الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
ناپیژندل شوی مخ
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
ناپیژندل شوی مخ
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
الخاتمة
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
ناپیژندل شوی مخ
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
ناپیژندل شوی مخ
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
ناپیژندل شوی مخ
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
الخاتمة
قلب الأسد
قلب الأسد
تعريب
يعقوب صروف
الفصل الأول
زحف الإفرنج منذ سبعمائة سنة زحفة ثالثة على بلاد الشام لاستخلاصها من قبضة المسلمين. وحدث أن فارسا من فرسانهم ذهب إلى غور الأردن لمهمة لهم، فلما دنا من البحر الميت خطر له ما فعل الله بسدوم وعمورة والمدن المجاورة لها حين عصته قديما؛ فأمطر عليها نارا وكبريتا من السماء وشق الأرض ودحرها فيها، ثم أجرى على آثارها مياه البحر الميت فلم يزل آية من آيات الله في مرارة مياهه وخلوها من الأحياء. ولما تذكر ذلك كله اقشعر بدنه وارتعدت فرائصه. وكانت الشمس قد تكبدت السماء أو كادت وأرسلت أشعتها كالسهام المحرقة.
ناپیژندل شوی مخ
بيوم من الشعرى يذوب لعابه
أفاعيه في رمضائه تتململ
فخيل له أن الجحيم فتح فاه فاستعرت الأرض بلظاه، ولولا رداء رث كان ملتحفا به فوق أسلحته لأعياه حر الهواء، وأضناه وهج الصحراء، وكان على الرداء صورة نمر رابض وهي شعار عائلته، وكانت مرسومة أيضا على ترسه وأسلحته، ولكنها تثلمت من ضرب السيوف ووقع السهام، وكأن الطبيعة التي أفرغت أعضاء هذا الفارس في قالب القوة والبأس منحته بنية لا يضنيها التعب ولا يتغلب عليها تقلب الأقاليم. وكانت أخلاقه نظير بنيته، فجعل الحزم له شأنا والثبات ديدنا وهذا الذي ميز أهل الشمال على غيرهم من الشعوب وبوأهم أرائك الملك في أوروبا كلها.
ولم يأت هذا الفارس من بلاده بمال كثير، ولذلك نفد ماله سريعا ولم تسمح له نفسه الأبية أن يغتصب أموال السكان ولا أن يفدي أسراه الذين كان يأسرهم بالمال كما فعل غيره من الفرسان؛ ولذلك هجره رفاقه ولم يبق معه إلا رجل واحد وهو الذي كان يحمل له سلاحه، وكان مريضا في ذلك الوقت، فاضطر الفارس أن يسير وحده في تلك القفار ولسان حاله يقول:
إذا اعتاد الفتى خوض المنايا
فأهون ما يمر به الوحول
وكان يعلم أن في طريقه نبع ماء وبجانبه أشجارا من النخيل، فلما صار بمرأى منها حباها تحية العطاش للماء الزلال منتظرا دنو وقت الراحة، وكأن جواده علم ذلك فصر أذنيه وحمحم وأسرع في عدوه. ولكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن؛ لأن هذا الفارس لم يلبث أن رأى النخلات حتى رأى بجانبها شبحا يتحرك، ثم رآه يقترب نحوه ولم يكن إلا هنيهة من الزمان حتى انجلى عن أمير من أمراء المسلمين راكب فرسا عربيا يسابق الرياح وبيده رمح قد سدده نحو الفارس يريد أن يختطف به روحه، فتربص في مكانه لأن التجارب علمته أن مطاردة الخيول العربية ضرب من الحماقة، وكأن الأمير لحظ ذلك ورأى خصمه راغبا عن الكر والفر، فدنا منه حتى صار على قيد رمحين، ثم دار حوله دورتين لكي يجد منه مقتلا غير حريز فيطعنه فيه، فكان الفارس يدور معه كيفما دار حتى أعيت الأمير الحيل، فأبعد عنه رمية سهم ثم انقض عليه كالعقاب، فرآه مستعدا له متأهبا لملاقاته.
فأوسع في عرض البيداء ثم انقض عليه ثالثة كصاعقة منقضة من السماء، فابتدره الفارس برمح قناته كالسارية رشقه به رشقا قاصدا رأسه، فاستلقى الأمير الرمح بترس له من جلد الكركدن فرجع الرمح عنه خائبا، ولكنه لم يستطع الثبات على ظهر جواده من عنف الضربة وثقل الرمح فوقع على الأرض، ولم يصل إليها حتى وثب إلى ظهر جواده وأبعد عن خصمه متعوذا من شره، ثم أوتر قوسه وجعل يرميه بالنبال حتى رماه بست أصابته كلها، ولكنها لم تأته بمكروه؛ لأنه كان غائصا هو وجواده في الحديد والزرد النضيد، ثم رماه بسهم سابع أصاب منه مكانا غير حريز، فسقط على الأرض مجندلا. فأسرع الأمير وترجل ليرى ما حل بخصمه، فلم يشعر إلا وهو قابض على نجاد سيفه وسير جعبته يحاول أن يصرعه بقوة ذراعه، فقطع الأمير بنود السيف وسير الجعبة وتملص منه واستوى على ظهر جواده، والتفت إليه قائلا: «نحن وإياكم في هدنة، وقد خبرت قوتي وخبرت قوتك، فهلم نتصالح ونتصاف.» فقال الفارس: «لا أكره الصلح إذا كان لي منك ما آمن به غدرك.» فقال الأمير: «ليس الغدر من شيمنا؛ لأن الشجاعة والغدر لا يجتمعان في إنسان.» فندم الفارس على ما فرط منه وقال له: حسبي. وأقسم أنه لا يغدر به ما دام في رفقته، فأقسم الأمير له كذلك، ثم جريا معا نحو الينبوع ليبردا غليلهما ويستظلا من حر الظهيرة.
الفصل الثاني
لم تخل أوقات الحرب والعدوان من أويقات يتسلط فيها الأمن وينشر السلم لواءه، حتى في العصور التي كان لسان الحال يقول فيها:
ناپیژندل شوی مخ
المجد في صهوات الخيل مطلبه
والعز في ظبة الصمصامة الخذم
ولهذا كان عرب الجاهلية ينزعون أسنة رماحهم في الشهر الحرام وينقطعون عن الحرب والصدام. وكانوا هم وغيرهم من الأمم يتهادنون إذا ملوا من ضوضاء الحروب ليتبصروا في إطفاء نارها. وكان الخصوم يلتقون اليوم في ميدان الوغى، ثم يتهادنون في الغد ويتصافون ويقيمون على ولاء وتصاف إلى أن تنقضي أيام الهدنة، فيعودون إلى المبارزة والمناجزة.
