كلمة لا بد منها
تصدير
نظرة عامة خاطفة في نشوء لغة قحطان
مصطلحات لغوية لا بد منها
اتفاق وضع أبناء العرب، مع وضع أبناء الغرب
ترتيب نشوء المفردات في أول وضعها
إثبات ما تقدم من كلام السلف
أوائل صيغ الفعل المزيد أو أوائل أوزانه
زيادة الأحرف على الأسماء
موسعات لغة العرب
القلب
الإبدال
اجتماع القلب والإبدال في الكلمة الواحدة، أو اجتماع قلبين فيها أو إبدالين فيها
التصحيف
الاحتباء في التصحيف أو الاحتباء
التصحيف الناشئ من تشابه رسم الحروف
التحريف
اجتماع التصحيف والتحريف معا
اجتماع التصحيف والتحريف والقلب والإبدال معا في الكلمة الواحدة
المعرب أو الدخيل في العربية
تصحيفات وتحريفات وتشويهات المعربات
تناظر العربية واليونانية
تناظر اللاتينية (الرومية) والعربية
تناظر الفارسية واللغات المندثرة القديمة للعربية
جواب على اعتراض بخصوص العربية الأولى والمتأخرة
تناظر اللغات السامية والعربية
تناظر اللغات السكسونية والعربية
منافع معارضة العربية بغيرها من اللغات
شروط الأخذ من لغة
الحرب بين الكلم العربية والغريبة
أي الدخيل الحديث يقتل وأيه يستحيا؟
موت كلم عربي وزواله واندراسه
أمثلة من الألفاظ المماتة أو البائدة
ما يعمر ولا يموت في هذه اللغة
أصول الكلم وتراكيب حروفها
أوزان العربية وصيغها
اتفاق أصول العربية مع اللغات اليافثية
تكامل1 العربية بوجوهها المختلفة أو اكتهالها
تذييل في أصل الحواري
موجز هذا الكتاب
خاتمة
أسماء بعض الحيوانات الواردة في هذا الكتاب
فائدة في الطيور الملقمة
كلمة لا بد منها
تصدير
نظرة عامة خاطفة في نشوء لغة قحطان
مصطلحات لغوية لا بد منها
اتفاق وضع أبناء العرب، مع وضع أبناء الغرب
ترتيب نشوء المفردات في أول وضعها
إثبات ما تقدم من كلام السلف
أوائل صيغ الفعل المزيد أو أوائل أوزانه
زيادة الأحرف على الأسماء
موسعات لغة العرب
القلب
الإبدال
اجتماع القلب والإبدال في الكلمة الواحدة، أو اجتماع قلبين فيها أو إبدالين فيها
التصحيف
الاحتباء في التصحيف أو الاحتباء
التصحيف الناشئ من تشابه رسم الحروف
التحريف
اجتماع التصحيف والتحريف معا
اجتماع التصحيف والتحريف والقلب والإبدال معا في الكلمة الواحدة
المعرب أو الدخيل في العربية
تصحيفات وتحريفات وتشويهات المعربات
تناظر العربية واليونانية
تناظر اللاتينية (الرومية) والعربية
تناظر الفارسية واللغات المندثرة القديمة للعربية
جواب على اعتراض بخصوص العربية الأولى والمتأخرة
تناظر اللغات السامية والعربية
تناظر اللغات السكسونية والعربية
منافع معارضة العربية بغيرها من اللغات
شروط الأخذ من لغة
الحرب بين الكلم العربية والغريبة
أي الدخيل الحديث يقتل وأيه يستحيا؟
موت كلم عربي وزواله واندراسه
أمثلة من الألفاظ المماتة أو البائدة
ما يعمر ولا يموت في هذه اللغة
أصول الكلم وتراكيب حروفها
أوزان العربية وصيغها
اتفاق أصول العربية مع اللغات اليافثية
تكامل1 العربية بوجوهها المختلفة أو اكتهالها
تذييل في أصل الحواري
موجز هذا الكتاب
خاتمة
أسماء بعض الحيوانات الواردة في هذا الكتاب
فائدة في الطيور الملقمة
نشوء اللغة العربية ونموها واكتهالها
نشوء اللغة العربية ونموها واكتهالها
تأليف
أنستاس ماري الكرملي
كلمة لا بد منها
عقدت هذا الكتاب على تسعة وثلاثين فصلا، وختمته بموجز هو بمنزلة خلاصة له، وقد توخيت ألا تكون هذه الفصول متناسقة في الطول، ولا في القصر، ليشعر القارئ بأن ما كان منها قصيرا يجد مثل موضوعه شيئا كثارا في تصانيف النحاة واللغويين الأقدمين على اختلاف عصورهم وطبقاتهم.
وأما الفصول الطوال، فهي من وضعي، فلا يصيب القارئ ما يضارعها في أسفار القابضين على اليراع؛ فأشبعت البحث قولا، وإن لم أقل كل ما كنت أود أن أقوله؛ لأن ما تعرضت له لم يذكره غيري، أو ربما يستغربه المطالع أو ينكره علي.
وقد تعودت سماع النقد، بل أقذع النقد وأقبحه حتى مردت عليه، فإن كان القائل مصيبا في قوله أو في بعض قوله أجبته، وإلا نبذته نبذ النواة، تاركا له الدهر ليؤدبه، فهو أحسن مؤدب لمن يأكل قلبه الحسد أو الحقد أو الضغينة أو ما تريد أن تسميه، وكفى.
الأب أنستاس ماري الكرملي
من أعضاء مجمع اللغة العربية الملكي
باسمه العظيم بعد حمد الله تعالى على آلائه وأنواره أقول ...
تصدير
هذا بحث لغوي، جريت فيه على الأسلوب الحديث، تمحيصا للحقيقة، ودفاعا عن اللغة المضرية ، وإيضاحا لما فيها من دقائق الأوضاع، وخفايا الأسرار، وغوامض الحروف وخصائصها، وبدائع الصيغ وأوزانها، وما فيها من مختلفات لغى القبائل، متوقعا البلوغ به إلى الحق، غير مبتغ أجرا ولا شكورا؛ إنما كل أمنيتي خدمة العربية، وحمل أبنائها على السير في مثل هذا النهج، ليعلم غيرهم أن لسان العرب فوق كل لسان، ولا تدانيها لسان أخرى من ألسنة العالم جمالا، ولا تركيبا، ولا أصولا، ولا ... ولا ... ولا ...
نظرة عامة خاطفة في نشوء لغة قحطان
اللغويون على فريقين متعادلين على سرر موضونة؛ فريق يذهب إلى أن الكلم وضعت في أول أمرها على هجاء واحد: متحرك فساكن؛ محاكاة لأصوات الطبيعة، ثم فئمت (أي زيد فيها حرف أو أكثر في الصدر أو القلب أو الطرف)، فتصرف المتكلمون بها تصرفا يختلف باختلاف البلاد والقبائل والبيئات والأهويه، فكان لكل زيادة أو حذف أو قلب أو إبدال أو صيغة معناة أو غاية أو فكرة، دون أختها، ثم جاء الاستعمال فأقرها مع الزمن، على ما أوحته إليهم الطبيعة، أو ساقهم إليه الاستقراء والتتبع الدقيق، وفي كل ذلك من الأسرار، والغوامض الآخذة بالألباب، ما تجلت لها بعد ذلك تجليا بديعا استقرت على سنن وأصول وأحكام ثابتة لن تتزعزع.
وفريق يقول: إن الكلم وضعت في أول نشوئها على ثلاثة أحرف بهجاء واحد أو بهجاءين، ثم جرى عليها المتكلمون بها، على حد ما تقدمت الإشارة إليه قبيل هذا، فاتسعت لهم الآفاق المتنوعة، وظهرت الفروق، وكثرت اللغات، واختلفت اللثغات، إلى آخر ما كان من هذا القبيل، على السبيل الذي اتضح لك آنفا.
على أننا اتبعنا الرأي الأول منذ أن أولعنا بهذه اللغة المبينة الرائعة، فأخذنا بنشره وتفصيل دقائقه منذ سنة 1881، وأوضحنا كثيرا من مناحيه في الصحف والمجلات التي كانت تنشر يومئذ في الديار العربية اللسان، ولا ننفك نصرح به إلى يومنا هذا، دون ما ملل ولا وجل، نبوح به على رءوس الملأ، أو نجهر به في المجالس، أو ندافع عنه في المجامع، أو ندعمه في الأندية، حتى إنه لم يخف على أحد ، بل عرفنا به لدى الجميع، والناس لنا بين مادح وقادح، وهم كلما زادونا قدحا زدناهم مدحا، وازددنا مضيا في وجهنا لا نلوي على غير الرأي المذكور بعد أن تجلت لنا صحته وظهرت لنا محاسنه وأطايبه.
مصطلحات لغوية لا بد منها
عرف بعض حذاق أبناء يعرب الأقدمين هذا الرأي ومالوا إليه، وممن قال به ولم يحد عنه قيد شعرة الأصبهاني صاحب كتاب غريب القرآن؛ فإنه بنى معجمه الجليل على اعتبار المضاعف هجاء واحدا، ولم يبال تكرار حرفه الأخير، فهو عنده من وضع الخيال، لا من وضع العلم ولا التحقيق؛ أي إنه إذا أراد ذكر «مد يمد مدا» مثلا في سفره، ذكرها كأنها مركبة من مادة «مد» أي ميم ودال ساكنة، ولا يلتفت أبدا إلى أنها من ثلاثة أحرف أي «م د د»، كما يفعل سائر اللغويين، ولهذا السبب عينه يذكر «مد» قبل «مدح» مثلا، ولا يقدم هذه على تلك، على ما نشاهده في معظم معاجم اللغة؛ كالقاموس ولسان العرب وأساس البلاغة وتاج العروس وغيرها.
والمستشرقون وضعوا معاجمهم مقتفين أثر الأصبهاني، ولم يبتكروا الطريقة من عندهم، بخلاف ما يظنه جمهور المتطفلين على اللغة.
ويسمى الحرفان اللذان ينشأ منهما معنى، أو إن شئت فقل - ويسمى الهجاء الواحد إذا أفاد معنى - «مادة»، أو «تركيبا»، أو «أصلا»، أو «ترجمة».
ويلازم كلا من هذه الأسماء الأربعة هذا الاصطلاح، وإن تعدد الهجاء فكان اثنين أو ثلاثة أو أكثر.
وقد استقلت كل مادة بمعنى فاشتهرت به، وإذا تقاربت أحرف بمخارجها من أحرف مخارج كلم أخرى، تدانت أيضا معانيها بعضها من بعض وتلازمت وتضامت وظهرت القربى بينهما كل الظهور؛ مثال ذلك:
لدمه:
أي ضربه بشيء ثقيل يسمع وقعه.
ولطمه:
أي ضرب خده أو صفحة جسده بالكف مفتوحة، أو بباطن كفه.
ولتمه:
ضربه، وأكثر ما يكون اللتم: الطعن في النحر.
ولثم أنفه:
لكمه.
ولحمه:
أضر به وناله بمكروه.
ولخمه:
لطمه.
ولدمه:
لطمه.
ولكمه:
ضربه باليد مجموعة الأصابع، أو لكزه، أو دفعه، إلى آخر تلك الأمثال، وكل حروفها متقاربة المخرج ومتقاربة المعنى الذي هو «الضرب».
وإذا زاد الهجاء حرفا فصار هجاءين أو ثلاثة أو أربعة سمي ما زاد على أوله: «تصديرا
»، وما زاد في قلبه «حشوا
INFIXE »، وما زاد في آخره «كاسعا
SUFFIXE »، وما زاد في أوله أو آخره «مطرفا
AFFIXE »، وما زاد في أي موضع كان سمي «مفئما
» والمصدر التفئيم، ويقال له أيضا: «الضم» و«التوسيع».
وهناك غير هذه الأسماء لهذه الأوضاع نفسها، فذكرنا ما اشتهر منها.
ونحن نورد هنا أمثلة على التصدير والحشو والكسع. (1) أمثلة التصدير
ثرم:
الثرم محركة، انكسار السن من أصلها أو سن من الثنايا، والرباعيات، أو خاص بالثنية. ثرم كفرح فهو أثرم وهي ثرماء (ق) وفي الثرم معنى القطع.
جرم:
الجرم: القطع. جرمه يجرمه جرما: قطعه (ق).
حرم:
حرمه الشيء يحرمه وحرمه يحرمه حريما وحرمانا وحرما وحرمة وحرما وحرمة وحريمة: منعه إياه، ومنه حرم أسقف النصارى فلانا: قطعه من شركة المؤمنين، والاسم الحرم بالكسر، وفيه معنى القطع (محمح).
خرم:
خرم الخرزة يخرمها وخرمها فتخرمت: فصحها، وفلانا. شق وترة أنفه، وهي ما بين منخريه فخرم هو كفرح أي تخرمت وترته، والخرمة، محركة، موضع الخرم من الأنف، والخرماء: الأذن المنخرمة (ق) والقطع ظاهر في المادة.
شرم:
الشرم: الشق، والفعل، كضرب وقطع ما بين الأرنبة، ورجل أشرم بين الشرم محركة؛ أي مشروم الأنف، ومنه قيل لأبرهة: «الأشرم» (ق).
صرم:
يصرمه صرما ويضم: قطعه بائنا، وفلانا: قطع كلامه، والنخل والشجر: جزه كاصطرمه (ق).
عرم:
عرم العظم: نزع ما عليه من لحم كتعرمه (ق).
غرم:
الغرام: الهلاك والعذاب، والغريم: الدائن والمديون، ضد (ق)، ومعنى القطع لا يخفى على أحد.
والأصل في كل ما تقدم: الرم، يقال: رم الشيء أكله، والرمة بالضم: قطعة من حبل وبكسر (ق). (2) أمثلة الحشو
من جمهور اللغوين أصحاب المعاجم المطولة.
رتم:
رتم فلان الشيء. كسره أو دقه، أو خاص بكسر الأنف.
رثم:
رثم (بثاء مثلثة) أنفه أو فاه: كسره حتى تقطر الدم منه.
رجم:
رجم فلان فلانا: قتله ورماه بالحجارة، وهذا الأخير هو الأصل في معناه، وباقي المعاني متفرع منه .
ردم:
ردم الباب: سده كله أو ثلثه.
رسم:
رسمت الناقة: أثرت في الأرض، ورسم أيضا: كتب وخط.
رشم:
رشم: كتب وخط.
رضم:
رضم الأرض: أثارها لزرع ونحوه.
رطم:
رطم بسلحه: رمى به.
رغم:
رغم فلان فلانا: كرهه وقسره وفعل شيئا على رغمه.
رقم:
رقم الكتاب: رسم حروفه، والرسم لا يخلو من ضرب القلم للورق.
ركم:
ركم الشيء: جمعه وألقى بعضه فوق بعض.
وفي كل هذه الألفاظ معنى جامع هو الكسر أو الدق أو الضرب، والأصل فيه الرم كما تقدم شرحه، لكن المفئم هنا حرف الوسط أو حرف القلب، فأحدث في محولاته غير ما أحدث فيما صدر بأحرف أخر. (3) أمثلة الكسع أو التذييل
نبأ:
نبأ الشيء: ارتفع، وعلى القوم: طلع عليهم، ومن أرض إلى أرض: خرج، ونبأ: صات خفيا أو هو صوت الكلاب مثل النبح.
نبت:
نبت الزرع: خرج من الأرض، والإنسان نما شبابه.
نبث:
البئر: أخرج ترابها، وعن الأمر والسر: بحث عنه.
نبج:
نبجت القبجة: خرجت من مكمنها.
نبح:
نبح الكلب والظبي والتيس والحية: أخرج صوتا.
نبخ:
النبخ: جدري الغنم وغيره وما نفط من اليد عن العمل، ونبخ العجين حمض وفسد فخرج عليه شيء كالرغوة أو كالنفاطات.
نبذ:
نبذ الشيء: طرحه من يده، أمامه أو وراءه، أو هو عام.
نبر:
نبر الشيء: رفعه، والمغني رفع صوته بعد خفض، والحرف همزه.
نبز:
نبزه أي لمزه بمعنى عابه وأشار إليه بعينه ونحوها وضربه ودفعه.
نبس:
نبس بالمجلس: تكلم؛ أي أخرج كلاما.
نبش:
نبش الشيء المستوي: أبرزه، والكنز عن الأرض كشفه عنها وأخرجه.
نبص:
نبص بمعنى نبس، يقال: ما ينبص أي ما يتكلم، ونبص الطائر والعصفور نبيصا: صوت ضعيفا، ونبص الغلام نبيصا: صوت بشفتيه إذا أراد تزويج طائر بأنثاه.
نبض:
نبض فلان في قوسه: أصاتها أو حرك وترها لترن، ونبض العرق: تحرك.
نبط:
الماء: نبع، ونبط فلان البئر: استخرج ماءها.
نبع:
نبع الماء: خرج من العين.
نبغ:
نبغ الشيء: خرج وظهر، والماء: نبع، وفلان: قال الشعر وأجاده ولم يكن في إرث الشعر، ونبغ رأسه: ثار منه النباغة وهي الهبرية وهي شيء كالنخالة يتساقط من الرأس.
نبق:
نبق الرجل: كتب، والشيء: خرج.
نبل:
نبل الإبل: ساقها سوقا شديدا، وكذلك إذا قام بمصلحتها.
نبك:
النبك بالفتح: ما ارتفع من الأرض، والنبك على ما قال ابن شميل: مثل الفلكة، غير أن الفلكة أعلاها مدور مجتمع، والنبكة: رأسها محدد كأنه سنان رمح، وهما مصعدتان، ومكان نابك: مرتفع.
نبه:
نبه من نومه: قام منه واستيقظ، ونبه الرجل نباهة: شرف واشتهر فهو نابه ونبيه ونبه.
نبا:
نبا الشيء: بعد وتأخر ولم يستقم مكانه، والسيف عن الضريبة نبوا: كل وارتد عنها ولم يمض، والنباوة: ما ارتفع من الأرض.
والأصل في كل ذلك من نب، يقال: نب التيس خاصة ينب نبا ونبابا ونبيبا: صاح عند الهياج.
وقد اكتفينا من كل زيادة بمادة واحدة، وإلا فإن الكلم الثلاثية كلها لا تخرج عن أن أصلها بني على هجاء واحد، ثم تفرعت الفروع بضم الحروف إليها، فجاءت المعاني متعددة مختلفة، وقد يكون هذا الاختلاف زهيدا أم غير زهيد بموجب قوة كل حرف، وما اختص به من المعنى.
اتفاق وضع أبناء العرب، مع وضع أبناء الغرب
ولما كان وضع الكلم مبنيا على محاكاة الطبيعة، وعلى الهجاء الواحد في أغلب الأحايين، قد يتفق مصطلح العرب ومصطلح أبناء الغرب إذا اتفق الخاطران في توهم صوت الطبيعة، ولا يكون هذا الأمر إلا إذا كان ثم هجاء واحد أو هجاءان اثنان لا أكثر.
فمثال الهجاء الواحد قول العرب «رد» ولا جرم أن أصله «رد» بفتح فسكون وهو في اللاتينية
REDDERE ، ومن المعلوم أن
ERE
كاسعة تكسع بها كثير من أفعالهم، كما قد تكسع بهاتين الأخريين:
IRE
كما في
FINIRE
أو
ARE
كما في
AMARE . إذن
REDDERE
ليست إلا «رد» العربية لا غير.
ومثال ما عندهم وعندنا من الأسماء
REGIO
وفي حالة الإضافة
REGIONIS
أي الناحية، فقولهم:
REGIO
ينظر إلى لفظتنا «رجا» أو «رجاء».
على أن فقهاء تلك اللغة يقولون: إن
REDDERE
مشتق عندهم من
DO
و
RE
وإن
REGIO
من
REGO
ونحن لا نوافقهم كما ترى.
ومن أفعال لغة اليونان:
ϋγω (ago)
ومعناها عندهم «ساق» فهي العربية «حجا » بمعنى ساق، ومنه قولهم: حجت الريح السفينة: ساقتها، وقولهم هذا هو من باب التنظير والتمثيل لا من باب التقييد والتخصيص.
