ولولا خوف الإطالة، وأني لم أضع هذه الأوراق لهذا، لأتيت بالشواهد على ذلك. لتعلم أيها الواقف على كتابي هذا أن ابن الأثير ﵀ ما أتى بطائل، ولا رقت بكلامه أنفاس الأسحار ولا برود الأصائل، وأنه لو تأخر وجوده إلى هذا العصر علم أن قوله ليس بحجة، وأن قطره يغرق في مثل هذه اللجة، وأن الناس قد بلغوا محط الرحال وهو إلى الآن في الدلجة.
وما أحسن قول مجاهد الخياط يهجو أبا الحسين الجزار:
أبا الحسين تأدّب ... ما الفخر بالشّعر فخر
وما تبلّلت منه ... بقطرةٍ وهو بحر
وإن أتيت ببيتٍ ... وما لبيتك قدر
لم تأت بالبيت إلاّ ... عليه للنّاس حكر
وقد وضعت كتابا في التورية وسمته فض الختام عن التورية والاستخدام فإن أردت أن تكشف عن ماهية ذلك وتقف على محاسنه، فقف عليه، لعله يكون فيه لك زبدة، أو تجد فيه على ما ترونه نجدة.
ثم قال من فصل يذكر فيه الحمى: ولهذا صارت الأدوية في علاجها ليست بأدوية، وأصبحت أيام نحرها في الناس غير مبتدئة بأيام تروية.
أقول: ليس في السجعة الأولى طائل وهي كلام فارغ. وأما الثانية فما فيها غير التورية بيوم التروية للنحر، وليس في ذلك أمر كبير.
وما أحسن قول الجزار:
إني لمن معشر سفك الدماء لهم ... دأبٌ، وسل عنهم إن رمت تصديقي
تضيء بالدّم إشراقا عراصهم ... فكلّ أيامهم أيام تشريق
وأما أبيات المتنبي في الحمى فما لأحد مثلها في حسنها. منها:
وزائرتي كأنّ بها حياءً ... فليس تزور إلاّ في المنام
بذلت لها المطارف والحشايا ... فعافتها وباتت في عظامي
يضيق الجلد عن نفسي وعنها ... فتوسعه بأنواع السّقام
إذا ما فارقتني غسّلتني ... كأنّا عاكفان على حرام
كأنّ الصّبح يطردها فتجري ... مدامعها بأربعةٍ سجام
وحذا السّراج الورّاق حذوه فقال:
وزائرتي وليس بها احتشامٌ ... تزور ضحىً وتطرق في المنام
بها عهرٌ وليس لها عفافٌ ... عن الشّيخ الكبير ولا الغلام
إذا طرقت أعاذ الله منها ... سلوت عن الكرائم والكرام
لها في ظاهري حرٌ وبردٌ ... بقلبي والفتور ففي العظام
تلهوج نارها لحمي طعاما ... وتشرب من دمي صرف المدام
وأصوات الغناء لها أنيني ... فما تنفك من هذا المقام
تضاجعني على ضعفي وشيبي ... وقد أعييت ربات الخيام
إذا ما فارقتني غسّلتني ... لأني قد وصلت إلى حمامي
وما أحسن قول أمهدوست الديلمي:
وزائرةٍ تزور بلا رقيب ... وتنزل بالفتى من غير حبّه
تبيت بباطن الأحشاء منه ... فيطلب بعدها من عظم كربه
وتمنعه لذيذ العيش حتّى ... تنغّصه بمطعمه وشربه
أتت لزيارتي من غير وعدٍ ... وكم من زائرٍ لا مرحبا به
وقول ناصر الدين حسن بن النقيب:
أقول لنوبة الحمى اتركيني ... ولا يك منك لي ما عشت أوبه
فقالت: كيف يمكن ترك هذا ... وهل يبقى الأمير بغير نوبه
وقد ظرف مجير الدين محمد بن تميم في قوله، وقد حم النور الإسعردي:
أخفوا شماتتهم لديّ وأقبلوا ... في زي مقروح الفؤاد كليم
قالوا بأنّ النّور حمّ فقلت لا ... يس حول النّور من حم
هكذا تكون مقاصد أهل الأدب وتورياتهم وأوصافهم، ليس كما قال ابن الأثير الأدوية في علاجها ليست أدوية.
وأقوال الناس في المليح المحموم مشهورة فلا حاجة إلى ذكرها. وكنت في وقت قد كتبت إلى بعض الأصحاب كتابا أشكو فيه الحمى. من ذلك: وينهي لا بل يشكو حاله التي ليس له منها بدل، وآلامه التي كلمت أعضاءه فلا يطيق جلده قطع ذاك الجدل، وحماه التي يلدغه منها عقرب وترميه قوس فليت جسمه مع ذلك حمل، واتصال رشح عرقه الذي لا يقال مع بحره سآوي من الصبر الجميل إلى جبل، فأين قولهم لقيت منها عرق القربة، ممن لقي منها غرق الكربة.
1 / 80