده فريدا في هذا الكون الفسيح، ويريد أن يجد «آخر» يتحد معه ليوسع من وجوده، فإذا وجد هذا «الآخر» تمسك به وأخلص له، ومن هنا كان الولاء ضرورة حيوية لكل ما من شأنه أن يجعل وجودنا أغزر معنى، وأوسع نطاقا، وأدوم بقاء، فالولاء يكون لله سبحانه وتعالى؛ لأنه مالك يوم الدين، والولاء يكون للوطن الذي بغيره ينعدم أهم أركان الهوية في هذه الدنيا، والولاء يكون لأي مجموعة تمثل فكرة لها دوام، وأنتمي إليها، عضوا فيها، وعاملا مع غيري على تحقيق تلك الفكرة، ولكن قلما يكون للولاء معنى إذا تعلق بفرد آخر، بحيث أفنى أنا ليبقى هو من ذاته، فحقيقة الولاء كما تريان، هي في أن يبقى الفرد بقاء أقوى وأفضل وأنفع. وليست حقيقته في أن يفنى ذلك الفرد الذي يعلن ولاءه. ويبدو لي أن لكل فرد في المجتمع ضربين من الولاء: فولاء للهدف الذي من أجله تعيش مجموعته الصغيرة، كالأسرة، أو الشركاء في عمل معين، وولاء آخر يشترك فيه جميع المواطنين. في الحالة الأولى يكون المطلوب هو ألا يتعارض إخلاص الفرد لأهدافه الخاصة، مع ما يسعى إليه الوطن كله من أهداف مشتركة، وفي الحالة الثانية يكون الولاء موجها في حقيقته إلى الوطن في دوامه، لا إلى أفراد بأعينهم، إلا بقدر ما يعمل هؤلاء الأفراد على دوام العزة للوطن.
الشاب الأول :
أفهم الآن ما تريد، وهو أن يكون شعارنا هو: بأرواحنا نفتديك يا مصر.
وهنا انتقل بي الحلم فجأة إلى مكان آخر وظروف أخرى، إذ وجدتني واقفا في صحن دارنا الريفية، وكان الوقت ما يزال بعد الغروب بقليل، وغسق المساء أخذ في التسلل بخيوطه السوداء، ونظرت حولي وأنا في صحن الدار، فلم أر إلا مقاعد وأرائك تناثرت هنا وهناك في غير نظام، وكنت عندئذ مرتديا من الثياب ما لم أتعود ارتداءه في حياة اليقظة، إذ كنت ألبس جلبابا أبيض وفوقه عباءة سوداء، وعلى رأسي طاقية من الصوف، وما لبثت حتى سمعت صوتا لم أتبين مصدره يقول لي: طلابك ينتظرون في الطابق الأعلى، فصعدت السلم القديم، وفي بهو الطابق الأعلى، وهو نفسه البهو الذي ألفته طفلا وشابا مع تعديل طفيف وجدت الطلاب يتحلقون في دائرة، وكانوا جلوسا متربعين على الأرض المفروشة بالحصير وبالكليم، يرتدون جلابيب ناصعة البياض، عراة الرءوس، وقد عهدتهم في حياة الصحو في ثيابهم الإفرنجية المألوفة، فجلست في الثغرة التي تركوها لي خالية، وبعد ثوان صامتة، بسملت وبدأت الدرس قائلا: كنا نتحدث في المحاضرة السابقة عن الولاء للوطن، وقد حددنا معنى الولاء بأنه دمج الذات الفردية في ذات أوسع منها وأشمل، ليصبح الفرد بهذا الدمج جزءا من أسرة، أو من جماعة، أو من أمة، أو من الإنسانية كلها، ولكن هذا الدمج إذا صدر عن إيمان وإخلاص، وجب على الفرد أن يحميه حتى وإن اقتضى الأمر تضحية بالروح، هذا ما كنا نتحدث به في المحاضرة السابقة. وموضوعنا اليوم هو النظر في الحالات التي تتعدد فيها الولاءات. فماذا نحن صانعون إذا تعارض ولاء وولاء، كأن يتعارض في موقف معين ولاء الفرد لأسرته وولاؤه لأمته؟ وجوابنا على ذلك: هو أن أساس التصرف في حالات كهذه، هو أن نختار الطريق الذي يتيح للفرد تكاملا في شخصيته بدرجة أعلى، فهل يكون إنسانا أكمل إذا هو انتمى إلى أسرة قوية وأمة ضعيفة، أو إذا انتمى إلى أسرة ضعيفة في أمة قوية؟ وأظن الإجابة هنا تكاد تملي نفسها، وهو أن البديل الثاني أفضل وأكمل وأسمى من البديل الأول، وعلى هذا الضوء يا أبنائي أترك لكم الجواب عن هذا السؤال: أيكون الولاء، والتضحية بدمائنا وأرواحنا لمصري أم لمصر؟
فجاء جواب الشباب فيما يشبه الصوت الواحد: إنما الولاء لمصر. وكان صوتهم عاليا كأنه هتاف فصحوت، والمشكلة التي شغلتني ليلة أمس قد وجدت حلها.
ناپیژندل شوی مخ