وأنجبت ثلاثة أبناء غير ابني الأول، وانقضت سنون وكبر الأولاد وذهبوا إلى المدرسة، وعلاقتي بصاحبي القاضي لم تنقطع، وأنانيتي وأنانية زوجي متجاوران يتسايران في طريق الحياة. وفي هذه السنوات كانت أنانية زوجي تثور ما بين حين وحين: شكا أمري يوما إلى أبي، لكني كنت أخضع أنانيته دائما بما يعبد؛ بجسمي أسلس له قياده. أما أبي فلم أزد يوما حين جاء يعنفني على أن قلت له: رفضت الزواج غير مرة، ثم اخترت لي أنت على أنك أخبر مني بالحياة. وهذا الاختيار قد زج بي فيما أنا فيه. فعليك حظ من التهمة غير قليل.
ولعنني أبي فلم أحفل بلعنته. لقد بلغت بي الأنانية حد التبجح، وقد انتهى زوجي المسكين بالإذعان لحكم القدر، وظل لرحمة الله مذعنا حتى اختاره الله إلى جواره، وكان يخيل إلي طوال هذه السنين أنه انتهى كذلك إلى السعادة بإذعانه. ولقد قمت من ناحيتي بالإذعان لكل ما يشبع شهوات حيوانيته، ولكن كشفت لي الأقدار بعد وفاته عن جانب من شعوره جعلني أذرف الدمع سخينا عليه، وإن استعصى علي أن أوفق بين هذا الجانب وما كان من حرصه على كل ما في نفسه من أنانية وضيعة مفترسة. فقد عثرت بين أوراقه على مذكرات قرأت في إحداها ما يأتي: ... اليوم قابلت صديقي ... بك ... ناظر المدرسة بمكتبه لأدفع مصاريف الأولاد، وقد أبدى لي إعجابه بنجابة أصغرهم، فترقرقت في عيني عبرة بالرغم مني لم أملك معها أن أقول: أنا واثق بأن أكبر الأولاد ابني، أما الآخرون فلست من بنوتهم لي على ثقة ... ورأيت في عين ... بك نظرة إنكار كأنما يقول: «وما يكرهك على أن تمسك عليك زوجك؟» وسارعت أنا فأجبت على نظرته بقولي: «ما كان تسريحي زوجي ليخفف من بلائي وشقوتي، ولكنه كان إعلان الفضيحة والعار لها ولأبنائها ولعائلتها. لذلك آثرت أن أشقى وحدي على أن أنشر حولي كل هذا الجو من الشقاوة، ثم لا أكون بذلك أقل تعسا ولا أقل شقاء.»
تركت هذه العبارة التي عثرت عليها في أوراق زوجي بعد وفاته أثرا بالغا جعلتني أذرف الدمع عليه سخينا. وجاء صاحبي القاضي في مأتمه يعزيني، فأطلعته عليها ثم قلت له: والآن وقد أصبحت حرة لك فما عساك فاعلا؟! فنظر إلي كأنما هو دهش من سؤالي، فقلت له: ألا نتزوج متى انقضت عدتي. إن ما بيننا من حب لم تعد عليه عادية السنين جدير بأن يتوج برابطة الزواج. وكم تمنينا لو كنا ارتبطنا بها قبل أن أتزوج.
واستمهلني ليفكر، فأثار ذلك دهشتي. لكني لم أر أن ألح وما يزال في الوقت متسع. ولم يدر قط بخاطري أنه منته إلى غير ما دعوته إليه. فما تبادلنا خلال هذه السنين من عواطف وما عرف من صدق وفائي له لا يجعله يختار علي أحدا. وما تغنى به طوال هذه السنين من الإعجاب بي بل من عبادتي، كفيل بأن يزيل من نفسه أي أثر للتردد، ولو كان الدافع للتردد رغبته إطلاقا عن الزواج. واقتنعت أنا بهذه الحجج، فخفف ذلك من الحزن الذي يدسه إلى نفوسنا موت يقع بأعيننا ولو نزل بشخص ضعيفة رابطته بنا. وإني يوما لأنظر لمستقبلي خيرا إذ دق التليفون وتحدث صاحبي إلي يدعوني لأوافيه إلى السكن الذي ألفنا كل سنوات حبنا، فأجبته على الفور: كيف تدعوني الآن إلى هناك ؟ ولم لا تحضر أنت إلى هنا؟ - خير أن نكون بمنجاة من الأعين. - ومم تخاف الآن وقد أصبحت مالك نفسي إلى أن أدخل في ملكك؟
لكنه ألح وبالغ في الإلحاح، فلم أر بدا من إجابته إلى ما طلب. وذهبت فألفيته قد نثر ما أحب من أطايب الزهر في كل أرجاء المكان وهيأه كعادته ليكون قدسا للحب. فلما جلست جاء إلي وجثا على قدمي وبدأ ينشر من شعر الحب ما كان يسكرني من قبل ساعة. لكني نظرت إليه في دهش وقلت له: أحسب هذا الدور قد انتهى وأحسبنا سنصبح زوجين نتبادل حبا من نوع آخر، ولعل سعد الطالع هو الذي هيأ لنا فرصة هذا التغيير ليكون حبنا دائما جديدا. - إن هيامي بهذا الحب في ذلك الوكر يجعلني لا أرضى به بديلا، فلنكن دائما كما كنا من قبل. - ولكن لنخدع من يا صديقي وقد مات زوجي؟ - تزوجي من شئت. لقد فكرت طويلا فآثرت أن أستمر في هذا الدور. - هذا الدور! ولم لا تتزوجني أنت؟ أفكنت هذه السنين كلها تلعب دورا، فأنت تخشى إذا تزوجتني أن يلعبه غيرك على حسابك؟
أطرق إلى الأرض إطراقة تبينت فيها هاتين الكلمتين الصغيرتين البشعتين: ولم لا؟! فصعد الدم إلى رأسي وكررت السؤال، فلم يزد على إطراقته. ثم شعرت كأنما حاول أن يمس قدمي أو يخلع حذائي، لا أدري. هنالك انتفضت واقفة وقلت له كرة أخرى: وهل يعجبك كثيرا أن تلعب دور الخائن لأصدقائه في أزواجهم؟!