ومن الأسماء قول الهلنيين
vâvos (NANOS) ، وقد نقلها الرومان إلى لغتهم فقالوا:
vâvos
بمعنى القزم والرجل الضعيف، وقد حار علماؤهم في تأصيل هذه الكلمة، ومن عادتهم أنهم يجدون مجانسا لكل لفظة يونانية في الهندية الفصحى أو في لسان من ألسنة أهل الغرب، وقد أقر فقهاؤهم اللغويون بأنهم لم يجدوا لها مقابلا في أي لغة من لغى تلك الديار مع ما بذلوا من السعي في هذا الوجه، أما المضرية فإنها تنادي بأنها من أصولها؛ أي إنها من «النع» بفتح فتشديد أو بضم فتشديد، قال في لسان العرب: النع (وضبطها ضبط قلم بالضم): الضعيف، وفي القاموس: والنع (وضبطها ضبط قلم بالفتح، ويكون كذلك كل مرة لا يصرح بوزن أو بكلام آخر) الرجل الضعيف. ا.ه. والذي عندنا أن الفتح هو الأفصح لوجود هذه الكلمة نفسها بالفتح في اللغتين المؤتمتين أي اليونانية واللاتينية، لكن الصاغاني ومن أخذ أخذه نقلوا عن ابن الأعرابي النع: «الضعف» كما هو نص العباب والتكملة لا الضعيف، لكن رواية المجد وابن مكرم متفقتان على أن النع هو الضعيف، وأما اختلاف الضبط فالصواب مع القاموس دون لسان العرب، ولعل ضبط هذا الديوان ناشئ من النساخ لا من المؤلف نفسه، أو لعل الضبطين جائزان، ومثل النع: النأنأة والنأناء والنؤنؤ والمنأنأ، وكلها تعني العاجز الجبان.
وقد ذكرنا من كل لغة شاهدين من باب الإشارة لا غير، وإلا فالألفاظ تعد بالمئات وهي مهيأة في معجمينا: اليوناني العربي واللاتيني العربي.
ترتيب نشوء المفردات في أول وضعها
يؤخذ مما بسطناه بين يديك أن المفردات أول ما نشأ منها كان موضوعا على هجاء واحد، محاكاة للطبيعة، أوله متحرك وثانيه متحرك، ثم جاء المضاعف من ثلاثي ورباعي، فيكون ثلاثيا إذا لم تتخيل الحركة في الشيء، ورباعيا إذا تخيلتها فيه، وإنما حرك الساكن في آخر الهجاء لحاجة الناطق إلى إسماع الحرف الأخير من الكلمة التي ينطق بها لئلا يختلط مخرج حرف بمخرج حرف آخر يقاربه ويدانيه صوتا، ولا يكون ذلك إلا بالشد على الحرف الأخير وإبرازه متحركا لكي لا يقع أدنى لبس.
ولما كان بعضهم يطيل حركة أول الهجاء، وآخرون يطيلونها في آخره، وكل يجري على ما يبدو له من توجيه فكر السامع إلى لفظه، على خلاف من يشدد الحرف الأخير من لفظته، نشأ في وقت واحد الأجوف والناقص، فالذي أراد أن يحاكي حكاية صوت صرار الليل حاكاه بأن قال: «صر» ولما حاول أن يثبت لسامعه أن الحرف الأخير هو راء قال: «صر» وشد على الحرف الأخير وهو الراء، ولما أراد أن يفهم السامع أن الصرار كان يكرر صوته قال: «صرصر» فأسكن الراء الأولى على الوضع الأول لحكاية صوت الحشرة، وحرك الثانية للإشارة إلى مواصلته للكلام، أما أنه لو لم يرد مواصلته بل قطعه، قال: «صرصر» لا غير؛ أي بتحريك الصادين وإسكان الراءين.
ولما حاول فريق أن يمدوا صوتهم على أول الهجاء اضطروا أن يقولوا: «صار» في مكان «صر»، ولم يخصوه بصرار الليل، بل أطلقوه على كل ذي صوت، وغدا معنى «صار يصور»: صوت يصوت بمعنى عام، والذين لم يمدوا أول الهجاء ومدوا آخره قالوا: «صرى يصري» وخصوا معناه بالقطع، كأن المقطوع يحكي «صرى».
وبعد أن عرف المضاعف والأجوف والناقص في وقت واحد نشأ المهموز وهو أثقل وطأة على اللسان من سائر الصيغ، فكان مهموز الأول (أو مهموز الفاء)، ومهموز الثاني (أو مهموز العين) ومهموز الثالث (أو مهموز اللام).
وفي الآخر ظهر المثال الواوي واليائي.
ونحن في ذكرنا الأفعال بهذا الترتيب لا نريد أن نقول: إنها حدثت بعد أن مر على الطائفة الواحدة منها عصور طوال أو مدد قصار، بل نريد أن نشير إلى أن تلك التحولات نشأت شيئا بعد شيء، والطائفة الأولى منها ساقت الناطقين فدفعتهم إلى ما بعدها من غير أن نعين زمنا، ولا نحدد وقتا، فهذا كله موكول إلى الغرائز والبيئات والمتكلمين بلغة يعرب، وقحطان، وإسماعيل.
إثبات ما تقدم من كلام السلف
قال ابن منظور في ترجمة «ه ج ج»: وهج هج، وهج هج، وهجا هجا: زجر للكلب، وأورد الأزهري هذه الكلمات، قال: يقال للأسد والذئب وغيرهما في التسكين، قال ابن سيده: وقد يقال: هجا هجا للإبل، قال هميان:
نسمع للأعبد زجرا نافجا
من قيلهم: أيا هجا، أيا هجا
قال الأزهري: وإن شئت قلتهما مرة واحدة، وقال الشاعر:
سفرت فقلت لها: هج، فتبرقعت
فذكرت حين تبرقعت ضبارا
وضبار: اسم كلب، ورواه اللحياني: هجي. الأزهري: ويقال في معنى هج هج: جه جه على القلب. ا.ه. كلام ابن مكرم.
وقال المذكور في تركيب «صرر»: «يقال: صر العصفور يصر إذا صاح، وصر الجندب يصر صريرا، وصر الباب يصر، وكل صوت شبه ذلك فهو صرير: إذا امتد، فإذا كان فيه تخفيف وترجيع في إعادة ضوعف، كقولك: صرصر الأخطب صرصرة، كأنهم قدروا في صوت الجندب المد، وفي صوت الأخطب الترجيع، فحكوه على ذلك، وكذلك الصقر والبازي.» وقد نقل الشارح هذا النص ولم يعزه إلى قائله على مألوف عادته.
وفي القاموس: «مأمأت الشاة والظبية: واصلت صوتها فقالت: مئ مئ.»
وقال الأزهري: «صه القوم، وصهصه بهم: زجرهم، وقد قالوا: صهصيت، فأبدلوا الياء من الهاء، كما قالوا: دهديت في دهدهت. وصه: كلمة زجر للسكوت، قال: صه لا تكلم لحماد بداهية، عليك عين من الأجذاع والقصب.
وصه، كلمة بنيت على السكون، وهو اسم سمي به الفعل، ومعناه: اسكت. تقول للرجل إذا سكنته وأسكته: صه، فإن وصلت نونت فقلت: صه صه، وكذلك: مه، فإن وصلت قلت: مه مه، وكذلك تقول للشيء إذا رضيته: بخ وبخ بخ، ويقال: صه بالكسر. قال ابن جني: أما قولهم: صه، إذا نونت فكأنك قلت: سكوتا، وإذا لم تنون، فكأنك قلت: السكوت، فصار التنوين علم التنكير، وتركه علم التعريف، وأنشد الليث:
إذا قال حادينا لتشبيه نبأة
صه لم يكن إلا دوي المسامع
قال: وكل شيء من موقوف الزجر فإن العرب قد تنونه مخفوضا؛ وما كان غير موقوف فعلى حركة صرفه في الوجوه كلها، وتضاعف صه، فيقال: صهصهت بالقوم.» ا.ه. وقال المبرد: إن وصلت فقلت: صه يا رجل! بالتنوين، فإنما تريد الفرق بين التعريف والتنكير؛ لأن التنوين تنكير، وقال ابن الأثير: وقد تكرر ذكر صه في الحديث، وهي تكون للواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث بمعنى اسكت، قال: وهي من أسماء الأفعال، وتنون، ولا تنون، فهي للتنكير كأنك قلت: اسكت سكوتا، وإذا لم تنون، فللتعريف؛ أي اسكت السكوت المعروف منك، والله تعالى أعلم. ا.ه.
ويمكننا أن نطيل النفس في الاستشهاد، لكن النتيجة واحدة وكذلك تكون الفائدة، فلقد ظهر لنا نشوء أول الكلمة وصور انتقالها من حالة إلى حالة أخرى، حتى لم يبق لنا شك في هذا التحول العجيب؛ أي انتقال الكلمة المحاكية للصوت إلى المضاعف الثلاثي والرباعي، ومما يؤيد كلام الأقدمين قول إمام اللغويين المتأخرين: الشيخ إبراهيم اليازجي، فقد جاء في مجلة الطبيب (في السنة 1884 في ص194): «إن الثنائي موضوع في الأصل على حرفين، والتشديد في الثاني طارئ من قبل الصناعة ... فإنك إذا تفقدت هذه الأفعال في العبرانية والسريانية وجدتها فيهما مخففة ساكنة الأواخر، جريا على الحكاية الأصلية؛ لأن الذي سمع قرع جسم بآخر مثلا سمع شيئا يحاكي «دق» بالإسكان، فحكاه بصورته مخففا، ثم لما احتاجوا إلى تحريك الثاني في بعض الصور التصريفية، كرهوا أن يوالوا بين متحركين لا فاصل بينهما، فوسطوا بينهما ساكنا، إما من جنس ذلك المتحرك، فقالوا: «دقو» مثلا بالتشديد، وهو اختيار العبرانيين، وعليه جرت العرب، أو حرف مد من جنس حركة الأول فقالوا: «داقون» أي «دقوا» أيضا، وهو اختبار السريان.» ا.ه.
وإليك الآن شاهدا على تولد الأجوف والمهموز من المضعف، قال أبو الفضل جمال الدين في «ذيم»: «الذيم والذام العيب ... وقد ذامه يذيمه ذيما وذاما: عابه، وذمته أذيمه، وذأمته، وذممته، كله بمعنى، عن الأخفش، فهو مذيم على النقص، ومذيوم على التمام، ومذءوم إذا همزت، ومذموم من المضاعف، وقيل: الذيم والذام: الذم.» ا.ه. المقصود من إيراده.
وقال ابن الأعرابي: «من العرب من يقلب أحد الحرفين المدغمين ياء، فيقول في مر: مير، وفي زر: زير، وهو الدجة ، وفي رز: ريز » (راجع لسان العرب في زور).
وقال السيد مرتضى: «كاع عن الشيء يكاع، كخاف يخاف، لغة في كع يكع.» وقال اللغويون: زال عمره مثل زل، والشواهد أكثر من أن تحصى.
فقد رأينا الأجوف والمهموز العين، فأما المهموز الأول، فالأمثلة أيضا كثيرة ولكن نجتزئ بشاهد واحد قديم وهو: «ذن» بفتح الذال المعجمة ونون ساكنة، وقد هجرها الأدباء وأكثر اللغويين؛ لأن من عادتهم الاعتماد على الثلاثي لشيوعه في العربية، والرواية المشهورة هي همزها؛ أي «إذن»، ومن غريب الاتفاق أن «ذن» كالإنجليزية
THEN
مبنى ومعنى، وهذا من أغرب ما صادفته في اللغة.
وقد ذكر صاحب اللسان كلاما طويلا في مقدمة ديوانه لغات العرب في من يهمز بعض الألفاظ ومن لا يهمزها، فيحسن بالمتتبع أن ينظر فيها إذا أحب التوسع في هذا البحث فيرى ما يرضيه عن ضروب المهموز، ونأخذ عن بعضهم ما جاء بخصوص الهمز، وننبه القارئ على أن الهمز في أول الكلمة موجود في جميع اللغات، فلا عبرة له هنا، أما مهموز العين واللام فخاصان بالعربية، على أن قريشا، وكانت لغتها أفصح اللغات، ما كانت تهمز (أو تنبر) لكن سيبويه قال: «ليس أحد من العرب إلا ويقول: تنبأ مسيلمة، بالهمز، غير أنهم تركوا الهمز في «النبي» كما تركوه في الذرية والبرية والخابية»، إلا أهل مكة، فإنهم يهمزون هذه الأحرف، ولا يهمزون غيرها، ويخالفون العرب في ذلك، قال: والهمز في النبي لغة رديئة، يعني لقلة استعمالها، لا لأن القياس يمنع من ذلك. ألا ترى إلى قول سيدنا رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وقد قيل: يا نبيء الله! فقال له: لا تنبر باسمي، فإنما أنا نبي الله، وفي رواية: فقال: لست بنبيء الله، ولكني نبي الله، وذلك بأنه عليه السلام أنكر الهمز في اسمه، فرده على قائله؛ لأنه لم يدر بما سماه، فأشفق أن يمسك على ذلك، وفيه شيء يتعلق بالشرع فيكون بالإمساك عنه مبيح محظور، أو حاظر مباح. ا.ه. عن اللسان.
وأما في تاج العروس فقد قال: «وفي رواية، فقال : إنا معشر قريش لا ننبر، والنبر: همز الحرف، ولم تكن قريش تهمز في كلامها، ولما حج المهدي قدم الكسائي يصلي بالمدينة، فهمز، فأنكر أهل المدينة عليه، وقالوا: تنبر في مسجد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بالقرآن» (مادة نبر؛ وكذلك لسان العرب في المادة المذكورة).
وقريش تعوض عن الهمز بالتخفيف فتجعله بين بين، «ففي الحديث: أنه أتي بأسير يرعد، فقال لقوم: اذهبوا به، فأدفوه، فذهبوا به فقتلوه، فوداه رسول الله
صلى الله عليه وسلم . أراد: الإدفاء من الدفء، وأن يدفأ بثوب، فحسبوه بمعنى القتل في لغة أهل اليمن، وأراد أدفئوه بالهمز، فخففه بحذف الهمزة، وهو تخفيف شاذ كقولهم: لا هناك المرتع (بمعنى لا هنأك المرتع)، وتخفيفه القياسي أن تجعل الهمزة بين بين، لا أن تحذف، فارتكب الشذوذ؛ لأن الهمز ليس من لغة قريش، فأما القتل، فيقال فيه: أدفأت الجريح، ودافأته، ودفوته، ودافيته، وداففته: إذا أجهزت عليه» انتهى بحرفه (عن اللسان في د ف أ).
وقد ذكر لك الإمام اللغوي داف، وأدفأ، ودفا يدفو، بمعنى واحد وفيها المضاعف، والمهموز، والناقص، وإن اختلفت أبوابها وصيغها، فهذا كلام واضح على أن جميعها ناشئة من المضاعف الثلاثي.
أوائل صيغ الفعل المزيد أو أوائل أوزانه
ذكرنا في الفقرة السابقة أن المضاعف الرباعي هو أول ما نشأ من صيغ الأفعال، بعد المضاعف الثلاثي، ونشأ في الوقت عينه وزن فعل تفعيلا من المضاعف أيضا عند قوم غير القوم الذي ذهبوا إلى المضاعف الرباعي، ودونك ما قال صاحب لسان العرب في «خ ب ب»: «أبو عمرو: خبخب ووخوخ: إذا استرخى بطنه، وخبخب: إذا غدر، وتخبخب الحر: سكن بعض فورته، وخبخبوا عنكم من الظهيرة: أبردوا، وأصله: خببوا؛ لأن في الكلمة خاء، وهذه علة جميع ما يشبهه من الكلمات.» ا.ه.
على أن هذا رأي، والذي اتضح لنا فيما تقدم الاستشهاد به أن المضاعف الرباعي ليس شيئا سوى تكرير حرفي المضاعف الثلاثي في أول وضعه؛ أي بغير تضعيف الآخر، فيكون أصل فعل في خبب: خبخب، فقصر، وهكذا يقال على كل ما يشبهه.
وتفعل تفعلا نتيجة فعل تفعيلا، قال في التهذيب، ونقله أبو الفضل جمال الدين: «يقال: انقض البازي على الصيد وتقضض: إذا أسرع في طيرانه منكدرا على الصيد، قال: وربما قالوا: تقضى يتقضى، وكان في الأصل: تقضض، ولما اجتمعت ثلاث ضادات، قلبت إحداهن ياء، كما قالوا: تمطى، وأصله: تمطط أي تمدد.» ا.ه.
وأما بقية الأوزان من المزيد فنشأت على تتالي الأزمان، والكلام عليها هنا يطول، فاجتزأنا هنا بأوائلها التي ذكرناها؛ أي فعلل المضاعف وفعل تفعيلا، وتفعل تفعلا، وادخرنا الكلام على ما بقي منها في كتاب آخر.
زيادة الأحرف على الأسماء
زيادة الأحرف على أصول الكلمة الواحدة نشأت بعد أن تشعبت حاجات الإنسان؛ لأن تلك الحاج لم تأت سراعا ولا عفوا ولا فورا، بل جاءته شيئا بعد شيء، فزاد الأحرف للدلالة على حاجه الجديدة، هذا إذا كانت الزيادة على الأصل بلغت ستة أحرف، أو سبعة في الأكثر، أما إذا طغت على هذا القدر، أو إذا كانت تلك الأحرف ليست مما زيد على الأصل، فلا جرم أنها من المعرب الدخيل على كلام أهل الضاد.
على أنه قد تكون الكلمة الواحدة من بنات الثلاثة والأربعة، وهي مع ذلك من الدخيل، فإن السيوطي ذكر ألفاظا كثيرة معربة وهي ثلاثية الأحرف، أو رباعيتها، كالكوب والبيعة والتنور والتتبير والحرم والحصب إلى غيرها، قائلا: إنها من كلام الأعاجم، بيد أن الحكم يجري على الأكثر والأغلب، وفي كثرة أحرف الكلمة وتعديها السبعة ما يدل دلالة صريحة على عجمتها.
موسعات لغة العرب
مما وسع كلام الناطقين بالضاد توسيعا لا يقابله شيء في سائر اللغى المعروفة، ما وقع فيها من القلب، والإبدال، والتصحيف، والتحريف، وتشابه رسم الحروف، والتعريب، ونحن نقول كلمة على كل من هذه الدواعي الموسعات.
القلب
المراد بالقلب هنا تقديم بعض أحرف الكلمة على بعضها كقولك: استدمى غريمه واستدامه إذا رفق به (راجع المزهر طبعة بولاق الأولى 1 : 231)، واعتام الرجل واعتمى: إذا احتار فيه ويسمى القلب المكاني وهو غير القلب الصرفي الذي هو إبدال أحرف العلة والهمزة بعضها من بعض، وكلاهما غير الإبدال كما سترى.
والمقلوب في كلامهم أكثر من أن يحصى، وكنا قد وضعنا رسالة كبيرة فيه ففقدناها، فمن هذا الباب ما يأتي وقد ذكرها صاحب المزهر: انتقى فلان الشيء وانتاقه: من النقاوة.
وقاف الأثر وقفاه.
وأشاف الرجل على الأمر وأشفى: إذا أشرف عليه.
وجاءت الخيل شواعي وشوائع: متفرقة.
وشاكي السلاح وشائك السلاح.
وشاهي البصر وشايه البصر: حديده.
ورجل هاع لاع وهائع لائع: جزوع.
وجرف هار وهائر.
وعاقني عنه عائق وعاق.
وفي غير المزهر:
القاءة والآقة: الطاعة.
وعاث يعيث وعثى يعثي.
وآن يئين وأنى يأني.
وقال الزجاج في شرح أدب الكاتب: ذكر بعض أهل اللغة: أن الجاه مقلوب من الوجه واستدل على ذلك بقولهم: وجه الرجل فهو وجيه: إذا كان ذا جاه، ففصلوا بين الجاه والوجه بالقلب.
