اعتدل حمزة في مقعده وإن بقي ملقيا بنظره إلى الأرض في إطراقة المهموم، وأمسك جبينه بيده كأنما يحاول أن يستحضر الألفاظ التي سمعها، ثم قال: أخشى أن تخونني الذاكرة، فأقع فيما يقع فيه غيري من الناس من سوء تصوير العواطف وما تجري به الأقدار في شأنها، فأسيء إلى زهيرة حين أريد أن أقف من الأمر عند رواية حديثها. على أني سأحاول جهدي رجاء أن لا أضيع شيئا من ألفاظها حين جلست في مقعدها الطويل جلسة المطمئن، وقالت في سكينة الحازم الذي اعتزم أمره: تذكر يا صاح زواجي بعد وفاة أمي ونوالي إجازاتي المدرسية. كنت قد بلغت الثالثة والعشرين، وقد رفضت أكثر من خاطب وأمللت بهذا الرفض المتكرر أبي. ثم انقضى عام بتمامه وما يذكرني خاطب حتى خيل لأبي أنني قد قضيت بزائف كبريائي على حظي، وأنني سأبقى من بعد عانسا ما حييت، وكم دفع عمتي لتحدثني في هذا الأمر ولترد إلى رأسي عقلي كما كانت تقول. وبلغ من إلحاحها إجابة لأمره أنني شعرت بنفسي عالة في البيت وعبئا على كواهل أبي، وفكرت أن أشتغل بالتعليم وأمتهن أي عمل يريح أهلي مني، وأفضيت إلى عمتي بذات نفسي. ولا تسل عن الثورة التي ثارها أبي وعن اتهامه إياي بالعقوق وبمخالفة إرادته وهو لا يريد إلا الخير. وهل خير عنده لامرأة في غير الزواج وتدبير مملكة المنزل وإنجاب البنين وتربيتهم ليكونوا لنا في الحياة عونا وبعد الحياة ذكرا وللعالم عمرانا؟! أما هذا الاقتحام لميادين العمل مما تلجأ إليه بنات اليوم فلم يكن عنده إلا ضلالا عن طريق الطبيعة والحق وثورة على أمر الله وما خلقنا له. وانقضت الأيام وعدلت عما كنت فكرت فيه وهدأت ثورة أبي ونالني من عطفه ما لم يحرمني منه قط. ثم جاء يخطبني ذلك الذي أصبحت من بعد له زوجا، وأبلغتني عمتي النبأ مصحوبا برغبة أبي في أن يتم الزواج. ماذا عساي أصنع؟ أأرفض فأثير ثائرة جديدة وأصبح البنت العاقة الثائرة على أمر الله الضالة عن طريق الطبيعة والحق؟ أأقبل وأنا أعرف أن هذا الرجل قليل البضاعة من العلم وإن يكن ذا سعة من المال، وأعرف أنه يكبرني بعشرين سنة، وهو إلى ذلك ليس بالجميل ولا هو ذا وفرة من الذكاء أو خفة الروح؟ ورأت عمتي ترددي، فامتعضت ونبهتني إلى ما في ذلك من إغضاب أبي الذي يريد لي الخير والذي يعرف من شئون الحياة في رأيها ما لا أعرف. ونادى أبي أخته باسمها بصوت ممتلئ قوة وعزيمة، ففت ذلك في قواي وأضعف ترددي ولم أجد ما أقول لعمتي إلا أنني أسلمت الأمر إليهم والتبعة في سعادتي وشقائي من بعد عليهم. وقبلتني عمتي فرحة متهللة وخرجت تهرول ملبية النداء. أما أنا فانهملت من عيني دمعة يأس واستسلام وتوجهت بقلبي لله أشكو إليه غدر القدر.
