وإذا ببدور تمد يدها فجأة فتقبض على أنفه، فأغرقت عايدة في الضحك وهي تميل برأسها إلى الوراء، ولم يملك هو أيضا إلا أن يضحك، ثم سأل بدور مداراة لارتباكه: وأنت يا بدور، هل هالك أنفي؟
وترامى إليهم صوت حسين وهو يهبط سلم الفراندا، فغيرت عايدة من لهجتها فجأة، وقالت له بصوت جمع بين الرجاء والتحذير: إياك أن تزعل من مزاحي.
عاد حسين إلى الكشك، فجلس على كرسيه داعيا كمال إلى الجلوس فاقتدى به - بعد تردد - واضعا بدور على حجره، غير أن عايدة لم تلبث بعد ذلك إلا قليلا فأخذت بدور وحيتهما، ثم انصرفت وهي تلحظ كمال بنظرة ذات معنى خاص، وكأنما تكرر تحذيره من الزعل، لم يجد من نفسه أي رغبة في استئناف الحديث، فاكتفى بالإصغاء أو بالتظاهر بالإصغاء مع المشاركة فيه بين حين وآخر بسؤال، أو تعجب، أو استحسان، أو استهجان؛ لإثبات وجوده ليس إلا، وكان من حسن حظه أن عاد حسين إلى طرق موضوع قديم لا يتطلب انتباها أكثر مما عنده، وهو رغبته في السفر إلى فرنسا، ومعارضة أبيه التي يأمل في التغلب عليها قريبا، أما الذي كان يشغل قلبه وفكره معا فهو ذلك المظهر الجديد الذي تبدت به عايدة في الدقائق التي جمعت بينهما على انفراد أو على شبه انفراد، ذلك المظهر الموسوم بالاستخفاف والسخرية والقسوة ، أجل القسوة! فقد عبثت به بدون رحمة، وأعملت فيه دعابتها كما يعمل المصور ريشته في الخلقة الآدمية ليستخرج منها صورة كاريكاتورية فذة في قبحها وصدقها معا. ذكر ذلك المظهر ذاهلا، ومع أن الألم كان يسري في روحه كما يسري السم في الدم ناشرا فيها ظلا ثقيلا من القنوط والكآبة، فإنه لم يجد في نفسه سخطا، أو غضبا، أو احتقارا له، أليس هو صفة جديدة من صفاتها؟ بلى، لعله أن يكون غريبا كولعها بالرطانة، وشرب البيرة، وأكل لحم الخنزير، ولكنه ككل أولئك صفة منسوبة إلى ذاتها، خليقة بأن تتشرف بهذا الانتساب، وإن عدت في غيرها نقيصة أو استهتارا أو معصية، ولا ذنب لها هي أن نشأ عن صفة من صفاتها ألم في قلبه، أو يأس في نفسه ما دام العيب عيبه هو لا عيبها هي، وهل كانت هي التي كبرت رأسه أو غلظت أنفه؟ أو هل تراها جارت بدعاباتها على الصدق والواقع؟ لم يحدث شيء من هذا فانتفى عنها الملام، وحق عليه الألم، وعليه أن يتقبله بتسليم صوفي كما يتقبل العابد القضاء، وهو أصدق ما يكون إيمانا بأنه قضاء عادل مهما يكن من قسوته، وأنه صادر عن معبود كامل لا مظنة في صفة من صفاته، أو إرادة من إراداته. هكذا خرج من التجربة القصيرة العنيفة التي صهرته منذ دقائق وهو أشد ما يكون ألما وعذابا، ولكن دون أن ينال ذلك من قوة حبه وافتنانه بالحبيب. الساعة يحظى بمعرفة ألم جديد، ألم الرضا بحكم قاس قضى عليه بعدم الأهلية، كما عرف من قبل - عن طريق الحب أيضا - ألم الفراق، وألم الإغضاء، وألم الوداع، وألم الشك، وألم اليأس، وكما عرف أيضا ألما يحتمل، وألما يستلذ، وألما لا يسكن مهما قدم له من قرابين التأوهات والدموع، كأنما أحب ليتفقه في معجم الألم، ولكنه على التماع الشرر المتطاير من ارتطام آلامه يرى نفسه ويعرف أشياء، ليس الله والروح والمادة - فحسب - ما يجب أن تعرفه، ما الحب؟ ... ما البغض؟ ... ما الجمال؟ ... ما القبح؟ ... ما المرأة؟ ... ما الرجل؟ ... كل أولئك يجب أن تعرف أيضا، أقصى درجات الهلاك تماس أولى درجات النجاة، اذكر ضاحكا أو اضحك ذاكرا أنك هممت بالإفضاء إليها بمكنون سرك. اذكر باكيا أن أحدب نوتردام ملأ حبيبته رعبا وهو يحنو عليها مواسيا، وأنه - أحدب نوتردام - لم يستثر عطفها البريء إلا وهو يلفظ آخر أنفاسه الأخيرة، «إياك أن تزعل من مزاحي!» حتى راحة اليأس تضن بها عليك، فليفصح المعبود عن ذات نفسه علنا نخرج من جحيم الحيرة، ونطمئن في قبر اليأس، هيهات أن يقتلع اليأس جذور الحب من قلبي، ولكنه على أي حال مناجاة من كواذب الآمال!
والتفت حسين نحوه ليسأله عن سر صمته، ولكنه لمح - فيما بدا - شخصا قادما، فأدار رأسه ثم هتف: ها هو حسن سليم قد أقبل، كم الساعة الآن؟
فالتفت كمال إلى الوراء، فرأى حسن مقبلا نحو الكشك.
19
غادر حسين وكمال سراي آل شداد والساعة تدور في الواحدة، وهم كمال بافتراق عن صاحبه أمام باب القصر، ولكن الآخر قال له برجاء: هلا تمشيت معي قليلا من الوقت.
فلبى كمال الدعوة عن طيب خاطر، وسارا في شارع السرايات جنبا إلى جنب ... كمال بقامته الطويلة، وحسن لا يكاد يبلغ رأسه منكب صاحبه، لم يكن يخلو من تساؤل! خاصة وأن الوقت لم يكن أنسب الأوقات للمشي الذي ليس وراءه هدف، وما يدري إلا وحسن يلتفت إليه متسائلا: فيم كنتما تتحدثان؟
فأجاب كمال وهو يزداد تساؤلا: في أمور شتى كالعادة، سياسة ... ثقافة ... إلخ.
فكانت مفاجأة حقا أن يقول له بصوته الهادئ المتزن: أعني أنت وعايدة.
ناپیژندل شوی مخ