ولكن قسوة الكفاح ومرارة الصبر على طول الحرمان، جففتا عبراتى وعلمتنى أن أبكى بقلبى دون عينى، وأن أستر ضعفى عن الناس، فلا أبدو لهم إلا بصفحة وجه يقرأون فيها آيات الرضى والاستبشار والثقة. والفضل فى ذلك لأمى. فقد جئتها يوما أبكى لأن غلاما ضربنى فأوجعنى، فنظرت إلى باسمة ولم تربت على كتفى، ولم تكفكف دمعى، ولا واستنى وإنما قالت لى: «رجلنا يبكى؟ فماذا عسانا نصنع نحن النساء الضعيفات»؟ فخجلت، ولم أكن خبرتها الخبر. فقلت - كأنما كنت فعلت - «ولكنه أكبر منى» قالت: «لا شك، ولكن حيلتك ينبغى إذن أن تكون أوسع» فما غلبنى بعد ذلك اليوم غلام أسن أو أكبر جسما، حتى خافنى صبية الحارة وحرصوا على اتقاء شرى .
والعبرة بالخواتيم - وقد انتقلت بى الحال بعد طول الضنك إلى سعة مرضية وخير كثير فالحمد لله على ما أنعم ويسر.
ورضيت عن الدنيا وانشرح صدرى للحياة ووجدت أن التسامح الذى مبعثه الفهم وصحة الإدراك أجلب لسرور القلب وطمأنينة الخاطر، وسكينة النفس، من تلك المرارة القديمة التى كان ينضح بها الوجه ويقطر اللسان. وألفيتنى أغتبط بأن أتلمس ما يروق ويسر من جوانب الحياة، وأن أبرز هذه الجوانب الوضيئة للناس وأشركهم معى فى نعيمى بها، وأحاول أن أفتح لهم كوى تدخل منها الشمس فتضىء لهم وجوه العيش وتمنحهم الدفء، وتشيع الابتسام والجذل فى وجوههم وقلوبهم، وأن أقطف لهم من أزهار الحياة ريحانا وآسا ونرجسا، وأن أجمل ما كان يبدو لى ولهم دميما، وأزين العاطل، وأرقرق الماء فى حواشى النسيم ليعود أندى على القلب وأثلج للصدر.
وتوسعت فى هذا وتعمقت. فقلت: إنى مثل الناس غيرى ومنهم، وكلنا مجبول من طين واحد، ولست خلقا قائما بذاته، أو بدعا فى هذه الدنيا، ومن الممكن أن أعرف الناس معرفتهم إذا أنا وسعنى أن أعرف نفسى، فصار دأبى بعد هذا أن أخلو بنفسى، وأحاسبها، وأراجعها، وأغوص فى أعمق أعماقها على بواعثها، وعلى ما تغرى بها غرائزها المهذبة أو الساذجة، وأن أقف على دواعى ضعفها ونقصها، وأسباب قوتها، وجعلت كدى كلما بدا لى ما يسوء، أو يريب أو يسخط، من أحد أن أحاول أن أضع نفسى فى مكانه، وأن أنظر ماذا كنت خليقا أن أصنع لو أننى كنت محله، وكان يحيط بى ما يحيط به، وكان لى مثل حظه الكثير أو القليل من العلم والتجربة؟ فأصبحت فيما أعتقد - غير مغرور أو مخدوع فيما أرجو - أعدل وزنا وأكثر إنصافا، وأسرع إلى تمهيد العذر منى إلى سوء الرأى.
