وقد ألقى كساء أبي عبيد ... عليك فصرت أكسى أهل نجد
أراني الله عينك في الجعبى ... وعينك عين بشار بن برد
فإن الشاعر أراد بأخي لخم جذاما، وببنت سعد عذرة، وبأبي عبيد الأبرص، وبعين بشار العمى.
وقول محمد بن عبدون في خمر عادت خلا:
ألا في سبيل اللهو كأس مدامةٍ ... أتتنا بطعم عهده غير ثابت
حكت بنت بسطام بن قيسٍ صبيحةً ... وراحت كجسم الشّنفري بعد ثابت
أراد ببنت بسطام صهباء، وبجسم الشنفري قوله:
فاسقنيها يا سواد بن عمرو ... إن جسمي بعد خلي لخلّ
وقول الآخر:
ويدعي الشرب في كأس وفي قدح ... وأم عنترة العبسي تكفيه
أي تكفيه زبيبة لأنها اسم أم عنترة العبسي.
ولولا النقل لما علم من هذه الكنايات شيء، وليس للعقل هنا مجال. فقد اتضح أن بعض البيان نقلي.
وإن أراد بالبين علم المعاني الذي هو ما يعرف به تتبع خواص تراكيب الكلم، من أحوال الإسناد الخبري، وأحوال المسند إليه، وأحوال المسند، والفصل والوصل، والإيجاز والإطناب وأحوال الطلب، فأكثر ذلك تتوقف معرفته على النقل، إذ المسند والمسند إليه هما المبتدا والخبر، وأحوال كل منهما متنوعة، من تقديم وتأخير لكل منهما وتعريفهما وتنكيرهما، وحذف هذا تارة وذلك أخرى، ومجيء المسند إليه تارة اسمًا وتارة فعلًا إما ماضيًا وإما مضارعًا. ولولا خوف الإطالة لضربت أمثلة ذلك، ولكنها معلومة من النحو. وجميع ذلك الأصل فيه ما ورد به النقل.
وهذا هو جل علم المعاني. فقد ثبت أن البيان ليس بعقلي كما ادعاه ابن الأثير، بل بعضه عقلي وبعضه نقلي. على أنه قد أورد الناس على علم المعاني فقالوا: إن كان بديهيا لم يحتج إلى تعلمه وتدوينه، وذكره مستغنى عنه، وإن كان كسبيا افتقر إلى علم آخر، ودار أو تسلسل. وما أفضى إلى ذلك فهو باطل.
وأجيب بأنه ليس الكل بديهيًا فيلزم ذلك. بل البعض بديهي يدرك بالذوق السليم والذهن المستقيم، والبعض كسبي يؤخذ بالنقل.
ولما كان الناس على ثلاث طبقات: الأولى أصحاب الطبع السليم وهم العرب الخلص الذين يوردون الكلام بسجيتهم موارده، فهؤلاء مستغنون عن تعلمه لأنه لهم جبلة وفطرة. والطبقة الثانية الجفاة أصحاب الفظاظة والطباع النافرة الذين لا شعور لهم بمعاني الكلام، ولا استعداد لهم لتحصيل ذلك، فهؤلاء أيضًا مستغنون عن تعمله، فإنه لا فائدة لهم فيه. والطبقة الثالثة هم المتوسطون، بين هؤلاء وبين هؤلاء، قد يصيبون تارة في أفكارهم وقد يخطئون. فهؤلاء هم الذين وضعت لهم هذه الآلة. فإذا راعوا قوانينها المدونة، وحدودها المقررة، كانوا أبعد عن الخطأ. وحينئذ لا تستغني هذه الطبقة عن تعلم هذه الآلة.
تعليلات النحاة
قال في هذا الفصل أيضًا: والذي تكلفه النحاة من التعليلات واه لا يثبت على محك النظر.
أقول: قد أجابه ابن أبي الحديد في الفلك الدائر عن ذلك. ولكن ما أنضج القول معه، ويحتاج إلى بقية تذنيب. وهو أن يقال له: ما كأنك نظرت في هذا العلم حق النظر ورأيت ما ذكره ابن السراج والرماني وأبو علي والسيرافي ومن بعدهم مثل: ابن جني وما أتى به في كتاب الخصائص وسر الصناعة وابن الأنباري في أسرار العربية وغير ذلك من حسن التعليل لأحكام النحو، والمناسبات التي أبدوها وإن كان في البعض تسامح لما أنهم التزموا بتعليل كل ما ورد عن العرب. وكما التزم أبو علي في الحجة بتعليل القراءات السبع، وابن جني في المحتسب في تعليل القراءات الشاذة وليس كل ذلك ما يطابق قواعد النحو في الظاهر أكثر من قراءة أبي عمرو رحمه الله تعالى، لأنه كان أقعدهم بالنحو، ولهذا شنع النحاة على ابن عامر ﵀ في قراءته المشهورة قوله تعالى " وكذلك زُين لكثير من المشركين قتلُ أولادَهم شركائهم ". بتغيير زين لما لم يسم فاعله، ورفع قتل مفعول له، ونصب الدال من أولادهم على أنه مفعول المصدر الذي هو قتل، وجر شركائهم لأنه فاعل المصدر وجره على الإضافة، ولا يضاف المصدر إلا إلى فاعله.
1 / 13