أما الحكومة العراقية فقد كان موقفها، خلال هذه المدة، موقف المطالب المساوم، فكانت سياستها تارة حزبية وطورا وطنية، حينا سلبية وحينا إيجابية. بل يجوز أن نقول: إن موقفها في الغالب، على اختلاف وزاراتها العشر، كان ضمنا في الأقل موقف المعارضة. فما أذعنت مرة للحكومة البريطانية، في أمر من الأمور الجوهرية، قبل أن أعدت العدة لتجديد المقاومة، وهي تستكشف موقف المعارضة لتنتفع به. وبكلمة أخرى كانت تستعين بخصومها الوطنيين على خصومها الإنكليز. أما في المقاومات الشديدة فقد كان يضطر رئيس الوزارة أن يستعفي، كما فعل جعفر العسكري مثلا سنة 1927 وعبد المحسن السعدون في سنة 1929.
ولا بد من القول: إن المعارضة - الأصلية - غير الحكومية - كانت على الإجمال تعمل بمعنى اللفظة الحرفي؛ أي إنها كانت تعارض مبدئيا على طول الخط. ولا تزال كذلك في أكثر الأحيان هي إذن قوة سلبية تضعف في المناورات السياسية، والبهرجات الوطنية، وتترزن، فتصلب، فيخشى جانيها في المواقف الوطنية الخطيرة.
ومن ذلك مسلكها القويم الشريف في ثلاث مسائل جوهرية، فقد حاربت الانتداب، ورفضت كل معاهدة عقدت عهد الانتداب، وقاومت كل المحاولات لتأسيس حكومة من المستشارين والموظفين البريطانيين، بانتداب أو بغير انتداب، تنكسف إلى جانبها الحكومة العراقية. في هذه السياسة السلبية كانت المعارضة ذات فضل جم. وقد اشتركت والحكومة بعمل واحد إيجابي، هو السعي لدخول العراق في عصبة الأمم. فإذا حصرنا النظر في هذه الأمور توجب علينا أن نقول: إنها سديدة الخطة، شريفة النزعة، وإنها من هذا القبيل في مستوى واحد والمعارضة في بريطانيا وفي غيرها من الدول الراقية.
بيد أن المعارضة العراقية لا تنظر بالعين الواحدة إلى تطور العراق، ووضعيته الحاضرة. فهناك حزب يسقط من أهمية هذا التطور، وحزب لا يرى فيه شيئا مهما أو نافعا. وما أهمية العضوية في عصبة الأمم، وما الفائدة منها؟ إني أشارك المعارضة في هذا السؤال. ولكني أذكرها أن ما أحد من الحكوميين أو من المعارضين حسب دخول العراق في عصبة الأمم خطوة كبيرة مهمة. وإن كانت كذلك فلكونها خطوة لغرض أكبر وأهم، هو إلغاء الانتداب.
وقد ألغي الانتداب، وحلت محله معاهدة لخمس وعشرين سنة، والمعارضة لا تزال تحتج، ولا تزال تعارض. بل هي تحسب نفسها في بداءة الجهاد مرة ثانية؛ لأنها ترى في معاهدة سنة 1930 شبيها بالانتداب، بل شرا منه. فالذي يقرأ المعاهدة فقط يقول إن المعارضة متعنتة متعسفة. ولكنه بعد أن يقرأ الملحق يرى في موقفها ما يبرر الحذر والخوف.
وثمة ذيل للملحق هو من الأهمية بمكان. قرأت الوثائق الثلاث قراءة المتعلم علما جديدا، فذكرتني بقصة البدوي وجمله.
أضاع بدوي جملة فاستجار بالله ثم نذر قائلا: إن أرجعت لي جملي، ربي، بعته بدرهم. وبعد أيام وجد البدوي جمله، ففكر في ما قال؛ إذ كيف يبيع جمله، وهو زين الجمال، بدرهم واحد؟ راح إلى الإمام يعرض الأمر ويستشيره. فأطرق الإمام، ثم أزاح عمته ومسح جبينه، وقال: إن الله سبحانه وتعالى يريد خلاصك وخلاص جملك عن يدي، فاسمع، فسمع البدوي مستبشرا، وجاء بهر فربطه بذنب الجمل، ونزل به إلى السوق ينادي: الجمل بدرهم والهر بألف، وبيع الاثنين معا! كما علمه الإمام. فقال الناس مدهوشين معجبين: ما أحسن هذا الجمل، وما أرخصه، لولا ذاك المعلق بذنبه!
إن في ذنب المعاهدة هرين بدل الهر الواحد. وما هما - أي الملحق وذيل الملحق - من بنات فكر عابث ولا هما بدعة من بدع الخيال. إنما هما جزءان كريمان سويان مكملان للمعاهدة، ولا يستحيل تفسيرهما والدفاع عنهما. فالسر فرنسيس همفريس آخر مندوب سام، وأول سفير بريطاني في العراق، هو أحد أبوي المعاهدة، فخليق به الشرح والتفسير.
قال السر فرنسيس يحدث المؤلف: إننا نرحب بالانتقاد العادل وبالمؤازرة، ولا نريد أن نكون دائما مستشارين. بل نرغب بالمشورة والنصيحة لخير العراق وخيرنا، فنحسن السياسة في السنين التي يجب علينا نحن والعراقيين أن نجتازها معا. أما المعارضة فهي مفيدة متى كان رائدها العقل والنزاهة، وغرضها البناء لا التدمير. ولكنها في مقاومة المعاهدة بعيدة على ما يظهر عن الاثنين. خذ القوة الجوية. نحن نريدها في العراق لسببين، الأول هو مساعدة العراق داخلا، في قمع الفتن مثلا، والثاني هو مشاركة العراق في الدفاع عن حدوده. وسنساعده في إنشاء وتنظيم سلاح الطيران، فيصير لديه بعد خمس سنوات قوة جوية عراقية. الهنيدي هي اليوم لنا، وستصبح بعد خمس سنوات للعراق. سنعطيه إياها بخسارة ثلث قيمتها الأصلية. أما الدفاع عن حدود العراق، إذا اعتدي عليه من الجهة الشمالية مثلا، فهو أهم من مساعدتنا له في شئونه الداخلية. وإن وجود القوات البريطانية الجوية في العراق لازم لذلك. فمن أصعب الأمور أن ننقل جيشا بمعداته الكاملة من البصرة إلى داخل البلاد، ثم إلى الحدود الشمالية. هي طريقة قديمة وبطيئة وكثيرة النفقات. أما، ومركز الطيران موجود، فيمكننا أن نجلب القوات اللازمة للدفاع بوقت قصير - بالطائرات - من مصر أو من لندن .
قلت: وهل القوات الجوية البريطانية في العراق لخير العراق فقط؟
ناپیژندل شوی مخ