قال الناظر: تعوده على كتابة الإملاء، وأنت الرجل «الفني» القدير.
وأنت تعرف - هكذا وجه فريد الكلام إلي قاطعا بذلك مجرى روايته - أنت تعرف أن مدارس الريف لم تكن قبل ذلك قد شهدت المدرسين ذوي المؤهلات العليا؛ إذ كان المعلمون فيها يؤخذون من كل صنف، ويكفي فيهم أنهم يقرءون ويكتبون ويلمون بمبادئ الحساب، قال فريد هذه الملاحظة العابرة، ثم عاد إلى روايته، وكانت قد وقفت عند الحوار الذي دار بين الأحدب وناظر المدرسة.
قال الأحدب وكأنه يمزح: علاج ابنك هو أن يلعب البنج بونج.
فأجاب الناظر في دهشة: يلعب البنج بونج ليصلح أخطاءه في الإملاء؟!
قال الأحدب: نعم.
قال الناظر ساخرا: وكيف كان ذلك يا مولانا؟
أجاب الأحدب في شيء من التعالي وكأنه أراد أن يذكره بالفرق بينه وبينه: إن ابنك حين نطلب إليه هجاء كلمة تهجاها صحيحة، فإذا كتب أخطأ؛ وإذن فالضعف هو في العلاقة بين المخ وحركة اليد، وقد تنضبط هذه العلاقة بلعبة توثق الصلة بين مركز إصدار الأمر في مراكز المخ وأداة التنفيذ الحركي في الذراع واليد.
فبهت الرجل لهذا «الفن» التربوي العجيب؛ ودارت الرواية في المدرسة كلها، وأصبحت من النوادر التي تروى.
ولقد أثار ذلك الأحدب ضجة حوله كادت تودي به في أول اشتغاله بالتدريس، وقصة ذلك أنه كان يكتب مقالات كثيرة في مجلة أدبية كانت صدرت حديثا في تلك الأيام، ولم يكن زملاؤه يتبعون ما يكتبه إلا عن طريق الإشاعة، حتى فوجئت المدرسة ذات يوم بخطاب من مدير التعليم في الإقليم، يطلب من ناظر المدرسة أن يحقق معه في شكوى رفعت إليه من شيخ أزهري في المدينة. كان يعرف باسم «الدكتور غراب»، وكان الشيخ قد أرفق بالشكوى عددا من المجلة فيه مقالة للأستاذ رياض عطا هذا، وقد ورد في المقال رأي عن أحد الفلاسفة بأن الله لم يكتمل وجوده بعد، ولكنه في طريق التكوين، وأنه ليس الصواب هو أن نقول إن الله قد كان، بل الصواب هو أن نقول إنه سيكون، لأن ذلك الفيلسوف المنقول عنه نصير لمذهب التطور على طريقته هو الخاصة، ولا يكون للتطور معنى إلا إذا كان الكمال هو الغاية وليس هو البداية، وكلام كثير من هذا القبيل؛ فطلب المدير في خطابه أن يسأل هذا المدرس إذا كان يقول كلاما كهذا للتلاميذ.
وقد ارتعد ناظر المدرسة لهول الواقعة؛ ففي مدرسته مدرس ملحد وهو لا يعلم! وأما الأستاذ عطا فقد كان ثابت الجنان ولم يزد في التحقيق على قوله: إن ناقل الكفر ليس بكافر، وأنه من البديهي أنه لا يقول كلاما كهذا أمام تلاميذ مدرسة ابتدائية، وأرسلت إجابته إلى المدير، الذي أحال الأمر كله بدوره إلى القاضي الشرعي في مديرية الدقهلية، فأفتى بأن ليس على هذا المدرس لوم ما دام قد اعترف بأنه لا يأخذ بمثل هذا الرأي الذي ينقله، وبأنه لا يتحدث في موضوعات كهذه أمام التلاميذ.
ناپیژندل شوی مخ