ما ضاق عنهم القصر، وراق منهم العصر، والناس قد حشروا بضفتي الوادي، وبكوا بدموع كالغوادي، فساروا والنوح يحدوهم، والبوح باللوعة لايعدوهم، وفي ذلك يقول ابن اللبانة: بسيط
تبكي السماء بمزن رائح غاد ... على البهاليل من أبناء عباد
على الجبال التي هدت قواعدها ... وكانت الأرض منهم ذات أوتاد
عريسة دخلتها النائبات على ... أساود لهم فيها وأساد
وكعبة كانت الآمال تخدمها ... فاليوم لا عاكف فيها ولا باد
يا ضيق أفقر بيت المكرمات فخذ ... في ضم رحلك واجمع فضلة الزاد
ويا مؤمل واديهم ليسكنه ... خف القطين وجف الزرع بالوادي
وأنت يا فارس الخيل التي جعلت ... تختال في عدد منهم وأعداد
ألق السلاح وخل المشرفي فقد ... أصبحت في لهوات الضيغم العادي
لما دنا الوقت لم تخلق له عدة ... وكل شيء لميقات وميعاد
أن يخلعوا فبنوا العباس قد خلعوا ... وقد خلت قبل حمص أرض بغداد
حملوا حريمهم حتى إذا غلبوا ... سيقوا على نسق في حبل مقتاد
وأنزلوا في متون الشهب واحتملوا ... فريق دهم لتلك الخيل انداد
وعيث في كل طوق من دروعهم ... فصيغ منهن أغلال لأجياد
نسيت إلا غداة النهر كونهم ... في المنشآت كأموات بالحاد
والناس قد ملأوا العبرين واعتبروا ... من لؤلؤ طافيات فوق أزباد
حط القناع فلم تستر مخدرة ... ومزقت أوجه تمزيق أبراد
حان الوداع فضجت كل صارخة ... وصارخ من مفداة ومن فاد
سارت سفائنهم والنوح يصحبها ... كأنها إبل يحدو بها الحادي
كم سال في الماء من دمع وكم حملت ... تلك القطائع من قطعات أكباد
ولما نقل من بلاده، وأعرى من طارفه وتلاده، وحمل في السفين، وأحمل في العدوة محل الدفين، تنبه منابره وأعواده، ولا يدنو منه زواره ولا عوادة، بقي آسفا تتصعد زفراته، وتطرد أطراد المذانب عبراته، لا يخلو بموانس، ولا يرى إلا عرينا بدلا من تلك المكانس، ولما لم يجد سلوا، ولم يؤمل دنوا، ولم يروجه مسرة مجلوا، تذكر منازله فشاقته، وتصور بهجتها فراقته، وتخيل استيحاش
مخ ۲۳