لا، ليس حرص الإنسان على حياته عيبا يؤاخذ عليه، لكن يعلم أنه في «إرادة الحياة» - مجرد الحياة - ليس وحيدا ولا فريدا، بل يشاركه الحيوان كله والنبات كله. وأما الذي يتميز به الإنسان فهو أن يمتد بحرصه ذاك ليشمل الحياة في درجاتها العليا، التي هي حياة مقرونة بمجموعة من القيم التي جعلت من الإنسان إنسانا، وفي مقدمتها «الحرية» و«العدل». وانظر إلى الآية الكريمة التي تقول:
ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ...
انظر إلى كلمة «حياة» هنا وقد تجردت من أداة التعريف، لتعني مجرد حياة نكرة خلت مما يكرم به الإنسان، وها هنا يأتي الواجب الصعب الذي ينقض الظهر بحمله الثقيل، وهو أن يتصدى الإنسان للدفاع عن حياته «إنسانا» بكل تكاليفها، ولا يكتفي بمجرد «حياة» يحافظ فيها على قوته وقوت عياله مهما بهظ الثمن الذي يدفع من حريته وكرامته.
إنه إذا كانت مصر قد امتحنت لبضع سنوات بمن يستخف بالحرية والعدالة والعزة والكرامة «من أجل قبضة من فضة، أو شريط يلصق بسترته» (كما قال شاعر إنجليزي في القرن الماضي معاتبا شاعرا تعلق بأذيال العرش)، فليست هذه هي مصر؛ إذ المصري الأصيل، إذا تعرضت كرامته لما قد يهددها بالضياع، ثم ضاقت به سبل المقاومة، انطوى على نفسه، مكتفيا بأسرته وداره، معزيا نفسه بمبدأ وضعه لنفسه، وأجراه في مثال من أمثلته السائرة، التي يستعد بها لمواجهة المواقف الطارئة، والمبدأ في هذه الحالة متمثل في قوله: «من ترك داره قل مقداره.» فاعتزاله بين جدران بيته حماية له من هوان يتعرض له ولا يرضاه، وأنه في انطوائه ذاك ليدعو الله أن يكون العبث بحقوق الناس لا يعدو أن يكون عرضا من مرض وشيك الزوال.
وإنه لمرض كانت علته الأولى في بضعة الأعوام الأخيرة من حياتنا، هي - في ظني - أن نسبة ملحوظة من مواقع القيادة في مختلف الميادين، قد تركت لأصحاب القدرات المتوسطة أو المتواضعة، ممن لا يلمع لهم بريق إلا على ضوء مصابيح المناصب، فلا يكون أمامهم من بديل سوى التشبث بمواقعهم، مهما بلغ الثمن المدفوع من طغيان على حقوق الناس، وهي علة لا تلبث أن تزول إذا ما عولجت، وعلاجها يسير، يكمن في أن نعطي الخبز لخبازه، والجواد لفارسه، ولو فعلنا لعاد إلى المصري إيمانه بالحرية والعدالة، وعندئذ فقط يصح القول مع خالد محمد خالد «من هنا نبدأ».
أضداد تتزاحم!
كم من الماء جرى به النيل - يا ترى - منذ لمحت الصورة العجيبة التي تصورها أبو العلاء المعري عن صنوف البشر المتضادة، التي تتزاحم في لحد واحد، فصورها لنا في بيت من قصيدة لعلها أشهر ما نظم وأعظم ما نظم، وهي قصيدة - لحسن الحظ - يعرفها كل عربي ظفر من التعليم بنصيب، وهي القصيدة التي يستهلها بقوله:
غير مجد في ملتي واعتقادي
نوح باك ولا ترنم شاد
وبعد أبيات قليلة، ينبه فيها القارئ إلى ما قد يكون غافلا عنه، وهو أن أديم الأرض الذي نطؤه بأقدامنا أثناء سيرنا، إنما هو أجساد بشرية تحولت بعد موتها إلى تراب، أقول إنه بعد تنبيه القارئ إلى هذه الحقيقة المروعة، يورد البيت الذي أشرنا إليه:
ناپیژندل شوی مخ