وليس معنى هذا أننى الآن أرى أن الدنيا وأحوالها على خير ما يمكن أن تكون، أو أنه ليس فى الإمكان أبدع مما كان، أو ما هو كائن. كلا ولكنى أرى أن معالجة الأسواء والفساد بحسن الإدراك، وصحة الفهم، والرفق والحسنى، أجدى وأرشد . وماذا يفيد تعذيب النفس بالتسخط وتلهب الغضب واحتدام النقمة؟ إن الذى له قيمة هو أن ندرك أن هناك ما يستوجب الإصلاح والتقويم، وأن نهتدى إلى وسيلة الإصلاح ومداه وليست ثورة النفس بالتى تعين على هذا وتيسره، فإنها خليقة أن تورثنا اضطرابا فى التفكر، وأن تجمح بنا إلى غير ما يشير به العقل، وتصفه الحكمة. وإنما الذى يعين على الصلاح والخير، والتفكير الهادئ والتدبر الرصين، وقياس مبلغ القدرة إلى الأمل، وأصالة الرأى، والحذق فى التدبير، ولا سبيل إلى شىء من هذا إذا اهتاجت النفس، وقامت قيامتها وثارت كاللجة المزبدة.
ولماذا أكتب كل هذا؟ ما صلته بموضوع الكتاب؟ لا أدرى! سوى أنى لطول اعتبارى أن أتدبر نفسى وأدير عينى فى جوابها، أصبحت أعتقد أنى أستطيع أن أعرف الناس بنفوسهم إذا وسعنى أن أكشف لهم عن عيونهم صورة صافية - لا مزورة ولا مموهة - من هذا الإنسان الذى هو أنا، والذى هو أيضا كل امرئ غيرى. وليس هذا بالمطلب الهين، وما كان مناله قط، ولن يكون دانيا. غير أن ما لا يدرك كله، لا يترك كله، وعلى المرء أن يسعى جهده وعلى الله التوفيق، وإن طاقة الإنسان لمحدودة ولكنه ليس عاجزا كل العجز، ولو أن كل إنسان أخلص وصدقت سريرته وبذل ما يدخل فى وسعه، لعادت الحياة أطيب وأبعث على الرضى.
وأحسب أن من بواعثى على هذا الاستطراد، أنى أقول لنفسى إذا أنا لم أنفع بتجربتى وفهمى هذا الجيل الذى يغذ الخطى وراء جيلى، فما خير أنى كنت وعشت، وفهمت أشياء وجربت أمورا، وألممت الحقائق؟ إن من ألأم اللؤم أن تبخل بعلمك على غيرك. وقد يعذر الذى يضن بالرغيف - وهو جائع - على رفيقه، وفى الطباع الإنسانية أن يؤثر المرء نفسه، فى خصاصته، على غيره وقد يبلغ المرء من الحرص على الذات فى المحنة أن يخطف اللقمة من فم ابنه وهو ضنئوه وفلذة كبده لان التضور وخوف التلف الوحى يثيران غريزة حفظ الذات فيذهل الإنسان عن واجب المروءة، وواجب الأبوة، ولكن المعرفة ليست مادة يحفظ بها البدن من الوبال، وهى لا تنقص بالشيوع والاستفاضة ونصيبك منها لا يقل إذا بلغ فيها غيرك مبلغك، وفى وسعك أن تهدى منها ولا تخشى عليها النقص، ومن المحقق أنك أحرى أن تكون أسعد إذا صار الناس أعلم وأفطن وأوسع مدارك وألطف حسا.
فالضن بالمعرفة ضيق عقل وسوء رأى، ولؤم نفس وخسة طباع - بلا مسوغ ما، ولا فائدة ما - لأن الناس يصلون إلى المعرفة أردت أو لم ترد، وبمعونتك أو بغيرها. فما أنت فى الدنيا بالوحيد الذى ينظر فيجد، ويبحث فيهتدى، ويعالج فيوفق.
وأمر آخر أردته - وأظنه مما ساقنى فاستطردت - ذلك أن الناس أشباه متماثلون وإن تفاوتت بهم الأموال، وليس اختلاف النشأة بمانع أن تكون التجربة من معدن واحد، وإن كان المظهر يوقع فى الروع لأول وهلة أن المخبر شىء آخر.
الفصل الأول
ناپیژندل شوی مخ