في كل ثورة من تلك الثورات كان هنالك الثائر من جهة، والمثور عليه من جهة أخرى، فلا الثائر يريد أن يستسلم دون انتزاع حقوقه من غاصبها كاملة، ولا المثور عليه يريد أن يتنازل عما كان اغتصبه إلا مغلوبا على أمره، ومن هنا كان القتال والقتل والإرهاب، وسائر ضروب العنف التي لا ينقضي في حياتنا يوم واحد، إلا ويحدث شيء منها.
هكذا تتزاحم الأضداد في أرجاء الدنيا فليس في جنباتها ركن واحد خلا من الشحناء والضغينة بين فئة وأخرى. فماذا عن مصر؟ إنها جزء من الدنيا ومشكلاتها هي مشكلاتها. إذا كنا نتحدث عن المشكلات التي تناولت شرائح عريضة من البشر، فالمرأة عندنا طالبت بحقوقها، وظفرت منها بشيء، وبقي لها شيء، والأيدي العاملة أخذت مكانتها وكرامتها، والشباب يطالب بالمشاركة فينال جانبا وننازعه في جانب وهكذا.
لكني لا أريد أن أختم الصورة عن مصر عند هذا الحد الذي تشارك فيه بقية العالم الثائر، بل أريد أن أضيف عنها ضربا من الأضداد المتزاحمة قد لا يكون قائما في سائر أقطار الأرض بصورة متشابهة، وهو التضاد الذي أراه غريبا في حياتنا الثقافية، وكان ينبغي لتلك الحياة أن تتوحد تحت أهداف مشتركة وفي مناخ متجانس، ثم يكون الاختلاف فيها بين الأفراد اختلافا في الدرجة.
الأصل في الحياة الثقافية لشعب من الشعوب - بغض النظر عن تقدمه الحضاري أو تخلفه - هو وحدة الاتجاه، ومن هنا أمكن لمؤرخي الثقافات أن يميزوا الشعوب بعضها من بعض بما يميز كلا منها: فشعب تصطبغ ثقافته بصبغة روحانية، وآخر تصطبغ ثقافته بصبغة واقعية، أو علمية أو غير ذلك. ولقد كانت مصر قبل أن تواجه الحضارة الأوروبية متجانسة في مناخها الثقافي كذلك، فالمصريون شعب متدين عميق التدين بحكم تاريخه، ولذلك فهو شعب يصل هذه الدنيا بآخرة تجيء لتقيم موازين الحساب، وعلى هذا الأساس ترى المصري يتصرف في حياته آخذا في اعتباره ما هو كائن وما سوف يكون.
لكن الغرب واجهه بحضارة جديدة، وتسلل إلى ثقافته بخيوط من عنده أدخلها في نسيج ثقافته، وهنا حدث للمصريين تشتت ودب فيهم تباين، فأصبح بين المصري والمصري من الفوارق الثقافية ما يكاد يجعلهما من أمتين مختلفتين ومن عصرين متباعدين. فهنالك من المصريين من أتيحت له فرصة السفر إلى الغرب، حيث عاش وتعلم وربما تزوج أيضا، فعاد إلى مصر وكأنه من غير أهلها، وهنالك أيضا من المصريين من لم يغادر الكفر أو العزبة أو القرية التي يعيش فيها فلبث على حياة أسلافه لم يغير منها شيئا، وبين الطرفين درجات كألوان الطيف.
بل إن من نطلق عليهم اسم «جماعة المثقفين» تختلف في اتجاهات أفرادها اختلافات بعيدة المدى، حتى لتجد منهم من يعيش بكل ثقافته في الماضي، ومن يعيش بكل ثقافته في العصر الجديد. ولست هنا معنيا بالمفاضلة والنقد والاختيار، بل هي صورة أستعرضها وأعرضها، وهي أننا نعيش أضدادا متزاحمة يغار كل فريق من الفريق الآخر خشية أن يكون له السبق في خطف الأضواء. وحدث بالفعل أن تبدلت الأيدي على لواء السباق، فكان في أيدي أنصار الثقافة العصرية في النصف الأول من هذا القرن، ثم انتزعته أيدي الفريق المؤيد لفكرة العودة إلى الماضي خلال الفترة التي انقضت من النصف الثاني وبيان ذلك تفصيلا، شرحه يطول. ومن حقه وقفة أخرى تتناوله في روية وعلى مهل.
