وقوى هذا الميل فى نفسى وعمقه أنى بعد الذى سمعته ووعيته من أمى. قصدت إلى أخى الأكبر - وهو من غير أمى - وسألته عن مال أبينا أين وكيف ذهب؟ فقال وهو يكاد يشرق بدمعه - وأنا أنطر إليه جامد العين: إنه هو الذى أضاعه، وجر علينا هذه المحنة، ولكنه يرجو أن يعوضنا خيرا مما أتلف. فأحسست أنى شببت جدا عن الطفولة فى تلك اللحظة!
وانصرفت وأنا أتساءل: «أليس لكل امرئ حقه؟ فكيف يتسنى لواحد أن يجنى على جماعة! وكيف ولماذا يجد الوسيلة إلى ذلك»؟
وصرت أخاف الناس وأنظر إليهم شذرا. وإذا كان الأخ يجنى على إخوته وأمهم وجدتهم، فما ظنك بالغريب الذى لا تصلك به رحم، ولا تعطفه عليك عاطفة من قرابة أو نسب»؟
وأقبل علينا قريب لنا يقول إن فى وسعه أن يرفع عن كاهلنا عبء نفقات التعليم ولكن «الواسطة» يطمع فى جزاء أو «رشوة» فأبت أمى كل الاباء. فما زال بها حتى ملت إلحاحه، فدفعت إليه ما يطلب. وغاب شهور الصيف. ثم جاءنا يقول إن الوزارة أعفتنى من نصف نفقات التعليم، فقلنا شىء خير من لا شىء. ولكنه كان كاذبا. وتبينا أنه لم يرش أحدا، وإنما استحل أن يسرق مالنا نحن الفقراء بهذه الخدعة.
فزاد سوء ظنى بالناس، وانزويت عنهم، وأقبلت على دروسى لأفرغ من التحصيل بأسرع ما يستطاع، فيتسنى لى بعد ذلك أن أكسب رزقى، وأنقذ نفسى وأهلى من هذه الفاقة التى منينا بها لغير ذنب جنيناه.
وترك هذا كله أثره فى نفسى، فاجتنبت أن أعاشر إلا الذين أرى حالهم يشبه حالى أو يقاربه، وصرت أشعر أنى غريب إذا ألقت بى المصادفات بين قوم من السراة أو الأثرياء أو المتظاهرين بالغنى، كأنهم ناس من شاكلة أخرى، وخلق مختلف. فكنت أنفر أشد النفور من مجالستهم أو مخالطتهم. ويكبر فى وهمى أنهم لا يخفى عليهم أنى نشأت فقيرا. وأنى امتحنت فى صباى أقسى امتحان، وأن ما أراه من مظاهر غناهم ليس إلا مخايلة مقصودة يشقون لى بها جفونى ويطلعونى على ما بينى وبينهم من بون.
وكنت قد كبرت وأصبحت معلما، وعندى فوق الكفية من الرزق فأشفقت أن يورثنى هذا عقدة نفسية أو «مركب نقص» كما يسمى. فعالجت ذلك بالتمرد، ورحت أعد الذين نشأوا فى حجر النعمة وظل اليسار، من المنبوذين، لأنهم متكلفون غير مخلصين لأنفسهم ولآدميتهم، ولأنهم مترفون، متطرون خرعون، لا يعرفون شرف الكد، ولا يدركون مزية الكدح والسعى، وإنما يعيشون عيشة الفضول والتطفيل، ولا يحيون حياة صحيحة، ملأى بحركة الشعور والعقل، فلا احتفال بهم ولا اكتراث لهم، وأنا وأمثالى أحق منهم بالكرامة وأولى باستيجاب التعظيم.
وارتفعت بى السن شيئا فشيئا، وزادت التجربة، ورحب الأفق على الأيام. فأدركت أنى أسرفت على نفسى وعلى الناس. وتبينت أن لا داعى للمرارة، فقد أفادتنى المحنة صلابة وعزما وثقة بالنفس وجرأة على الحياة والمغامرة فيها، ولو كنت نشأت فى نعمة سابغة لكنت حريا أن يفسدنى التدليل ، ولا ذنب للناس جميعا فيما كان من أحدهم أو بعضهم وفى الدنيا الصالح والطالح، ومن الظلم أن يبوء البرىء بإثم المذنب، وأن تؤخذ الجماعة بجريرة واحد، وكل امرئ يزل، والعصمة لم يؤتها إنسان وحتى ما جنى أخى قمن بالغفران. فما هو فى ذاته بالذى توصد دونه أبواب العفو، وما عدا المسكين أنه طاش طيشة كان من الجائز أن أطيشها لو كنت مكانه وكان حبلى على غاربى كما كان على غاربه، وما أعرفه أفاد إلا متعة قصيرة وحسرة طويلة على ما ضيع، وما أهداه إلينا من الكرب الجسام، فهو جدير بالرثاء والرحمة والنقمة. وما شهدت النعمة التى تقلب فيها زمنا وجيزا، ولكنى شهدت الندامة التى ظلت تأكل قلبه بقية حياته، وكنت على الرغم مما أساء أوقره وأنزله منزلة الوالد لأنه أسن منى، ولكنه هو كان أشد توقيرا لى منى له، وأعظم بى تحفيا. ولما نشرت أول كتاب لى - وكان ديوان شعر - حملت إليه أول نسخة منه أخرجتها المطبعة. فتناولها معجبا، وقلبها جذلا، وشرع يقرأ، فما راعنى إلا دمعه المنهمر، من فرط الحنو والزهو. فنهضت إلى زوجته وتشاغلت بالحديث معها، فما أطيق البكاء، ولا أعرفه، وإنى لأدرى أن الدمع رحمة وأنه كما يقول ابن الرومى:
لم يخلق الدمع لامرئ عبثا
الله ادرى بلوعة الحزن
ناپیژندل شوی مخ