قال: الخلاف بيني وبينك يا سيدي هو في كلمة «سائغ»، نعم إن أكواب الورق التي أبيعها فارغة، يلمؤها الكاتبون شرابا، ولكن كم مرة يجيء ذلك الشراب سائغا حقا، وكم مرة يجيء - على أحسن الفروض - مائعا تموع به أمعاء الشاربين؟
قلت: أحب أن أسمع منك أنت الجواب، فمتي تنفر ومتى تسيغ؟
قلت ذلك، وقد تغيرت نبرة صوتي نحو الاهتمام بما يقوله الرجل، ولعله أدرك التحول، فدعاني إلى الجلوس ليكون الحوار بيننا مطمئنا هادئا، فالساعة بعد الظهر بقليل، والجو حار، وأنا زبونه الوحيد.
قال: سألتني متى أنفر مما أقرأ ومتى أسيغه؟ وأقول: إن أشد ما يصيبني بالغثيان، هو كاتب يشهد ما نغوص فيه من مشكلات الدنيا والآخرة فيتركها ليركب جواده ركوب الفرسان في العصور الوسطى، شاهرا قلمه في يده، وكأنما يصيح قائلا: هل من مبارز؟ كثيرون - يا سيدي - هم الكتاب الذين يأخذهم بأنفسهم العجب (بضم العين)، فتراهم يلتمسون مواقع الضوء، ليكونوا على مرأى من كل ذي عين تبصر، ويختارون من فنون القول ما يشد السمع، لا ما يتصدون به لمشكلات الناس على اختلافها وكثرتها، نعم إنك تراهم يبحثون عن مواقع الضوء، ومقاعد الرئاسة، بدل أن يتجهوا نحو مناطق الظلام ليشعلوا فيها المصابيح، تاركين مقاعدهم إلى حيث ساحات العمل والجهاد، إن عشقهم الشديد للأضواء ينصب على رءوسهم، هو الذي يدفعهم دفعا إلى الملق فيما يكتبون، إنهم يتملقون جمهور الناس بقولهم عنه إنه قد بلغ الكمال، ويتملقون الشباب من ذلك الجمهور، بقولهم عنه إنه شباب بلغ الرشد والرشاد، ويتملقون الحكام بقولهم إنهم قد أقاموا للعدالة ميزانها، ولم يعد في الإمكان أحسن مما كان. هكذا هم يتملقون فيما يكتبونه، ابتغاء لمعة ضوء من منصب أو مال أو زلفى، مع أنهم موقنون فيما بينهم وبين أنفسهم أن الجمهور الذي زعموا له الكمال تنقصه المعرفة، والشباب الذي زعموا له الرشاد تعوزه الإرادة، والحكام الذين قالوا عنهم إنهم أقاموا للعدالة ميزانها، كثيرا ما انحرف في أيديهم ذلك الميزان. إنهم يتملقون وكأنهم بيننا أضياف غرباء يبتغون الرضا من صاحب الدار ليأذن لهم بطول الإقامة، فهل تفوتهم الحقيقة البسيطة الواضحة، وهي أننا جميعا إخوة في الوطن، نتبادل النصح كما يتبادله أفراد الأسرة الواحدة؟
قلت: ألا ترى أنك قد عممت الحكم فأسرفت في التعميم؟ وأقل ما أقوله لك الآن: من أين لك أنت هذه القدرة على نقد الحياة ونقد الكتاب، إن لم تكن قد اكتسبتها مما قرأته لهؤلاء الكتاب أنفسهم؟ ومع ذلك فاضرب لي مثلا بموقف معين محدد، رأيت فيه كل ذلك الملق من أصحاب الأقلام، لكي أتبين على وجه الدقة ما تريد.
قال: أما أن أكون قد بالغت في تعميم الحكم، فذلك جائز، ولعلك توافقني على أن المعول بالنسبة لي ولأمثالي من عامة القارئين، هو على الانطباع العام الذي يخرج به القارئ من مجموع ما قرأ، وما قلته هو الانطباع الذي خرجت به، وأما عملية التحليل والتمحيص التي تميز الصحيح من السقيم، والتي قد تشير في الكتاب الواحد أو في المقالة الواحدة، إلى فقرة فيها صواب، وفقرة أخرى فيها خطأ، فهي من خصائص الباحثين الدارسين، وليس من هؤلاء يتكون الرأي العام. وأما أن أضرب لك مثلا يوضح شيئا مما أريد، فأقرب الأمثلة إلى ذهني، هو تقسيم شعبنا إلى طوائف خمس، قيل عنها إنها لو تركت على سجاياها لتصارعت، ولهذا وضعت الخطط وسنت القوانين التي تجنبنا ذلك الصراع. وعقيدتي الخاصة - وأنا مواطن من المواطنين - هو أن مثل هذا التقسيم لشعبنا خطأ من جهة، ومن شأنه مع الأيام من جهة أخرى أن يولد بين الناس كراهية بعضهم لبعض، لم تكن في الأصل قائمة بينهم. أما وجه الخطأ - كما أراه - فهو أن التقسيم إلى فلاحين وعمال وجنود ومثقفين ورأس مالية وطنية، إنما هو تقسيم أفقي، يحدد اختلافات في ضروب العمل، وليس هو بالتقسيم الرأسي، الذي لو وقع لكان بين الناس طبقية تستحث المقاومة كأن ينقسم الناس إلى أحرار وعبيد، أو إلى نبلاء وعامة، أو ما يشبه ذلك من تقسيمات عرفتها بالفعل بعض الشعوب. ولعل أوضح دليل أقدمه لبيان الصواب في وجهة نظري، هو أن الفرد الواحد في شعبنا، قد تجتمع فيه كل ضروب العمل التي وزعناها - نظريا - على الطوائف الخمس، فقد يكون الفرد الواحد صاحب أرض يشرف على زراعتها، وضابطا ومثقفا وقائما بمشروع يندرج في الأعمال المالية الوطنية، كأن يملك مزرعة للدواجن. وما دامت هذه الجوانب كلها قد اجتمعت في شخص واحد، فهي - إذن - ليست مما يقسم الناس إلى طبقات متصارعة. وإذا كان من النادر أن تجتمع هذه الأعمال في فرد واحد، فليس من النادر أن تجتمع في أفراد أسرة واحدة، ومع ذلك فنحن لا نقول عن أفراد الأسرة الواحدة إنهم ينتمون إلى طبقات مختلفة.