وكانت أخلاق العرب والإفرنج في العصر الذي حدثت فيه الحوادث التالية قد تدمثت باختلاطهم بعضهم ببعض في الشام والأندلس، وانتشر بينهم حفظ الذمام ورعاية العهود، فإذا تهادنوا أبعدوا الغدر عن خيامهم واعتصموا بالمروءة والشهامة إلى أن تنقضي أيام الهدنة، وعلى ذلك سار الأمير والفارس نحو الينبوع وكل منهما آمن غدر رفيقه. وكان فرساهما متعبين من المجاولة، وأشدهما تعبا فرس الفارس الإفرنجي؛ لأنه لم يكن معتادا على الحر ولا على المشي في الرمال، فترجل عنه وقاده بلجامه، فالتفت إليه الأمير وقال له: «نعم ما تفعل؛ لأن جوادك كريم لا يحسن التفريط فيه، ولكن ما هذا الجواد لمثل هذه الرمال، ألا تراه يغوص إلى الوصيف في كل خطوة يخطوها؟» فاغتاظ الفارس من كلامه وطعنه على جواده، وقال له: «إن هذا الجواد قد سار بي فوق بحار أوسع من هذا البحر، ولم تبتل شعرة من قوائمه.» فرمقه الأمير بعين المرتاب وقال له: «صدق المثل القائل: «أصغ إلى الإفرنج تسمع الغرائب».» فحملق الفارس فيه وقال: «أترتاب في قول فارس مجرب؟ ولكن لا عتب عليك؛ فإنك تجهل حقيقة قولي، ولولا ذلك لانقضت مدة المهادنة بيننا، فاعلم أنني أنا وخمسمائة فارس سرنا على الماء بخيولنا أميالا عديدة وكان الماء جامدا كالبلور؛ لأنه كما أن الحر يلطف التراب في هذه البلاد حتى يصير سهل الانهيار كالماء، فالبرد يجمد الماء في بلادنا حتى يصير صلبا كالصخر، ولكن دعنا من هذا الحديث لأن ذكر بحيرات بلادي يهيج أشجاني ويشدد علي وطأة الحر في هذه القفار.» ثم وصلا إلى الينبوع فأشغلهما طلب الراحة عن استطراد الكلام.
من غرائب الله في خلقه أن ترى رجلا صالحا بين قوم أثمة، كما كان صالح في ثمود. ولكن ما ذلك بأغرب من وجود هذا الينبوع في تلك القفار، والظاهر أن عين البشر اكتشفته لما كانت البلاد في بسطة من العيش، فبنوا عليه قبة لكي لا يجف بحر الشمس ولا تسفي الرياح الرمال عليه. وقد تشعثت هذه القبة وتهدم بعضها، ولكن بقي منها ما يقيه من أشعة الشمس وثوران الرمال، والماء يصب من الينبوع في جرن من المرمر خدشته مخالب الدهر، ولكنه لم يزل شاهدا على أن كثيرين من أبناء السبيل قد ارتشفوا من مائه، ثم يجري من الجرن فيسقي ما حوله من النخل والنبات، فيجعل تلك البقعة جنة في جهنم الصحراء.
ولما بلغ الفارسان الينبوع نزع كل منهما لجام فرسه وسرجه وسقاه وتركه يرعى في ذلك المرج، ثم شربا وجلسا على بساط من العشب، وأخرج كل منهما مزوده وجعل يأكل وينظر إلى رفيقه ويتأمل في بنيته ليعلم مقدار قوته.
وكان الفارس الإفرنجي طويل القامة ضخم الأعضاء، أشقر الشعر أجعده، أبيض الوجه أحمره، أزرق العينين واسعهما، كبير الشاربين محلوق اللحية، دقيق الأنف صغير الرأس، تلوح على وجهه أمارات الشهامة والأنفة وعزة النفس. وكان الأمير العربي فوق الربعة في القامة، صغير العضل مجدوله، خاليا من آثار الترهل، كأنه عظم وعصب، أسود الشعر أجعده، مشحوذ اللحية دقيق الأنف، أسمر اللون أسود العينين براقهما، على وجهه أمارات المهابة وعلو الشأن.
وكان طعام الفارس من لحم الخنزير المقدد، وشرابه من النبيذ المعتق. وطعام الأمير من الخبز والتمر، وشرابه من الماء القراح. فالتفت إلى الفارس وقال له: «لا يحسن بمن يحارب حرب الأبطال أن يأكل طعام الوحوش، فلو وقف بك يهودي لاشمأزت نفسه من رؤية هذا الطعام الذي تلتهمه كأنه من سدرة المنتهى.»
1
فعجب الفارس من هذا الكلام وقال له: «إننا - نحن معاشر النصارى - لنا من الحرية ما ليس لليهود.» قال ذلك وكرع كرعة من الخمر. فقال الأمير: «أتأكل كالوحوش وتشرب ما تعاف الوحوش شربه وتدعو ذلك حرية؟!» فقال الفارس وقد قدحت عيناه الشرر: «اعلم أيها الغبي أن عصير الكرمة يفرح قلب الإنسان، وينفي عنه الهموم والأحزان، فمن استعمله بالاعتدال يشكر الله عليه، كما يشكره على الخبز الذي لا غنى عنه.»
ناپیژندل شوی مخ
فوضع الأمير يده على قبضة حسامه وهم باستلاله، ولكنه عاد فذكر قسمه وقوة خصمه، فترك الحسام وعاد إلى الكلام، فقال: «اعلم يا هذا أن الشريعة التي تفتخر أنت بأنها أعتقتك من نير الناموس قد قيدتك بقيود لا يتقيد بها العبد الذليل، وأي قيد أشد من أن يرتبط الرجل بامرأة واحدة مهما كانت أطوارها، ويضطر أن يساكنها مدى الحياة؟! أما نحن - معاشر المؤمنين - فقد حررنا نبينا بحرية إبراهيم أبينا، وأباح لنا التمتع بما ملكت أيماننا.»
فقال الفارس: «وحق مالكة فؤادي إنك في ضلال مبين. ألا تباهي بهذه الجوهرة التي في خاتمك؟!» فقال الأمير: «كيف لا أباهي بها وهي يتيمة بغداد والبصرة؟!» فقال الفارس: «أحسنت، ولكن لو ضربتها بمطرقة حتى تكسرت كسرا صغيرة ما كان لكل قطعة منها قيمة كما لها، ونحن يقف الواحد منا محبته على امرأة واحدة، فتبقى المحبة سليمة كالجوهرة، وأما أنتم فتنقسم محبتكم بين نسائكم.»
فقال الأمير: «لقد أسأت التشبيه؛ فإن هذه الجوهرة محاطة بجواهر أخرى أصغر منها كما ترى، فهي بمثابة الرجل والجواهر الصغيرة التي حولها بمثابة نسائه، فهو رأسهن وهن تزداد قيمتهن بانضمامهن إليه.» فقال الفارس: «لو رأيت نساءنا ما نطقت بمثل هذا الكلام؛ فإن جمالهن يثقف رماحنا، ويحدد سيوفنا، فباسمهن نحارب ومن أجلهن نتجرع كأس الحمام كأنها كأس الحياة، وما من فارس من فرساننا اشتهر بين أقرانه إلا وله حبيبة يحارب من أجلها.»
فقال الأمير: «قد سمعت كثيرا عن هذا الجنون الشائع بين فرسانكم، وما هو إلا من نوع الجنون الذي جاء بكم إلى هذه البلاد، وكنت أود أن أرى هؤلاء الجميلات اللواتي يختلبن قلوب الرجال ويصيرنهم أبطالا في مواقف القتال.»
فقال الفارس: «لو لم أكن ذاهبا في هذا الطريق لأخذتك إلى ريكارد ملك الإنكليز الذي يكرم كل شجاع، ولو كان من ألد أعدائه، وأريتك هنالك جمال نساء فرنسا وبريطانيا الذي يفوق بهاؤه بهاء هذه الجوهرة، كما يفوق نور الشمس نور الحباحب.»
فقال الأمير: «هلم معي إلى ملك الإنكليز، ولا تلق بنفسك في التهلكة؛ لأن الطريق الذي أنت فيه كثير المخاطر، ولا سيما إذا لم يكن معك إجازة من السلطان.»
فقال الفارس: «وما أدراك أن ليس معي إجازة؟» ثم أخرج رقعة من جيبه عليها ختم صلاح الدين سلطان مصر والشام. فتناولها الأمير من يده وقبلها ووضعها على رأسه ثم ردها إليه، وقال: «لقد أخطأت إذ لم ترني هذه الإجازة حالما التقيت بك.»
فقال الفارس: «إنك قابلتني مشرعا رمحك، وأنا لو هجمت علي كتيبة من كتائبكم كما هجمت أنت ما لاق بي أن ألتقيها بغير الحسام والقنا.»
