فوقف صامتا مليا، وعلى فيه ابتسامة خفيفة تنم عن الإشفاق والقلق، ولما لم يأنس منها اعتراضا أو غضبا تشجع قائلا: أهذا هو استقبالك لصديق قديم؟
فولته كشحها، ومضت ترقى في الدرج، وهي تقول: تفضل.
تبعها صامتا، وقد استنتج من فتحها الباب بنفسها أنها بمفردها في البيت، وأن مكان الجارية جلجل التي ماتت منذ عامين لا يزال شاغرا، تبعها حتى دخلا إلى الدهليز، فعلقت المصباح بمسمار مثبت في الجدار على كثب من الباب، ثم دخلت وحدها حجرة الاستقبال، فأوقدت المصباح الكبير المدلى من السقف - وقد زادته هذه الحركة اطمئنانا إلى استنتاجه - ثم خرجت فأومأت له بالدخول وذهبت.
مضى إلى الحجرة ثم جلس في الموضع الذي كان يجلس فيه في العهد القديم على الكنبة الوسطى، فنزع طربوشه وحطه على النمرقة التي تشطر الكنبة، ومد ساقه وهو يلقي نظرة فاحصة على ما حوله، إنه يذكر المكان كما لو كان لم يغادره إلا أمس القريب، هذه الكنبات الثلاث، وهذه المقاعد، وهذا البساط الفارسي، وهذه الأخونة الثلاثة المطعمة بالصدف، كل شيء كان بصفة عامة كما كان. هل يذكر متى جلس آخر مرة في هذا المكان؟ إن ذكرياته عن بهو الطرب وحجرة النوم أوضح وأثبت، بيد أنه لا يمكن أن ينسى أول لقاء تم بينه وبين زبيدة في هذه الحجرة، في هذا الموضع بالذات! وجملة ما دار فيه، لم يكن أحد يومذاك مثله خلو بال وثقة بالنفس؟ ترى متى تعود؟ ماذا أحدثت زيارته في نفسها؟ إلى أي درجة سيرتفع غرورها؟ وهل أدركت أنه جاء من أجلها هي لا من أجل خالتها؟ إن أخفق هذه المرة فقل عليه السلام.
سمع وقع شبشب خفيف، ثم بدت زنوبة عند الباب في فستان أبيض منمنم بورد أحمر، ملتفعة بوشاح مرصع بالترتر، أما رأسها فحاسر، وأما شعرها فمجدول في ضفيرتين غليظتين استرسلتا على ظهرها، استقبلها واقفا باسما متفائلا بالزينة التي تبدت فيها، فحيته بابتسامة، وأشارت إليه أن يجلس، ثم جلست على الكنبة التي تتوسط الجدار الذي إلى يمينه، وهي تقول بصوت لم يخل من دهش: أهلا وسهلا، أي مفاجأة!
فابتسم السيد متسائلا: من أي نوع يا ترى هذه المفاجأة؟
قالت وهي ترفع حاجبيها في حركة غامضة لم تنم عما إذا كانت ستتكلم جادة أم ساخرة: سارة طبعا.
ما دمنا قد أطعنا أقدامنا حتى جاءت بنا إلى هنا؛ فعلينا أن نتحمل الدلال بكافة أنواعه: ثقيله، وخفيفه.
تفحص جسمها ووجهها - في هدوء - كأنما ينقب فيهما عما لوعه وعبث بوقاره، فساد الصمت حتى رفعت إليه وجهها دون أن ينبس، ولكن في حركة نمت عن تساؤل مشرب بأدب، كأنما تقول له: «نحن في الخدمة.»
فتساءل السيد في مكر: هل يطول انتظارنا للسلطانة؟ ألم تفرغ بعد من ارتداء ملابسها؟
ناپیژندل شوی مخ