وزففت إلى زوجي فلم يك إلا أيام حتى رأيته يبدي لي من صنوف المودة ويغدق علي من نفيس الحلي والثياب ما جعلني كلما أقبل علي أبي أقبل يده قبلة شكر وأعترف بسابغ جميله. ومضت الأشهر وبدأت الحلي والثياب تكثر، وبدأت أمل هذا النوع من مظاهر الحب وأطمع من زوجي في شيء آخر. أطمع منه في جمال نفسه يغمرني فيزيد في حياتي، وأطمع منه في أن يبادلني النظرة للوجود وما فيه من حسن واتساق فني، وأطمع منه فيه هو لا في هداياه ولا في ماله. أطمع فيه جديدا كل يوم، مختلفا كل يوم جماله عن اليوم الذي قبله، مبدعا في وجوده ووجودي ما يزيد الحياة أمامنا فسحة وانبساطا ورقة وجمالا. ولم أقف بمطمعي هذا عند الرجاء، بل حاولت أن أبعث إلى نفسه من وجودي ومن حياتي ومن قلبي ومن عاطفتي ومن هواي ومن عقلي، ما يحركه إلى ما أحب. وكأنما شعر المسكين بما تصبو إليه نفسي، فحاول ولكن هيهات. فما كنا نكاد نبدأ تبادل عاطفة حتى ينقلب في لحظة حيوانا، فإذا أجبته إلى حيوانيته رأيته بعدها هامدا باردا منطفئ النظرة لا تلمع عيناه بمعنى ولا يحس لي وجودا. وما كنا نكاد نتبادل حديثا غير حديث مزارعه وأمواله حتى يتثاءب ويعجز عن كتم ملاله. وإذا رآني يوما أعجب بجمال فني: في صورة أتأمل، أو في كتاب أقرؤه، أو في منظر الطبيعة يوحي إلي بجمال الحياة الدائم الجدة؛ وقف مبهوتا، وشعرت أنا به بعيدا وكأن بيني وبينه عوالم وعوالم. فإذا تعلق الأمر بشخصه أو بأمواله أو بشيء يهواه، لمعت حدقتاه، وتحركت في نفسه أثرة قوية لا تعرف حدودا.
بدأ الضجر من أنانيته وضعة نفسه يدس إلى نفسي سمومه. ولست أدري ما كان يصل بي الضجر إليه لولا ما شعرت به من تحرك الأمومة في أحشائي. هنالك ذكرت قول أبي عن واجب المرأة وتناسيت ما كنت أطمع فيه من زوجي، وتناسيت زوجي هو الآخر.
وانصرفت إلى أحلامي بهذه الأمومة التي كنت أزداد بها كل يوم شعورا، وأزداد بسببها نسيانا لما عداها. وأنجبت حساما وجعلت كل همي إلى العناية به. واغتبط زوجي بولده وجعل يغدق عليه بمثل ما كان يغدق علي، فتبتهج نفسي لهذه الملابس الطفلة ولهذه الألاعيب يعبث حسام بها ويحبها حبي أنا إياه. وبدأ الولد يخطو ويتكلم، وبدأت أرجو أن يناله أبوه بالعطف الأبوي الصادق، وأن يفيض عليه من ذلك الحب نورا يشب الولد في أرجاء ضيائه سعيدا بالحياة محبا إياها حبا ذكيا قوي الإدراك سريعه؛ ليكون لي من بعد الرجل الذي أرجو. لكن خيبة رجائي فيما طمعت فيه لنفسي لم تكن دون خيبة هذا الرجاء فيما طمعت فيه لطفلي. لقد كان أبوه يحبه حبا شديدا، لكنه كان حبا حيوانيا؛ هو حب الفطرة التي تدفع الدجاجة لتحنو على فراخها وتدافع عنهم. وكان حبا أنانيا لا شيء من الذكاء فيه. كان يحبه كما يحب عزبته وحصانه وأتومبيله. وليت أنانيته في حب ولده أو فيما يبدي من ميل إليه كانت أنانية مستنيرة تعرف كيف توحي إلى ما تعتقد أنه في ملكها بشيء من معنى الحياة الإنسانية يسمو به إلى ذوق جمال الحياة وإلى السمو في إدراكها، بل كانت على العكس من ذلك أنانية ضيقة الأفق كأنانية الطفل وكأنانية الدجاجة فيها كثير من الحماقة عند الغضب والسخط ومن العطف عند الرضى والانبساط.