فقال الأمير: «مهلا يا صاح، فإن واحدا من الكتيبة قد صدك عن مسيرك.» فأجابه الفارس: «نعم، ولكن هذا الواحد نادر المثال.»
فانشرح صدر الأمير وقال: «لقد أنصفتنا، فالحمد لله أننا لم نتمكن من إراقة دمك، وأنت حامل أمر ملك الملوك بيدك، وإلا لكان القتل جزاءنا لا محالة.»
ناپیژندل شوی مخ
فقال الفارس: «يسرني أن أراكم تحترمون أمر السلطان هذا الاحترام، فقد بلغني أن في الطريق قبائل كثيرة شأنها القتل والنهب.» فقال الأمير: «إذا نابك مكروه من هؤلاء القبائل زحفت عليهم بخمسة آلاف فارس وقطعت دابرهم.» فشكره الفارس، وطلب إليه أن يهديه إلى مكان كان يريد المبيت فيه. فقال الأمير: «أنت ضيف علي، ولا بد من نزولك في خيمة أبي.» فأجابه الفارس: «كلا، فإني عازم أن أبيت عند رجل ناسك في مكان يقال له عين جدي.» فقال الأمير: «أنا أمضي معك إلى هذا الناسك.» فقال الفارس: «أخاف أن تعلم بمقره فلا يسلم من شركم.» فأجابه الأمير: «اعلم يا هذا أن كل من رعى ذمامنا من أهل ذمتنا رعينا ذمامه طبقا لسنتنا، ولكن من حمل الناس على حربنا حملنا عليه بخيلنا ورجلنا، وحكمنا فيه سيوفنا.»
الفصل الثالث
لما ارتاح الفارسان من مشقة الطريق وفرغا من الطعام، ألبسا فرسيهما عدتيهما وتعاونا على لبس سلاحهما، ثم شرب الفارس وقال: «حبذا لو علمت اسم هذا الينبوع؛ لأنني لم أر مثل مائه لتبريد ظمأ العطاش.» فقال الأمير: «اسمه عندنا درة القفر.» فقال الفارس: «نعما، فقد وافق الاسم المسمى.» ثم ركبا فرسيهما وانسابا في تلك الفيافي، وكانت الشمس قد مالت عن الزوال وخفت وطأة الحر. فالتفت الأمير إلى رفيقه وقال له: «سألتني عن اسم الينبوع، أفلا يليق بي أن أسأل عن اسم من شاركني اليوم في السراء والضراء؟!» فقال الفارس: «إن اسمي لا يستحق أن يشهر الآن، ولكن إذا كان لا بد لك من معرفته فهو وليم صاحب النمر الرابض، هذا هو الاسم الذي أدعى به بين الجنود، وأما في بلادي وبين قومي فلي اسم آخر وألقاب أخرى. وأنت من أي قبائل العرب تكون؟ وما هو اسمك بين قومك؟» فأجاب الأمير: «أنا لست من العرب بل من الأكراد، واسمي شيركوه (أي أسد الجبل).»
فتأمله الفارس ثم قال له: «بلغني أن سلطانكم صلاح الدين كردي الأصل أيضا، فهل ذلك صحيح؟» فأجاب الأمير: «نعم، وذلك فضل من الله علينا؛ فقد شرف جبالنا حتى أخرج منها من عقد النصر باسمه. وأنت بكم من الرجال خرجت من بلادك؟» فقال الفارس: «بعشرة فرسان وخمسين راميا، وهذا كل ما بلغت إليه مقدرتي ومعونة أصدقائي، ولكن لم يبق معي إلا رجل واحد والبقية فارقوني قتلا وموتا وهجرا.»
فنظر إليه الأمير متعجبا وقال: «هو ذا خمسة سهام في جعبتي، فإذا أرسلت سهما منها إلى خيامي خرج إلي ألف فارس، وإذا أرسلت سهما آخر خرج إلي ألف آخر، وهكذا إلى السهام الخمسة. وإذا أرسلت قوسي خرج إلي عشرة آلاف فارس. فكيف أتيت بخمسين رجلا لتتغلب على بلاد أنا من أقل حماتها؟! بل كيف تأمن لي دمي في معسكر قومك وأنت لا مال معك ولا رجال؟!»
قال الفارس: «إذا نال الواحد منا رتبة فارس، أو كان من الأشراف ساوى الملك مرتبة في كل شيء إلا الملك. فلو أن ريكارد ملك الإنكليز نفسه أهان فارسا منا، ودعاه ذلك الفارس إلى المبارزة لاضطر أن يبارزه.»
فقال الأمير: «أود أن أرى كيف تعطون الواحد منطقة من جلد ومنخاسين فيتساوى مع ملوك الأرض؟» (أشار بذلك إلى الوسم بسمة الفرسان الذي كان يوسم به أبطال الإفرنج.)
فقال الفارس: «اعلم أنه لا ينال هذه الرتبة إلا من كان حرا باسلا.» فقال الأمير: «أيستطيع بهذه الرتبة أن يرى نساء أسياده وبناتهم؟» أجاب الفارس: «نعم، ويحق لكل فارس أن يهوى أية أميرة كانت، ولو من بنات الملوك، ويقف لها سيفه وشهرته وعواطف قلبه.» فقال الأمير: «يظهر لي أنك علي الهيام، فهل لك أن تبوح لي باسم التي أنت هائم بها؟»
فاحمر الفارس خجلا وقال: «ما الإباحة من مذهبي، وحسبك أن تعلم أني علي الهيام كما قلت، فإذا أردت أن تزيد علما عن الحب والهيام فادخل مخيم الصليبيين تسمع ما يلذ به مسمعك وتر ما يقر به ناظرك:
تر الظبي خاطرات في معالمنا
ناپیژندل شوی مخ
والأسد تحمي الحمى بالبيض والسمر»
فلما سمع الأمير هذا الكلام، قال: «حبذا الأسد وحبذا البيض والسمر.» ثم ترنح طربا وأنشد قول عنترة العبسي:
أحن إلى ضرب السيوف القواضب
وأصبو إلى طعن الرماح اللواعب
ويطربني والخيل تعثر بالقنا
حداة المنايا وارتهاج المواكب
وضرب وطعن تحت ظل عجاجة
كجنح الدجى من وقع أيدي السلاهب
لعمرك إن المجد والفخر والعلى
ونيل الأماني وارتفاع المراتب
ناپیژندل شوی مخ
لمن يلتقي أبطالها وسراتها
بقلب جسور عند وقع المضارب
ويبني بحد السيف مجدا مشيدا
على فلك العلياء فوق الكواكب
وكان للفارس سنتان في بلاد الشام، فكان يفهم كلام العرب وأشعارهم، فقال للأمير على سبيل المزاح: «ذكرت السيف والرمح ولم تذكر فأس الحرب، فلو رأيت فأس الملك ريكارد ما ذكرت غيرها من أدوات الحرب والجلاد.»
فقال الأمير: «طالما سمعت عن هذا الملك، فهل أنت من رعيته؟»
فأجاب الفارس: «أنا من رفاقه في هذه الحملة ومن خدمه أيضا، ولكني لست من رعيته مع أني مولود في جزيرته، بل أنا من الشعب الاسكتسي.» فسأله الأمير: «أيملك عليكم ملكان في جزيرة واحدة؟» فقال: «نعم، والحرب بين هذين الملكين لا ينطفئ سعيرها، ولكنهما يد واحدة على العدو، ولذلك خرجنا معا لنخلص هذه البلاد من أيديكم.»
