تركني الأحبة، فبان الصبر والعزاء، لكن الأحبة وإن تركوني بأجسامهم، فهم في سويداء القلب سكان. وقد سألت العارفين: أين ذهب بهم الركب؟ فقيل لي إن الركب في مكان عطر برائحة الشيح والبان، فطلبت من الريح أن سيري والحقي بهم، وستجدينهم يستظلون بشجر الأيك، فبلغيهم سلام محزون أشجاه فراقهم.
هذا هو المعنى الغزلي المباشر للقصيدة، وهو معنى مستقيم، لكنه قد يصرف على المعنى الصوفي الباطن، فتكون الحقائق الإلهية هي التي بانت فبان من الصوفي صبره وعزاؤه، ولكن تلك الحقائق وإن تكن قد فارقته، فالله سبحانه في سويداء قلبه لم يبرحه. وقد سأل العارفين - وهم الشيوخ المتقدمون - عن ركب تلك المناظر الإلهية أين ذهب؟ فأجابوه بأنها لجأت إلى قلوب غير قلبه، إلى قلوب ظهرت فيها أنفاس الشوق والتوقان، فبعث صاحبنا من عنده نفسا شوقيا من أنفاسه ليلحق بها ويردها إليه.
وواضح أن المعنى الثاني ليس في استقامة المعنى الأول. (ب)
وفي القصيدة الآتية - وعنوانها «تناوحت الأرواح» - يغلب المعنى الصوفي على المعنى الظاهر، فهي تقول:
إن حمامات الأراكة والبان (التي هي هنا رمز واردات التقديس) تنوح وتبكي فتثير في الصوفي الشاعر صباباته الخفية وأحزانه المكنونة، فيظل يطارحها عند الأصيل وبالضحى شوقا بشوق، وهيمانا بهيمان، ويردد الشاعر ما يخرج من تلك الحمامات النائحة من حنين وأنين ترديد الصدى، حتى كان التقابل بين نوحه ونوحها كأنما هي شجرة غصونها من لهب، تميل بها الريح نحوه فتفنيه. على أن هذا اللقاء بينهما ليس موصولا ، بل يجيء على لحظات متقطعة، وحتى في هذه اللحظات لا يكون اللقاء مباشرا، بل يكون بينهما حجاب، فالحمامات النائحة تطوف به كتطواف الرسول حول الكعبة، وتلثم أركانه وهيكله، دون أن يكون لثمها هذا مقصودا لذاته، بل المقصود به ما وراء ذلك الهيكل وتلك الأركان الظاهرة. ومع ذلك فمن تلك الواردات ما ينفذ إلى القلب متسترا، فتأتي منه اللمحات من وراء ستره، كأنما هي الظبي المبرقع يشير من خلف حجابه بأطراف الأنامل أو بالأجفان، وعند ذاك تكون تلك المتحجبات كامنة بين الترائب والحشا، فإذا كانت نيران الحب قد أفنت الشاعر في محبوبه، فقد بقي له وسط ذاك اللهب روضة ذات أزهار (هي رمز لفنون المعارف). وللنظر إلى القلب بما احتوى عليه من تلك الأزهار الربانية أن يصور المشهد في أية صورة شاء؛ لأن القلب له من تنوع الحالات ما يحتمل صورا كثيرة (لاحظ العلاقة اللفظية بين قلب وتقلب).
فإذا صورت ما في القلب غزلانا، كان القلب مرعى لها، وإذا صورته رهبانا كان القلب ديرا لهم، وإذا صورته أوثانا كان القلب بيتا لها، وإذا صورته أرواحا طائفة كان القلب كعبة لتطوافها، وإذا صورته آيات من التوراة كان القلب ألواحها، وإذا صورته آيات قرآنية كان القلب مصحف قرآنها. على أن هذه الصور على اختلافها لا تشير آخر الأمر إلا إلى شيء واحد بعينه هو «الحب» الذي يدين به الشاعر مهما كانت تكاليفه. وإذا كان الحب دين الشاعر، فعلى المحب أن يفنى في محبوبه كما فني المحبون جميعا من قبله: بشر هند، وقيس ليلى، وجميل بثينة وغيرهم.
هذا هو مضمون القصيدة، الذي لو أخذناه على ظاهر معناه كانت الإشارة فيه إلى ما بين الحبيبين من شوق يجذب أحدهما نحو الآخر، جذبا وصل خيوط الحب بينهما كأنها ألسنة اللهب، لكن الوصال مع ذلك لم يتحقق لهما، فطوى المحب قلبه على حبه، وراح يسترسل مع الخيال في تصوير ما انطوى عليه القلب.
وواضح أن المعنى الصوفي الباطني، الذي يجعل الأرواح المتناوحة هي روح الصوفي من جهة والأرواح الواردة إليه من جهة، هو الأغلب، والأقرب إلى القبول. (ج)
وهناك قصائد كثيرة، لا يكون فيها الرجحان الغالب لا إلى المعنى الغزلي المباشر، ولا إلى المعنى الصوفي الباطني، بل يتعادل فيها التأويلان، تعادلا تاما. خذ مثلا قصيدة «حادي العيس» (ص68-70)، وانظر كيف يتعادل المعنيان:
يوجه الشاعر خطابه إلى حادي العيس ألا يتعجل السير بالحبيبة، حتى يلحق هو بالركب؛ لأنه مضطر إلى المكث حينا، فليمسك بالمطايا حتى لا تنطلق في سيرها، فهو جاد في اللحاق بهم، وإن تكن تحول دون ذلك العوائق، ثم يوجه الشاعر ذلك الحادي بأن يقف في أيمن الوادي، حيث خيام الأحبة، الذين هم للشاعر كنفسه وكبده، وإن الشاعر المحب ليعتزم اللحاق بالحبيبة الراحلة مهما يكن ثمة من صعاب، وإلا فلا كان ذلك الهوى الذي يدعيه.
ناپیژندل شوی مخ