وواضح أن ذلك من قبيل الأحكام «القبلية» التي يصدرها الإنسان قبل النظر لا بعده، ولو كان المتكلم من غير «معشر المسلمين» لما قطع مقدما بأن «هذه الشريعة حق» على نحو ما قطع ابن رشد.
مرة أخرى نرى ابن رشد يجعل إيمانه بالشريعة بمثابة المسلمة الشارطة، وكان الأجدر للتفكير الفلسفي أن يستقل بذاته، حتى إذا ما انتهى إلى ما يؤيد الشريعة، جاء هذا التأييد أقوى دلالة. وفي هذه الحالة لو سئلنا: ما الذي يضمن لنا ألا تتعارض الشريعة والحكمة؟ كان جوابنا هو: إنه لا ضمان، فهذه هي الشريعة قائمة كما هي قائمة، وها نحن أولاء باذلون الجهد النظري في استكناه حقيقة الكون بالفكر الفلسفي البرهاني، فإن وجدناها متفقة مع الشريعة كان خيرا، وإلا فنحن مضطرون عند التعارض أن نختار بين التصديق القائم على الإيمان الصرف، والأخذ بما أنتجه البحث العقلي، أو نلجأ إلى تأويل الشريعة بما يتفق مع نتائج البرهان العقلي.
إنه إذا انتهى النظر العقلي إلى معرفة تتعارض مع ما ورد في الشريعة عن موضوعها، فلا سبيل أمامنا إلا تأويل ظاهر النص تأويلا، معناه - كما يحدده ابن رشد - هو «إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية، من غير أن يخل ذلك بعادة لسان العرب.»
10
وهنا يفيض ابن رشد في شروط التأويل إفاضة نحس من حديثه فيها أنه يريد أن تضيق حدود التأويل، بحيث لا نلجأ إليه إلا فيما لا حيلة لنا أمامه، إلا أن نؤول ظاهر الشريعة فيه. وحتى في هذه الحالات الضرورية، سنجد في ظاهر الشريعة في مواضع أخرى، ما يؤيد تأويلنا ذاك؛ يقول: «إنه ما من منطوق به في الشرع، مخالف بظاهره لما أدى إليه البرهان، إلا - إذا اعتبر وتصفحت سائر أجزائه - وجد في ألفاظ الشرع ما يشهد بظاهره لذلك التأويل، أو يقارب أن يشهد.»
11
وظاهر الشريعة من حيث جواز التأويل أو عدم جوازه، ثلاثة أصناف: فهنالك ظاهر من الشرع لا يجوز تأويله قط، وظاهر مقطوع بتأويله، وصنف ثالث يقع بين الطرفين، وهو موضع خلاف، فيلحقه بعضهم بالقسم الأول، ويلحقه آخرون بالقسم الثاني. لكن من ذا الذي يقرر للناس هذا التقسيم؟ من ذا الذي يقطع بالتأويل هنا وبعدم جواز التأويل هناك؟ إنه الإجماع الذي يقرر ذلك.
وفي هذا الموضع يلفت ابن رشد أنظارنا إلى نقطة هامة، هي استحالة هذا الإجماع في الأمور النظرية؛ إذ كيف يتحقق الإجماع إلا إذا عرفنا جميع العلماء الموجودين في عصر معين، ثم استطلعنا آراءهم واحدا واحدا في المسألة المطروحة، على شرط ألا يكون هنالك من العلماء من نجهل وجوده، أو نعلمه، لكنه يكتم رأيه. وإذا كان الموضوع موضوع تأويل لظاهر الشريعة، ازداد الأمر صعوبة؛ لأن العلماء قد يتفقون على ضرورة التأويل في موضع من المواضع، ثم يختلفون على طريقته. وإذا كان ذلك كذلك فكيف جاز لأبي حامد الغزالي في كتابه «تهافت الفلاسفة» أن يكفر الفلاسفة المسلمين كأبي نصر الفارابي وابن سينا، على خرقهم للإجماع في التأويل؟
12
مع أنه يكفي أن يكون هنالك من الفلاسفة من يخرق الإجماع، حتى نقول إنه إذن لا إجماع هناك، على أننا نلحظ في هذا تناقضا من ابن رشد، ولا ندري كيف السبيل إلى فضه، وهو أنه في الوقت الذي يجعل الإجماع مدارا لقسمة الشريعة إلى أصنافها الثلاثة من حيث جواز التأويل وعدم جوازه، نراه يلفت أنظارنا إلى ما يشبه الاستحالة في أن يتحقق إجماع على الإطلاق.
ناپیژندل شوی مخ