ذهب في المساء الموعود إلى العوامة بإمبابة. لم يكن استقر على رأي فيما ينبغي أن يفعل على كثرة ما أدار الأمر في ذهنه. ثم أخيرا، رهن حل مشاكله بيد الظروف والفرص، حسبه أنه ضمن رؤيتها ومجالستها والانفراد بها في آخر الليل، سوف يجس النبض من جديد، وربما أعاد الكرة مستعينا هذه المرة بكافة ضروب الإغراء. دخل العوامة كالوجل، وعلى حال لو رآها على غيره، وحدس بواعثها لأغرقه ضحكا وسخرية. هنالك وجد الإخوان وجليلة وزبيدة، ولكنه لم يعثر للعوادة على أثر. وقد استقبل استقبالا حارا، وما كاد يخلع جبته وطربوشه ويتخذ مجلسه حتى انفجرت القهقهات من حوله فاندمج في جوها بقوة مرونته، حدث ونكت، ومازح وداعب مغالبا قلقه محاورا همه، غير أن مخاوفه كمنت تحت تيار المرح دون أن تتبدد كما يكمن الألم إلى حين تحت تأثير المخدر، وما برح يأمل أن ينفتح باب فتأتي منه أو أن يشير أحد إليها بكلمة تفسر غيابها أو تعد بقرب حضورها، وكلما مضى الوقت متثاقلا متثائبا شحب أمله، وفتر حماسه، وغيم المأمول من صفوه.
ترى أيهما كان الطارئ: حضورها أول أمس، أم تخلفها اليوم؟ لن أسأل أحدا، الظواهر تنم على أن سرك لا يزال مصونا، لو علمت به زبيدة ما تورعت أن تجعل منه فضيحة وجرسة. ضحك كثيرا وشرب أكثر، سأل زبيدة أن تغنيه «أضحك من الفم وأبكي من صميم قلبي»، أوشك مرة أن يخلو بمحمد عفت ليكاشفه بما يريد، أوشك مرة أخرى أن يجس نبض زبيدة نفسها، بيد أنه ضبط نفسه فخرج من أزمته مصون السر والكرامة.
ولما قام علي عبد الرحيم عند منتصف الليل؛ ليذهب إلى رفيقته بوجه البركة، قام معه على غير توقع من أحد ليعود إلى بيته، وعبثا حاولوا أن يثنوه عن عزمه أو أن يستنظروه ساعة، فذهب مخلفا وراءه دهشة، وخيبة للذين حدسوا وراء مجيئه المرسوم ظنونا لم تقع.
ثم كان يوم الجمعة فخرج إلى جامع الحسين قبيل الصلاة بقليل، وإنه ليسير في شارع خان جعفر، إذ رآها عابرة من حارة الوطاويط في طريق الجامع. آه، لم يخفق قلبه مثل تلك الخفقة من قبل، وأعقبها على الأثر جمود شمل حركته النفسية كلها، حتى خيل إليه - فيما يشبه الغيبوبة، وخلافا للواقع - أنه توقف عن السير، وأن العالم من حوله صمت صمت القبور، كمثل السيارة التي تتوقف محركاتها عن الدفع فيخرس أزيزها، ولكنها تسير بقوة القصور الذاتي في سكون شامل، ولما أفاق إلى نفسه وجدها تتقدمه بمسافة غير قصيرة، فتبعها على الأثر دون تدبر أو روية، فمر بالجامع دون أن يعرج إليه، ثم مال وراءها عن بعد إلى السكة الجديدة. ماذا يبغي؟ إنه لا يدري. كان يطيع رد الفعل طاعة عمياء، ولم يكن سبق له أن تعقب امرأة في الطريق حتى ولا في أيام شبابه الأول، فأخذ ينتابه الحرج والحذر، ثم دهمته فكرة ساخرة مفزعة معا: أن يهتك سر المطاردة الخفية، ياسين أو كمال، على أنه حرص على ألا تقصر المسافة بينه وبينها عما كانت عليه مذ بدأت المطاردة، وراحت عيناه ترتويان من هيئة جسمها اللطيف بنهم وظمأ، وهو يستقبل موجات متتابعة من الأشواق والآلام، حتى رآها تعدل عن الطريق إلى دكان صائغ من معارفه يدعى يعقوب. تباطأت قدماه كي يتيح لنفسه فرصة للتدبر، وتضاعف شعوره بالحرج والحذر. ألا يعود من حيث أتى؟ أم يمر بالدكان دون أن يلتفت نحوها؟ أم ينظر إلى الداخل وينتظر ما يحدث؟
كان يقترب من الدكان رويدا، حتى إذا لم يبق بينه وبينها إلا أقدام خطرت له خاطرة جريئة، فاندفع إلى تنفيذها بلا تردد متجاهلا خطورتها، وهي أن ينتقل إلى الطوار، ثم يسير متمهلا أمام الدكان على أمل أن يراه صاحبه فيدعوه كعادته إلى الجلوس فيلبي دعوته. مضى متمهلا فوق الطوار حتى بلغ الدكان، فنظر إلى الداخل كأنما ينظر عفوا، فالتقت عيناه بعيني يعقوب. وإذا بالخواجا يهتف به: أهلا بالسيد أحمد، تفضل.
