يقول العبد الفقير إلى الله تعالى عبد الله بن عبد الظاهر أن أبا الحجاج يوسف ما برح لأهل الصلاح ميمما، وله جودة صناعة استحق بها أن يدعى قيما، كم له عند جسد من من جسيم، وكم أقبل مستعملوه تعرف في وجوههم نضرة النعيم، وكم تجرد مع شيخ صالح في خلوة، وكم قال ولي الله يا بشراي لأنه يوسف حين أدلى في حوض دلوه، كم خدم من العلماء والصلحاء إنسانا، وكم ادخر بركتهم لدنيا وأخرى فحصل من كل منهم شفيعين مؤتزرا وعريانا، كم شكرته أبشار البشر، وكم حك رجل رجل صالح فتحقق هنالك أن السعادة لتلحظ الحجر، قد ميز بخدمة الفضلاء أهله وقبيله، وشكر على ما يعاب به غيره من طول الفتيلة، كم ختم تغسيل رجل بإعطائه براءته يستعملها ويخرج من حمام حار، فاستعملها وخرج فكانت له براءةً وعتقا من النار، كم أوضح فرقا، وغسل درنا مع مشيب فكان الذي أنقى فما أبقى، تتمتع الأجساد بتطييبه لحمامه بظل ممدود وماء مسكوب، وتكاد كثرة ما يخرجه من المياه أن يكون كالرمح أنبوبا على أنبوب، كم له بينة حر على تكثير ماء يزول به الاشتباه، وكم تجعدت فباءت كالسطور في كل حوض فقل هذا كتاب الطهارة باب المياه، كم رأس انشدت موساه حين أخرجت من تلاحق الإنبات خضرا:
ولو أنّ لي في كلّ منبت شعرةٍ ... لسانا يبثّ الشكر كنت مقصّرا
أقول: ليس يخفى ما في هذا الكلام من التورية والاستخدام وحل الأبيات والحديث وغيره، ولولا خوف الإطالة لذكرت ذلك.
وما أحسن قول النصير الحمامي وألطفه:
لي منزلٌ معروفه ... ينهلّ غيثا كالسحب
أقبل ذا العذر به ... وأكرم الجار الجنب
وقوله أيضًا:
وكدّرت حمّامي بغيبتك التي ... تكدّر من لذّاتها كلّ مشرب
فما كان صدر الحوض منشرحا بها ... ولا كان قلب الماء فيها بطيّب
وكتب يستدعي إلى حمامه:
من الرّأي عندي أن تواصل خلوةً ... لها كبدٌ حرى وفيض عيون
تراعي نجوما فيك من حرّ قلبها ... وتبكي بدمعي فارحٍ وحزين
غدا قلبها صبا عليك وأنت إن ... تأخرت أضحى في حياض منون
وللناس في مدح الحمام وذمها أشياء مليحة ليس هذا موضع ذكرها خوف الإطالة.
أمثلة على الألغاز الحسان
ومناقشة الفرق بين اللغز والتعريض
قال: ومما سمعته من الألغاز الحسان التي تجري في المحاورات، ما يحكى عن عمر بن هبيرة وشريك النميري. وذلك أن عمر كان سائرا على برذون له، وإلى جانبه شريك النميري، فتقدمه شريك في المسير فصاح به عمر: اغضض من لجامها. فقال: أصلح الله الأمير، إنها مكتوبة. فتبسم عمر ثم قال له: ويحك لم أرد هذا. فقال له شريك: ولا أنا أردته.
وكان عمر أراد قول جرير:
فغضّ الطرف إنّك من نميرٍ ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا
فأجابه شريك بقول الآخر:
لا تأمننّ فزاريا خلوت به ... على قلوصك واكتبها بأسيار
الفرق بين اللغز والتعريض
أقول: ليس هذا وأمثاله من الإلغاز في شيء، لأن اللغز هو أن تذكر شيئًا بصفات يشاركه فيها غيره، فيرجع الذهن في ذلك إلى حيرة لا يدري مصرفها إلى أي متصف منهما بتلك الصفات، لكونها تصدق من جهة وتكذب من أخرى. واشتقاقه من اللغيزي، وهي حفر يحفرها اليربوع تحت الأرض، ويجعلها متشعبة يمنة ويسرة ليخفي أمره على من يقصده، فإذا طلبه في واحد منها خرج من آخر.
ألا ترى أن السامع إذا سمع قول القائل:
جاريةٌ جاءت من الهند ... يحثّها السير إلى القصد
لها بناتٌ لسن من جنسها ... في حدّهم جزن عن الحد
لهم قرونٌ ولها حافرٌ ... وذاك من أغرب ما أُبدي
وأعجب الأشياء أولادها ... يكلّمون الناس في المهد
1 / 84