واقصص علينا حديث السيف والقلم
هلم أيها القارئ اللبيب، من غور الأردن إلى معسكر الملك ريكارد ملك الإنكليز بين عكاء وعسقلان، وانظر الخيام المضروبة كأنها الأفلاك والجنود المبثوثة في عرض البر كأنها عراجل الأسود. بهؤلاء الأبطال جاء قلب الأسد
1
من بلاده عازما على افتتاح أورشليم وردها للنصارى، ولكن خانه السعد وأحبطت الخيلاء مساعيه، فاغتاظ منه أمراء الإفرنج وغلوا يديه وأيديهم عن العمل، ثم انكفئوا راجعين إلى بلادهم موغرين الصدور بالأحقاد والضغائن. وكانت الأمراض قد فتكت بجنودهم، والشهوات قد أفسدت آدابهم وأضعفت أبدانهم، وسيف صلاح الدين نكلهم تنكيلا فرجعوا إلى بلادهم شرذمات متفرقة، بعد أن خرجوا منها يجرون أذيال المجد والفخار ويتباهون بعددهم وعددهم. ولولا قلب الأسد وشدة بأسه وبأس فرسانه ما أبقى صلاح الدين على أحد منهم.
ولكن مهما اشتد بأس الإنسان لا يقوى على الأمراض الخبيثة، فقد أصابت ريكارد قلب الأسد حمى من الحميات الشديدة المضعفة طرحته في فراشه وجعلته كأضعف البشر، فمنعته من الحضور في المؤتمرات الحربية التي كان أمراء الصليبيين يعقدونها. وغلت أيدي الجنود كلهم فأبطلوا الحرب والصدام، وتهادنوا مع صلاح الدين ولم يستعدوا في هذه الهدنة للزحف على بيت المقدس، بل حصنوا معسكرهم كأنهم استبدلوا بالهجوم الدفاع. فلما بلغ ريكارد ذلك اسودت الدنيا في عينيه، وكان رجاله يخافون منه خوفا شديدا، حتى أطباؤه لم يكونوا يجسرون أن يخالفوا له أمرا. ولم يكن بين حاشيته إلا رجل واحد قادر أن يقف أمامه إذا غضب وهو البارون توما ده فو، فإن هذا الرجل كان يحبه محبة شديدة ويفضل سلامته على كل ثمين، وينهاه عما به ضيره ولو خاطر بنفسه، وكان بطلا محنكا جبارا في قوته، خشنا في طباعه لا يعرف التمليق ولا التدليس، يخدم مولاه ويسهر عليه لا كما يخدم العبد سيده، بل كما يخدم الصديق صديقه، قياما بشروط الصداقة والمحبة.
وذات يوم كان الملك نائما في سريره يتقلب متأففا من شدة الحمى، وقد نحل جسمه وطال شعره، والبارون ده فو واقف بجانبه وهو طويل القامة ضخم الأعضاء، كث الشعر، وجهه مغطى بآثار الجراح، وموقفه بجانب سرير الملك لا يتغير إلا حينما يجرعه الدواء. والخيمة التي فيها الملك أشبه بمعرض حربي منها بفسطاط ملك رفيع الشأن، فإنها كانت مفروشة بأنواع الأسلحة وغنائم الحروب وجلود الحيوانات، وفيها ثلاثة كلاب من كلاب الصيد الكبيرة وهي محدقة بسيدها كأنها تقول له: «متى تقوم وتمضي بنا إلى الصيد والقنص؟» وترسه المثلث على مائدة صغيرة بجانب السرير، وهو من الفولاذ الصقيل وعليه رسم ثلاثة أسود رابضة، وبجانب الترس فأسه المشهورة التي كان يضرب بها الفارس فيشطره شطرين، وعلى باب الخيمة ثلاثة من رؤساء الحرس تلوح عليهم أمارات القلق وانشغال البال خوفا على مولاهم وعلى نفوسهم إذا طال مرضه. وخارج الخيمة كثيرون من الخدم والحشم، وكلهم كاسف البال مبلبل الأفكار. فقال الملك بعد أن سكت عن الكلام وقتا طويلا بسبب شدة الحمى: «هل صار فرساننا نساء ونساؤنا راهبات وانمحت الشجاعة من معسكر فيه نخبة فرسان أوروبا؟»
فقال له البارون ده فو: «الهدنة تمنعنا عن الحرب والجلاد يا مولاي، أما النساء فلا أعلم من أمرهن شيئا إلا أن الجميلات منهن ذهبن برفقة الملكة والأميرة إلى دير عين جدي لإيفاء نذر نذرنه لأجل سلامتك.»
فقال الملك: «وكيف خاطرن بأنفسهن وذهبن إلى مكان لا مأمن للرجال فيه؟» فأجابه البارون: «هن في مأمن من كل خطر؛ لأنهن أخذن إجازة من صلاح الدين.» فقال الملك: «صدقت، ولهذا السلطان منة علي ومن لي بأن أفيه إياها في ميدان النزال.» ولما قال ذلك أخرج ذراعه من تحت الدثار وهزها كما يهزها وهو قابض على سيفه أو على فأسه، فقبض عليها البارون ده فو وردها إلى تحت الدثار، وقال له: «أفرغ صبرك من هذه الحمى؟»
فقال: «أنا مريض، ولكن ما مرض ملوك النصارى؟ ماذا أصاب ملك فرنسا ودوق النمسا؟ ماذا أصاب مركيز منسرات ورئيس الاسبيطارية والهيكلية؟ ما هذا الداء العياء؟ وما هذا الفالج الذي منعهم من الحركة والكلام؟ وما هذه الآكلة التي أكلت قلوبهم ونخرت عظامهم حتى نسوا إلههم وداسوا شرفهم؟!»
فقال البارون: «بالله عليك يا مولاي أقصر عن هذا الكلام؛ فقد تناقلته عنك الألسن وكاد شملنا يتمزق بسببه، أولا تعلم أنهم بدونك لا يقدرون أن يفعلوا شيئا؟»
ناپیژندل شوی مخ