وفي كتب اللغة: جذب وجبذ.
وفي ديوان الشارح ولسان العرب: «قال الأزهري: النون في الشكبان نون جمع، كأنه في الأصل: شبكان، فقلبت الشكبان.»
وقالوا: تقرطب الرجل على قفاه، وتبرقط: إذا سقط.
والعوطب كالعوبط وهي الداهية، قال ابن دريد في جمهرته: كأنه مقلوب، وقالوا: الصبر والبصر: الجانب.
وربض كرضب.
وأنبض القوس وأنضب.
وما أطيبه وما أيطبه.
وجارية بقعة وقبعة وهي التي تظهر وجهها ثم تخفيه.
وغلام مبعنق ومعبنق: سيئ الخلق.
وفي اللسان: «عقاب عقنباة، وعبنقاة، وقعنباة، وبعنقاة: حديدة المخالب، وقيل: هي السريعة الخطف المنكرة، وقال ابن الأعرابي: كل ذلك على المبالغة، كما قالوا: أسد أسد، وكلب كلب، واعبنقى وابعنقى: إذا ساء خلقه.» ا.ه.
وقالوا: عجوز شهبرة وشرهبة: مسنة.
والصعبور والصعروب: الصغير الرأس من الناس وغيرهم.
وقال الشارح في مادة «ح و ج»: والمقلوب في كلام العرب كثير.
ومن القلب عندهم القلب الذي لا يستحيل بالانعكاس مثل: فحت الحية وحفت، إلا أن بعض المتقعرين منهم قالوا: الحفيف من جلدها، والفحيح من فيها، وقالوا: ماء عق، وماء قع، وهو المر، والكنع: العنك، وهو الأصل وسدفة من الليل، من أوله إلى ثلثه، أو قطعة منه مظلمة، أو الثلث الباقي، وهناك مثل الآء والباب والسلس والددد.
ومثل القلب الذي لا يستحيل بالانعكاس، لا يرى إلا في لغتنا، وأما مثل القلب المألوف، فيرى منه في الألسنة القديمة فقط، كالعبرية، والإرمية، واليونانية، واللاتينية، لكنه ليس بفاش فيها فشوها في لغة مضر.
الإبدال
المراد بالإبدال هنا: إقامة حرف مكان حرف آخر، قد يقاربه مخرجا وربما لا يقاربه، أو يكون بقلب الحرف نفسه لفظا آخر على معنى إحالته إليه، وقد قالوا: إن حروف البدل في الإدغام أربعة عشر يجمعها قولك: «بجد صرف شكس، أمن طي ثوب عزته»، ومجموعها اثنان وعشرون حرفا، وقد وجدنا نحن أن الإبدال قد يتسع في جميع حروف الهجاء بلا شاذ، وقد وضعنا كتابا فيه، وهو الآن بيدنا وهو غير مطبوع سميناه «جمهرة اللغات».
ومثل ذلك: الوأل والوعل والوغل: الموئل (التاج في وأل).
القرا: القرع: الذي يؤكل، عن ابن الأعرابي، كأن عينه مبدلة من الألف (عنه في قرو).
أوقه فتأوق بمعنى عوقه فتعوق أي أخره فتأخر (جمهور اللغويين).
غما في أما (القاموس وشرحه ولسان العرب وسائر متون اللغة).
ماء السنور وماغ؛ أي صاح (جماعة اللغويين).
المأص والمعص والمغص: بيض الإبل وكرامها (لسان العرب وتاج العروس).
رمه الحر وزمه: اشتد، والدمه والذمه والزمه: شدة الحر (اللغويون).
سيل راعب بالراء وسيل زاغب بالزاي: يملأ الوادي (في الغريب المصنف).
ريح نيرج: عاصف، بالراء، وريح نيزج بالزاي عن ابن خالويه.
هرأه البرد هرءا وأهرأه: بلغ منه، ولغة فيهما بالزاي (عن كتاب الأفعال لابن القوطية).
يقال: سمعت رزة القوم، إذا سمعت أصواتهم، بتقديم الراء على الزاي، وسمعت زرة القوم، مثله، بتقديم الزاي على الراء (عن الجمهرة لابن دريد)، فأنت في الخيار أن تعتبره من باب القلب أو من باب الإبدال، والبصراء مختلفون فيه.
رف الطائر يرف رفا ورفيفا، وزف الطائر يزف زفا وزفيفا: إذا بسط جناحيه (جماعة أكابر اللغويين).
الأفز والقفز والأفر: الوثب (عن أبي عمرو).
ترعرعت السن وتزعزت السن بمعنى واحد (السيد الزبيدي).
شغربه وشغزبه، والشغربية: كالشغزبية وهي اعتقال المصارع رجله برجل آخر وصرعه إياه (المجد).
تيس مشغنب، وتكسر نونه: مشعنب، وهو التيس الذي يستقيم قرنه ثم يلتوي على رأسه قبل أذنه (جماعة المحققين من أصحاب اللغة).
جار عن الحق وجاض عنه: عدل عنه (لسان العرب والقاموس والتاج).
طوى الثوب على عروضه وعلى غروره بمعنى واحد، والغرور جمع غر وهو كل كسر متثن في ثوب أو جلد. تقول: طويت الثوب على غره أي كسره الأول (ق).
مشية سرح مثل مشية سجح أي سهلة (كتب اللغة).
ونحن لا نريد أن نمضي في وجهنا قدما؛ لاتساع أفق البحث بين يدينا كلما أوغلنا فيه.
اجتماع القلب والإبدال في الكلمة الواحدة، أو اجتماع قلبين فيها أو إبدالين فيها
قد يجتمع القلب والإبدال معا في الكلمة الواحدة؛ إذ لا مانع يمنع هذا الأمر.
فقد قالوا مثلا: أخذه بزأمجه وزأبجه وزأبره، مهموزات أي أخذه كله، ولم يدع منه شيئا (راجع الشارح واللسان في زمج).
وقالوا: سما الشيء وسمق وشمخ (كتب اللغة).
الحفث والفحث والحتف والحضف والخضف والحضب وكلها بمعنى الحية، أو ضرب منها، وقد ذكرها جميع أصحاب المعاجم.
هذا علوج صدق وألوك صدق (اللغويون).
القعسر والقشعر: الغوفر أي صغار البطيخ (القاموس).
بنو تيم الله بن ثعلبة يقولون: رعنك، يريدون لعلك، ومن العرب من يقول: رغنك ولعنك بالغين المعجمة (اللسان في عنن).
قال أبو منصور: رأيت البحرانيين يقولون: سبت، بالسين والتاء في «شبث»، وأصلها شوذ (وقال في مكان آخر: شود بالدال المهملة) (اللسان في شبث).
القنطريس: الناقة الشديدة الضخمة كالخندليس (القاموس).
البلعس والدلعس والدلعك: الضخمة من النوق (المجد).
انهفت الشيء وانخفض بمعنى واحد.
سأته وسحطه وشحطه أي ذبحه أو خنقه.
الوجبة والبزمة والأزمة والرزمة والوجمة والوزمة وهي الأكلة الواحدة في اليوم.
وأمثال ذلك لا تحصى، ولا تستقصى، وقد تختفي على القارئ في أول الأمر، لكنها لا تختفي على المتأمل المتدبر.
التصحيف
المراد بالتصحيف هنا مصدر صحف، وهو أن يخطئ القارئ في قراءة الكلمة وروايتها؛ لاتفاق في صورة أحرف الكلمتين، واختلاف في النقط، أما الحركات فقد تختلف، وربما لا تختلف، وقد وقع هذا الأمر منذ القديم في هذه اللغة المبينة حتى إن أبا عبد الله حمزة بن الحسن الأصفهاني المتوفى سنة 367 وضع تأليفا بديعا سماه: «التنبيه على حدوث التصحيف»، وقد نبه فيه على التصحيف الذي وقع في متون الأحاديث النبوية، وكلمات العرب البلغاء، كالإمام علي بن أبي طالب، وفي الأشعار القديمة والأمثال السائرة.
أما أمثال التصحيف، فأكثر من أن تحصى ونحن نذكر لك طرفا منها: قال أبو الفضل جمال الدين في مادة «ق ب ع»: وفي حديث الأذان: أنه اهتم للصلاة كيف يجمع لها الناس، فذكر له «القبع» فلم يعجبه ذلك، يعني البوق. رويت هذه اللفظة بالباء (أي القبع)، والتاء (أي القتع)، والثاء (أي القثع)، والنون (أي القنع)، وأشهرها وأكثرها النون، ثم قال في مادة «ق ث ع»، بعد أن أورد هذا النص أيضا: «قال الخطابي: سمعت أبا عمر الزاهد يقول: بالثاء المثلثة، ولم أسمعه من غيره.» ا.ه.
وقال أيضا في ترجمة «ق ت ع» بعد إيراد النص المذكور: «ومدار هذا الحرف على هشيم، وكان كثير اللحن والتحريف على جلال محله في الحديث.» ا.ه.
والأصل عندنا هو القنع، بقاف مضمومة فنون ساكنة يليها عين في الآخر، وهي تنظر إلى اليونانية
CONKHOS (Ó KÓγχος, ου)
أي قنع أو شبور أو بوق أو كل ما يشبه البوق من المحار والأدوات، والحرف اليوناني
KH
كثيرا ما يقابله العين في لغتنا.
وقالوا: الجنس، والقنس، والقبس، والكبس، والقنص، والكرس، والجرس، والجنث، والكنع، والقنع، والعنك، والكنسح، والكنسيح، والبنج، والسنخ، والحنج، إلى غيرها، ونظن أن الأصل هو الجنس وهو ينظر إلى اليونانية
YÉVOS
أو اللاتينية
GENUS .
ومن المصحف اللغثون واللغنون واللغدود، وهو الخيشوم.
وقالوا: الحوف (على ما في القاموس وتاج العروس والأوقيانوس): القرية بالياء المثناة التحتية بعد الراء، وأيضا القربة بباء موحدة، ومثل ذلك وقع لهم في شرح القسة فقالوا: معناها: القرية والقربة.
ونظن أن المعنى الصحيح الأول للحوف هو القربة بالباء الموحدة؛ لأن الكلمة مشتقة من مادة تدل على جلد، وقد، والقربة تكون من تلك المادة نفسها.
وأما القسة فأول ما كان معناها القرية بالياء المثناة؛ لأن في معنى هذه المادة ما يدل على الإبل، والإبل لا تكون في أغلب الأحيان إلا في القرى، قال اللغويون: قس الإبل قسا: أحسن رعيها وساقها، وقست الناقة: رعت وحدها، والقس صاحب الإبل الذي لا يفارقها، فيرجح أن يكون معنى القسة القرية، وفيما بقي من هذه المادة ما يؤيد هذا المعنى، فلتراجع.
وقالوا: أمر مدعمس ومدغمس ومدخمس ومدهمس ومتهمس أي مستور، ولا جرم أن الأصل هو من مادة «د م س» من دمس الظلام دموسا: اشتد، ودمس الإهاب غطاه ليمرط شعره، والدمس من الأمور: العظام، والدمس أي ما غطي، يقال: شيء دمس أي مغطى، ثم زادوا المادة هاء في الوسط؛ ليدلوا بها على اشتداد الأمر وهي تزاد كذلك للتعظيم على ما ورد مثله كثيرا في اللغة، وأما سائر الأحرف فمبدلات منها، والتصحيف في العربية شيء كثار لا يقدر.
الاحتباء في التصحيف أو الاحتباء
يقال: احتبى فلان في تصحيف الكلمة: إذا قرأ الكلمة ناقلا نقطة حرف، أو نقطتي حرف، إلى حرف آخر، وقد أحدث هذا الاحتباء أوهاما وأغلاطا شنيعة، وربما لم يحدث أدنى ضرر، فمثال الضرر ما جاء في أصل هذا المثل وهو: «أجهل خاصي المخنثين»، فقد قيل: إن جماعة من المخنثين، كانوا في المدينة في خلافة سليمان بن عبد الملك الأموي، فأرد أن ينفيهم منها، وكان عامله فيها أبا بكر عمر بن حزم، فكتب إليه يقول: أحص من عندك من المخنثين، واتفق أن نقطة من السطر الأعلى وقعت فوق الحاء فصارت خاء، فخصاهم.
وقد يسبب هذا التصحيف كلما جديدة من غير أن يحدث فيها معاني حديثة، فقد قالوا مثلا: العترب والعنزب والعيرب وهو السماق (راجع اللسان والتاج).
الحال والخال والجال بمعنى الراية (اللسان والتاج في حول وفي مادة كل لفظة).
الفرزوم والقرزوم: خشبة مدورة يحذو عليها الحذاء ونوع من الثياب يقال له: المرط أو المئزر.
القلز والقلز كالفلز والفلز: النحاس الذي لا يعمل فيه الحديد والرجل الشديد.
النخاريب والتخاريب: خروق كبيوت الزنابير والثقب التي يمج النحل العسل فيها.
وفي الحديث: «إن أخنع الأسماء عند الله ، ملك الأملاك.» ويروى: أنخع الأسماء وأنجع وأنخى (راجع النهاية لابن الأثير وتاج العروس).
الخصب (بالضم): حية بيضاء جبلية، قال الأزهري: وهذا تصحيف، وصوابه الحضب، بالحاء والضاد المعجمة، يقال: هو حضب الأحضاب ... قال: وهذه الحروف وما شاكلها أراها منقولة من صحف سقيمة إلى كتاب الليث وزيدت فيه سهوا، ومن نقلها لم يعرف العربية فصحف وغير فأكثر (لسان العرب والتاج).
وقال الشارح في مادة «ق ص ر»: «روي عن علي، رضي الله عنه: أنه كتب إلى معاوية: غرك عزك، فصار قصار ذلك، ذلك؛ فاخش فاحش فعلك، فعلك تهدا بهذا - وهي رسالة تصحيفية غريبة في بابها.» انتهى.
وقال المذكور في مادة «ع ز ر»: «أبو بكر محمد بن عزيز السجستاني، مؤلف «غريب القرآن»، والبغادة (أي البغداديون) يقولون بالراء (أي عزير) ... وإليه ذهب الصلاح الصفدي في «الوافي بالوفيات»، وهو تصحيف، وبعضهم صنف فيه، وجمع كلام الناس، ورجح أنه بالراء، وقد ضرب في حديد بارد؛ لأن جميع ما احتج به فيها راجع إلى الكتابة لا إلى الضبط من قبل الحروف، بل هو من قبل الناظرين في تلك الكتابات، وليس في مجموعة ما يفيد العلم بأن آخره راء، بل الاحتمال يطرق هذه المواضع التي احتج بها؛ إذ الكاتب قد يذهل عن نقط الزاي، فتصير راء! ثم ما المانع أن يكون فوقها نقطة، فجعلها بعض من لا يميز علامة الإهمال.» ا.ه. بحروفه.
قال صاحب هذا الكتاب: «إن سبب ذهاب البغادة إلى أن المسمى هو «عزير» براء في الآخر لا «عزيز» بزايين، شيوع الأولى دون الثانية، ولم تشع الأولى إلا لأن العراقيين جميعا لا يسمعون طول حياتهم إلا ب «العزير» مصغرا ومعرفا بأل وبراء في الآخر؛ لوجود قبر نبي في العراق بالاسم المذكور، هذا فضلا عن أن «عزيرا» ورد في القرآن، فشاعت اللفظة عند الأدباء والعلماء والمتدينين فملأت الأسماع، والعوام تتبع ما يفشو بينهم من الكلام، لا ما يتطلب تحقيقا له، أو تدقيقا فيه.»
واليهود والنصارى يسمون «عزيرا»: عزره، أو عزرا الكاتب.
وجاء في الأوقيانوس، ونقله صاحب محيط المحيط ولم يشر إلى مصدره: «في الحديث: فأتي بثلاثة أقرصة على بتي أي منديل من صوف ونحوه، قيل: والصواب: بني أي طبق، أو نبي أي مائدة من خوص.» ا.ه.
وقال ابن مكرم في لسانه في تركيب «ب ش ق»: «في حديث الاستسقاء: بشق المسافر ومنع الطريق. قال البخاري: أي انسد، وقال ابن دريد: بشق؛ أي أسرع، مثل بشك، وقيل: معناه تأخر، وقيل: حبس، وقيل: مل، وقيل: ضعف، وقال الخطابي: بشق، ليس بشيء؛ وإنما هو لثق من اللثق، وهو الوحل، وكذا هو في رواية عائشة، رضي الله عنها، قال: ويحتمل أن يكون مشق؛ أي صار مزلة وزلقا، والميم والباء تتقاربان، وقال غيره: إنما هو بالباء، من بشقت الثوب ونشكته: إذا قطعته في خفة؛ أي قطع المسافر، وجائز أن يكون بالنون، من قولهم: نشق الظبي في الحبالة: إذا علق فيها، ورجل بشق: إذا كان يدخل في أمور لا يكاد يخلص منها.» ا.ه. بنصه وفصه.
وفسر اللغويون الأحبش بقولهم: الشديد الحاد من الأصوات، والصواب الأجش.
وجاء في «كتاب ليس» لابن خالويه: «الظرورى، كشرورى: الرجل الكيس، العاقل، الظريف، واختلف في البصرة في مجلس اليزيدي نديمان له نحويان في الظرورى، فقال أحدهما: هو «الكيس»، وقال الآخر: هو «الكبش»، فكتبوا إلى أبي عمر الزاهد يسألونه عن ذلك، فقال أبو عمر: من قال: إن الظرورى الكبش فهو تيس؛ إنما هو الكيس.» ونقل هذه الحكاية صاحب تاج العروس في مادة «ظ ر ر».
وجاء في القاموس: الفناة: البقرة، وفي محيط المحيط للمعلم بطرس البستاني: البعرة في «ف ن و» وهنا انقلبت البقرة بعرة، فيا لسوء حظها، لكن أي انقلاب!
وقال الشرتوني في أقرب الموارد: «وذكر بعض اللغويين أنها البقة وهو غير صحيح أيضا.» ا.ه.
وفي البستان للشيخ عبد الله البستاني: الفناة: البقرة، فانظر وتأمل!
وقال الزبيدي في ترجمة «خ ش ف»: «المخشف كمقعد: اليخدان، عن الليث، قال الصاغاني: ومعناه: موضع الجمد، قلت: واليخ بالفارسية: الجمد (وفي الأصل المطبوع: الجمدان، وهو خطأ من الناظر في نشره)، ودان: موضعه. هذا هو الصواب، وقد غلط صاحب اللسان لما رأى لفظ اليخدان في «العين»، ولم يفهم معناه، فصحفه، وقال: هو النجران، وزاد: الذي يجري عليه الباب، ولا إخاله إلا مقلدا للأزهري، والصواب ما ذكرناه.» ا.ه.
وقال في «ط و س»: «الطوس، بالضم: دوام الشيء، وهكذا في سائر النسخ، وفي بعضها: دوام المشي، وهو غلط فاحش، لا أدري كيف ارتكبه المصنف مع جلالة قدره، ولعله من تحريف النساخ، والصواب: «دواء المشي»، كما هو مضبوط بخط أبي السناء الأرموي في نسخة التهذيب، ونسبه الصاغاني إلى ابن الأعرابي، إلا أنه ضبط المشي، بفتح فسكون، وهو بكسر الشين وتشديد الياء، كما ضبطه الأرموي، ومعناه: دواء يمشي البطن وهو الإذريطوس ... فاقتصر على بعض حروف الكلمة، وفي الأساس: شرب فلان الطوس أي الإذريطوس.» ا.ه. المقصود من إيراده.
وفي محيط المحيط: «والطوس: دوام الشيء، ودواء يشرب للحفظ وهي عبارة القاموس بحروفها.»
وهذا البحث طويل المدى، عريض المنكب، حتى إننا لنستطيع أن نضع كتابا ضخما فيه، ونقر بعد إتمامه بأننا لم نبلغ منه إلا طرفا ليس إلا، ومثل هذه التصحيفات المحتبى فيها زادت في العربية منذ أن وضع المحدثون معاجمهم أي منذ نحو مائتي سنة، وفيها من المضحكات المبكيات ما يطرب ويذرف الدموع معا!