دفعت أحوال زوجي هذه إلى نفسي شيئا من الثورة، لكني ألفيته يهز أكتافه لثورتي يحاول تهدئتها بمثل ما يحاول تهدئة طفله إذا صاح: بثوب لي، أو لعبة لطفلي، أو نزهة خلوية يخرج وإيانا إليها علها تهدئ أعصابي على حد تعبيره. والأيام والشهور تمضي ولا أجد وسلية أتغلب بها على طبع زوجي. هنالك بدأت ثورتي تسكن بالرغم مني، ورأيتني أميل إلى ناحية من الأنانية أنا الأخرى، هي ناحية التسلي عن هذه الثورة بما حولي مما أطلق الناس عليه أنه أسباب الرياضة والمتاع. فأكثرت من غشيان دور السينما والمسارح، واستكثرت من الصديقات أبادلهن الزيارات، ونزلت بآمالي ومثلي العليا إلى مستوى البيئة القاهرية، وصدفت عما كنت أصبو إليه من جمال في الحياة لا وجود له فيما حولي، ورضيت كذلك بالحاضر دون أن يغير ذلك من نظرتي إلى زوجي ومن شعوري بأن كل واحد منا بعيد عن صاحبه كل البعد وإن تسايرنا لنقطع طريق الحياة جنبا إلى جنب. وما جوار الأجسام إذا تباعدت الأرواح ولم تهتز القلوب بنبأة من تعاطف أو تفاهم.
في ذلك الحين سكن في أحد المنازل المجاورة لنا قاض كان بالأرياف، ونقل منها إلى القاهرة. ولم يمض على مجاورته إيانا زمن طويل حتى ربط التعارف بينه وبين زوجي، وحتى دعاه زوجي لتناول القهوة عندنا. وأتيح لي غير مرة أن أستمع إلى حديثه وأن أراه ، يا له من حديث كانت تفيض نبراته بالحرارة وكانت تموج عباراته بصور الحياة. كان يقص على زوجي كثيرا مما وقف عليه في مختلف بلاد الريف، فكان يفيض عطفا على أهله وتغنيا بجماله وإشفاقا على بؤس بنيه وأملا في أن ترتفع بهم الأقدار إلى حظ من الإدراك لما حولهم من حسن نادر ومن بهاء وروعة. كنت أسائل نفسي: لم لا يشتغل صاحب هذا الصوت الساحر والبيان العذب بالمحاماة؟ ولم لا يكون خطيبا ولم لا يقول الشعر؟ وتكررت زياراته وتوثقت الصداقة بينه وبين زوجي، فأذن لي بمقابلته: أية رجولة تفيض عنه؟! رجولة فيها طموح وفيها فيض دائم التجدد، رجولة إنسانية مضيئة تدرك من أسرار الحياة ما لا يدركه إلا الإنسان المهذب، تدرك جمال الوجود وما فيه من فن تستخلصه الأجيال الإنسانية وتصوره فتزيد الحياة جمالا، بل تخلق الجمال فيها خلقا. وتحدث إلى زوجي عن الموسيقى، فإذا هو يفهم من دقائقها حظا غير قليل، وجاء معه ببعض كتب في الأدب اطلعت عليها فتحركت نفسي الأولى التي خبت وخمدت تحت سجف الأنانية الجامدة الباردة التي أعداني بها زوجي. هنالك تفتحت أمامي في الحياة فرجة من أمل: لو استطعت أن أصل بولدي ليكون على مثال هذا القاضي، لكانت لي به في الحياة سعادة تنقذني مما صبوت إليه من الإمعان في التسلي بأسباب الرياضة والمتاع التافهة السخيفة التي تحيط بنا في القاهرة وتردني إلى حسن المتاع بأسمى ما في الحياة من صور الحياة.
