ورأى بتروكلوس أنه لا سبيل لعودة الميرميدون إلى وطنهم بفرض نجاتهم من نيران الطرواديين، يجرون أذيال الخيبة، ويلملمون أكفان الفشل، فثارت في قلبه نخوة الجندي الباسل، واشتعلت في أضالعه نيران الغيرة من مفاخرات هكتور ومنابذاته التي يملأ بها السهل والجبل، ثم تفطر قلبه أسى وحسرة على هذه الجموع الهيلانية التي تتدافع إلى البحر، فكأنها تفر من موت إلى موت، وتنجو من حمام إلى حمام، فذهب من فوره إلى أخيل، واقتحم بابه غير مستأذن، ثم قال: «أخيل!» «فتى هيلاس وغوثها في كل روع!» «يا سليل الآلهة، المترفع عن الدنايا!» «أرأيت ...؟!» «ماذا تتحدث القرون إذا قيل إن الهيلانيين باءوا بالهزيمة فلم ينهض أخيل لنصرتهم؟ وماذا تحمل إلى هيلاس إذا أبنا غدا غير أنباء السوء ووقائع تلك النهاية المحزنة؟ وكيف نلقى الأمهات المعولات على أبنائهن؟ وماذا نقول للوطن إذا طالبنا بصحيفة الحساب عن هذا اليوم الأسود الذي بدت بوادره، وأخيل العظيم لا يحرك ساكنا؟ وكيف نتقي نقمة الشعب الذي ندبنا لهذا الأمر إذا خنا أمانته، وبددنا ثقته، وحطمنا آماله؟ وأين تذهب الشهرة الطويلة التي أحسبنا خدعنا بطراوة العيش فيها والأحاديث المعسولة عنها؟» «أخيل!» «بل فكر معي إذا تم النصر لهذه الذئاب الوالغة في دمائنا، هل يكون بحسبها أن تستأصل شأفة هذا الجيش المنهزم، وتحرق سفنه، ثم لا تعتزم غزو هيلاس العزيزة لتثأر لهذه السنين السود التي أذقناهم طوالها رهق الحياة وخباثة العيش؟!» «ثم أين لوطننا قوة بعد هذه القوى المبعثرة، وأنى له جيش بعد هذا الجيش المراع، ومن لنا بأسطول يعنو له الموج، وتذل لعزته البحار؟» «أخيل!» «انظر إلى الميرميدون تكاد تقتلهم الحنقة على هذه البلادة التي أخمدت سورة الحرب في نفوسهم، وأطفأت جذوة البطولة في قلوبهم، انظر إليهم يكادون يقذفون بجموعهم من سفائنك لنصرة إخوانهم، وليلقوا على هكتور درسا في النزال لا ينساه آخر الحياة!» «ما لك لا يحركك هذا اللظى يا أخيل؟! إن هذا يوم ينسى فيه أمثالك أحقادهم، ويدفنون سخائمهم، ولا يبالون ألف متعسف أفاك مثل أجاممنون! إن هذا يوم هو كله للوطن من دون أيام الدهر جميعا، فإذا أفلتت فرصته من أيدينا، أفلتت عزة الحياة وكرامة العيش من أيدي الهيلانيين جميعا؛ ولن يقال في سبب ذلك إلا أن أخيل العظيم قد تقاعس بجنوده عن نصرة الوطن، وفي سبيل إشباع شهوة الخصومة قامر بالوطن وأبناء الوطن ومستقبل الوطن!» «إيه يا فتى هيلاس، وحامي ذمارها إذا اشتد بها الكرب!» «ما لك تصمت هكذا كأنك لا تسمع إلى ألف قرن تناديك، وتضع ثقتها فيك؟!» «أنا زعيم لك يا فتى هيلاس، إن هذه الجحافل الطروادية سترتد على أعقابها فتكون للهيلانيين الكرة عليهم إذا رأوا خوذتك التي تكسف بلألائها شمس الضحى، وشاهدوا هذه الشعرات البيض تزين ذؤابتها!» «أخيل!» «رد على أعز الناس عليك؛ فالظرف أحرج من المطل، وأقصر من هذا الصمت، والساعة مفزعة مروعة، وإخواننا في الوطن والآلهة يصرخون ويموتون!» «أخيل!» «إن كان يعز عليك أن تحنث في عزمتك التي عزمت، فأذن لي ألبس خوذتك وأمتشق سيفك، وأحل في دروعك السوابغ، ثم أقود الميرميدون باسمك، فأرد عادية القوم، وأحير إخواننا الهيلانيين.»