التصحيف الناشئ من تشابه رسم الحروف
ذكرنا في الفقرتين ال 13 وال 14 بعض ألفاظ من هذا القبيل، والآن نذكر لك شواهد أخر تقع تحت هذا العنوان، وأول كل شيء نبتدئ بكلام البيروني فيما يتعلق بهذا الموضوع:
قال في مقدمة كتابه «الصيدنة»: «ولكن للكتابة العربية آفة عظيمة، هي تشابه صور الحروف المزدوجة فيها، واضطرارها في التمايز إلى نقط العجم، وعلامات الإعراب التي إذا تركت استبهم المفهوم منها، وإذا انضاف إليه إغفال المعارضة، وإهمال التصحيح بالمقابلة، وذلك الفعل من عام قومنا، يساوى به وجود الكتاب وعدمه، بل علم ما فيه وجهله، ولولا هذه الآفة لكفى ما في كتاب ديسقوريدس، وجالينوس، وبولس، وأربا سيوس، المنقولة إلى العربي من الأسامي اليونانية، إلا أنا لا نثق بها ...» ا.ه. المقصود من إيراده.
ومشابهة الحروف بعضها لبعض أوقع أعظم العلماء واللغويين في مجادلات طويلة، أضاعت من السلف كثيرا من أوقاتهم وعلومهم وأعمارهم والإيغال في ضروب العرفان المفيدة، وقد أشرنا إلى هذا الأمر فيما مر بنا من الكلام، والآن نذكر لك غير ما تقدم شرحه.
قال أبو الفضل الخزرجي في تركيب «ي و ح»: «ابن سيده: يوح: الشمس، عن كراع. لا يدخله الصرف، ولا الألف واللام: والذي حكاه يعقوب بوح (بالباء الموحدة التحتية). قال ابن بري: لم يذكر الجوهري في فصل الياء شيئا، وقد جاء منه قولهم: يوح (بياء مثناة تحتية): اسم للشمس. قال: وكان ابن الأنباري يقول: هو بوح بالباء (الموحدة التحتية)، وهو تصحيف، وذكره أبو علي الفارسي في الحلبيات عن المبرد (يوح) بالياء المعجمة باثنتين (من تحت)، وكذلك ذكره أبو العلاء بن سليمان في شعره فقال:
ويوشع رد يوحى بعض يوم
وأنت متى سفرت رددت بوحا
قال: ولما دخل بغداد، اعترض عليه في هذا البيت، فقيل له: صحفته؛ إنما هو بوح، (بالباء الموحدة التحتية)، واحتجوا عليه بما ذكره ابن السكيت في ألفاظه، فقال لهم: هذه النسخ التي بأيديكم غيرها شيوخكم؛ ولكن أخرجوا النسخ العتيقة؛ فأخرجوا النسخ العتيقة فوجدوها كما ذكره أبو العلاء، وقال ابن خالويه: هو يوح، بالياء المعجمة باثنتين (من تحت)، وصحفه ابن الأنباري، فقال: بوح، بالباء المعجمة بواحدة، وجرى بين ابن الأنباري وبين أبي عمر الزاهد كل شيء، حتى قالت الشعراء فيهما، ثم أخرجنا «كتاب الشمس والقمر» لأبي حاتم السجستاني، فإذا هو يوح، بالياء المعجمة باثنتين (من تحت)، وأما البوح، فهو النفس لا غير.
وفي حديث الحسن بن علي عليهما السلام: هل طلعت بوح (بكسر الحاء) يعني الشمس، وهو من أسمائها كبراح، وهما مبنيان على الكسر. قال ابن الأثير: وقد يقال فيه: يوحى، على مثال فعلى، وقد يقال بالباء الموحدة لظهورها من قولهم: باح بالأمر يبوح.» ا.ه. نقله بحرفه، ومثل هذا القول ورد في ديوان الشارح.
قال صاحب هذه الكلمة ومؤلفها: الذي عندنا أن الصواب هو يرح، بياء مثناة تحتية مفتوحة، يليها راء مفتوحة، وفي الآخر حاء مهملة، وهي الشمس بلغة أهل تدمر، وكانت لغتهم تشبه العربية كثيرا، والكلمة نفسها تعني القمر بلغة الأشوريين، وقد تمد فيقال: يراح كسحاب وصحفت براح بباء موحدة تحتية.
وفي اللغة الإرمية: يرح ويرحا الشهر أو التاريخ و«يرحوثا» مدة الشهر، فيحتمل معناه الأصلي: الشمس والقمر؛ لأن منهم من كان يؤرخ الحوادث باعتماده على دوران الشمس كالمجوس، ومنهم من كان يؤرخ باعتماده على القمر كاليهود.
ومن هذا القبيل: الربرق، والريرق والريزق، وهو عنب الثعلب.
وجاء عندهم العبقس والعبقص، والعنقص، والعبقوس والعبقوص والعنقوص، والعفنقص والعقنفص، والعفنقصة والعقنفصة، والأصل عنفس أو عنفوس، وهو من اليونانية
έμπoυσα (EMPUSA)
وهو في الأصل الطيف ثم نقل إلى معنى واحد من معبوداتهم وكان يصور بشكل حشرة، ثم دعيت الحشرة بهذا الاسم، وكتب اللغة تقول: دويبة ولا تزيد على هذا القدر.
وجاء في لسان ابن منظور في «سوف»: السواف بفتح السين: الفناء، وفي القاموس: السواف كسحاب: القثاء، والموتان، فأين الفناء من القثاء، والصواب: أن المجد خاطئ، وابن منظور هو المحق أي الفناء بنون بمعنى الهلاك.
وورد في اللسان أيضا في ترجمة «ق ه ا»: «القهة من أسماء النرجس، عن أبي حنيفة، قال ابن سيده: على أنه يحتمل أن يكون ذاهبها واوا وهو مذكور في موضعه.» ا.ه.
وقد فتشنا في معجمه فلم نجدها في «وقه» ولا في «وقا»، ولم يذكرها أحد من أرباب دواوين اللغة، ونحن نظن أن الصواب هو القهد، بقاف مفتوحة وهاء ساكنة يليها دال مهملة، وقد ذكرها اللغويون في معاجمهم بمعنى النرجس.
وفي القاموس: الرفن البيض (في رفن)، وفي اللسان: النبض، عن ابن الأعرابي، فمن المحق؟ قلنا إن المحق هو ابن منظور؛ لأنه جاء في هذه المادة: ارفأن الرجل: نفر ثم سكن، وعند النفور يشتد النبض وليس في تلك المادة ما يوجه معنى البيض.
وقد جمعنا شيئا كثيرا من أمثال هذه الأوهام وتقع في سفر ضخم، وأغلب هذه التصحيحات علقناها على هامش نسخة اللسان وتاج العروس وأساس البلاغة والمصباح.
التحريف
المراد بالتحريف هنا تشابه أحرف الكلمة بعضها لبعض في النوع، والشكل، والعدد، والترتيب؛ لكنها تختلف في الحركات أو في الحركة والسكون، فأمثله الأول:
اللباب:
كسحاب: الكلأ القليل، واللباب كغراب: المختار الخالص من كل شيء، واللباب كفراش: أوساط الصدور والمناحر، واحدها لبة (وفي البستان: المناخر، بالخاء المعجمة وهو غلط).
واللبجة واللبجة:
حديدة ذات شعب كأنها كف بأصابعها تتفرج، فيوضع في وسطها لحم، ثم تشد إلى وتد، فإذا قبض عليها الذئب التبجت في خطمه، فقبضت عليه وصرعته، والجمع اللبج واللبج.
وقد ترد الكلمة الواحدة بحركات ثلاث ولا يتغير شيء من معناها كالسم مثلا للثقب ولهذا القاتل المعروف، فقد وردت فيه الحركات الثلاث.
وقد يختلف المعنى باختلاف الحركة، فالحب مثلا، بالفتح: البزر، وبالكسر: المحبوب والمحب، وبالضم: الجرة الضخمة، فإن لم يكن القارئ واقفا على معاني تلك الكلمات باختلاف حركاتها، خبط فيهن خبط عشواء.
وأمثال هذه المثلثات في العربية جمة وقد وضع فيها اللغويون كتبا وأراجيز وشرحوها.
وأما المحرف باختلاف الحركات والسكنات فمشهور أيضا في هذه اللغة؛ مثال ذلك امرأة جلبانة وجلبنانة وجلبنانة: مصوتة، صخابة، مهذارة، سيئة الخلق.
وجربان السيف وجربانه:
حده، أو شيء يجعل فيه السيف وغمده وحمائله، فقد تختلف المعاني باختلاف مواقع تلك الحركات والسكنات وربما لا تختلف، والشواهد في كتب متون اللغة أكثر من أن تحصى.
اجتماع التصحيف والتحريف معا
قد يجتمع التحريف والتصحيف معا في الكلمة الواحدة فتزداد اللغة كلمات، قد تفيد الشعراء، أو من يعنى بحفظ الغريب أو جمعه، لكنه يوقر الأسفار ألفاظا لا جدوى فيها من جهة العلم والفن، وفيما مر من الفصول الأخيرة من هذه الرسالة شواهد عديدة، ونزيد عليها ما يأتي:
جاء في حياة الحيوان: «العطرف، بالكسر: الأفعى الكبيرة»، ولم يذكر اللغويون هذه اللفظة، وجاء في القاموس والتاج: العظرب: الأفعى الصغيرة، وهذه اللفظة لم ترد في اللسان، بل ورد فيه الغطرب (وقد ضبطت كجعفر) بمعنى الأفعى. عن كراع، وقال في «غ ض ف»: «الغضوف: الأسد والحية الخبيثة .» ولم يذكرها اللغويون فلعلها الغطرب، بغين مفتوحة فطاء ساكنة فراء مفتوحة فباء، وقد تكون صحيحة وإن لم يذكرها أرباب اللغة؛ لأن الاشتقاق يجيزها.
وجاء في القاموس في «زرر»: وقول الجوهري: إذا كانت الإبل سمانا: قيل لها: بها زرة. تصحيف قبيح وتحريف شنيع؛ وإنما هي بهازرة، على وزن فعاللة.
وذكر اللغويون الأبيان، بالتحريك، بمعنى الأبي، وصرحوا بضبطها أنها بتحريك الهمزة والباء والياء (والمعروف عند الجميع أن وزن فعلان، بالتحريك، لم يأت صفة، والوارد صفة هو وزن فعلان بإسكان، وأما الذي بالتحريك فهو من أوزان المصادر)، والظاهر أن أول من ركب متن هذا الغلط الجوهري، وقلده غيره من أصحاب الدواوين والمتون والشروح تقليدا أعمى من غير تحقيق ولا تثبت.
وسبب زلة الجوهري - على ما يبدو لي - أنه سمع قول أبي المجشر وهو شاعر جاهلي:
وقبلك ما هاب الرجال ظلامتي
وفقأت عين الأشوس الأبيان
فاتخذه شاهدا على ما ادعاه مع أنه يمكن أن يقول القائل: تحريك الباء هنا للضرورة الشعرية التي تجيز الشاعر أن يحرك الساكن، إذن قال: الأبيان بالتحريك في مكان الأبيان بالإسكان.
وقد قال الفارابي في ديوان الأدب، قبل ختام الأسماء من الهمز (أي في الصفحة 519 من نسختنا الخطية): «إن الأبيان وزان فعلان كملآن ودفآن، وتحمل رواية من روى الأبيات بالتحريك على الغلط من الراوي، أو الضرورة الشعرية.» ا.ه.
وقال في التاج: كشمر أنفه، بالشين بعد الكاف: كسره. قاله صاحب اللسان، ولا جرم أن معنى كشمر أنفه كسره أي أذله، كما يقال: «كسر فلان الجيش أي هزمه.» ا.ه.
والذي عندنا: أن كشمره لغة في قسبره اجتمع فيها إبدالان أي رغمه أو رغم أنفه بمعنى أذله، ولا يريد به الكسر المادي، وإن كان الوضع الأصلي هو الأول، وإلا لو كان المراد به الكسر الحقيقي للأنف لقال: جدع أنفه أو قطعه أو ما أشبه هذا التعبير، وعليه أخطأ من نقل الألفاظ العربية إلى الأعجمية، وذهب بنقل كشمره إلى المعنى الحقيقي، لا المجازي، مثل عاصم أفندي: صاحب الأوقيانوس، وغوليوس، وفريتغ، وقزميرسكي، ومن نحا نحوهم ونقل من كتبهم.
وجاء في لسان العرب في مادة «ج د ل»: «قال شمر: ما رأيت تصحيفا أشبه بالصواب مما قرأ مالك بن سليمان عن مجاهد في تفسير قوله تعالى:
قل كل يعمل على شاكلته
فصحف، فقال: «على حد يليه»؛ وإنما هو «على جديلته» أي على ناحيته.»
وأمثال ذلك لا تحصى.
اجتماع التصحيف والتحريف والقلب والإبدال معا في الكلمة الواحدة
يظهر ذلك من الفصول المتقدمة، إذا ما أمعن فيها النظر من يحب استقراء هذا البحث، ونزيد ما يأتي على ما تقدم:
قال السيد مرتضى في تاجه في مادة «م ع ش»: «أمغيشا ... وكانت البس عينا مالحة.» والصواب: «وكانت أليس (وزان قبيط) من مسالحها.» فقرأ: «أليس»: «البس» و«من»: «عين» ثم أعمل الفكرة فيما عسى أن تكون «عين» هنا، ولا سيما لأنها وقعت موقع مفعول به، فاستحسن أن يقرأها منصوبة ليستقيم لها معنى، فقرأها عينا، ثم قال في نفسه: إن العين تكون إما عذبة، وإما مالحة، ولا بد أن تكون هنا مالحة؛ لأن صورة الكلمة لا تجيز لي أن أقرأها «عذبة»، والفرق بينهما عظيم فقال: إنها «مالحة» وقد صحفت على الناسخ، فأصبحت: «وكانت البس عينا مالحة»، ولذلك معنى مأنوس؛ لكن أين هذا المعنى من المقصود التعبير عنه في الجملة المصحفة المحرفة المقلوبة المبدلة.
وورد في القاموس في مادة «ب ر ق ش»: «أبو براقش: طائر صغير بري كالقنفذ.» فلا جرم أن في قوله: «كالقنفذ» خطأ ظاهر، والصواب: «كالقنبر»؛ لأن القنفذ ليس طائرا حتى يشبه طائر به (وراجع مقالة طويلة في أبي براقش في المقتطف 39 : 488).
وهذا الفصل حافل بالعجائب والغرائب والمعايب والشوائب، وكنا نود أن يتسع لنا الوقت والمقام لنذكر ما جاء منها في هذا الصدد.
فمن هذه المدهشات ما جاء في القاموس في مادة «ع س د». قال: «عسد يعسد: سار.» فانتقده السيد الزبيدي بقوله: «هكذا في سائر النسخ، وهو تصحيف قبيح وقع فيه، وذلك أن ابن دريد قال في الجمهرة: والعسد أيضا: الببر فصحفه المصنف بالسير، ثم اشتق منه فعلا، فقال : عسد يعسد: إذا سار، ولم أر لأحد من أئمة اللغة ذكر العسد بمعنى السير؛ وإنما هو الببر.» ا.ه.
قلنا من عادة الشارح أن يجد أغلاطا في القاموس ويجهد في هذا السبيل ما استطاع، والذي عندنا أن عسد بمعنى سار وأسرع لغة في عسل باللام في الآخر، قال في اللسان: «عسل الدليل بالمفازة: أسرع.» قلنا وكل من الدليل والمفازة من باب التمثيل لا من باب التقييد والتخصيص، والدليل أنهم قالوا من هذه المادة: عسل الذئب والثعلب يعسل عسلا وعسلانا: مضى مسرعا واضطرب في عدوه وهز رأسه. قال:
والله لولا وجع في العرقوب
لكنت أبقى عسلا من الذيب
استعاره للإنسان، وقال لبيد:
عسلان الذئب أمسى قاربا
برد الليل عليه فنسل ...
وقول ساعدة بن جؤية:
لدن بهز الكف يعسل متنه
فيه، كما عسل الطريق الثعلب
أراد عسل في الطريق، فحذف وأوصل: كقولهم: «دخلت البيت.» ا.ه. وقالوا أيضا من هذه المادة: رجل عسل، شديد الضرب «سريع» رجع اليد بالضرب، وقالوا: العسل والعسلان الخبب، وفي حديث عمر: أنه قال لعمرو بن معد يكرب: كذب، عليك العسل؛ أي عليك بسرعة المشي، هو من العسلان: مشي الذئب، إلى آخر ما جاء في تلك المادة، وتبادل اللام والدال معروف في لغتنا، ومنه المعكود والمعكول (أي المحبوس)، ومعده ومعله (أي اختلسه)، وتأبد وتأبل (أي قل أربه في النساء)، والوغد والوغل (أي النذل) والعدس والعلس.
والذي أخذه صاحب التاج على صاحب القاموس يؤخذ عليه؛ فقد كتب في تركيب «ه ر ف» ما هذا نصه: «يهرف، كيضرب: اسم سبع سمي به لكثرة صوته.» ا.ه. أفتدري من أين أتى بهذا السبع وكيف خلقه وأخرجه إلى أبناء الناطقين بالضاد؟ إنه قرأ في المخصص لابن سيده ما إليك نصابه: «يقال لبعض السباع: هو يهرف بصوته أي يتزيد فيه.» ا.ه. فالظاهر أن السيد الزبيدي وصل إلى قراءة العبارة إلى حد قوله: هو يهرف، ووقف ولم يمض في وجهه فكتب ما كتب، ولو أتم العبارة على ما جاءت لما سقط في هذه الهاوية السحيقة القعر، فكأن النسخة التي كانت بيده انقطعت عند الكلمة التي دونها؟ والعلم عند الله.
ومما جاء في هذا الباب ما نقله ابن منظور في ديوانه في مادة «ع ر ا»، قال: وفي حديث عروة بن مسعود قال: والله ما كلمت مسعود بن عمرو منذ عشر سنين، والليلة أكلمه، فخرج فناداه، فقال: من هذا؟ قال: عروة، فأقبل مسعود وهو يقول:
أطرقت عراهيه
أم طرقت بداهيه
حكى ابن الأثير عن الخطابي، قال: هذا حرف مشكل، وقد كتبت فيه إلى الأزهري؛ وكان من جوابه أنه لم يجده في كلام العرب، والصواب عنده: «عتاهيه» وهي الغفلة والدهش. أي أطرقت غفلة بلا روية أو دهشا. قال الخطابي: وقد لاح لي في هذا شيء، وهو: أن تكون الكلمة مركبة من اسمين ظاهر ومكني، وأبدل فيهما حرفا وأصلها: إما من «العراء»، وهو وجه الأرض، وإما من «العرا»، مقصور وهو الناحية، كأنه قال: أطرقت عرائي أي فنائي زائرا وضيفا، أم أصابتك داهية، فجئت مستغيثا، فالهاء الأولى من «عراهيه» مبدلة من الهمزة، والثانية هاء السكت، زيدت لبيان الحركة، وقال الزمخشري: يحتمل أن يكون بالزاي، مصدر من عزه يعزه فهو عزه: إذا لم يكن له أرب في الطرب، فيكون معناه: أطرقت بلا أرب وحاجة، أم أصابتك داهية، أحوجتك إلى الاستغاثة. ا.ه. نقل ابن منظور.
قال الأب أنستاس ماري الكرملي: والذي عندنا أن أحسن هذه التفاكير الثلاثة ما جاء به الأزهري، وهو أعظم حجة في اللغة العربية ولا يدانيه أحد ممن سبقه، ولا ممن عاصره، ولا ممن جاء بعده؛ إلا أننا نقول: إن «عراهية» صحيحة بمعنى «عتاهية» وبمعنى الغفلة والدهش على لغة من لغى العرب، فقد جاء عندهم من هذا القبيل: السبرور والسبروت، للأرض القفر التي لا نبات فيها، وعود متيخ ومريخ أي طويل لين، وحتش (على المجهول) وحرش أي هيج بالنشاط، واحتتش واحترش، إلى آخر ما جاء من هذا القبيل من كلامهم.