ومضى الوراق في حديثه قائلا: إنني أتوقع لهذا التقسيم أن يخلق بين الناس شيئا ليس هو الآن قائما (لنتذكر أن هذا الحديث جرى سنة 1962م)، وهو أن يتضخم الشعور عند الفلاح أو العامل - مثلا - بأنه صاحب مصلحة ليست هي بالضبط مصلحة المثقف، وينتج عن ذلك شيء من المنافسة الخفية، يؤدي إلى الرغبة في استغلال بعضنا لبعض، فإذا أصلح العامل للمثقف تليفزيونه أو أسلاك الكهرباء أو أحواض الماء طالبه بالمعجز الذي يجاوز كل معقول، وكذلك إذا لجأ عامل مريض إلى طبيب، أو لجأ مزارع إلى مهندس، جاء رد الفعل مساويا للفعل الأول وهكذا. وسكت المتحدث لحظة، ثم قال: أنا لا أزعم أنني محق حتما فيما قدمته، لكن الذي أقوله هو أنه إذا كان هنالك من الكتاب من يرى مثل رأيي هذا، فلماذا لم نقرأ في ذلك كلمة واحدة؟ وكان كل ما قرأناه في هذا الصدد تأييدا لا يداخله، ولو قليل من التردد، فهل تراني قد أخطأت حين قلت إنهم يؤثرون الملق كسبا للرضا؟
ولما بلغ الوراق بحديثه هذا المدى، جاءه زبون، فنهض لقضاء واجبه، ونهضت معه مستأذنا في الانصراف، وقائلا له: إن ما سمعته منك جدير بالنظر، ولعلي ملاقيك في فرصة أخرى لنستكمل الحوار.
لكن الفرصة المرجوة لم تسنح قط، ومضى بعد حديثنا ذاك عشرون عاما، وحفظته الذاكرة، لتعيده إلى وعيي هذه الأيام، فكلما تعنت معي عامل في تقدير أجره، وفي عدم الوفاء بوعوده تذكرت ما تنبأ به الوراق، مما رأى أنه قد يترتب على تقسيم شعبنا إلى طوائف، وقد عرفه تاريخه الطويل شعبا واحدا؛ إذ لا يعقل أن يكون العنت الذي يبديه المواطنون اليوم بعضهم لبعض إلا مرارة ملأت قلوبهم حقدا وكراهية، حتى أصبحت «الطيبة» التي يوصف بها بحاجة إلى تحليل وتوضيح.
لقد حدثت أحداث في إنجلترا إبان القرن السابع عشر، استدعت من فلاسفتهم أن يطرحوا على أنفسهم سؤالا يتطلب منهم جوابا يقيمونه على تأمل عميق، هو: كيف نشأ المجتمع بادئ ذي بدء، بعد أن لم يكن هناك إلا أفراد يتصارعون ويتنازعون، بحيث لم يستطع العيش منهم إلا قوي يفترس الضعيف افتراسا، وكان أهم من قدم جوابا عن السؤال، هما «جون لوك» و«توماس هوبز»، وعلى الرغم من أن الجواب عند أحدهما جاء نقيضا للجواب عند الآخر، إلا أن الجوابين معا يتركان الدارس، وقد تحركت في ذهنه الدوافع ليتأمل المشكلة لنفسه. وأعيد السؤال على قارئي مرة أخرى: كيف يمكن أن تخرج من مجموعة أفراد متناحرة متنازعة، كل منهم يود لو حول الآخرين إلى طعام يأكله أقول كيف تتحول مجموعة أفراد كهذه إلى مجتمع متعاون؟ فسؤال كهذا هو الذي كان يكمن في المشكلة التي أخضعها هؤلاء الفلاسفة للفكر العميق، وتبعهم جان جاك روسو في فرنسا بعد ذلك ليتجه بفكره إلى المشكلة ذاتها، وكانت فكرة «التعاقد الاجتماعي» باعتبارها أساسا لنشأة المجتمع هي في رأي لوك وروسو أصلح الأسس التي يقام عليها المجتمع. أما هوبز فكان له رأي آخر.
ناپیژندل شوی مخ