وكان بتروكلوس يكلم أخيل وكأنما كان وحي السماء يتنزل على قلب البطل بلاغة وحرارة، وقوة إيمان وثبات يقين، ونفسا تجيش بالحب وأقدس المنى لوطن مصاب في أبطاله، منقوص في عزائم بنيه، يتلفت من خلف البحار، يرى ماذا يصنع أخيل في هذا الروع هو وجنوده الميرميدون!
وهب أخيل من جلسته الخاملة، وأخذ يدي بتروكلوس في كلتا يديه، وطبع على جبينه المرتجف قبلة مهر بها صك التضحية في سبيل الوطن الشقي، وقال لصديقه: «بتروكلوس! أخي! يا أعز جنودي علي!
أما أن أذهب أنا فأرد هذه الذئاب، فلا، ولكني آذن لك بكل ما أردت من قوة وعتاد ما دمت تؤثر صالح الوطن، وتحرص على حقن دماء الهيلانيين.»
بتروكلوس! لا يدر بخلدك يا صديقي الكريم أنني انتويت أن أغضب غضبة لا انتهاء لها؛ ولكنني أمرت أن أنتظر حكم السماء بيني وبين خصمي الذي لم يتورع أن يهتك أمر السماء، فيسلبني ثمرة خلعها رمحي علي، وقدمها لي جيش بأسره، هلم يا بتروكلوس فالبس دروعي، وأسبغ عليك لأمتي وشرف خوذتي بجبينك ، ولأذهب أنا فأعد لك الميرميدون، وتبرهنوا لناكر الجميل أننا سبب مجده وخير جنده، وذخيرته كلما حزبه كرب أو ألم به خطب. «هلم ... هلم ...» •••
وانطلق أخيل فصاح بجنوده، فهرعوا إليه في سفنه الخمسين، الراسية بمعزل من سائر الأسطول الهيلاني، وكم كان رائعا أن يتحرك أسطول أخيل في أحرج ساعة مرت بهذا الجيش المغير الذي وقع فريسة كله في قبضة الطرواديين! لقد كان أجاممنون وجنوده ينظرون إلى سفن أخيل؛ وكأنها الخلاص من الموت الذي يلاحقهم، والمنايا التي ترقص فوق هاماتهم، وهي مع ذاك فيما خيل لهم تزور عنهم، وتشيح عن نجدتهم؛ لأنهم لؤموا مع زعيمها، وأنكروا عليه ما اعترفت به السماء أنه حقه خالصا له!
أقلع أسطول أخيل! ولكنه لم يقلع ليفر من واجبه، بل أقلع نحو الشمال ليكون جنده بمأمن حين يهبطون إلى الشاطئ من كبسة الصفوف الظافرة المشغولة باستئصال شأفة الهيلانيين.
وما هي إلا ساعة حتى رسا شمال طروادة، وحتى أخذ سيل الميرميدون ينهمر على شاطئها الشاحب فيملؤه، وكأنهم كسف من العذاب أرسله نبتيون رب البحار من أعماق اليم ليقذف بها في قلوب الطرواديين!
وطفق أخيل يجيشهم فجعل منهم خمسة جحافل كقطع الليل البهيم، فكان على رأس الجحفل الأول البطل الحلاحل، والقائد المناضل، منستيوس بن سبرخيوس، ابن السماء وصاحب العزة القعساء، وعقد لواء الجحفل الثاني لابن هرمز المقدام، الفتى يودوروس الذي طالما كان جزعا في فؤاد الردى، ووجلا في قلوب المنايا! ووضع على رأس الجيش الثالث القائد بيزاندر، ابن ميمالوس، صفي الآلهة وهبة الأولمب، وأقام على الجيش الرابع صديقه فونيكس الذي آثر البقاء إلى جانب أخيل حين أقبل مع أوليسيز وأجاكس يفاوضون في الصلح من قبل أجاممنون، أما الجيش الخامس فقد عقدت رايته لابن ليرسيز، ألكميدون العظيم، أخي الغمرات وصاحب الثارات.
أما بتروكلوس! فقد أقدم يتخايل فوق عربة أخيل، يجرها جواداه الأشهبان: إكسانثوس وبليوس؛ أعز خيل زفيروس، وأحب دوابه إليه، ولقد كان مظهره الوقور يبعث الروع في النفوس، فهذي خوذة أخيل تتألق فوق هامته، والريح العاصف تداعب شعراتها فتجعل منها بركانا يقذف الحمم، وهذي دروع أخيل سابغة فوق الصدر والفخذين والذراعين، كأنها لبد نبتت فوق حيد جبل شامخ ينطح السماء بروقيه.
ناپیژندل شوی مخ