المعرب أو الدخيل في العربية
مما لا يحتمل شكا ولا ريبا وجود الدخيل أو الأعجمي في لسان عدنان. قال ابن فارس في كتابه «الصاحبي» ما هذا نصه بحروفه: «زعم أهل العربية أن القرآن ليس فيه من كلام العجم شيء، وأنه كله عربي، يتأولون قوله، جل ثناؤه:
إنا جعلناه قرآنا عربيا ، وقوله:
بلسان عربي مبين . قال أبو عبيد: والصواب من ذلك عندي - والله أعلم - مذهب فيه تصديق القولين جميعا، وذلك أن هذه الحروف، وأصولها عجمية، كما قال الفقهاء؛ إلا أنها سقطت إلى العرب، فأعربتها بألسنتها، وحولتها عن ألفاظ العجم إلى ألفاظها، فصارت عربية؛ ثم نزل القرآن وقد اختلطت هذه الحروف بكلام العرب؛ فمن قال إنها عربية، فهو صادق، ومن قال عجمية، فهو صادق.» ا.ه.
وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف، وابن جرير عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل، قال: «نزل القرآن بكل لسان.» وأخرج ابن أبي شيبة عن الضحاك قال: نزل القرآن بكل لسان، وأخرج ابن المنذر في تفسيره عن وهب بن منبه، قال: ما من اللغة شيء إلا منها في القرآن شيء، قيل: وما فيه من الرومية؟ قال: «فصرهن» يقول: قطعهن. ا.ه. المقصود من إيراده.
على أن معرفة هذا المعرب ورده إلى أصله قد يصعب أحيانا، ولا سيما إذا كانت اللفظة ثلاثية أو رباعية، وأصولها تشبه أصول العربية، ووزنها يشبه الوزن العربي، أما إذا كان الوزن بعيدا عن المقاييس المبينة، ومعناها لا يتصل بمعنى الأصول المحكمة، فإن الرائز لها قد يهتدي إلى غرابتها، ولكن هناك بعض الأحيان رجال يصرون على عربيتها.
مثال ذلك: (1)
الأطربون: فهذه الكلمة من اللاتينية
TRIBUNUS
وهو عند الرومان حاكم كان عندهم وبيده أمر القليرة
CELERES
وهم ثلاثمائة فارس رتب أمرهم روملس ليكونوا حرسا له؛ ثم انتقل إلى معنى الحاكم الذي يدافع عن حقوق الأمة ويدرأ عنها كل ما يضر بمنافعها، ثم ... ثم ... ثم ...
والكلمة لم يذكرها صاحب القاموس، ولا كل من اغترف من معينه لكني وجدتها في التهذيب في مادة «ج ذ م ر» قال الأزهري: «ما بقي من يد الأقطع عند رأس الزندين: جذمور، يقال: ضربه بجذموره أي بقطعته. قال عبد الله بن سبرة يرثي يده
فإن يكن أطربون الروم قطعها
فإن فيها بحمد الله منتفعا
بنانتان وجذمور أقيم بها
صدر القناة إذا ما صارخ فزعا
قال: ويروي: «إذا ما آنسوا فزعا.» انتهى.
ووجدتها في لسان العرب في ترجمة «ا ط ر ب ن». قال: «الأطربون، من الروم، الرئيس منهم، وقيل: المقدم في الحرب، قال عبد الله بن سبرة الحرشي: «فإن يكن ...» (البيت) قال ابن جني: هي خماسية، كعضرفوط.» ا.ه.
وكنت قد قرأت في أحد كتب الأدب - والآن لا أتذكر اسم الكتاب ولا الموطن الذي ورد فيه - أن الأطربون: رئيس الروم، وسمي كذلك لأن رؤساءهم كثيرو الطرب، ومن الغريب أن ينطق أديب بهذا التعليل: فهل كان الرومان يحسنون العربية حتى يشتقوا هذا الاسم من العدنانية؟ أم هل العرب هم الذين وضعوا هذا الاسم على كبير جند الروم، وهؤلاء اقتبسوه منهم؟ أم هناك تعليل آخر لم نقف على سره؟ ذلك ما كنت قد قرأته وأنا شاب ولم أقيد اسم الأديب ولا اسم كتابه، وعلى كل فإن قول ابن جني إن اللفظ خماسي وإنه كعضرفوط، يشعر بأنه يقول بعربيته، وهو بعيد لا يصدق.
ومهما يكن من أمر، فإن هذه الكلمة وردت في كتب الأخبار والتواريخ العربية، لكن مصحفة بصورة «أرطبون» بتقديم الراء على الطاء، وقالوا إنه علم رجل كان يدافع عن «أجنادين» في أيام فتح عمرو بن العاص لها، فتأمل (وراجع المقتطف 92 : 195 وما يليها) فالوهم ظاهر والتصحيف باد، لكل حاضر وباد.
وقد ذهب بعضهم إلى إرجاع بعض الكلم الدخيلة إلى العربية إرجاعا يكاد يصرعك ضحكا للتعليل الذي يأتونك به، قال المجد في معجمه في مادة «ل و ب»، ما هذا قوامه تفسيرا «للأسطرلاب» وهي الكلمة الثانية في هذا البحث. (2)
واللاب: ... رجل سطر أسطرا، وبنى عليها حسابا، فقيل: أسطرلاب؛ ثم مزجا، ونزعت الإضافة، فقيل: الأسطرلاب معرفة، والأصطرلاب؛ لتقدم السين على الطاء. انتهى.
وهذا الكلام لم يقنع الزبيدي، فنقل هذه العبارة ببعض زيادة ثم قال: «هكذا نقله الصاغاني، قال شيخنا : ثم ظاهره أنه من الألفاظ العربية، وصرح في نهاية الأرب، بأن جميع الآلات التي يعرف بها الوقت سواء كانت حسابية، أو مائية، كلها ألفاظها غير عربية؛ إنما تكلم بها الناس، فولدوها على كلام العرب، والعرب لا تعرفها برمتها؛ وإنما جرى على ما اختاره من أنها ركبت فصارت كلمة واحدة عندهم، فكان الأولى ذكرها في الهمزة، أو في السين، أو في الصاد؛ ولا يكاد يهتدي أحد إلى ذكرها في هذا الفصل، كما هو ظاهر، وأكثر من ذكرها ممن تعرض لها في لغات المولدين، أو جعلها من المعرب، ذكرها في الهمزة.» انتهى كلامه.
قلنا أسطرلاب كلمة يونانية اللغة والتركيب من أسترون
ASTRON
أي نجم، ولمبانين
LAMBANEIN
أي أخذ وهي آلة يقاس بها موقع النجوم وارتفاعها فوق الأفق، واسمها بالفرنسية
ASTROLABE
كما في العربية.
وادعاء بعض اللغويين بعربية بعض الألفاظ الأعجمية هو في منتهى الغرابة، وقد جمعنا من هذا القبيل شيئا كثيرا حاول فيه اللغويون، على اختلاف طبقاتهم، تأويل الكلمة الدخيلة بما يوجهها توجيها حسنا في العربية الفصحى، ونحن نذكر ثلاث كلمات أخر ليقف القارئ على تحذلق بعضهم في اشتقاق تلك الألفاظ من الأصول العربية، من ذلك: (3)
الإسفنط: قال المجد: «الإسفنط بالكسر، وتفتح الفاء: المطيب من عصير العنب، أو ضرب من الأشربة، أو أعلى الخمر، سميت؛ لأن الدنان تسفطتها؛ أي تشربت أكثرها، أو من السفيط، للطيب النفس. قال الزبيدي: وهو يلمح لقول أبي عبيدة، أو من السفيط للطيب النفس؛ لأنهم يقولون: ما أسفط نفسه عنك؛ أي ما أطيبها، وهذا قول ابن الأعرابي، فهو عنده عربي، والقول: ما قاله الأصمعي من أنه رومي، والكلمة إذا لم تكن عربية، جعلت حروفها كلها أصلا ...»
قلنا ولا جرم أن الكلمة رومية وهي من
ABSINTHIUM
أي الخمرة المطيبة بالعبد وهو ضرب من الشيح، وقد وردت في بعض كتابات الملك ديوقلطيانس، وصحفت الكلمة بصور مختلفة منها: الإصفنط (بالصاد)، والإصفعند، والإصفعيد، والإصفد، والإصفعد إلى غيرها. (4)
الخندريس: «الخمر، مشتق من الخدرسة، ولم تفسر، أو رومية معربة. «حنطة خندريس قديمة.» (القاموس) وذكرها بعد خبس أي في خدرس. قال الشارح : ونقل شيخنا عن ابن حيان أن أصله فنعليس، فأصوله إذا «خدر»، فالصواب ذكره في الراء؛ لأن الخمر مخدر، وعليه المطرزي، وقيل: من الخرس، وتعقبوه؛ لأن الدال
1
لا تزاد، والصحيح أنه فعلليل، كما قاله سيبويه، وعليه فموضع ذكره قبل خنس.» انتهى.
قلت (أي الشارح): وأورده صاحب اللسان بعد خنس وتبعه غير واحد، أو رومية معربة، وقال ابن دريد: أحسبه معربا، سميت بذلك لقدمها، قلت: ويجوز أن تكون فارسية معربة، وأصلها: خنده ريش، ومعناه: ضاحك الذقن، فمن استعمله يضحك على ذقنه، فتأمل. ا.ه. كلام الشارح بحروفه.
قلنا إن الكلمة هي بالرومية واليونانية على السواء فهي بالرومية
CANTHARITES VINUM
وباليونانية
Kavθaoίtης oίvoς
وهي خمرة كريمة كان يؤتى بها إلى ديار الغرب من بلاد وراء بحر الروم، من عنب كان اسمه
kanthareos .
وأما الحنطة المسماة بالخندريس فهي من اليونانية
KANTHARIS
وهو ضرب من السوس الذي يقع في الحنطة، إذا مضى عليها زمن طويل؛ وهو ضرب من الخنافس صغير اسمه بالعربية «الجندع» فيكون معنى الخندريس للحنطة القديمة، تلك الحنطة التي هجم عليها الجندع أو السوس، ولا تكون كذلك إلا إذا قدم عهدها، فكلمة
KANTHAR
والجندع، شيء واحد لا غير، واليونان لا يعرفون أصل الاسم لهذه الحشرة، وأما العربية فإنها مشتقة من «الجدع» وهو القطع؛ لأنها تتعرض لقرض القطاني والحنطة والكرمة وغيرها، وهي بالفرنسية
charançon
على أن الجنادع في العربية جاءت بمعان أخر، وهي كل ما أشبه تلك الجنادب بظاهرها، وهو من باب التوسع وأمثاله كثيرة وهي مما يدفع المحقق إلى أن لا يحصر معاني الكلمة الواحدة بمعنى واحد كما يفعله بعضهم. (5)
ومن الألفاظ الأعجمية التي اشتق لها العرب أصلا عربيا أو أصلا أعجميا وهميا «المنجنيق» قال الفيروزآبادي في «ج ن ق»: «والمنجنيق، ويكسر الميم، آلة ترمى بها الحجارة كالمنجنوق، معربة، وقد تذكر، فارسيتها: «من جه نيك» أي: أنا ما أجودني! وجمعها منجنيقات ومجانق ومجانيق.» وزاد التاج بعد مجانق: وقال سيبويه: هي فنعليل، الميم من نفس الكلمة، لقولهم: في الجمع مجانيق، وفي التصغير مجينيق، ولأنها لو كانت زائدة لاجتمعت زائدتان في أول الاسم ، وهذا لا يكون في الأسماء ولا الصفات التي ليست على الأفعال المزيدة؛ ولو جعلت النون من نفس الحرف، صار الاسم رباعيا، والزيادات لا تلحق بنات الأربعة أولا إلا الأسماء الجارية على أفعالها، نحو مدحرج، وقد جنقوا تجنيقا: إذا رموا بأحجار المنجنيق»، وقال الليث: مجنقوا منجنيقا، عند من جعل الميم أصلية، قال: وقد يجوز أن تكون زائدة؛ لأن العرب ربما تركوا هذه الميم في كلمة سوى ذلك، كقولهم للمسكين: قد تمسكن، وإنما المسكين على قدر مفعيل، كالمنطيق والمحضير، ونحو ذلك، قال شيخنا: «وقد اختلفوا في وزن هذا اللفظ على أقوال للفراء والمازني وأبي عبيد والتوزي، وهل الميم هي الأصلية، أو النون، أو غير ذلك؟ واستدلوا بجنقونا وبعدم زيادة الميم في مثله، وفي غير ذلك، مما لا طائل تحته، والصواب عندي (أي عند الشارح) أن حروفه كلها أصلية؛ لأنه عجمي، لا سبيل فيه إلى دعوى الاشتقاق، ولا مرجح ادعاء زيادة بعض الحروف دون بعض، ولا داعي لذلك، فالصواب إذن أن يذكر في فصل الميم، كما هو ظاهر، والله أعلم.» انتهى بما فيه، وراجع لسان العرب أيضا في مادة «جنق»، ولا سيما «مجنق»، فإن الشارح نقل أغلب كلامه من المصدر المذكور.
ورأينا في المنجنيق أنه معرب، لكن من اليونانية لا من الفارسية كما قال بعضهم، فأحرفه كلها أصول، كما هو معروف عند جمهور أرباب اللغة، والكلمة اليونانية التي أخذت منها العربية هي
MAGGANOU
وهي كلمة في حالة الإضافة للكلمة المرفوعة
MAGGANON
وإنما قلنا إنها من الأولى؛ لأنهم قالوا فيه أيضا «منجنوق» وما المنجنيق إلا لغة في الأولى، وفيه لغات أخر منها: منجليق، وبالفرنسية
MANGANNEAU
وقد ذكر هذه الآلة عند اليونان إستراطون اللمساكي
STRATON DE LAMPSAQUE
وكان من علماء اليونان وتوفي في سنة 269 قبل الميلاد.
ولا نريد أن نجري في هذا البحث أكثر من هذا، فإن الموضوع واسع المدى لا تحصره صفحات بل مئات الصفحات، لمن أراد الإمعان فيه، فاجتزأنا بما ذكرنا.
تصحيفات وتحريفات وتشويهات المعربات
اجتمعت عدة علل على تصحيف الكلمة العجمية ومسخها مسخا شنيعا وتشويهها تشويها غريبا، عند نقلها إلى لغة الضاد المبينة، ودونك بعض هذه العلل:
الأولى:
وجود أحرف غربية، يافثية غير مألوفة في كلام أبناء يعرب، وقلت: غير مألوفة ولم أقل: غير معروفة؛ لأني أذهب إلى أن تلك الأحرف الأعجمية كانت معروفة عند العرب في سابق العهد عند اختلاط الأمم والقبائل بعضها ببعض في أول نشوئها، وبامتزاج العناصر بعضها ببعض، وبدليل أن سيبويه ذكر هذه الأحرف في كتابه، على أننا نقول: إن أغلب تلك الأحرف زالت واضمحلت من الاستعمال؛ استغناء بالسهل الممتنع منها عن الصعب القبيح على السمع، فلم يبق منها إلا القليل عند بعض القبائل وفي طائفة من المدن.
الثانية:
لما قل استعمال تلك الأحرف، بل لما ماتت في كلام كثيرين من أهل الفصاحة، لم يتمكن جمهور من أبناء الفصحى من أن ينطقوا بها عند اختلاطهم اختلاطا جديدا بأهل الحضارة الغربية من الأعاجم، ولا سيما بعد اعتزالهم في الشرق مدة طويلة، فنشأت في لغاتهم أحرف جديدة، فلم يتمكن السلف من التلفظ بكثير من تلك الكلم، فصحفوها تصحيفا، يختلف باختلاف سامعيها؛ ولذا لم يجر فيها على سنن واحد لاحب، ولا على وجه قياسي مطرد.
الثالثة:
أن كثيرا من تلك الكلم لما صورت بحروف عربية اختلطت قراءتها على الجاهلين بنطقها وحقيقتها ومعناها وصحة التلفظ بها، فاضطروا إلى أن يتوهموا فيها ما أرادوا وعلى ما يوحي إليهم وهمهم أو خاطرهم أو علمهم، فجاءت بعيدة عن أصولها الأول، ووضعوا لها تفاسير غريبة ظاهرة التكلف كل الظهور.
الرابعة:
أن رسم الحروف العربية زاد الطين بلة؛ إذ كثيرا ما تتشابه بينها، ولا سيما أن هناك من يهمل إعجامها أو تنقيطها، إما جهلا للفظة أو غرابة صيغتها، وإما لأنه لم يجدها بصورة قد ألفها أو أنس إليها، في حين أن تنقيطها أمر ضروري لا غنى عنه، فكان ثم القضاء المبرم على صحة لفظ تلك الكلمة، وحاق التصحيف الماسخ لها، فنشأ عندنا كلم لا هي عربية، ولا هي غربية، بل هي من لغة لا يعرفها الإنس ولا الجن، ولم يتمكن أحد من علماء الضاد وغير الضاد من معرفة الأصول التي نقلت عنها، وبقيت من الألفاظ المطلسمة، وسوف تبقى كذلك إلى ما شاء الله.
الخامسة:
أن كثيرا من الألفاظ العربية الغريبة المدونة مات ناقلوها ولم يشرحوها فبقيت مجهولة، لا يعرف من معناها أو من معانيها شيء البتة.
هذا ولا يسعنا هنا أن نوفي هذا البحث حقه، في مثل هذه الرسالة الوضيعة؛ إذ يتطلب وضع مجلد ضخم للقيام به، إن حاولنا التبسط فيه تبسطا يشفي الغليل؛ فلذا نكتفي بهذه الإشارة العامة وببعض الأمثلة للوفاء ببعض ما توخيناه في هذا الموضوع، فمن ذلك: (1)
إقليدس:
قال صاحب نثار الأزهار وهو الشيخ الإمام أبو الفضل جمال الدين صاحب لسان العرب في ص102 من طبعة الجوائب في الأستانة: «وإقليدس وهو اسمها (أي الشمس) باليونانية وقد تكلموا به (أي العرب).»
قلنا إن المعروف والمشهور على الألسنة أن إقليدس أو أوقليدس على ما يكتبها ويضبطها المجد في قاموسه؛ إذ يقول: «بالضم وزيادة واو: اسم رجل وضع كتابا في هذا العلم المعروف، وقول ابن عباد: إقليدس: اسم كتاب، غلط.» ا.ه.
قلنا ولم يعين الفيروزآبادي العلم الذي يشير إليه؛ إنما الشارح قال: «أي الهيئة والهندسة والحساب.» ا.ه.