ووقف هو بدوره وحاول أن يحملق في. كلا! ليس هذا قاضيا، بل ليس هذا رجلا، بل ليس هذا مخلوقا إنسانيا. هذا وغد دنيء أبى على امرأة شريفة أضلتها الأقدار فأحبته - حين لم تكن تستطيع أكثر من أن تحبه - أن تكون زوجه وأن تحمل اسمه. وهذا الفن الذي يعرف، وهذه الموسيقى التي لها يطرب، وهذه الثقافة التي بها يزدان، ليست إلا حبالات لغرض حيواني خسيس، وليست إلا قشورا تخفي أنانية «أحط صنفا» من أنانية زوجي الذي خدع.
أمام ثورتي الجامحة بدأ يتوسل إلي لأجلس كيما نتفاهم، لكن قلبي كان قد تحطم من ساعة دخلت الوكر ورأيت إلام يريد أن يستدرجني، وتحطم أضعاف ذلك حين أعلن إلي في نذالة أنه لا يرضاني أنا التي استهنت بأقدس الواجبات، واستهنت بنظرات الناس وبأحاديثهم وبما كانت تسلقني ألسنتهم في سبيل حبي إياه حبا صادقا، أنا التي وهبته نفسي وذكائي وسعادتي وقلبي ووهبته حياتي لأني أحببته! وحدقت فيه فإذا بي أراه وكأنه مسخ خلقا آخر؛ مسخ قردا أو خنزيرا أو ما دون ذلك من أخس الحيوانات وأدناها. وحاول غير مرة أن يتكلم، لكنني في كل مرة كنت أهجم عليه بالأوصاف التي كنت أراها مرتسمة على وجهه، فينكص على عقبيه متراجعا هزيما ... وأخيرا انتهز فترة كنت لا أتمالك فيها أن أتحدث لشدة انفعالي وقال: ألا ينهض لي عذرا أن لا أقدم على التزوج من أم ذات أربعة أبناء؟!
وا ولداه! يا للوغد! أم ذات أربعة أبناء! لم أتمالك نفسي لدى سماع هاته الكلمة، وصحت به في صوت ارتعد له: وأنت الذي تقولها؟! ألا تعرف أن لك أكثر من ابن؟ ألم تقرأ تلك الكلمة التي تركها البائس المسكين زوجي؟ أقسم لو أنك تراميت على أقدامي اليوم لأكون لك زوجا، لرفستك كما أرفس أخس الحيوانات. وكيف أرضى أن تكون مثالا لأبنائي ينسجون نسجك فيكونون مثلك غدرا وخيانة ونذالة؟!
أجهدتني هذه الثورة فشعرت برأسي يدور، وخشيت أن يصيبني الإغماء. ومخلوق هذه نفسه قدير في أثناء إغمائي أن يرتكب أخس الجرائم؛ لذلك تمالكت نفسي وارتميت إلى مقعد وأشرت إليه بيدي قائلة: ابتعد عني ودعني وحدي، أنا بحاجة إلى لحظة سكون لا سبيل إليها وأنت أمامي، انصرف فما لي بك حاجة ... قلت هذه الكلمات في لهجة أمر وحزم لم يستطع معها دون أن يخرج وأن يتركني وإن بقي في غرفة قريبة. وقمت مجهودة حتى بلغت الباب فأوثقت رتاجه، ثم عدت إلى مقعدي، وما كدت أجلس حتى رأيتني انهملت دموعي وانخرطت في بكاء خشيت أن يسمع النذل نشيجي به فيتشفى. وانقضت برهة أعادت إلي شيئا من هدوئي، فأجلت بصري في جوانب الغرفة حولي، لقد كان كل شيء في هذه الغرف يحدثني حديث الحب وأقدس صوره في آخر مرة احتوتني، فما لها الساعة وكل شيء فيها بغيض كريه يحدثني عن جرائم وجرائم توالت سنين طويلة وأنا بها مغتبطة، وعلى النهل من وردها الأثيم حريصة، وأية جرائم؟! أحط الجرائم وأدناها؟ إهدار طهارة العفة على مذبح الشهوة البهيمية الدنيئة، وخيانة قدس الزوجية في أحضان دنسة قذرة. أينا أكبر جريمة؟ هذا الرجل الذي طردت من حضرتي، أم أنا؟ هذا الوغد الذي لا أراني الآن دونه سفالة وحطة. ألا إن لهذا الرجل عذره أن لا يتزوجني، وكيف يفعل وقد امتهن كلانا ...! حرمة الزواج، وامتهنها لا في زلة لحظة، ولكن في جرائم سنين. كلا ... ليس هو أكبر مني جرما ولا أكثر مني انحطاطا.
ناپیژندل شوی مخ