وأفضيت يوما بذات نفسي إلى زوجي، لعله يشاركني في رجائي ويعاونني على تحقيقه. لكنه لم يلبث أن سمع ما أقول حتى حملق بي وحتى امتقع لونه. ثم عدل عن الموضوع إلى حديث آخر انصرف بعد كلمات قليلة منه: ماذا؟ أي شيء دار بخاطره. ولم أحتج إلى كبير عناء لأفهم، ولم يكتم هو ما في نفسه طويلا، فقد رأيت زيارات جارنا بدأ يتباعد ما بينها، ورأيت زوجي يعمل على زيادة تباعدها بعدم ردها. وسألته يوما وقد انقضت على آخر هذه الزيارات أيام كثيرة أن يرد إلى القاضي كتابا كان قد تركه كي أقرأه، فلم يتمالك زوجي أن انفجر قائلا: وهل يعنيك كثيرا أن يصله هذا الكتاب سريعا؟ أم تريدين بذلك أن أرد له زياراته كي أفتح له بذلك باب زيارته إيانا؟
وصمت، وامتقع لوني حين لفظت شفتا زوجي هذه الكلمات بصوت متهدج. ولم تك إلا برهة حتى انصرف مخافة أن يفيض عنه ما هو شر منها. وخلوت إلى نفسي أفكر: أي وحي مضيء هبط على زوجي. نعم أنا أحب هذا الرجل، أحب جارنا القاضي؛ فهو قريب مني بمقدار بعد زوجي عني. ولكن أي شيء في هذا وأنا زوج وفية كما تريد الزوجية أن أكون؟ ماذا على زوجي إذا أحب قلبي رجلا غيره ما دام جسمي في ملكه وما دمت أسايره في الحياة جنبا إلى جنب، وإن تنافر قلبي وقلبه وبعد ما بين فؤادي وفؤاده؟ ماذا يغضبه أو يثير أنانيته لتعبث الغيرة به كل هذا العبث؟ نعم. أنا أحب هذا القاضي وكنت أتمنى أن أكون زوجا له، لا لهذا الرجل الأجنبي عني، وإن خلط عقد الزواج بين جسمه وجسمي، وإن كان بيننا هذا الولد الذي أحب من أعماق قلبي ويحبه هو من أعماق أنانيته.
وارتسمت صورة جارنا أمامي فثار جسمي كله. ومرت الأيام والبعد يزداد بيني وبين زوجي، وإن لم تتغير معاملتي إياه ولا معاملته إياي. وخرجت يوما لأشتري من أحد الحوانيت بعض حاجتي، فإذا جارنا هو الآخر بالحانوت يشتري بعض حاجته. وما وقعت عيني عليه حتى اهتز كل جسمي وخلتني سأقع من طولي، لكني تمالكت نفسي وأهديته التحية، فتقدم إلي ومد يده وسلم علي. ولما آن أن أخرج عرض علي عربته توصلني إلى حيث أشاء، فترددت برهة ثم رأيتني بالرغم مني أدعوه ليصحبني ... إلى أين! لا أدري. ولكن الأنانية التي أنماها زوجي عندي أرخت العنان لعاطفتي فجعلتها تغلب وفائي من غير أن يزعجني لذلك ألم أو يلذعني وخز الضمير. ومن يومئذ ترعرع بنعمة الحب الصادق وجودي، وتضاعف ضياء الحياة أمام نظري، وصرت أسلس قيادا لزوجي، وشعرت في نفسي بشيء من الإشفاق عليه لم أكن أشعر به من قبل.
ونقل جارنا بعد سنة من القاهرة، فأهداني قبيل سفره صورته. ورأى زوجي هذه الصورة يوما فكاد يثور ثائره لولا ما ظهر على وجهي من غضب مفترس أرانيه مستعدة أن أنشب أظفاري فيه إذا هو حاول أن يمزقها أو يعبث بها أي عبث. وأقسمت لأضعها في إطار ولأجعلنها في غرفة خلوتي. هنالك بدا له أن يأخذني باللين لعلي أثوب إلى صوابي. وأدى به إلى ذلك أني كنت حينئذ في فترة حمل، فكنت مضطربة الأعصاب، وكان يخاف على الإجهاض إن هو أخذني بالعنف. ومن يومئذ طغت أنانيتي على رقته وعلى ملاطفته إياي وإن بقي جسمي في ملكه بمقدار ما بقي روحي جاهلا روحه.
ناپیژندل شوی مخ