فكم من غلط في كلمة واحدة أو قل في كلمتين اثنتين لا غير! وأول كل شيء أن الكلمة اليونانية الأولى التي يقول عليها ابن مكرم: إنها تعني الشمس هي غير معروفة في لغة بني يونان، فمن أين أتى بها؟ إننا ما كنا لنهتدي إليها، لو لم يصرح لنا بمعناها أي الشمس، فالشمس بلغة الهلنيين: «إيليوس أو هليوس أي
Hλίoς HELIOS » فأين هذه من تلك؟ إن الفرق لعظيم! وهل يتمكن اليونانيون أن يفهموا معنى «إقليدس» وأنه النير الأعظم؟ فهذا من حاق التصحيف الذي يتيه لدى تحقيقه طالب الصحة وناشدها، مع أن الناطق به من أعظم اللغويين قدرا ومنزلة! زد على ذلك أنه لم يذكر اللفظة في معجمه الضخم ولا غيره من أرباب المعاجم، فأين يطلبها الباحث، والإمام يقول: «وقد تكلموا به؟»
لنأت الآن إلى أوقليدس أو إقليدس الثانية ، وأول كل شيء أن إقليدس اسم مهندس يوناني طوى أيامه بين سنة 306 و283 قبل المسيح، وكان يعلم في الإسكندرية في عهد بطليموس الأول، وهو الذي وضع كتابه في الهندسة وسماه «الأصول»، فقول الشارح: إنه في الهيئة والهندسة والحساب صحيح من بعض الأوجه لا من جميعها؛ أي إنه صحيح إذا أدخلنا في الهيئة بعض أصول الهندسة لقياس أبعاد الكواكب أو ما أشبه هذا الأمر، وإلا فالكتاب في الهندسة ليس إلا. (2)
النطاسي:
قال في لسان العرب في ترجمة «نطس» ما هذا نصه بحروفه: «رجل نطس ونطس ونطيس ونطاسي: عالم بالأمور حاذق بالطب وغيره، وهو بالرومية النسطاس يقال: ما أنطسه!» ا.ه. وذكر تتمة هذه المادة في سبعة عشر سطرا من سطور لسان العرب، ونحن لا نريد أن نسردها كلها وفيها من الشعر القديم والحديث النبوي ما يحسن أن يطلع عليه بحذافيره، وجميع ما في هذه المادة منقول عن التهذيب لأبي منصور، وابن منظور لم يشر إليه بكلمة، فإذا كان أبو منصور - وهو أوقف الناس على صميم كلام العرب - يقول: إن الكلمة رومية ومنها تشتق مشتقات عديدة فيجب أن يكون كذلك، وهو لا ينطق عن جهل ولا عن هوى، ولا سيما لا عن حب للغة الروم، فما عسى أن تكون الكلمة الأصلية؟
قلنا إنها نطس الرومية أي
NOTUS ، فاختلف القراء في النطق بها؛ لأن هناك من يجعل الحرف
O
الغربي ألفا، ومنهم ضما، ومنهم كسرا، وهم يجرون على هذا الاختلاف إلى عهدنا هذا، فإنك تجد من يقرأ
BUFFON
و
BOSSUET : بوفون، ومنهم بيفون، ومنهم بافون؛ وكذلك في الثاني، فإنك ترى من يرويها: بوسويه وبيسويه وباسيوه.
ومعنى «نطس» الرومية: العالم، والعارف، والواقف على حقائق الأمور، والمطلع عليها، إلى معان أخر تراها مدونة في أسفارهم اللغوية. (3)
الماموسة:
وجاء في ديوان ابن مكرم في مادة «م م س»: ماموسة: من أسماء النار، قال ابن أحمر:
تطايح الطل عن أردانها صعدا
كما تطايح عن ماموسة الشرر
قيل: أراد بماموسة: النار، وقيل: هي النار بالرومية، وجعلها معرفة غير منصرفة، ورواه بعضهم: «عن مانوسة الشرر»، وقال ابن الأعرابي: «المانوسة: النار.» ا.ه.
وهذه المادة من أول كلمة فيها إلى آخر ما فيها مأخوذة حرفا بحرف من التهذيب لأبي منصور، وهل رأيت فيها كلمة يصرح بها أنها منقولة عن التهذيب؟ كلا، لكنك إذا أخذت التهذيب بيد واحدة واللسان بيد ثانية وقابلت بين النصين، اتضح لك صدق كلامنا.
إذن يقول لنا الأزهري: إن «ماموسة» أو «مانوسة» بمعنى النار مأخوذة من الرومية فما عسى أن تكون الرومية المباركة التي تمن علينا دائما بفك الطلاسم وحل الألغاز؟ فلنستشر الفيروزآبادي قبل أن نلتمس لها روميتها، قال المجد في «م م س»: «الماموسة: الحمقاء الخرقاء، والنار، وموضعها، كالماموس فيهما.»
وقال في «ا ن س»: «الأنيسة بهاء: النار كالمانوسة.» ا.ه. فاجتمع عندنا ثلاثة ألفاظ بمعنى واحد وهي: الأنيسة، والمانوسة، والماموسة، فأي منهن الأصل؟ قلنا تلكم التي تتصف بأقل الأحرف أي: أنيسة، فتكون روميتها
IGNIS
التي إذا نطقنا بها على الطريقة الرومية نقول: «إنيس»، ثم كسعت بالهاء؛ لكي لا تختلط بالأنيس، فعيل من الأنس، فقيل: «أنيسة»، ولما كانت أنيسة هنا بمعنى يؤنس إليها أي بمعنى مفعولة قالوا: «مانوسة»، ثم قيل: «ماموسة»، على لغة من يجعل الميم نونا بعض الأحيان، فقيل: ماموسة.
وأمثال هذا الإبدال لا تحصى كقولهم: الغيم والغين للسحاب، وطانه الله على الخير وطامه، والخنجرير والخمجرير للماء المر الثقيل، وقيل: هو الملح جدا، وقالوا: الفعم والقعن، قال الأزهري: والعرب تعاقب الميم والنون في حروف كثيرة لقرب مخرجيهما (راجع التهذيب واللسان وتاج العروس في مادة قعم وقعن).
إذن: أصاب الأزهري في قوله: إن الماموسة، والمأنوسة، والأنيسة من الرومية.
بقي هناك أن الماموسة تعني الحمقاء الخرقاء فهذا المعنى مأخوذ من المجاز، من معنى تلك النار التي تضطرم بسرعة، ثم تخبو فجأة، كنار الزحفتين التي يسميها الفرنسيون
FEU DE PAILLE
أي نار التبن لما ذكرناه، وقد استعمل الرومان النار في المرأة للدلالة على سرعة حمقها وغضبها وتأججه، فقد قال ڤرجيل:
CAECO CARPITUR IGNI
كانت النار تأكلها أكلا باطشة بها. (4)
نسطاس:
قال في القاموس في «ن س ط س»: «نسطاس، بالكسر، علم ، وبالرومية العالم بالطب، وعبيد بن نسطاس البكائي محدث.» ا.ه.
وفي لسان العرب: «في حديث قس: كحذو النسطاس. قيل: إنه ريش السهم، ولا تعرف حقيقته، وفي رواية: كحد النسطاس.» ا.ه. وفي النهاية لابن الأثير في نسختنا الخطية، وهي نسخة مجودة، قديمة، ثمينة، صحيحة الرواية: «كحدو النسطاس». بدال مهملة، فأين المعنى الصحيح، وأين الرواية المعتمدة؟
قلنا إن الفيروزآباي حين قال: «علم» فهو يريد علما فاشيا بين النصارى وبين بعض من أسلم منهم في النأنأة؛ أي أنسطاس، أو كما نقول نحن عنا «أنستاس»، وهو من اليونانية
Avασtάσίoς (أي البعيث)، وأما بمعنى العالم بالطب فإنه تصحيف نطاس أو نطاسي، وقد قلنا إنها من الرومية
NOTUS
وينعت بها الطبيب العارف لطبه أو العالم. وأما ما جاء في حديث قس، فإن الرواية التي ذكرها ابن الأثير بالدال المهملة هي الرواية الفصيحة الصحيحة وإن كانت النهاية المطبوعة تذكر: «كحذو النسطاس». بالذال المعجمة، وما اختلاف العلماء في تفسير اللفظة إلا لعجمتها؛ إذ هي من اليونانية أسطاس
ώσtέoς (osteos)
أي حاد بمعنى سائق، فيكون معنى الحديث كحدو الحادي، فتميزت الرواية الصحيحة من الرواية المغلوط فيها، وانجلى المعنى بعد أن كان مشكلا غامضا، وعرف أن هناك تصحيفا وقع في الكلمة؛ أي إن الهمزة جعلت نونا على لغة بعضهم، لغة أولئك الذين يقلبون الهمزة نونا أو بالعكس، وذلك في أي موقع وقعت، في الصدر، أم القلب، أم العجز، فقد قالوا: أبهه ونبهه، والزئجيل والزنجيل، والظرباء والظربان، إلى غيرها، وقد اجتزأنا بما ذكرنا، وإلا فثم متسع لا يخفى على اللغوي.
ولمعرفة الأصل الأعجمي الذي نقلت عنه كلمتنا المعربة فوائد لا تقدر، ولا سيما في أوضاع العلوم، وقد تكون تلك الكلمة منقولة عن عدة مفردات غريبة، وهي في العربية كلمة واحدة ونحن نضرب لك مثلا واحدا من هذا القبيل، وهناك أمثال منها لا تعد ولا تحد. (5)
الفاق:
في القاموس في «ف و ق»: «الفاق: الجفنة المملوءة طعاما، والزيت المطبوخ، والصحراء، وأرض، والطويل المضطرب الخلق كالفوق والفوقة بضمهما والفيق، بالكسر ، والفواق والفياق بضمهما، وطائر مائي طويل العنق.»
وفي ديوان أبي الفضل جمال الدين الخزرجي في نحو آخر مادة «ف و ق» ما هذا نقله: «الفاق: البان، وقيل: الزيت المطبوخ، قال الشماخ يصف شعر امرأة:
قامت تريك أثيث النبت منسدلا
مثل الأساود قد مسحن بالفاق
وقال بعضهم: أراد «الإنفاق» وهو الغض من الزيت (كذا)، ورواه أبو عمرو: «قد شدخن بالفاق»، وقال: الفاق: الصحراء، وقال: هي الأرض الواسعة، والفاق أيضا: المشط، عن ثعلب، وبيت الشماخ محتمل لذلك، التهذيب: الفاق: الجفنة المملوءة طعاما، وأنشد: ترى الأضياف ينتجعون فاقي.» انتهى.
قلنا الفاق التي بمعنى الجفنة المملوءة تنظر إلى اللاتينية
FASCIS
ومعناها: ما ضم من الأشياء بعضها إلى بعض، والجفنة المملوءة تكون على هذه الصفة؛ أو تنظر إلى اليونانية
أي المرصوص رصا من كل ما ملئ أو نضد.
والفاق بمعنى الزيت المطبوخ هو غير صحيح كل الصحة؛ وإنما الصحيح ما جاء في كلام الخزرجي أنه الإنفاق؛ فحذف الهجاء الأول للضرورة الشعرية ومعناه الغض من الزيتون (لا من الزيت كما جاء في الطبع خطأ)، والمراد من قوله: الغض من الزيتون، هو الزيتون الفج أي غير الناضج وهو ينظر إلى اليونانية
ðμqάкίov
أي الزيتون الغض مبنى ومعنى بعد حذف الكاسعة.
والفاق بمعنى الصحراء إلى اليونانية
ης
وهي اسم أرض أهمل أهلها زراعتها، فأمحلت، فقفرت، وكانت في خرسونيسة ثراقية، فأطلق ذلك الاسم على كل صحراء من باب تنكير العلم، وبقي العلم على الأرض نفسها.
والفاق بمعنى الطويل، وكذلك الفوق، والفوقة، والفيق، والفواق، والفياق، أصلها كلها القيق، بقافين تتوسطهما ياء مثناة تحتية وهي تنظر إلى اليونانية قيق
Гίγας, αυτος (ό) GIG,GIGANTOS
بالمعنى الذي ذكره أهل اللغة ولعل يعترض أن الكلمة باليونانية تكتب
γ
والعربية بقاف، قلنا وما أكثر ما جاء هذان الحرفان متعاقبين في العربية نفسها؛ فقد قالوا: جذف وقذف، جد وقد، سجع وسقع، جضم وقضم، رتج ورتق إلى ما لا نهاية له، وقالوا في السجلاط: السقلاط، والكربج: الكربق، والفالوذج: الفالوذق، وقالوا: القبطي وهم يريدون اليونانية
ALγύπτίος, α, ον
أو اللاتينية
AEGYPTOUS
إلى عشرات بل مئات مثلها.
وأما القاق بمعنى طائر مائي فهو لغة في القاق أو القوق وهو ينظر إلى اليونانية:
xύxνος
وبالرومية
CYCNUS
وابن مكرم لم يذكره في «ف» و«ق» بل في «ق» و«ق» قال: «القاق: طائر مائي طويل العنق، والقوق: طائر من طير الماء طويل العنق قليل نحض الجسم، وأنشد: كأنك من بناء الماء قوق، والقوق: طائر لم يحل، أبو عبيدة: فرس قوق والأنثى قوقة للطويل القوائم، وإن شئت قلت: قاق وقاقة.» ا.ه. فانظر كيف أن اللفظة الواحدة تتنقل بصور مختلفة لتقارب صور الأحرف، والأصل واحد.
وأما قول ابن منظور: إن الفاق هو البان فهو مبني على أن المراد بالبان: دهن البان وهو شبيه بدهن الزيتون الغض؛ أي شبيه بالفاق الذي هو الإنفاق فسمى الواحد بالآخر من باب المشابهة وهو كثير في لغتنا.
وذكر ابن مكرم للفاق معنى لم يذكره من اللغويين إلا أبو منصور في تهذيبه، فقد قال: والفاق أيضا المشط من خشب، فحذف ابن مكرم «من خشب» وأبقى «المشط» فقط، ولم يحسن عملا؛ لأن الفاق للمشط من الخشب مقطوعة من قول اليونان «فاق (سنس) كتيس
πύέίνος Кτείς (PUXINOS KTEIS) .» أي مشط من خشب البقس، والأمشاط كثيرا ما تتخذ من هذا الخشب الصلب المنيع إلى يومنا في الديار التي تستعمل فيها أمشاط الخشب، كالعراق، وإيران، وجزيرة العرب.
فهل رأيت كيف أن الكلمة الواحدة العربية تنظر إلى عدة مفردات في لغات الأجانب، وكيف أن هذه اللغى توضح لنا معناها، على ما وضعت عليها في أول خلقها، وكيف أن معارضة العربية بسائر اللغات تفيدنا فائدة لا يستغنى عنها؛ فهي تعيننا لا محالة على الاهتداء إلى مؤديانها بلا عناء ولا كلفة، بل تحتاج إلى سعي متواصل لكي لا يفوتنا شيء البتة، وهذا الذي نريده من لغويينا في هذا العصر؛ لأن بغير هذه المعارضة والمقابلة نبقى مقيدي الأيدي والأرجل بلا أدنى تقدم في سبيل هذه اللغة المنيفة الشريفة، ولا ننتفع مما يعنى به فقهاء الإفرنج في لسانهم؛ إذ نراهم يعارضون مفرداتهم بجميع الألسنة التي تشبهها عن بعد أو عن قرب.
فالسلف اتصلوا بأمم مختلفة وبألسنة شتى، وأهم هذه اللغات: العبرية والإرمية والفارسية واليونانية واللاتينية (أو الرومية)، فلا بد للغوي العربي أن يلم بهذه اللغى إلماما مجملا؛ ليتمكن من الجري في سبيل تحقيق أمنيته، وإلا فلا علم، ولا تقدم، ولا ولا ولا.
وقد أظفرتنا هذه المعارضة الثمينة بمعرفة معاني ألفاظ كثيرة كانت مشكلة ومبهمة، وبعدها أصبحت لنا أوضح من الشمس في رائعة النهار، وزال عن الفكر كل شبهة ومعضلة، فعرفنا بها حقيقة كثير من الحيوان، والنبات، والمعدن، بل كثير من شئون هذه الحياة وما يتصل بحاجها من الأدوات والماعون، وقد امتد النفس في هذا البحث الجليل؛ لمنزلته في اللغة، ولإهمال أهل البحث له مع ما هو عليه من الخطورة والرفعة والبال.
تناظر العربية واليونانية
أجمع البصراء والحذاق في اللغى المختلفة، وعلى رأسهم المستشرقون أن لا صلة البتة بين الألسنة السامية والألسنة اليافثية، ولا سيما لغة قحطان، فإنها أبعد اللغى عن الهندية (أي السنسكريتية) عن كل لغة عربية.
أما نحن فنخالف الجميع على الإطلاق، وقد وجدنا المشابهات بين العربية واللغتين المؤتمتين (أي اليونانية واللاتينية) عظيمة جدا، وبلغ بنا الاستقراء إلى هذه القاعدة وهي: كل لفظة يونانية أو لاتينية ذات هجاء واحد أو هجاءين، فلا بد من أن يكون لها مقابل في المضرية، وقد تتفق معاني اللفظتين كل الاتفاق، وقد تبتعد قليلا، وهذا لا بد منه، بعد نزوح الدار، واختلاف العادات والأخلاق، وتغير الأهواء والأهوية والمياه، إلى غير هذه الأمور التي تؤثر في المرء تأثيرا لا يمكن إنكاره، فإذا كانت هذه العوامل أدت إلى نتائج عظيمة في اللغات السامية نفسها، تلك الساميات الأخوات، فكيف لا تصدم اللغات المتباينة في عناصرها وأقوامها صدمة أعظم، بل صدمة عنيفة مزعزعة للأصول والفروع معا، بل صدمة تشبه ما تفعله القارعة في يوم الدين!
وقد تتبعنا أصول الكلم في اللغتين المؤتمتين، فوجدنا لكل كلمة ذات هجاءين فيهما مفردة مقابلة لها ولم نهتد إلا لبضعة ألفاظ، وربما نهتدي إليها مع الزمن، والذي لم نظفر بمقابلاتها تكون على نسبة اثنين إلى العشرة لا غير ، وإلا فإننا وفقنا لما بقي منها .
وقد اعتمدنا في بحثنا هذا على أصح المصادر في هذا العلم وأوثقها حجة، ونحن نذكر هنا بعض الألفاظ من باب الاستشهاد، وإلا فالبحث الوافي يقع في مجلد ضخم لكل من اللغتين، فنذكر هنا ما يتعلق باليونانية، وفي الفصل الآتي نذكر ما يقابل اللغة اللاتينية، فنقول: (1)
aiglè, αίγλη
الضياء أو البرقة
éclat de lumière
قال بوازاق، وهو من مشاهير اللغويين الأثبات: هذه اللفظة تحوي الدرجة الأولى من الأصل
AIG
الذي معناه: «هز وقذف» ثم حاول أن يدنيها من لفظة في الهندية الفصحى، وختم قوله بهذه الكلمة: «إن معنى اللفظة الأول هو الحركة الفجائية والتموج والترهره.»
فالعلامة الحاذق أقر أن الأصل هجاء واحد
AIG
وعليه يقابله في لغتنا «عق»، قال في القاموس: «العقة: البرقة المستطيلة في السماء ... وعق السهم: رمى به نحو السماء وذلك السهم عقيقة.» ا.ه. فإن كان بين القراء من ينكر هذه المقابلة فليفعل، وإن كان هناك من يجد كلمة قريبة من اللغة اليونانية كقرب العربية منها، فليذكرها لنا، ولا سيما إذا تقارب اللفظان والمعنيان معا، وهؤلاء لغويو الغرب مع اختلاف قومياتهم والهلنيون مع جماعات فقهائهم، لم يجدوا لفظة واحدة مثل هذه الكلمة المضرية التي ذكرناها. (2)
BALANOS, Bάλαυος
البلوطة. قال لغويو الغرب: أقرب كلمة إلى هذه اليونانية اللفظة اللاتينية
glans
ثم ذكروا لها مقابلات في سائر اللغى، فمنها ما تبتدئ بحرف
Z
ومنها بحرف
G ، وأخرى بحرف
D ، ولم يعرفوا أن الكلمة التي تجانس الهلنية هي العربية «البنان»، ومعناها الأصابع أو أطرافها، والمشابهة بين البلوط والبنان لا ينكرها بشر؛ إلا أن أصلها العربي هو «بلان» بلام بعدها الباء الموحدة التحتية؛ لأنها ترى بهذا الحرف في جميع الألسنة كالصقلبية القديمة واللتية والرومية واللتوانية والبروسية القديمة والأرمنية على ما عدد مفرداتها العلامة بوازاق، ولو كان عندنا نص عربي يذكر عربيتنا بألف سنة قبل المسيح لسمعناهم يقولون: «بلان.»
وقلب اللام نونا والنون لاما عند السلف شيء مشهور، وفي كل سفر لغة مذكور، وهل ينسى أحد منا الكلم الآتية: هتنت السماء وهتلت، والسدون السدول (ما جلل الهودج)، والرهدنة والرهدلة، وهو «طويئر»، ولقيته أصيلانا وأصيلالا، والشواهد أكثر من أن تحصى، فليراجع الباحث المزهر للسيوطي (1 : 222 و223 و229 و269 من طبعة بولاق) فير فيه ما يجزئه.