ابتسم السيد متوددا، ثم عرج إلى الداخل فتصافحا بحرارة. ودعاه الخواجا إلى كوب خروب، فقبل الدعوة قبول الكرام ، وجلس على طرف كنبة جلدية من قبل الخوان المنصوب عليه الميزان، لم يبد عليه أنه فطن إلى وجود ثالث في الدكان حتى جلس فتراءت أمام عينيه زنوبة، وهي واقفة حيال الخواجا تقلب بين يديها قرطا فتظاهر بالدهش، والتقت عيناهما وهو على تلك الحال ... ابتسمت فابتسم، ثم بسط راحته على صدره محييا، وهو يقول: صباح الخير ... كيف حالك؟
فقالت وهي تعاود النظر إلى القرط: بخير ربنا يكرمك.
كان الخواجا يعقوب يعرض استبدال القرط بإسورة مع دفع فرق اختلفا عليه، فانتهز السيد فرصة انشغالها ليملأ عينيه من صفحة خدها، ولم يغب عليه ما في المساومة والاستبدال من فرص تتيح له التدخل بالحسنى، لعل وعسى ... غير أنها قطعت عليه سبيله وإن لم تدر بما أضمر، فردت القرط إلى صاحبه، وهي تعلنه بأنها عدلت نهائيا عن المبادلة، وطلبت إليه إصلاح الأسورة، ثم حيته، وحيت السيد بإحناءة من رأسها وغادرت الدكان. حدث هذا كله بسرعة لم يكن ثمة داع إليها فيما بدا له، فأخذ وانزعج واستحوذ عليه الفتور والضيق. ولبث مع الخواجا يعقوب يتبادلان حديث المجاملات المألوف حتى شرب كوب الخروب، ثم استأذن في الانصراف وذهب. - ذكر في خجل شديد - صلاة الجمعة التي أوشكت أن تفوته، ولكنه تردد في المضي إلى الجامع، لم تواته الشجاعة على الانتقال المباشر من تعقب امرأة وقت الصلاة إلى الجامع، ألم ينقض نزقه وضوءه؟ بل ألم يجعله غير أهل للوقوف بين يدي الرحمن؟ عدل عن الصلاة محزونا متألما فسار في الطرقات ساعة على غير هدى، ثم عاد إلى البيت معاودا التفكير في ذنبه. على أن رأسه - حتى في تلك اللحظات الحساسة المليئة بالندم - لم يغلق بابه دون زنوبة! قال مخاطبا محمد عفت، وكان قد سبق إلى بيته مساء ليخلو إليه قبل توافد الأصدقاء: أريد منك خدمة، أن تدعو مساء الغد زبيدة إلى العوامة.
ضحك محمد عفت، وقال له: إن كنت تريدها فلم هذا اللف والدوران، لو طلبتها أول ليلة لفتحت لك ذراعيها على الرحب والسعة.
فقال أحمد عبد الجواد في شيء من الحرج: أريد أن تدعوها وحدها. - وحدها؟ يا لك من رجل أناني لا تفكر إلا في نفسك، والفار؟ وأنا؟ بل لنجعلها ليلة من ليالي العمر، ولندع زبيدة وجليلة وزنوبة أيضا.
ناپیژندل شوی مخ