فقال الأمير: «يمين الله إنكم لفي ضلال مبين، وإني لأعجب من هذا الملك، كيف أنه يجرد جنوده لمهاجمة هذه القفار ويترك في بلاده ملكا آخر ينازعه الملك؟! فلا بد من أنكم قد خضعتم له جميعا قبل مجيئه إلى هنا.»
فاعترضه الفارس قبل أن يتم كلامه، وقال له: «لا وحق نور السماء، بل لو أراد ريكارد إخضاعنا قبل قيامه على الشام لبقيت الشام في حوزتكم أبد الدهر.» قال ذلك ثم ندم على ما قال متمثلا بقول القائل:
أبحت العدى سمعا فلا كانت العدى
ناپیژندل شوی مخ
إذا وجدوا خرقا أرادوا اتساعه
فعلم الأمير من هذا الكلام أن ملوك النصارى منقسمون فيما بينهم كملوك المسلمين، ولكن أبت شهامته وعزة نفسه أن يتخذ ذلك فرصة لتوسيع الخرق، فتغاضى عما سمع كأنه لم يفهم منه شيئا. ثم قطعا الغور ووصلا إلى نجد من الأرض كثير الآكام والحزون والشواهق والكهوف، فأخذ الأمير يقص على الفارس نوادر الضواري واللصوص التي تسكن تلك المغاير، فلم يحفل الفارس بها كثيرا؛ لأنه حسب نفسه بمأمن منها كلها، ثم خطر له أنه في القفر الذي جرب فيه السيد المسيح أربعين يوما فأفزعته أفكاره، وخيل له أن الأرض مسكونة بالجن والشياطين، فجعل يصلي ويتعوذ بالله.
وكان الحر قد زال وعاد الهواء إلى الاعتدال، فطابت نفس الأمير وتحركت فيه الشجون، فجعل ينشد الأشعار الغرامية ويشبب بربات الجمال ومخدرات الحجال، فتعوذ الفارس من شره وقال في باله: «ما رفيقي إلا شيطان مريد قد اقتفى أثري ليحول أفكاري عن التقوى ويحبب إلي حطام هذه الدنيا.» فحار في أمره ولم يدر كيف يتخلص منه؟ ولما رآه يزداد تصببا وتشبيبا قال له: «أيها الغبي، أما علمت أن إبليس اللعين يرصد الناس في هذه الكهوف والمغاير؟! فارعو عن غيك، ودع ذكر هواك وزهوك.» فأنكر الأمير هذا الخطاب ولكنه كظم الغيظ ولطف الجواب، فقال له: «أظنكم لا تتعلمون اللطف والأدب في بلادكم؛ فإنك التهمت أمامي فخذا من لحم الخنزير وكرعت زقا من النبيذ، وكلاهما رجس في شريعتنا، فلم أردعك عن ذلك ولا شددت عليك النكير، وأنت يثقل عليك أن أخفف مشقة الطريق بنشيد الأشعار، والشعر ريحانة النفوس.»
فقال الفارس: «اعلم يا صاح أني لا أذم الشعر ولا الغناء؛ فإن لهاتين الصناعتين المقام الأرفع عندنا، ولكن الصلاة والتسبيح أجدر بهذا المكان من التصابي والتشبيب؛ لأنه ملجأ للجن والأبالسة.»
فقال الأمير مازحا: «أوتحتقر الجن ونحن من أبنائهم؟» قال الفارس: «وكيف ذلك؟!» فجعل الأمير يقص عليه قصة ملفقة، فقال: «إن ملكا من ملوك الفرس طغى وتجبر وأكره رعيته أن تضحي له الضحايا من دماء الناس، وكان لأحد الحكماء سبع بنات كأنهن الدراري السبع فأصابتهن النوبة وجيء بهن إلى هذا الملك، فلما وقفن في الدهليز المؤدي إلى مسكنه انشقت الأرض وخرج منها سبعة رجال من مردة الجان، فحملوا البنات وأخذوهن إلى قصر مسحور في جبال كردستان وأولدوهن سبعة صبيان، فولدوا قبائل الأكراد السبع بين الإنس والجن.»
فلما سمع الفارس هذه القصة لم يشك في صحتها؛ لأن الأوهام كانت سائدة على عقول الناس في تلك الأيام، فقال للأمير: «هذا الذي ظننته من أمركم فإنكم أبطال أشداء كأبيكم إبليس! ولكنكم تفسدون في الأرض مثله.» فضحك الأمير من كلامه، وقال: «صدقت، فإن الشريعة المطهرة لم تغير من طباعنا شيئا، وعندنا أن الله سبحانه سوف يرضى عن الجن والأبالسة ويردهم إلى المقام الذي سقطوا منه.» ثم أخذ يترنم بقصيدة من قصائد الفرس القدماء يمدح بها إله الخير وإله الشر، ومنها قوله:
إني أنادي بمدح السيد العلم
أهور مزد لمن يصغي إلى كلمي
وأهرمان إله الشر أمدحه
مخافة الشر أو حفظا من الألم
ناپیژندل شوی مخ
1
فقال الفارس: «إن الأمير يتغنى بمدح إبليس!» فاحتار بين أن يتركه ويبتعد عنه أو يدعوه إلى المبارزة ويغادره طعاما لوحش الفلا. وبينما هو يزن الأمرين في باله إذا شبح طويل القامة نحيف الجسم مرتد بجلود الحملان، يثب من صخر إلى صخر كأنه خيال من الأخيلة أو مارد من مردة الجان. فقال: «ما هذا إلا إبليس اللعين، بعينه قد سمع مدح رفيقي له في أشعاره فأقبل علينا.» فثارت فيه الحمية الاسكتسية واستل سيفه وعزم أن يوقع بالاثنين معا. وللحال وقف الشبح أمام جواد الأمير وقبض على نضوه ودفعه دفعة تزحزح الجبال فسقط الجواد على الأرض، ووثب الأمير عن ظهره قبل أن يسقط فلم ينله مكروه، ثم إن الشبح ترك الجواد وقبض على الأمير كأنه يريد خنقه، فناداه الأمير باسمه وقال له: «تنح أيها المجنون من طريقي وإلا قبضت روحك بهذا الخنجر.» ثم التفت إلى الفارس وقال له: «هو ذا الناسك الذي أنت تطلبه.»
فنظر الفارس إلى الشبح ثم قال للأمير: «أما يكفي أنك تثير علينا أبالسة الجحيم حتى تهزأ بي أيضا؟» فقال الأمير: «أتشك في صدق قولي؟ سله يخبرك.»
فقال الشيخ: «نعم، أنا الناسك المقيم بعين جدي. أنا نصير الحق وعدو البطل. أنا سيف النقمة على أعداء الله.» قال ذلك وأخرج من تحت ثوبه نبوتا كبيرا، وجعل يضرب الصخور به فيفتتها تفتيتا. فالتفت الأمير إلى الفارس وقال له: «هاك الولي الذي تطلبه.» فقال الفارس: «ما هذا إلا مجنون!» قال الأمير: «أولا تعلم أنه إذا اختل عقل الإنسان صار من أولياء الله؟» وحينئذ سمعا الناسك يترنم ويقول:
أنا الحبيس وعين الجدي لي وطن
والليث والنمر في غاري مبيتهما
ثم جعل يثب أمامهما كالظبي. فاحتار الفارس في أمره وظن نفسه في أرض مسحورة. فقال له الأمير: «إنه يدعونا لنبيت عنده، فأنا الليث لأن معنى اسمي ليث الجبل، وأنت النمر لأن النمر شعارك.» فتبعاه في ذلك الشعب، وكان قد سبقهما إلى غاره وأضاء لهما مشعلا ليهتديا بنوره إليه، فبلغا الغار بعد مشقة شديدة وربطا فرسيهما عند بابه، ثم دخلاه فوجداه غرفتين كبيرتين منحوتتين في الصخر، وفيه مائدة معدة لهما. فترحب الناسك بهما، وكان قد غير أطواره وثاب إلى السكينة والوقار كأنه ملك من أجلاء الملوك منقطع إلى الزهد والعبادة. فجلسا حول المائدة وأكلا، والناسك واقف في خدمتهما لا ينطق بكلمة، ولما فرغا من الطعام قدم للأمير جاما من الحلوى وللفارس كأسا من الخمر وقال لهما: «كلا واشربا يا ولدي من عطايا الله واشكراه في قلبيكما.» ولما قال ذلك خرج إلى الغرفة الخارجية من الغار، فلحظ الفارس أن الأمير من معارفه فجعل يستخبره عن شأنه، ولم يكد يصدق أن هذا هو ثيودرك الشهير ناسك عين جدي الذي يكاتب البابوات والمجامع ببلاغة تفوق الوصف، وينهض همة ملوك أوروبا للزحف على الأرض المقدسة.
