إن ليوبولد دوق النمسا العظيم هو أول أمير تنصب على بلاد النمسا، والذي نصبه عليها إمبراطور جرمانيا لقرابة بينهما، وقد اشتهر هذا الدوق في التاريخ بأنه قبض على ريكارد ملك الإنكليز وهو راجع إلى بلاده متخفيا وسجنه زمانا طويلا ولم يخرجه من سجنه إلا بعد أن فدى نفسه بمال كثير وتوسط أمره الحبر الروماني وملوك أوروبا. وكان طويل القامة قوي البنية جميل المنظر أشقر الشعر، ولم يكن من أهل السياسة والنظر، ولا من أهل الطمع والدسائس، ولكنه كان ضعيف الرأي كثير الغرور، يضيع حقوقه بإهماله ثم يطالب بها حينما تفوت الفرصة ويتعذر عليه نوالها، وكان يشعر من نفسه بذلك ويقول: «إنه غير كفء للمنصب الذي هو فيه.» ولما انضم إلى الصليبيين حاول أن يصادق ريكارد ملك الإنكليز فلما رأى ريكارد أنه أشجع منه وأقدر، استخف بصداقته، ولا سيما لما رآه نهما في الأكل محبا للخمر. فاغتاظ الدوق من ذلك وأبغض ريكارد بغضا شديدا. ويقال إن فيليب ملك فرنسا سعى في إلقاء النفرة بينهما؛ لأنه كان مغتاظا من إقدام ريكارد واعتداده بنفسه.
ثم سعى مركيز منسرات بتوسيع الخرق فمضى إلى محلة الدوق، وأخذ معه خمرا قبرصية مدعيا أنه أتى ليقابلها بالخمر المجرية، فدعاه الدوق إلى الطعام وقام له بحق الضيافة.
وكان الجرمانيون محافظين على بعض عوائدهم القديمة، فيملئون محل المائدة بالندماء والشعراء والأقزام وهم وقوف خلف أسيادهم يضحكون ويمرحون ويشاركونهم في شرب الخمر، حتى كأن المائدة في خان لا في خيمة الملك! وكان الدوق يأكل من صحاف الفضة ويشرب من كئوس الذهب، والذين يقدمون له الطعام من أشراف البلاد، وهم يقدمونه ركعا على ركبهم، وكان متسربلا بحلة ملكية مبطنة بفراء القاقم ولابسا تاجا مرصعا بالجواهر الكريمة، وفي رجليه حذاء من المخمل وتحتهما كرسي من الفضة النقية. فأجلس المركيز عن يمينه إجلالا له، ولكن أكثر كلامه كان مع نديمه ومهرجه. وكان هذان الرجلان واقفين بجانبه يتناوبان الأقوال الحكمية والهزلية والمجونية فيقهقه لها الدوق، ثم يلتفت إلى المركيز ليرى تأثير كلامهما فيه. وكان المركيز يتظاهر باستحسانه كل ما يقولان، ويترصد فرصة للكلام في الموضوع الذي جاء لأجله، فلم يطل الوقت حتى ذكر المهرج اسم الملك ريكارد - وكان من عادته أن يتخذه موضوعا للهزل والتهكم - فقال المركيز: «يجب أن نكرم من يستحق الكرامة، وقد نال ريكارد ما يستحق وزيادة؛ لأن الجميع يتغنون بمدحه، أفلم ينظم أحد منكم شيئا في مدح أميركم المعظم؟ ...» فلم يتم كلامه حتى تقدم ثلاثة من المغنين بأعوادهم ليتغنوا بمدح أميرهم، فسكتهم النديم وجعل ينشد باللغة الجرمانية ما ترجمته:
من للرياسة والسياسة والحجى
من قائد الأقيال في يوم القتال
من فارس الفرسان في يوم الوغى
من قاهر الأبطال في يوم النزال
فاعترضه المهرج، وقال: «بين لنا أنك تريد بذلك أميرنا المبجل.» فقال:
إن تسألوا أستريا ماذا جرى
حتى يرى علمها يعلو العوال
ناپیژندل شوی مخ