إذا وجدوا خرقا أرادوا اتساعه
فعلم الأمير من هذا الكلام أن ملوك النصارى منقسمون فيما بينهم كملوك المسلمين، ولكن أبت شهامته وعزة نفسه أن يتخذ ذلك فرصة لتوسيع الخرق، فتغاضى عما سمع كأنه لم يفهم منه شيئا. ثم قطعا الغور ووصلا إلى نجد من الأرض كثير الآكام والحزون والشواهق والكهوف، فأخذ الأمير يقص على الفارس نوادر الضواري واللصوص التي تسكن تلك المغاير، فلم يحفل الفارس بها كثيرا؛ لأنه حسب نفسه بمأمن منها كلها، ثم خطر له أنه في القفر الذي جرب فيه السيد المسيح أربعين يوما فأفزعته أفكاره، وخيل له أن الأرض مسكونة بالجن والشياطين، فجعل يصلي ويتعوذ بالله.
وكان الحر قد زال وعاد الهواء إلى الاعتدال، فطابت نفس الأمير وتحركت فيه الشجون، فجعل ينشد الأشعار الغرامية ويشبب بربات الجمال ومخدرات الحجال، فتعوذ الفارس من شره وقال في باله: «ما رفيقي إلا شيطان مريد قد اقتفى أثري ليحول أفكاري عن التقوى ويحبب إلي حطام هذه الدنيا.» فحار في أمره ولم يدر كيف يتخلص منه؟ ولما رآه يزداد تصببا وتشبيبا قال له: «أيها الغبي، أما علمت أن إبليس اللعين يرصد الناس في هذه الكهوف والمغاير؟! فارعو عن غيك، ودع ذكر هواك وزهوك.» فأنكر الأمير هذا الخطاب ولكنه كظم الغيظ ولطف الجواب، فقال له: «أظنكم لا تتعلمون اللطف والأدب في بلادكم؛ فإنك التهمت أمامي فخذا من لحم الخنزير وكرعت زقا من النبيذ، وكلاهما رجس في شريعتنا، فلم أردعك عن ذلك ولا شددت عليك النكير، وأنت يثقل عليك أن أخفف مشقة الطريق بنشيد الأشعار، والشعر ريحانة النفوس.»
فقال الفارس: «اعلم يا صاح أني لا أذم الشعر ولا الغناء؛ فإن لهاتين الصناعتين المقام الأرفع عندنا، ولكن الصلاة والتسبيح أجدر بهذا المكان من التصابي والتشبيب؛ لأنه ملجأ للجن والأبالسة.»
فقال الأمير مازحا: «أوتحتقر الجن ونحن من أبنائهم؟» قال الفارس: «وكيف ذلك؟!» فجعل الأمير يقص عليه قصة ملفقة، فقال: «إن ملكا من ملوك الفرس طغى وتجبر وأكره رعيته أن تضحي له الضحايا من دماء الناس، وكان لأحد الحكماء سبع بنات كأنهن الدراري السبع فأصابتهن النوبة وجيء بهن إلى هذا الملك، فلما وقفن في الدهليز المؤدي إلى مسكنه انشقت الأرض وخرج منها سبعة رجال من مردة الجان، فحملوا البنات وأخذوهن إلى قصر مسحور في جبال كردستان وأولدوهن سبعة صبيان، فولدوا قبائل الأكراد السبع بين الإنس والجن.»
فلما سمع الفارس هذه القصة لم يشك في صحتها؛ لأن الأوهام كانت سائدة على عقول الناس في تلك الأيام، فقال للأمير: «هذا الذي ظننته من أمركم فإنكم أبطال أشداء كأبيكم إبليس! ولكنكم تفسدون في الأرض مثله.» فضحك الأمير من كلامه، وقال: «صدقت، فإن الشريعة المطهرة لم تغير من طباعنا شيئا، وعندنا أن الله سبحانه سوف يرضى عن الجن والأبالسة ويردهم إلى المقام الذي سقطوا منه.» ثم أخذ يترنم بقصيدة من قصائد الفرس القدماء يمدح بها إله الخير وإله الشر، ومنها قوله:
إني أنادي بمدح السيد العلم
أهور مزد لمن يصغي إلى كلمي
وأهرمان إله الشر أمدحه
مخافة الشر أو حفظا من الألم
ناپیژندل شوی مخ