وكان الفارس مرسلا إلى هذا الناسك بمهمة سياسية، فرأى من أطواره ما جعله يتردد عن تبليغه الأمر الذي جاء لأجله. وجملة ما أخبره به الأمير عنه أنه كان من الأبطال العظام الذين جاءوا بيت المقدس للإقامة فيه، ثم انفرد بنفسه إلى هذا المكان وعاش عيشة الزهد والتقشف، وأن جميع الأهالي من مسلمين ونصارى يكرمونه ويجلونه وأنه يظهر تارة بمظاهر الجنون وطورا بمظاهر العقل والحكمة فيقصده الأمراء والعظماء ليرتشدوا بإرشاده. وإن السلطان صلاح الدين أصدر أمرا يمنع كل الناس من التعدي عليه. فلم ينجل الأمر للفارس وقال في نفسه: «قد يكون جنون هذا الناسك تظاهرا منه لكي يقي نفسه من العدوان وقد يكون حقيقة، فالأجدر بي أن لا أكاشفه بشيء حتى أكون على يقين منه.» وزاد ارتيابه فيه أنه رأى الأمير عارفا من أمره أكثر مما أظهر، وسمع الناسك يدعوه باسم آخر غير الاسم الذي سمى نفسه به. وفيما هو يتأمل في ذلك دخل الناسك وقال: «سبحان من جعل لكم الليل لتسكنوا فيه!» فأجاباه: «سبحانه على كل حال!» ثم أشار إلى فراشين بسطهما لهما فخلعا أسلحتهما وصلى كل منهما إلى قبلته وانطرح في فراشه وأخذتهما سنة النوم.
الفصل الرابع
وفيما كان الفارس مستغرقا في نومه شعر بثقل على صدره كأن عدوا قويا يشد خناقه، ففتح عينيه فوجد الناسك جالسا أمامه وقد وضع يده على صدره. فخاطبه الناسك باللغة الإفرنسية وقال له: «لي كلام أقوله لك ولا أريد أن يستمعه صاحبك، فقم والبس رداءك واتبعني.» فقام وأخذ سيفه، فقال له الناسك: «لا حاجة بنا إليه لأننا ماضون إلى حيث لا ينفعنا إلا الأسلحة الروحية.» فترك السيف ووضع خنجره في منطقته، وسار وراء الناسك وهو يظن أنه يرى رؤيا حتى بلغا مدخل الغار، فقال له الناسك: «بم أتيتني من ملك إنكلترا؟» فقال الفارس: «لم أره لأنه مريض، ولكن مجمع الملوك أرسلني إليك.» ففتح الناسك بابا في جدار الكهف وقال: «اعصب عيني بهذا المنديل واتبعني في هذا الطريق.»
ناپیژندل شوی مخ
وكان داخل الباب درج منحوتة في الصخر، فعصب عينيه وتبعه، فصعدا من درج إلى درج إلى أن بلغا بابا من الحديد، فانفتح لهما، وإذا داخله كنيسة صغيرة بديعة النقش والإتقان، فيها مصابيح من الفضة يوقد فيها الزيت المطيب. فركع الفارس على ركبتيه ساجدا، ثم التفت إلى الناسك فوجده خارج الباب لا يستطيع الدخول فرجع ليكلمه، فأغلق الباب في وجهه ولم يهتد إليه، فأمسى وحده وليس معه من السلاح إلا خنجره. فاحتار في أمره وجعل يمشي في الكنيسة ذهابا وإيابا إلى أن قرب الفجر، فانفتح باب ودخل منه ست راهبات لابسات ثيابا بيضاء ومبرقعات ببراقع سوداء، ووراءهن ست نسوة مبرقعات ببراقع بيضاء وحاملات طاقات من الورد الأحمر والأبيض. فطفن حول المذبح وهن يرتلن بأصوات رخيمة فركع الفارس على الأرض وقد ظنهن ملائكة من السماء. ولما طفن الطوفة الثانية وهن يمررن بجانبه وقعت وردة من إحداهن بين يديه فأجفل منها كأنها صاعقة وقعت عليه، ثم عاد إلى نفسه فقال: «قد كان ذلك اتفاقا عن غير قصد.» ولكنه شعر بجاذب يجذبه نحو الفتاة التي وقعت الوردة منها ولم يكن في لباسها ولا في قامتها شيء يميزها عن رفيقاتها إلا أن قلبه كان دليله عليها، فميزها من بينهن وكان يخفق لرؤيتها حتى كاد يشق صدره ويقع على قدميها كلفا بها، وكذا تكون مصارع العشاق، ثم مرت بجانبه في الطوفة الثالثة وهو لا يصدق ما يرى، ولما دنت منه أخرجت يدها فظهرت من خلال ردائها كالقمر من خلال الغيوم ورمت له وردة ثانية، فخفق فؤاده حتى كاد ينصدع، وتيقن أنها رمت الوردة بالقصد لا بالاتفاق، ورأى في يدها خاتما من الياقوت ولما وقع نظره عليه علم أنها هي اليد التي رآها غير مرة وقبلها، ولم تبق عنده ريبة في أنها هي الفتاة التي تعلق بهواها ووقف لها نفسه، ولكنه لم يعرف كيف وصلت إلى هناك، ولا ما هي الغاية التي جاءت لأجلها إلى مكان لا يدخله إلا الحبساء المتوحدون، فحسب أنه يرى كل ذلك في حلم.
وفيما هو غائص في بحار الأفكار انفتح الباب الذي دخلت منه العذارى فخرجن واحدة وراء الأخرى، وكانت عينه لم تزل محدقة بتلك الفتاة فرآها تدير رأسها نحوه وهي خارجة، ثم احتجبن عن عينيه وأغلق الباب وراءهن وانطفأت مصابيح الكنيسة وسدلت الظلمة ستارها على نفسه، ولكنه لم يعبأ بالظلمة ولا بقيامه في مكان لا يعلم أين بابه، بل أخذ يتلمس على الأرض حتى وجد الوردتين فجعل يقبلهما ويقبل الأرض التي داست حبيبته عليها، وما هو أول محب فعل ذلك، ولا سيما في العصر الذي كان فيه، ثم زفر زفرة طويلة وتأوه من كبد حرى.
