لكن ذلك لا يعني أن اليهود، قد انتقلوا من عبادة مجموعة الآلهة الإيلية «إلوهيم»، إلى عبادة إله واحد باسم يهوه؛ فالأمر لم يكن كذلك، ولم يكن «يهوه» هو إله اليهود الوحيد بعد العهد الموسوي، إنما كان هناك عدد آخر من العبادات لحق بعبادة «يهوه» وعددا من الآلهة عبد في الوقت ذاته إلى جوار «يهوه» حتى في داخل هيكله، وقد سجلت التوراة ذلك دونما حرج، وتواجدت هذه الآلهة طوال العصر الممتد من موسى حتى ظهور الأنبياء الموحدين (أمثال أشعيا ودانيال، وظهروا متأخرين، قبل القرن السابق للميلاد بقليل).
فإلى جوار «البعل الملك» أو «يهوه» عبد اليهود عددا آخر من البعول مثل «بعل فغور»، الذي ورد في النص التوراتي «وتعلق إسرائيل ببعل فغور، فحمي غضب الرب على إسرائيل» (عدد 25: 1-5)، ومثل البعلة، زوجة بعل مولك (البعلة الملكة، أو ملكة السماوات، بعليت مولوخ) المعروفة بالأنثى الإلهية «إناث»؛ إذ قالت التوراة بلسان اليهود: «بل سنعمل كل أمر خرج من فمنا، فنبخر لملكة السماوات، ونسكب لها سكائب، كما فعلنا نحن وآباؤنا وملوكنا رؤساؤنا في أرض يهوذا، وفي شوارع أورشليم، فشبعنا خبزا، وكنا بخير ...» (أرميا 44: 17).
بل إن بعض كبار ملوكهم مثل سليمان، عبد مثل هذه الآلهة صراحة وهو ما نراه في النص التوراتي «حينئذ بنى سليمان مرتفعة لكموش رجس الموآبيين، على الجبل الذي تجاه أورشليم، ولمولك رجس بنى عمون» (ملوك أول 11: 7). وبالمناسبة: هل كموش غير جموش أو بالعربية جموس أو جاموس؟ لفتة نشير بها إلى أنه بدوره كان إلها للخصب.
ثم إنهم عبدوا أيضا «تموز» إله الخصب الرافدي، ومارسوا طقوس الندب والبكاء عليه باعتباره إلها شهيدا، كما ظلوا على عبادة الشمس فترة طويلة وهو ما يفهم من رواية النبي حزقيال، عندما ذهب إلى الهيكل: «وإذا هناك نسوة جالسات يبكين على تموز ... وإذا عند باب هيكل الرب وبين الرواق والمذبح نحو خمسة وعشرين رجلا، ظهورهم نحو هيكل الرب، ووجوههم نحو الشرق وهم ساجدون للشمس» (حزقيال 8: 14-16).
ولا تني التوراة تؤكد أنهم عبدوا مجموعة البعول والبعلات الملقبات باسم «عشتارت» من عشتروت الرافدية، فتقول: «وعبدوا البعليم «جمع بعل» والعشتاروت «جمع عشتار» وآلهة آرام وآلهة صيدون، وآلهة موآب، وآلهة بني عمون وآلهة الفلسطينيين» (قضاة 10: 6)، أو باختصار، أنهم شاركوا في عبادة كل آلهة المنطقة.
ومن المقدسات الشبيهة بالآلهة عند اليهود، وربما كانت أدنى قليلا، كائنات أسمتها التوراة «الكروبيم» جمع «كروب»، وكان تصورهم لشكل «الكروب» محيرا، فهو يظهر مرة على أنه طير ربما كان نسرا، لكنه بعد ذلك يأخذ شكل الثور المجنح، بوجه إنسان. فالأسفار القديمة تصوره في هيئة نسر صنع له تمثالان وضع أحدهما على مقدمة تابوت العهد أو الشهادة، والآخر في مؤخرته. فالنص يقول: «فلما دخل موسى إلى خيمة الاجتماع، ليتكلم معه «الرب»، كان يسمع الصوت يكلمه من على الغطاء الذي على تابوت الشهادة، من بين الكروبيين» (عدد 7: 89). وينسب إلى موسى القول إنه رأى هذا النوع من الطيور قرب عرش الإله، وأنه لما أتم سليمان بناء الهيكل، جمع شيوخ اليهود «وحمل الكهنة التابوت ... وأدخل الكهنة تابوت عهد الرب إلى مكانه في محراب البيت، في قدس الأقداس، إلى تحت جناحي الكروبيين» (ملوك أول 8: 1).
ويبدو لنا أن تقديس النسور في مختلف العبادات القديمة، كان سببه رؤية العقل القديم لمسكن الآلهة في السماء، مع قدرة هذه الطيور رغم ضخامتها على الطيران والصعود في الأعالي، مما جعلها في التصور قريبة من الآلهة، لذلك أعطى العقل القديم كل المقدسات القريبة من الآلهة الأجنحة والقدرة على الطيران حتى تتمكن من الصعود إلى مقر الآلهة أو الهبوط منها، وهو ما نلحظه في صفات الملائكة، وقد قدست معظم الشعوب القديمة النسر وبخاصة العرب الجنوبية وقد أشار القرآن الكريم إلى عبادة «نسر» ضمن مجموعة آلهة عربية قديمة في قوله:
ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا (نوح: 23).
أما الصورة الثانية للكروب، كثور مجنح برأس إنسان، فتأتي في الأسفار المتأخرة، حيث نجد النبي حزقيال يصفه كالآتي: «لها شبه إنسان، ولكل واحد أربعة أوجه ولكل واحد أربعة أجنحة ... أيدى إنسان تحت أجنحتها ... أما شبه وجوهها فوجه إنسان ووجه أسد ... ووجه ثور ... ووجه نسر» (حزقيال 1: 25)، وقد نقشت تماثيل هذه الكائنات الإلهية على جدران المعبد اليهودي، ومع التحول نحو التوحيد (عند إشعيا وأرميا) تحولت الكروبيم إلى الدابة التي يستخدمها الإله في الركوب، فكان لا بد لدابته أن تتميز عن حمير وخيول البشر، بما يليق بمكانته، فأضيف إليها وجه الإنسان، والأجنحة. «ركب على كروب وطار وهف على أجنحة الرياح» (مزامير 18: 10).
وغني عن الذكر أن مثل هذه الكائنات بقي محفورا في الديانتين المسيحية والإسلامية؛ ففي المسيحية تصادفنا «الكروبيم» في حفل أو «بارتي» إلهي تغني قداسا إلهيا (رؤيا يوحنا اللاهوتي 4: 6-11)، أما في الإسلام فقد جاءتنا الدابة الإلهية «كروب» منطوقة «قروب»، ومع ظاهرة القلب المعروفة في اللغات السامية تحولت «كروب»، أو «كراب » إلى «براك»، أو «براق» وهو دابة سماوية بوجه إنسان وجسم مجنح، حملت النبي محمدا
ناپیژندل شوی مخ