طالبة وطالب
عشت حياتي معلما بالمهنة، ولقد جاءت تلك المهنة متفقة مع طبيعتي، لا مضادة لها، فأقوى ما تميل إليه تلك الطبيعة عندي، هو أن تزداد علما لنفسها، وأن تنقل إلى الناس علما من علمها، ففي طبيعة المعلم الحق - كما أراه - شيء من طبيعة بروميثيوس، وذلك بإصراره على أن يقبس النور من أربابه لينثره في عامة الناس. والنور هنا هو نور المعرفة، التي كثيرا ما يحبسها الكهان في صدورهم، فإذا ما تصدقوا منها بشيء على عباد الله من عابري السبيل، بثوا عطاءهم في عبارات مبهمة؛ ليتعذر فهمها على المتلقي حتى لا يسبق إليه الظن بأن ذخيرة الكاهن أمرها يسير، يلقاها كل من أرادها ملقاة على قارعة الطريق. وإنني لعلى يقين بأن غموض العبارة عند أي متكلم، مشتق من غموض المعنى في ذهنه، ومحال أن يكون المعنى واضحا عند صاحبه، ثم يلتاث عليه القول ليخرج في عبارة غامضة. وإن طبيعتي التي أشرت إليها، لتجد نفسها كاملة كلما استوت لديها فكرة واضحة، فنقلتها إلى الناس بدورها في كلام واضح.
ولست أفرح لشيء فرحتي بطالب علم - أو طالبة - يسعى إلى لقائي ليناقشني في شيء ورد فيما كتبته، مناقشة واعية؛ لأنني أشعر عندئذ بأن بروميثيوس قد أوصل الشعلة إلى قابسيها ولا فرق في ذلك بين من قبل فكرتي المعروضة ومن رفضها ما دام القبول والرفض كلاهما قد جاءا بعد فهم واضح. وهذا هو ما حدث منذ أيام قلائل مع طالبة وطالب ينتميان إلى كليتين مختلفتين من كليات الجامعة، ولم يكونا أول من ناقشني فيما أكتبه من الطلاب، فمن ناقشوني - قبولا ورفضا - يعدون بالمئات إما بالبريد وإما باللقاء المباشر، لكنهما كانا آخر من لقيت. •••
وشاءت المصادفة أن يكون اعتراض الطالبة هو نفسه اعتراض الطالب وقد رأيتهما في يومين متلاحقين ومع ذلك فقد كان يمكن أن يذهب لقاؤهما كما ذهب لقاء المئات من قبلهما دون أن يحفزني ذلك إلى حمل القلم، ولكن المصادفة قد شاءت كذلك أمرا آخر، وهو أن تجيء زيارة الطالبة وزيارة الطالب في لحظة تسرح فيها خواطري حول خطاب كان أحد أصدقائي قد تركه في صندوق بريدي منذ مدة طويلة. وإني لأكذب على الله والناس إذا أنكرت الأثر العميق الذي تركه ذلك الخطاب في نفسي، بحيث إن خواطري لا تكاد تنساب مرسلة بغير قيد، حتى أجد ذلك الخطاب ماثلا أمامي ففيه قال الصديق - بين ما قاله عني- ما معناه: إنك مجهول نكرة، فإذا ظننت نفسك غير ذلك كنت تعيش في أوهامك، وهي أوهام ساعدتك عليها عزلتك عن الناس، ثم أردف صديقي قوله ذاك بأن عيرني بفقدان البصر، وما عرفت أني أسأت إلى صديقي بكلمة أو فعل اللهم إلا أن يكون مجرد وجودي على ظهر الأرض حيا قد بدا له وكأنه رضوى حجب عنه ضوء الشمس، أم هو إلف ألفناه في حياتنا العلمية والثقافية أن يسفك بعضنا دماء بعض من أجل لا شيء؟ وأيا كانت العلة فقد أحزنني أن تكون تلك هي حقيقة أمري كما انعكست على مرآة صديقي، والصديق مرآة صديقه كما قال شكسبير لا سيما أني قد عهدته صادقا، ومنذ ذلك اليوم الذي صدمت فيه بخطاب الصديق أصبح للقائي بمن يسعون إلى مناقشتي في شيء كتبته فرحتان: فرحة المعلم بمهنته وطبيعته وفرحة من يرجو أن تكون رؤية صديقي لحقيقة أمري قد جاءت على شيء من الإجحاف، على أن الجانب الأهم هو أن الطالبة والطالب كليهما قد سألاني سؤالا واحدا يثير اهتمامي هو:
ناپیژندل شوی مخ