هذه هي الفتاة التي أحبها وحارب باسمها ولأجلها ولم يكن قد سمع صوتها في حياته، مع أنه رأى وجهها الصبوح مرارا، أما هي فكانت قد رأته في ميدان الصراع وسمعت الشعراء يتغنون بمدحه ويصفون بسالته. وكان أمراء المملكة ورؤساؤها يفتخرون إذا نظرت إليهم، ولكنها لم تحفل بأحد منهم، بل انقادت عن غير إرادتها إلى هذا الفارس، وكانت كلما رأته أو سمعت عنه يزداد اعتباره في عينيها، وكان الجميع يلهجون بمدحه حتى أن الشعراء الذين لا يمدحون إلا من يصلهم بالصلات السنية كانوا يتغنون بشجاعته وهم لا ينتظرون منه شيئا، فلم يعد يهنأ لها عيش إلا إذا سمعت الناس يتحدثون عنه ويتباهون بشجاعته على حد قول القائل:
حديثه أو حديث عنه يطربني
هذا إذا غاب أو ذاك إذا حضرا
ولكنها لم تطمع بحديثه؛ لأن بينها وبينه درجات لا يمكنه أن يتخطاها فهي من بنات الملوك وهو من آحاد الفرسان الذين لا ناصر لهم إلا سيفهم. ولما زاد هيامها به شعرت من نفسها أنه هو هائم بها أيضا، وأنه هو الرجل المعين بالقدر المحتوم ليقاسمها نعيم الحياة وبؤسها، ولكنها لم تر وجها لذلك لما بينهما من بعد المنزلة.
ولا يخفى على القارئ أن هذه الأميرة، واسمها الأميرة جوليا، لما شعرت أن هذا الفارس واقع في هواها ومتدرع به على اقتحام الأهوال اعتزت وافتخرت، ولكنها كانت تتذمر بعض الأحيان من البعد الشاسع الذي بينها وبينه، وكأنها تلومه لاتضاعه وعدم توخيه الترفع إلى مقامها، مع أن هذا الترفع كان ضربا من المحال على من في منزلته. وكان يخطر لها أحيانا أنه يجب عليها هي أن تخاطر بنفسها وتمد يدها له لترفعه إلى منزلتها، ثم يتراءى لها علو حسبها ونسبها فتطأطئ محبتها لكبريائها حاسبة أن كل تنازل تتنازله يحط قدرها في عينيه، ومع كل تحفظها وتوقيها لم تقدر أن تخفي عنه ما بها من الغرام، وإلا فكيف قدر أن يميز يدها في الكنيسة وهو لم ير منها إلا أصبعين؟! وكيف علم أن الوردتين رمتهما له عن قصد منها؟
ولكنه لم يزل مرتابا في أمرها، وكان كلما رأى علامة تدل على محبتها له يقوم في نفسه ألف شك على أنها ربما فعلت ذلك عن غير قصد، أو ربما خدعته عيناه أو أرته المخيلة ما لا حقيقة له، ولا سيما لأن دلائل المحبة لم تكن متواصلة، بل كان بينها فترات طويلة، كأن هذه الأميرة كانت تخاف أن يعرف أحد حبها له فيحسده ويسعى في هلاكه، أو أنه هو يظن بها التعرض له فيحتقرها على حد قول القائل:
عرضنا أنفسا عزت علينا
عليكم فاستخف بها الهوان
ناپیژندل شوی مخ
ولو أنا حفظناها لعزت
صدقتم كل معروض يهان
الفصل الخامس
وأقام الفارس ساعة من الزمان في الظلام الدامس، لا يرى إلا صورة حبيبته ولا يسمع إلا صوتها، ولم يخطر بباله أنه في بلاد كثيرة المخاطر، ولا كان يحسب لشيء حسابا ما دامت حبيبته على مقربة منه. وفيما هو غائص في بحار الأفكار سمع صفيرا خارجا من تحت الأرض، فنهض على قدميه ووضع يده على خنجره فانفتح باب من الأرض، وخرج منه رجل قصير القامة كبير الرأس دميم المنظر، لابسا ثوبا أحمر وفي منطقته خنجر مذهب، وعلى ذراعيه أساور من الذهب وفي يمينه مصباح وفي يساره مكنسة. فلما رآه قال في نفسه: «ما هذا القزم إلا جني من الجان التي تسكن المغائر والكهوف في هذه البلاد!» فوقف مندهشا لا خوفا منه، بل هيبة لظنه أنه فوق البشر مقدرة.
ثم إن القزم صفر فأجيب صدى صفيره بصفير آخر من تحت الأرض، وصعد من الباب امرأة قزمة حاملة بيدها مصباحا آخر ولابسة ثوبا أحمر، وهي تفوق الرجل في قبح الصورة. فلما صارت بجانبه مشيا معا وجعلا يكنسان الكنيسة، وكان يبديان من الحركات والإشارات ما يضحك الثكلى. ولما قربا من الفارس أخذا يتفرسان فيه ويرددان المصباحين حولهما كأنهما يقولان له: «تفرس فينا جيدا.» ثم قهقها قهقهة أدوت لها الكنيسة. فذعر الفارس وأقسم عليهما أن يخبراه من هما. فقال الرجل بصوت كنعيق الغراب: «أنا القزم نكتبانس.» وقالت القزمة بصوت بين النعيق والصفير: «وأنا زوجته كوانفرا.» فقال الفارس: «وما قصتكما؟ وكيف أتيتما إلى هذا المكان؟» فقال القزم: «أنا سلطان جوج وماجوج، وقد أتيت لأتجسس هذه الأرض قبل الإغارة عليها.» فقالت له القزمة: «كذبت يا خبيث، أنت ملك بريتني الذي سرقته الجان، وأنا السيدة كوانفرا المشهورة بجمالها!»
فالتفت القزم إلى الفارس وقال له: «إن أردت الحق فنحن كلانا من الأمراء، وكنا عائشين في كنف الملك غالي ملك القدس.» ولم يتم هذا الكلام حتى سمعوا واحدا يقول من خارج الكنيسة: «اصمتا أيها الأحمقان واخرجا من هذا المكان.» فلما سمعا هذا الكلام جعلا يتساران فيما بينهما، ثم أطفأ كل منهما مصباحه ونزلا من حيث صعدا وتركا الفارس في الظلام الدامس. ولكنه تيقن من كلامهما أنهما من الأقزام الذين يعيشون في دور الملوك والعظماء. ولو جرى مجرى أهل عصره لسر برؤيتهما وطرب من حركاتهما، ولكنهما دخلا عليه حينما كان يتأمل في أسمى المواضيع وأحبها لديه، فاغتاظ من رؤيتهما وسر بانصرافهما.
وبعد أن انصرف القزمان بقليل انفتح الباب الذي دخل الفارس منه، فرأى وراءه مصباحا صغيرا وبجانب المصباح شبحا أسود، فدنا منه وتوسمه، فإذا به الناسك وهو راكع على ركبتيه. فقال الناسك: «خذ المصباح وانزل أمامي؛ لأني لا أقدر أن أرفع المنديل عن عيني ما دمت في هذا المكان الطاهر.» فنزل الفارس وهو لا يفوه ببنت شفة؛ لأن المرائي التي رآها أدهشت عقله، وما زال سائرا حتى وجد نفسه في الغار الذي صعد منه. فقال الناسك: «قد عدت إلى هذا السجن وسأبقى فيه أتقلب على جمر الغضا إلى أن يقضي علي الديان العادل.» قال ذلك ونزع المنديل عن عينيه وتفرس فيه طويلا ثم رده إلى مكانه، وقال للفارس: «امض إلى فراشك ونم، أما أنا فقد حرمت النوم.»
فدخل الفارس إلى المخدع والتفت إلى الخارج قبل أن ينام، فرأى الناسك قد عرى كتفيه وجعل يجلدهما بالمجاليد! فقال في نفسه: «لا بد من أن هذا الرجل قد ارتكب جريمة فظيعة وهو يقمع جسده ويعذبه لكي يتطهر من وصمة ذنبه.» ولما نهض في الصباح تكلم معه في الأمر الذي جاء لأجله، واضطر أن يقيم عنده يومين آخرين.