وفي اللسان في مادة «ب ل»: الفراء: قولهم «بل» بمعنى الاستدراك. تقول: بل والله لا آتيك: وبن والله، يجعلون اللام فيها نونا، قال: وهي لغة بني سعد ولغة كلب، قال: وسمعت الباهليين يقولون: «لا بن» بمعنى «لا بل». قال: ومن خفيف هذا الباب: بن ولا بن لغة في بل ولا بل، وقيل: هو على البدل. ا.ه. ونقل هذا الكلام صاحب التاج ولم ينسبه إلى صاحبه، على حد ما فعل ابن مكرم؛ إذ نقل هذه العبارة بطولها وحروفها عن التهذيب ولم يعزها إلى مدونها.
ثم إن السلف قصروا «البنان» بصورة «بان» وخصوها بهذا الشجر المعروف بقوامه السبط اللين وبزهره الناعم كالأذناب والمنفرشة، ويخلف قرونا كقرون اللوبياء، وبداخلها حب أكبر من الحمص، ولهذا الحب دهن طيب الرائحة يعرف بدهن البان والواحدة من هذا الشجر بانة، وسمي كذلك لأن الثمرة تشبه البنانة، وسماها اليونان
βάλαυος
أي بنفس الكلمة التي سموا بها البلوط، وأما الفرنسيون فسموها
BEN
كما في العربية، والعلماء يسمونها
MORINGA APTERA .
ومن العربية «بنان» أخذ الإسبانيون كلمتهم
BANANA
بمعنى الموز، من باب المشابهة نقلا عن العرب أنفسهم، ومنهم أخذها الفرنسيون فقالوا:
BANANE ، والإنجليز فقالوا:
BANANA ، وكنت قد قرأت بيت شعر لأحد عرب الأندلس يشبه به الموز بالبنان واليوم لا أتذكره فهذه ألفاظ ثلاثة أخذت عن العرب إحداهن بمعنى البلوطة، والثانية بمعنى ثمرة البان، والثالثة بمعنى الموزة.
فهذا فضل العربية لا ينكر، ومع ذلك ترى من أبناء هذه اللغة من يعقونها فيشهدون على أنفسهم أنهم من الأدنياء الذين عاشوا بين الشعوبية، فاقتبسوا منهم آراءهم فغدوا مكروهين من أبناء الغرب؛ لأنهم ليسوا من عدادهم، وممقوتين من العرب؛ لأنهم يرونهم من الشعوبية التي لعنها الناطقون بالضاد، ولا يزالون يلعنونها ما اختلف الملوان. (3)
γέφυρα GÉPHRA : قال بوازاق: وهذه بالبيوتية (من لغات اليونانية)، و
BÉPHURA
باللاقونية، و
diphura
بالغرطونية و
DÉPHURA
عند غيرهم. قال: ومعناها: المسناة والجسر، ثم سرد آراء بعض الحذاق من أهل اللغة، وانتهى به التحقيق إلى القول: «أصلها غير معروف »؛ لأنه لم يتمكن من أن يهتدي إلى لفظة ثنائية الهجاء تجيز له توجيه الكلمة وتأييد معناها للمسناة والجسر.
أما نحن فنقول له ولكل من ينكر فضل العربية على جميع اللغى قاطبة: إنها من «الضفيرة» وهي المسناة، ومسألة نقل الضاد الخاصة بأبناء إسماعيل، مشكلة من المشاكل منذ أقدم الزمان إلى عهدنا هذا، فقد اختلفوا في تحويلها إلى ألسنتهم كل الاختلاف، وأعظم دليل على هذا التشتت في الرأي هذه الكلمة، وإن كان هناك مفردات جمة العدد، نصرح بها كلما احتجنا إليها، فالاختلاف الواقع هنا ظاهر بين قبائل اليونان أنفسهم بين البيوتيين واللاقونيين والغرطونيين، فأنت ترى أن البيوتيين نطقوا بها بالجيم، واللاقونيين بالباء، والغرطونيين بالدال، وسواهم بالدال أيضا، فأقرب كلمة من لغاتهم هي ما كانت بالدال المهملة أو الذال المعجمة؛ لأن اليونان اختلفوا أيضا في النطق بدالهم.
ومن أغرب الغرائب أن مثل هذا الاختلاف وقع لقبائل العرب أنفسهم في لفظ هذه الضاد التي يرمقها جميع الحساد بعيون تدل على ما في سرائرهم من الغيرة والغمط.
أما أن أبناء عدنان اختلفوا في النطق بها على حد ما اختلفت فرق اليونان، فظاهر من وقوع أمثال ذلكم الإبدال في لهجاتهم، فقالوا في إبدالها جيما: وضح الطريق ووجح، كما في المحكم لابن سيده، وأوضفه وأوجفه؛ أي حمله على الإسراع في المشي، وضرح الشهادة وجرحها، إلى غيرها وهي جمة العدد.
وأمثال إبدالها باء: ضؤل وبؤل بمعنى واحد، وكذلك الضئيل والبئيل، والبونة: البنت الصغيرة ومثلها الضونة، والضؤضؤ كالبؤبؤ بمعنى الأصل إلى نظائرها وهي لا تحصى.
وأما قلبها دالا مهملة فقد قالوا في نهض: نهد، وفي ناهض: ناهد، وفي الضرس: الدرس والحضض والحضد، والنعض والنعد، شجر، واحدته نعدة، ونعضة (عن اللسان) إلى آخر ما عندهم.
وجعلها ذالا معجمة معروف أيضا فقد قالوا: الحضض والحضذ، وغضضت منه وغذذت؛ أي نقصته، ونبض العرق ونبذ، والعضيوط، والعذيوط، ويقال للأحمق: أضوط وأذوط، وضعطه وذعطه أي ذبحه، وهض الشيء يهضه هضا، كسره ودقه، وهذه يهذه هذا : قطعه سريعا، أو هو قطع كل شيء، إلى آخر ما ضارع هذه المفردات الكثيرة.
بقي علينا أن نذكر أصل معنى الضفيرة التي قلنا إنها تعني المسناة، فواضح أن اشتقاقها من ضفر البناء أي بناه. قال ابن الأعرابي: «الضفيرة، مثل المسناة المستطيلة في الأرض فيها خشب وحجارة، وضفرها: عملها، من الضفر وهو النسج، ومنه ضفر الشعر وإدخال بعضه في بعض، ومنه حديث علي: أن طلحة بن عبيد الله نازعه في ضفيرة كان علي ضفرها في واد كانت إحدى عدوتي الوادي له، والأخرى لطلحة، فقال طلحة: حمل علي السيول وأضر بي، ومنه الحديث الآخر: فقام على ضفيرة السدة، والحديث الآخر: وأشار بيده وراء الضفيرة، قال أبو منصور: أخذت الضفيرة من الضفر وإدخال بعضه في بعض معترضا.» ا.ه.
والضفيرة إذن قديمة في العربية، ولو كان عندنا نصوص مكتوبة أقدم من هذه لذكرناها، ويظهر من اختلاف لغات اليونانيين في نقل الضاد إلى لغتهم أنه لا يبعد عن اختلاف لغات العرب فيها، ولعل كل فخذ من أفخاذ قبائل الهلنيين أخذ لغته من الفخذ العربي الذي كان ينطق بذاك الإبدال، وهو أمر غير بعيد؛ إذ المشابهات بينة كل البيان ولا يمكن أن تخفى على أي متدبر لها. (4)
бέρω, бείρω dero, deiro : من أغرب ما أصبناه في معارضة لغتنا باللغتين المؤتمتين أننا وجدنا المشابهة في الأسماء كما وجدناها في الأفعال والحروف، وهذا لم نسمع به البتة، بل هو من أغرب الغرائب، ونحن نذكر هنا مثالا من عشرات الأمثلة لكي لا نحرج الصدور.
الفعل اليوناني الذي صدرنا به هذه المادة يعني سلخ، ولا سيما سلخ الشاة، ثم قال بوازاق: و
δορòς doros
الزق، والأتيكيون يسمونه
бέρρίς, εως dérris-eos .
قلنا الفعل العربي هو هو اليوناني بعينه؛ فقد قال اللغويون: درع الشاة كمنع: سلخها من قبل عنقها ودرع رقبته: فسخها من المفصل من غير كسر، ودرعه تدريعا: خنقه خنقا، ولم نجد في هذه المادة كلمة تدل على الزق، لكنا ظفرنا في مادة «ذرع» بالذال المعجمة ما يفي بالمراد، ولما سبقنا فقلنا إن الدال اليونانية أي:
Δ
يلفظها بعضهم كالدال المهملة العربية، وبعضهم كالذال المعجمة، جاز لنا أن ننظر في ترجمة «ذرع» بالمعجمة ما ننشده، فإذا فيها: «ذرع فلانا: خنقه من ورائه بالذراع كذرعه، والذراع ككتاب: الزق الصغير يسلخ من قبل الذراع.» ا.ه. فهذه تفاصيل دقيقة في منتهى الفائدة.
وأولى هذه الفوائد:
أننا لو أردنا أن نكتب «درع أو ذرع» بأحرف هلنية فلا نجد رسما آخر غير الذي رسم لتصويرها.
والثانية:
أن الكلمة اليونانية التي تدل على سلخ الشاة؛ إنما تدل على السلخ من عنقها، أو من ذراعها، ولما كان هذان العضوان متفاوتين في الشاة، فكأن المراد من هذا السلخ أنه يكون من قبل أعلاها لا من قبل أسفلها (أي رجليها).
والثالثة:
أن قدم لفظ الدال اليونانية مرة كالمهملة، وأخرى كالمعجمة معهود عند العرب وعند اليونانيين أيضا.
والرابعة:
أن في معارضة اللغة العربية باليونانية إيضاحات وبيانات لا تقدر.
والخامسة:
نستدل بهذه المقابلة أن هناك ألفاظا لم يدونها العرب؛ إما نسيانا وإما إهمالا، ففي معارضة مادة «درع» بتركيب «ذرع» نجد مشابهات رائعة متفقة كل الاتفاق؛ لكنا نرى أن «الدراع» بالمهملة لم ترد بمعنى الزق، بخلاف الذراع بالذال المعجمة، إلى غير هذه العوائد التي تبدو لمن يتدبر المادتين العربيتين والمادة الهلنية.
وقد قلنا إننا وجدنا مثل هذه المماثلات والمتناظرات في الأسماء والأفعال والحروف أيضا، وهي كثيرة الأمثلة في الأسامي، وهذا واضح من أن المرء يضطر إلى اتخاذ الأشياء أكثر من استعمال الأفعال، وأما الحروف فهي أقل الكل. (5)
نعم: ونحن نذكر لك هنا شاهدا للحروف وهو «نعم» وتستعمل أداة للتصديق والإيجاب، وفيها لغات، قال النحاة: نعم بالتحريك، ونعم بفتح فكسر، ونعم بكسرتين، ونعام بالتحريك وبألف قبل الأخير، ونحم، بحاء في مكان العين، وهي في اليونانية
υαί, (NAI)
وفيها لغات منها:
υαί бή, (NAIDÉ)
و
υαί μήυ, (NAI MÉN)
و
υαί μαυ, (NAI MAN)
و
υαί μήυ, (NAI MEN)
و
υαί μέυτοι, (NAI MENTOI)
إلى غيرها، وقد اجتزأنا بما سردنا، وأقرب كلمة هلنية إلى كلمتنا الضادية هي
NAI MAN ، ولما كانت تلفظ سريعا تظهر على اللسان كأن المتكلم ينطق بكلمة واحدة هي «نيمن»، وكلنا يعلم أن العين وكل حرف حلقي يسقط من لغات الغربيين، فلا عجب بعد هذا إذا كانت «نعم» تشبه «نيمن» أو «نعمن » بزيادة النون في الآخر.
وقد زاد السلف النون في الآخر في كثير من الكلم، ففي النثر كقولهم: قطعن في قطع، وما عليه قرطعنة أي قطعة، فزيدت الراء في الوسط والنون في الآخر، وقالوا: العريقصانة في العريقصاء لنوع من النبات، وأما مثل الشسعن والضيفن بمعنى الشسع والضيف فأشهر وأعم، وكذلك مثل القطن والقطتن في الشعر من قبيل الضرائر، فهو أيضا كثير غير مجهول.
تناظر اللاتينية (الرومية) والعربية
إن الهلنيات المشابهة للعربيات شيء لا يقدر، وأكاد أقول مثل هذا القول في المشابهات والمماثلات بين اللاتينية ولغتنا الضادية، لكن لما كانت اليونانية أوسع بحرا من اللاتينية كانت النظائر بين هذه اللسان وبين لساننا أقل، وهذا العدد، وإن كان أقل، يحسب بالمئات أيضا، لا بالآحاد أو العشرات، كما يسبق الوهم إلى تصوره.
ونحن نذكر بعض هذه الأمثلة استيفاء للبحث، وإثباتا لرأينا الذي لا بد من أن يستغربه كل من يزاول علم معارضة اللغات بعضها ببعض: (1) زرع
هذا فعل، ويقابله في الرومية فعل أيضا، وقد نبهنا على مثل ذلك في اليونانية، والفعل المعروف في اللغة العجمية المذكورة هو
SERERE ، فإذا حذفنا من آخره علامة الفعل عندهم يبقى
SERE ، وقد علمنا سابقا أن أحرف الحلق تسقط كلها من كلام أبناء الغرب، وقد ينوب عنها أحد أحرف العلة من أحرفهم، وقد ناب هنا الحرف
E ، فصارت «سرى» بالسين في الأولى، وهذا ما نراه في كثير من الألفاظ عندهم، أنهم يجعلون الزاي سينا؛ إذ الزاي تلفظ عندهم وتصور سينا كما هو معهود عند عارفي لغات الغرب، إذن تحولت «زرع» بصورة «سرى» وهذا ظاهر ولا يحتاج المرء إلى إمعان في الفكر.
والذي نلاحظه أن كلمتنا وأصولها تبقى على حالتها، وإن اختلفت مشتقاتها من زارع ومزروع وزرع (اسما ومصدرا) ومزرعة إلى آخر ما عندنا، وأما الرومان فقد قالوا في أزرع «أنا»: سيرو
SERO
وفي زرعت سيفي
SEVI
ومزروع: ساتم
SATUM ، والزرع، مصدرا: سيررى، أو سارارا، بإمالة الألف أي
SERERE ، والزرع، اسما: سمن
SEMEN ، والمزرعة:سميناريوم
SEMINARIUM ، فأي اختلافات وقعت في «أصل الكلمة» العجمية، وابتعاد مشتقاتها عنه، وتشتت أحرف ذلك الأصل! بينما نرى أحرف أصل «زرع» الأولية باقية في جميع فروعها، ولهذا كانت لغتنا أقرب إلى الأصل من سواها. (2) السارية
في لغتنا السارية هي الأسطوانة، ويراد بها كل ما يسند به من حائط، أو سقف، أو باب، أو مزلاج، أو نحو ذلك، ويراد بالسارية أيضا المترس؛ لأن الأسطوانة أو الأصطوانة من «أستون» الفارسية، وهذه يقع طائر معناها على جميع الشعب المذكورة وغيرها، أو من اليونانية
бτόα, άς (STOA,AS) .
وعند اللاتين
SERA
معناها المترس والرتاج والمزلاج والمغلاق، وإذا سألت فقهاء لغتهم عن أصل كلمتهم، قالوا لك: إنها مشتقة من
SERO
ويتصرف هذا الفعل هكذا:
SERO, SERUI, SERTUM,
ومعناها أقفل وأدخل الأزرار في عراها، وضم الأشياء بعضها إلى بعض، وخلطها بعضا ببعض، إلى ما جرى في وادي هذه المعاني.
أما نحن فنخالفهم ونقول: إن السارية العربية مشتقة من السراة وهي الظهر، فيكون معناها «ذات الظهر» من باب النسب كتامر ولابن؛ لأن السارية تسند ما تتخذ له، وأما
SERERE
التي قال الرومان: إن منها اشتق سلفهم
SERA ، فلا نوافقهم عليه، بل نقول: إن كلمتهم هذه توافق عندنا «شرج»، قال لغويونا: شرج الخريطة: داخل بين أشراجها وشدها، وشرج اللبن: نضده وضم بعضه إلى بعض.» وإنما قالوا:
SERERE ؛ لأن الشين المعجمة غير موجودة في صميم كلامهم، ولأن جيمنا تقلب ياء عند كثير من العرب، وهي لغة فاشية إلى اليوم عند أعراب المنتفق في العراق يقولون في جرح، ورجح، وحرج: يرح، وريح، وحرى، ففعلهم هذا وفعلنا من نبع واحد أو مصدر واحد؛ ولهذا كانت السارية العربية مضرية محضة. (3) نضاه
يقال: نضاه من ثوبه أي جرده فهو نضي ومنه النضي للسهم بلا نصل ولا ريش (اللغويون)، وهو كقولك: سهم عري من النصل والريش، والنضي أيضا والنضو: المهزول من جميع الدواب (اللغويون ولا سيما اللسان) كأنه جرد من لحمه، وعري منه، والأنثى نضوة، وجمع المذكر والمؤنث أنضاء.
فأنت ترى من هذا أن النضي أو النضو ينظر إلى اللاتينية
NUDUS
والمؤنث
NUDA
لا فرق في اللفظ والمعنى، إذا نزعت من اللفظة الحرف
S
الذي هو من علامات الإعراب عندهم، وإذا سألتهم من أين لكم لفظكم؟ خرسوا، أو لا أقل من أنهم يتلعثمون في أجوبتهم ويتمحلون لك ألفاظا، تكاد تخر من السقف عند سماعك إياها، أفليس الأجدر بهم أن يقولوا: إنهم اقتبسوها من العرب؟ وفي كلامنا يرى الفعل، وله مشتقات عديدة، ترى في جميع المعاجم، دع عنك ما هناك من المفردات المأخوذة مجازا من الأصل المذكور، فالمادة عندنا غنية وأما مادتهم فالعوز والفاقة والذلة ظاهرات عليها، فنحن نبيح لهم أن يغترفوا من غمر لغتنا؛ إذ نحن العرب معروفون بالكرم والضيافة والجود الذي دونه كل جود. (4) عراه وعره
من غريب اختلاف الآراء عند لغويي الغرب تفرق نظرهم في أصل الكلمة
ORARE
التي معناها صلى، أو طلب من الله ما يحتاج إليه، ففريق اشتق هذا الفعل من
OS, ORIS
الذي معناه الفم؛ لأن المرء إذا طلب شيئا لا بد من أن ينطق بفمه ليفوز بمطلوبه، ومنهم من رأى أنها من اليونانية الهومرية (arè), άρή
وهي بالأتيكية (ARA), άρά
ومعناها الصلاة والدعاء، ولما كان الدعاء يستعمل للخير وللشر، فكذلك الكلمة اليونانية ترد بالمعنيين المذكورين، وإذا سألنا الهلنيين من أي سماء هبط عليكم هذا الحرف؟ قالوا: إنه من الهندية
ARYATI
أي ثنى ثناء طيبا، وبالأرمنية
ALACEM
ومعناها: تذلل، واستنجد، واستغاث، وابتهل، إلى نظائر هذا المعنى.
والذي عندنا أن الكلمتين الهلنية واللاتينية تنظران إلى المضرية «عرا يعرو» قال في القاموس: «عراه يعروه: غشيه طالبا معروفه كاعتراه»، وفي عري: «وعريته: غشيته كعروته.» ا.ه. وقال في «ع ر ر»: «المعتر: الفقير، والمعترض للمعروف من غير أن يسأل: عره عرا، واعتره، وبه.» ا.ه. وقال في صدر تلك المادة أو يكاد، «وعره: ساءه، وبشر: لطخه به»، فالظاهر من هذا الكلام أن عره المضاعف سبق عراه الناقص، وفرق العرب بين المعنيين تبعا لصيغتي الفعلين، إلا أن المعنى واحد في الأصل ومتفق مع اليوناني.