الفصل السادس
«دع ذكر سلمى وبانات بذي سلم»
ناپیژندل شوی مخ
واقصص علينا حديث السيف والقلم
هلم أيها القارئ اللبيب، من غور الأردن إلى معسكر الملك ريكارد ملك الإنكليز بين عكاء وعسقلان، وانظر الخيام المضروبة كأنها الأفلاك والجنود المبثوثة في عرض البر كأنها عراجل الأسود. بهؤلاء الأبطال جاء قلب الأسد
1
من بلاده عازما على افتتاح أورشليم وردها للنصارى، ولكن خانه السعد وأحبطت الخيلاء مساعيه، فاغتاظ منه أمراء الإفرنج وغلوا يديه وأيديهم عن العمل، ثم انكفئوا راجعين إلى بلادهم موغرين الصدور بالأحقاد والضغائن. وكانت الأمراض قد فتكت بجنودهم، والشهوات قد أفسدت آدابهم وأضعفت أبدانهم، وسيف صلاح الدين نكلهم تنكيلا فرجعوا إلى بلادهم شرذمات متفرقة، بعد أن خرجوا منها يجرون أذيال المجد والفخار ويتباهون بعددهم وعددهم. ولولا قلب الأسد وشدة بأسه وبأس فرسانه ما أبقى صلاح الدين على أحد منهم.
ولكن مهما اشتد بأس الإنسان لا يقوى على الأمراض الخبيثة، فقد أصابت ريكارد قلب الأسد حمى من الحميات الشديدة المضعفة طرحته في فراشه وجعلته كأضعف البشر، فمنعته من الحضور في المؤتمرات الحربية التي كان أمراء الصليبيين يعقدونها. وغلت أيدي الجنود كلهم فأبطلوا الحرب والصدام، وتهادنوا مع صلاح الدين ولم يستعدوا في هذه الهدنة للزحف على بيت المقدس، بل حصنوا معسكرهم كأنهم استبدلوا بالهجوم الدفاع. فلما بلغ ريكارد ذلك اسودت الدنيا في عينيه، وكان رجاله يخافون منه خوفا شديدا، حتى أطباؤه لم يكونوا يجسرون أن يخالفوا له أمرا. ولم يكن بين حاشيته إلا رجل واحد قادر أن يقف أمامه إذا غضب وهو البارون توما ده فو، فإن هذا الرجل كان يحبه محبة شديدة ويفضل سلامته على كل ثمين، وينهاه عما به ضيره ولو خاطر بنفسه، وكان بطلا محنكا جبارا في قوته، خشنا في طباعه لا يعرف التمليق ولا التدليس، يخدم مولاه ويسهر عليه لا كما يخدم العبد سيده، بل كما يخدم الصديق صديقه، قياما بشروط الصداقة والمحبة.
وذات يوم كان الملك نائما في سريره يتقلب متأففا من شدة الحمى، وقد نحل جسمه وطال شعره، والبارون ده فو واقف بجانبه وهو طويل القامة ضخم الأعضاء، كث الشعر، وجهه مغطى بآثار الجراح، وموقفه بجانب سرير الملك لا يتغير إلا حينما يجرعه الدواء. والخيمة التي فيها الملك أشبه بمعرض حربي منها بفسطاط ملك رفيع الشأن، فإنها كانت مفروشة بأنواع الأسلحة وغنائم الحروب وجلود الحيوانات، وفيها ثلاثة كلاب من كلاب الصيد الكبيرة وهي محدقة بسيدها كأنها تقول له: «متى تقوم وتمضي بنا إلى الصيد والقنص؟» وترسه المثلث على مائدة صغيرة بجانب السرير، وهو من الفولاذ الصقيل وعليه رسم ثلاثة أسود رابضة، وبجانب الترس فأسه المشهورة التي كان يضرب بها الفارس فيشطره شطرين، وعلى باب الخيمة ثلاثة من رؤساء الحرس تلوح عليهم أمارات القلق وانشغال البال خوفا على مولاهم وعلى نفوسهم إذا طال مرضه. وخارج الخيمة كثيرون من الخدم والحشم، وكلهم كاسف البال مبلبل الأفكار. فقال الملك بعد أن سكت عن الكلام وقتا طويلا بسبب شدة الحمى: «هل صار فرساننا نساء ونساؤنا راهبات وانمحت الشجاعة من معسكر فيه نخبة فرسان أوروبا؟»
فقال له البارون ده فو: «الهدنة تمنعنا عن الحرب والجلاد يا مولاي، أما النساء فلا أعلم من أمرهن شيئا إلا أن الجميلات منهن ذهبن برفقة الملكة والأميرة إلى دير عين جدي لإيفاء نذر نذرنه لأجل سلامتك.»
فقال الملك: «وكيف خاطرن بأنفسهن وذهبن إلى مكان لا مأمن للرجال فيه؟» فأجابه البارون: «هن في مأمن من كل خطر؛ لأنهن أخذن إجازة من صلاح الدين.» فقال الملك: «صدقت، ولهذا السلطان منة علي ومن لي بأن أفيه إياها في ميدان النزال.» ولما قال ذلك أخرج ذراعه من تحت الدثار وهزها كما يهزها وهو قابض على سيفه أو على فأسه، فقبض عليها البارون ده فو وردها إلى تحت الدثار، وقال له: «أفرغ صبرك من هذه الحمى؟»
فقال: «أنا مريض، ولكن ما مرض ملوك النصارى؟ ماذا أصاب ملك فرنسا ودوق النمسا؟ ماذا أصاب مركيز منسرات ورئيس الاسبيطارية والهيكلية؟ ما هذا الداء العياء؟ وما هذا الفالج الذي منعهم من الحركة والكلام؟ وما هذه الآكلة التي أكلت قلوبهم ونخرت عظامهم حتى نسوا إلههم وداسوا شرفهم؟!»
فقال البارون: «بالله عليك يا مولاي أقصر عن هذا الكلام؛ فقد تناقلته عنك الألسن وكاد شملنا يتمزق بسببه، أولا تعلم أنهم بدونك لا يقدرون أن يفعلوا شيئا؟»
ناپیژندل شوی مخ
فقال الملك: «دعنا من التمليق.» وألقى رأسه على وسادته وصمت طويلا ثم قال: «يا للعار! أتتضعضع أحوال هؤلاء الملوك والرؤساء بمرض إنسان واحد؟! علام يكون مرض ريكارد، بل موت ريكارد، مانعا يمنع ثلاثين ألفا من الزحف على أورشليم، وكل منهم بطل مجرب مثله؟! إذا صرع قائد الوعول اختارت الوعول قائدا آخر في الحال ليقوم مقامه، وإذا ضرب الشاهين قائد الكراكي قام منها قائد آخر في الحال، فعلام لا ينتخب هؤلاء الرؤساء قائدا آخر عوضا عني؟»
فقال البارون: «العفو يا مولاي، فقد بلغني أنهم قد تآمروا في هذا الأمر وفي نيتهم أن ينتخبوا قائدا.»
فاتقدت غيرة ريكارد وقال: «أنسيني حلفائي وحسبوني ميتا وأنا حي أرزق؟ لقد أصابوا. ومن ينتخبونه عوضا عني؟» فأجاب البارون: «ينتخبون ملك فرنسا؛ فإنه أحق بذلك من كل أحد.»
فقال ريكارد: «ملك فرنسا ونافار نخبة ملوك النصارى، ولكني أخاف أن يبدل كلمة التقدم بكلمة التأخر، ويرتد بنا إلى باريس بدلا من الزحف على أورشليم.»
فقال البارون: «بل ربما ينتخبون دوق النمسا.»
فقال الملك: «لماذا؟ ألأنه ضخم الجسم مثلك؟ هذا لا يصلح لقيادة الجيوش، بل لأكل اللحوم وشرب الخمور.»
فقال البارون: «وما قول جلالتك في رئيس الهيكليين فإنه شجاع ماهر في فنون الحرب، صاحب حكمة ودهاء وله مأرب في تخليص الأرض المقدسة؟»
فقال الملك: «لا ريب في مهارته، ولكن ليس من العدل أن تؤخذ الأرض المقدسة من صلاح الدين الملك العادل الكثير الفضائل والفواضل، وتعطى لهذا الساحر الذي يعبد الشيطان ويرتكب المحارم في معابد الله.»
فقال البارون: «وما قول جلالتك في رئيس الاسبيطارية، فلا لوم في سيرته؟»
فقال الملك: «ولكنه بخيل منتن، يبيع بالمال كل ثمين. أولم يبع أعداءنا بالمال ما لم يستطيعوا امتلاكه بالسيف؟»
ناپیژندل شوی مخ
فقال البارون: «عندي إنسان آخر وهو المركيز كنراد منسرات، فهو حكيم وشجاع معا.»
فقال الملك: «هو حكيم داهية، ولكنه ذئب في جلد خروف. وأما من جهة كونه شجاعا فلا يغرنك ركوبه جياد الخيل ولبسه دلاص الدروع، فما كل مصقول الحديد يمانيا. أولا تذكر أني قلت له مرة: «لو كان أمامك ستون رجلا من العدو ومعك اثنان من الفرسان، أما كنت تهجم بهما عليهم؟» فماذا كان جوابه لي؟»
فقال: «أجابك أن أعضاءه من لحم لا من حديد، وأنه يفضل أن يكون له قلب إنسان على أن يكون له قلب وحش، ولو كان ذلك الوحش أسدا. وعليه فلا رجاء من أخذ بيت المقدس إلا إذا كنت قائدا لنا.»
فقال الملك: «ليس الأمر كذلك يا ده فو، بل في معسكر النصارى كثيرون من الفرسان، وهم أفضل مني لقيادة الجيوش، ولكن كل فارس يرفع علمه على البيت المقدس، وأنا مريض ويحرمني من هذا الفخر الذي أتيت لأجله لا يسلم من يدي حينما أشفى، وأظنني أسمع صوت البوق، فانظر ما هذا الصوت.»
فقال البارون: «هذه أبواق ملك فرنسا.»
فقال الملك: «ألم تعد تسمع؟! هذا صوت العدو وهذا تهليله.» قال ذلك وحاول القيام من فراشه، فحاول البارون منعه بكل قوته ولم يستطع حتى استعان ببعض الخدم، فلما رأى الملك نفسه عاجزا عن المقاومة قال: «أتمنعني عن النهوض أيها الخائن؟! لو كنت في صحتي لطيرت دماغك.»
فقال البارون: «يا حبذا لو كنت في صحتك ولو طيرت دماغي!»
فمد الملك يده له وقال: «يا خادمي الأمين، سامحني على ما فرط مني؛ فإن الحمى هي التي أنطقتني بما نطقت. والآن أطلب منك أن تمضي وترى ما سبب هذه الضوضاء.»
فخرج البارون من خيمة الملك بعد أن أوصى الخدم والحشم أن ينتبهوا أشد الانتباه إلى سيدهم، وهددهم بالعقاب الشديد إذا بدا منهم تقصير، وكانوا يخافون منه كما يخافون من الملك.
الفصل السابع
ناپیژندل شوی مخ
لما خرج ريكارد ملك الإنكليز من بلاده قاصدا الأرض المقدسة تبعه جمهور من الأمراء الاسكتلنديين هم ورجالهم، وكانوا يركبون لركوبه وينزلون لنزوله ويحاربون تحت لوائه، ولكنهم كانوا ينصبون خيامهم وحدهم مستقلين بأنفسهم كأنهم من أمة أخرى وشعب آخر. وكذا كان الفرنسيون والإيطاليون والجرمانيون والدانماركيون والأسوجيون. بل كثيرا ما كان هؤلاء الشعوب يعاملون بعضهم بعضا بالجفاء والقسوة في غير وقت الحرب. وكان البارون ده فو أشد الناس كرها للاسكتلنديين، ولكن ارتباطه معهم في الجهاد ألجأه إلى كتم ما في صدره من الكره، بل كثيرا ما كان يبعث لهم بالطعام والدواء من عنده سرا لا علنا؛ عملا بوصية الكتاب القائل: «أحسنوا إلى مبغضيكم.» وقد تقدم في الفصل السابق أن الملك ريكارد أمره أن يخرج ويرى ما سبب صوت البوق والتهليل، فلم يبعد عن خيمة الملك حتى رأى جمهورا من العرب بجمالهم وخيولهم واقفين في قلب المعسكر وهم يضربون الأبواق والطبول، والجنود الإنكليزية متجمعة عليهم. وأول شخص التقى به كان السر وليم الفارس المتقدم ذكره في الفصول السابقة فتأفف من رؤيته، وكان قاصدا أن يمر به ولا يسأله عن سبب هذه الجلبة، لكن الفارس دنا منه وقال له: «لي معك كلام يا مولاي.» فقال البارون: «اختصر ما أمكنك؛ لأنني ذاهب بأمر الملك.» فقال الفارس: «أنا غرضي الملك؛ لأنني أتيته بالشفاء.»
فنظر إليه البارون ده فو من رأسه إلى قدمه كأنه يقيس طوله وعرضه، ثم قال له: «كان الأجدر بك أن تأتي الملك بالغنائم.» فاغتاظ الفارس من هذا الجواب ولكنه كظم الغيظ، وقال: «إن شفاء ريكارد هو الغنيمة الكبرى لنا ولكل النصارى، فهل لك أن تسمح لي بالدخول عليه؟»
فقال: «كلا، ما لم تخبرني بغرضك أولا؛ لأن خيام الملوك ليست مباحة لجميع الناس.»
فقال الفارس: «إن أمر الجهاد الذي يجمعني معك يضطرني أن أغضي الطرف عما تقول، وجلية الأمر أنني أتيت بطبيب من أطباء العرب، وهو قادر أن يشفي الملك.»
فقال البارون: «ومن يكفل لنا أن هذا الطبيب لا يدس السم للملك مع الدواء؟»
فأجابه الفارس: «إن حياته الكفالة.» فقال البارون: «إن كثيرين من هؤلاء الحمقى لا قيمة عندهم لحياتهم، فيسرعون إلى الموت كما يسرعون إلى الوليمة.»
فقال الفارس: «نعم، ولكن صلاح الدين المعروف عندنا بالشهامة وكرم الأخلاق قد بعث بهذا الحكيم، وبعث معه موكبا كبيرا يليق بشأنه، وهدايا للملك، وبعث إليه برسالة يرجوه فيها أن يستعمل علاج الحكيم لكي يشفى سريعا ويستعد لزيارته، فهل لك أن تأمر برفع الأحمال عن هذه الجمال واستقبال الحكيم بما يليق بمقامه.»
فقال البارون: «ومن يكفل لنا صدق صلاح الدين في هذا الأمر وموت ملكنا كاف وحده لتخليصه من مشقة الحرب كلها؟» فقال الفارس: «أنا أكفل أمانة صلاح الدين، أنا أكفلها بشرفي ودمي.»
فقال البارون: «وهذا أغرب من ذاك، ابن الشمال يكفل ابن الجنوب! الغربي يكفل الشرقي! ألا تخبرني يا مولاي كيف اتصلت إلى صلاح الدين والحكيم؟»
فقال الفارس: «كنت مرسلا إلى ناسك عين جدي برسالة سرية ...» فقاطعه البارون عن الكلام، وقال له: «أما تطلعني على الرسالة وجواب الناسك؟» فقال: «كلا، لا أستطيع ذلك.» فقال البارون: «أما تعلم أني من مشيري ملك الإنكليز وأهل سره؟»
ناپیژندل شوی مخ