فنجيب عن اشتقاق اللاتين لكلمتهم من
OS,ORIS
أي الفم: أن المرء قد يصلي إلى الله من غير أن يتخذ فمه ذريعة لذلك، بل إرادته، كما أنه قد يتخذ الفم لغير الصلاة والعبادة، فادعاؤهم أن
ORARE
مأخوذة من هذه اللفظة ادعاء باطل لا يقوم على سند رصين.
أما أن اللاتينية مستعارة من اليونانية بمعنى الدعاء، خيرا كان أم شرا، إلى آخر ما ذهبوا إليه، فهذا الرأي أوجه من ذاك، وإن لم يكن صحيحا في نظرنا، والذي عندنا أن كلمتنا «عراه يعروه عروا» أقرب إلى ما يريدونه من سواها؛ لأنك ترى في معنى «العرو»: «الصلاة» سواء أخرجت من الشفاه، أم من الإرادة، وفي «العرو» ترى معنى دقيقا للصلاة؛ لأن المصلي يغشى باب الله طالبا معروفه وبركته وخيراته، وهذا الطلب هو المقصود من الصلاة والدعاء، ولهذا أجمع علماء الكلام على أن غاية الصلاة هي هذا الطلب، وهو صريح في مصنفاتهم من عرب وعجم.
فأما أنها صريحة في كتب السلف فواضحة من أنهم عرفوها أنها «الدعاء والرحمة والاستغفار» (القاموس)، وأما في كتب العجم فأشهر من أن تذكر، ونحن نذكر هنا شهادة لاروس الصغير؛ لأنه في أيدي الجميع، وفي متناول الكبير والصغير، فإنه يقول: «الصلاة طلب إلى الله»، وقد جاء الاعترار في لغتنا كالاعتراء؛ فلقد رأينا أن «المعتر» هو الفقير المعترض للمعروف من غير أن يسأل، وكل منا فقير بين يدي الله، معترضا لمعروفه، ولو لم يسأل بلسانه.
وأما أن الكلمة اليونانية
ARA
تعني الدعاء بالخير أو بالشر، فحرفنا «العر» المضاعف، يفيد أيضا هذين المعنيين، على ما بسطنا ذلك، فنرى من هذا صحة كلامنا: أن لفظة الصلاة عندهم؛ أي
ORARE
هي أقرب إلى لغتنا من أي لغة سواها.
بقي أن هناك ملاحظة لا بد لنا من إبدائها وهي: أن لغويي الغرب، ولا سيما الألمان منهم، البصراء بلسان أهل يونان، ذهبوا إلى أن
άρά
أصلها عندهم في القديم
άρΓά ، وذهب آخرون إلى أنه
άραΓά
أي إنه كان في العهد العهيد بين الراء والألف الأخيرة حرف مزدوج يسمونه ديجما
DIGAMMA
وينوب عندهم دائما عن حرف محذوف، ويكون في أغلب الأحيان حرف حلق، لكنه قد يكون حرفا آخر، وقد تصرفوا في هذا الحذف تخفيفا للفظ على اللسان، وهذا مما يسلم به جمهور حذاقهم في الهلنية بلا شاذ واحد؛ أيا كان عنصرهم أو قوميتهم، ولا جرم أننا تابعون لهم في هذا الرأي الصحيح القويم الذي ليس عليه أدنى غبار، والمحذوف هنا «الفاء»، فإذا أعدناها إلى اللفظ الجاري عليه الكلام؛ أي «عرا» الحرف المحذوف عندهم ترانا بين يدي «عرفة» أو «عرفات» التي اختلف في تأويلها المفسرون على نحو اثني عشر رأيا، على ما في كتب التفسير المطولة كالطبري والآلوسي، وبين تلك التفاسير رأي من يقول إن «عرفات» أو «عرفة» سميت بذلك؛ لأنها مقدسة معظمة، لا لأنها عرفت أي طيبت، أخذا من العرف وهو الطيب، بل لأن المصلين يجتمعون ثم للدعاء والابتهال والصلاة والاستغفار والتقديس والثناء على عزته تعالى ثناء «معروفا» أي طيبا.
فنعم التسمية ونعم المسمى! وهذا من فضل هذا البحث الجزيل الفائدة، والجليل النفع. (5) ثم
من الحروف التي تتشابه لاتينيتها بعربيتنا «ثم»، فإن الرومان يقولون:
TUM ، فالمشابهة تامة، لا سيما عند الوقف، بمعنى العطف، لا بمعنى الظرف؛ لأن اللفظة اللاتينية تأتي أيضا ظرفا ومعناها: «حينئذ»، والكلام هنا على
TUM
العطفية وهم لا يعرفون من أين أتتهم.
ونحن نظن أن أداة العطف العربية «ثم» قصر الإرمية «ثوب» ومعناها العطف و«أيضا» و«بعد» و«ما عدا ذلك»، وهي مشتقة من «ثب»؛ أي رجع، وآض، وتاب، وعاد، وثاب، كما أن «أيضا» مصدر آض يئيض؛ أي رجع يرجع، ويصح أن تكون «ثم» أصلها «ثوبا» أي عودا، ورجوعا إلى الكلام الذي يجري بيننا، ثم قلبوا باء «ثوبا» «ميما» لقرب مخرج اللفظين فقالوا: «ثوما» وبينها وبين «ثم» فرق زهيد.
فأداتنا العطفية تؤول وقد عرفها أصلها واشتقاقها وصحة استعمالها، أما هم فلا يعرفون من أداتهم شيئا، فإذا قلنا إنهم أخذوها من لغتنا فإننا لا نظلمهم حقهم.
ونقف عند هذا الحد من هذا الفصل، وإلا فإن الموضوع واسع لا يتم إلا في نحو مئات من الصفحات من مثل هذا الكتاب؛ لكثرة ما فيه من عجائب وغرائب!
تناظر الفارسية واللغات المندثرة
القديمة للعربية
لما كانت جزيرة العرب متصلة بالعراق منذ أقدم الأزمنة في التاريخ دخل كثير من كلام العرب في كلام أهل فارس، كما أن كلاما كثيرا من لغة الفرس دخل في لسان العرب، وقد يصعب على الباحث في بعض الأحيان نسبة الكلمة إلى اللغة التي ترجع إليها من عربية أو أعجمية.
وقد قيل في بني العباب (ككتان) من العرب إنهم سموا كذلك؛ لأنهم خالطوا فارس حتى عبت خيلهم في الفرات (راجع القاموس في عبب).
ولهذا وجب علينا أن نطيل الكلام على هذه المسألة بوضع مقدمة تقفنا على الأمور ودخائلها.
لا نشك أبدا في أن ألفاظا جمة، من إغريقية ولاتينية، تشابه كل المشابهة حروفا سامية عديدة، ولا سيما تضارع حروفا عربية؛ لأنه إذا كان ثم عشر كلمات من اللغتين المؤتمتين تناظر كلمات عبرية أو إرمية، فهناك مئات من الألفاظ الضادية تنظر إلى اللغتين المذكورتين.
فهذه المجانسة البينة لكل ذي عينين لم تأت عفوا ولا من باب المصادفة والاتفاق، ولا هي وليدة توارد الخواطر؛ لأنه لو وقع شيء من هذا القبيل لكان في بضعة أحرف، وليس في عشرات أو مئات، إذن هناك أصل هو أبو الجميع، ومن هذا الأب نشأت سائر الفروع، وأقرب لغة تجاور ذلك الأب الأكبر هي العربية.
وكان السلف قد اختلط بالأمم القديمة أصحاب اللغات التي كانت مبثوثة في سقي بحر الروم؛ أي بالأمم الهندية الأوروبية وبسواها.
والهنود الأوروبيون في مختلف لغاتهم غير متصلين بعضهم ببعض على طراز الساميين؛ إذ هؤلاء تستحكم بينهم عرا النسب، وتشج وشجا وثيقا، ولا يمكن أن ينكر ما عند القبيلين من المنازل التي تدل على أصلهم منذ القدم، ومن هذين القبيلين نشأ العمران الأكبر، عمران العالم الحديث، وأصل هذين القبيلين البشريين وتطورهما أو تكاملهما هما المسألتان الرئيستان اللتان تهمان التاريخ.
على أن بعض الغربيين وشعوبيتهم يحاولون أن ينكروا كل ممالأة جاءت من قبل الساميين، وينسبون كل تبحر في الحضارة إلى العنصر غير السامي؛ بيد أن مكشوفات العراق، وسورية، وفلسطين، وديار مصر، والهند، هبت من قبورها ودفائنها لتفند هذا الزعم القائل، وتكذب أولئك المتقولين المغرضين.
وكل ما نرغب فيه اليوم ، ويفيد المؤرخين الباحثين، أن يتقصى الحفي في الآثار، ليطلع على أقدم الطوارئ الآرية التي هبطت على آسية المتقدمة، ويحاكم أحداث تلك الأجيال محاكمة مجردة من كل غرض.
إننا نعلم أن الفريجيين والأرمن وبعض أقوام آسية الصغرى الواغلة في القدم كانوا ينتمون إلى العشيرة الهندية الأوروبية، والآن جاءت الأنباء تروي لنا أن هناك آريين أسبقين بدوا لنا اليوم ليلحقوا بالعشيرة المذكورة، فانبثاق هذا الفجر الجديد يطلعنا على أمور كان علماء الغرب أنكروها قبل نحو بضعة قرون، وهي الآن تزداد جلاء ووضوحا؛ إذ يبدو لنا الآريون، بل قل الآريون الأسبقون بمظهر العائشين في الشرق المتقدم عيشة تدل على أنهم كانوا يخالطون الساميين منذ الأزمان الضاربة بعرق في القدم، فإلى ذلك العهد تنسب الألفاظ اليونانية والرومانية التي تشبه في تركيبها وبنيتها وبساطتها الألفاظ السامية، أو قل الأوضاع العربية.
ويرى في اللغتين المؤتمتين اليونانية واللاتينية ألفاظ لا ترجع أصولها إلى مواد معروفة فيهما، والذي ينعم النظر في أحدث المعاجم التي ألفت في هذه الأعوام الأخيرة كمعجم والدي في اللاتينية وأصولها
DR ALOIS WALDE - Lateinisches Etymologisches Worterbuch .
ومعجم بوازاق:
EMILE BOISACQ - Dic. Etymologique de la Langue Grecque .
في أصول اليونانية وغيرهما، يجد أنهم يقولون إننا نجهل أصل هذه الكلمة، فإذا قالوا مثل هذا وقابلته بما ورد في لغتنا المبينة، فهي وحدها مفتاح اللغة، على ما بيناه في طائفة من الجرائد والمجلات كالهلال والمقتطف ولغة العرب ومجلة مجمع اللغة العربية الملكي، وغيرها مما لا يخفى على أحد.
جواب على اعتراض بخصوص العربية الأولى والمتأخرة
ورب معترض يقول إن العربية العصرية، أو العربية التي استحكمت أصولها قبيل الإسلام، غير العربية القديمة التي كانت في تلك العصور الضاربة في القدم، فعربية هذا العهد حديثة بالنظر إلى اللغتين المؤتمتين، ولا سيما مدوناتهما، فإنها - ولا شك في ذلك - أقدم عهدا من مدونات عدنانيتنا بعدة قرون، فكيف يسوغ القول بما ذهبت إليه؟
قلنا إننا لا ننكر من هذه الحقائق إلا بعضا منها، نعم، إن الصيغ والتراكيب والمباني في لساننا قد تختلف عما كانت عليه في الأزمان البعيدة العهد، إلا أن «مادتها الأصلية واحدة»، وهذا هو المهم والمعول عليه في معارضة اللغى بعضها ببعض للحكم على أسبقيتها.
وأكثر هذه المواد تعرف عروبتها من تركيبها الأحادي الهجاء، الثنائي الحرف؛ أي إنها في أبسط حالة يمكن أن تكون عليها الكلمة، في أول وضعها ونشوئها، وقد مر الكلام على أن المضاعف الثلاثي عندنا هو في الحقيقة أحادي الهجاء (راجع الفصل الخامس) وكيف تفرعت سائر الصيغ؟
ومما لا ينكره إلا المعاندون الحمقى أن أناسا من الحثيين كانوا في عداد الترواديين، وكانت صلاتهم باليونانيين الأقدمين الأبطال من أوثق الصلات وأقواها، وقد أثبتت الأخبار أن أكابر الحثيين كانوا يصاهرون أماثل اليونانيين، ووجد اليوم من الأنباء القديمة أن الدولة الأخائية الكبرى - تلكم التي ترتقي إلى النصف الثاني من الألف الثاني قبل المسيح - كانت تراسل عظماء الديار التي نسميها اليوم بالأناضول القباذقية، وتواصلهم وصالا مهما خطيرا، يدل على ارتباط القلوب بعضها ببعض.
زد على ما تقدم أن أخبار التوراة تفيدنا أن أبناء «حث» كانوا ينزلون ربوع كنعان من شماليها إلى جنوبيها، وكان من الحثيين فرع ثالث يقيم في قيليقية، وكانوا مرتبطين بالحثيين الكنعانيين - شماليين كانوا أم جنوبيين - ارتباطا وثيقا، وعززت هذه الحقيقة مكشوفات فجر هذا العصر.
ومن الأدلة المثبتة لهذه الأسانيد المكاتبة التي عثر عليها أهل البحث في «تل العمارنة»؛ فإن أغلب ما فيها يدور محوره على شئون كنعان، ولغة تلك المكاتبة الرسمية المألوفة هي السامية، وفيها أمثلة من رسائل أخرى: عبارتها ميتنية
1
وحثية، وهذا ما يدل دلالة صريحة، على أن ارتباط الساميين بالأسيانيين
2
كان ارتباطا وثيقا محكم الإبرام والشرج، فهو إذن دليل تاريخي منيع لا يتيسر نقضه.
على أن في لغتنا من الأوضاع الدخيلة ما لا يمكن إنكاره، وقد أقر بهذه الحقيقة أئمة اللغة أنفسهم، واقتباسهم لتلك الألفاظ لا يدل على أن لغتهم خلت منها، بل كان ذلك من الإكثار من المترادف، أو للتفاهم مع أقوام لا يفهمون إلا المهم من كلامهم، أو لأن في بعض الحروف الدخيلة خفة ورشاقة وذلاقة لا ترى في لسانهم، أو للمباهاة ببعض ألفاظ الأغراب والأجناب، إلى أسباب أخر قد تخفى علينا اليوم.
وفي كتابنا هذا فصل وسمناه: «بالحرب بين الكلم العربية والغريبة» يدل على أنه كان للسلف ألفاظ تغنيهم عن اتخاذ الدخيل، ومع ذلك اتخذوه، فقتل الدخيل الأصيل، حتى إنه ليصعب على السامع فهم الكلام الصميم العربي بعد أن اعتاد سماع الأجنبي الأعجمي، وألفه كل الإلفة.
والألفاظ الفارسية في العربية كثيرة؛ لاختلاط السلف بالفرس منذ أقدم الأزمنة، على ما تقدمت الإشارة إليه في صدر هذا الفصل، ولعلها اللغة التي أبقت أثرا في لساننا أكثر من سائر الألسنة، ونحن لا نريد أن نسترسل في هذا الموضوع، وقد سبقنا إليه أحد مطارنة الشرق، وهو السيد أدي شير، من أخلص أصدقائنا، رحمه الله، واسم كتابه: «الألفاظ الفارسية في اللغة العربية» على أنه فاتته ألفاظ كثيرة، كما أننا لا نسلم له بكل ما نسبه إلى لغة الفرس.
والكتاب ليس بين يدينا، ونحن نكتب هذه الكلمة بعيدين عن خزانتنا، إلا أننا نتذكر أننا قرأنا في كتاب السيد أدي شير أن السراب من أصل فارسي، من «شور آب» أي ماء مالح، مع أننا نعتقد أنه من «سرام» الهندية الفصحى أي الماء، واللغويون من السلف يقولون بأنه عربي صميم، وقد يكون، وقالوا إنه من سرب الماء إذا جرى، أو من سرب الرجل في الأرض إذا ذهب على وجهه فيها ومضى، على أن التأويل الذي يقرب من الطبيعة أصح وأولى وأوجه من سواه.
وقلب ميم «سرام» باء أشهر من أن يذكر ولا ينكره أحد، وعندنا مئات من المثل والشواهد، ولو نعرف أن هناك من ينكره لأمطرناه شواهد، فنكتفي بالإشارة إليه خوفا من ملء الكتاب أمورا هي من قبيل تحصيل الحاصل لا غير.
وبقولنا إنه مأخوذ من الهندية الفصحى (أي السنسكريتية) لا نريد أن نقول إن العرب أخذوه من الهنود مباشرة، بل عن يد آخرين وهم الفرس؛ لأن لسانهم من الألسنة الهندية الأوروبية؛ إذ في اتخاذ الألفاظ من أمة دون أمة شروط لا بد من مراعاتها، وإلا تعددت المزالق بين يدي الباحث؛ ولذا دحضت أرجل رجال لا يحصى عديدهم، وبينهم طائفة غير يسيرة من كبار العلماء، من أبناء الشرق والغرب.
هوامش
تناظر اللغات السامية والعربية
كثيرا ما يقول العبريون إن اللفظة العربية الفلانية هي من العبرية، وكذلك يزعم من كان عارفا باللغة الإرمية (التي يسميها بعضهم خطأ سريانية أو كلدانية) ويدعوها بعض أبناء الضاد «اللغة النبطية»، وهي أصح من قولهم: سريانية أو كلدانية؛ لأن النبطية هي المندائية أي إنها اللغة الإرمية ببعض مزايا وخصائص وبخلوها من أحرف الحلق الضخمة كالحاء والخاء والعين.
قلنا إن اللغات السامية كلها تتشابه بعضها مع بعض، ولا تكون الكلمة العربية من العبرية أو من الإرمية إلا إذا كانت تلك الكلمة خاصة بشئون بني إرم أو بني إسرائيل، أما الألفاظ العامة المشتركة بين الساميين جميعا فليس ثم فضل لغة على لغة، ولا أسبقية وضع لهذا القوم دون القوم الآخر.
قال ابن حزم في هذا البحث: «إن الذي وقفنا عليه وعلمناه يقينا أن السريانية والعبرانية والعربية التي هي لغة مضر وربيعة - لا لغة حمير - واحدة، تبدلت بتبدل مساكن أهلها؛ فحدث فيها جرس كالذي يحدث من الأندلسي إذا رام نغمة أهل القيروان، ومن القيرواني إذا رام لغة الأندلس، ومن الخراساني إذا رام نغمتهما، ونحن نجد من سمع لغة أهل «فحص البلوط»، وهي على ليلة واحدة من قرطبة، كاد يقول إنها لغة أخرى غير لغة أهل قرطبة، وهكذا في كثير من البلاد، فإنه بمجاورة أهل البلدة بأمة أخرى تتبدل لغتها تبدلا لا يخفى على من تأمله.»
ونحن نجد العامة قد بدلت الألفاظ في اللغة العربية تبديلا، وهو في البعد عن أصل تلك الكلمة كلغة أخرى، ولا فرق، فتجدهم يقولون في «العنب»: «العينب» وفي «السوط»: «أسطوط»، وفي «ثلاثة دنانير»: «ثلثدا»،
1
وإذا تعرب البربري فأراد أن يقول: «الشجرة» قال: «السحرة»، وإذا تعرب الجليقي أبدل من العين والحاء هاء، فيقول: «مهمد»، إذا أراد أن يقول: «محمد»، ومثل هذا كثير. «فمن تدبر العربية والعبرانية والسريانية أيقن أن اختلافها من نحو ما ذكرناه، من تبديل ألفاظ الناس على طول الأزمان ، واختلاف البلدان، ومجاورة الأمم، وأنها لغة واحدة في الأصل .» ا.ه. كلام ابن حزم.
فمثال الكلم العبرية الأصل «التوراة» فإنها من «تورا» ومعناها شريعة وسنة، ومنها أيضا: إسرائيل، وجبرائيل، وميكائيل، وإسماعيل، وجهنم، وصدوقي، وفريسي، وعنصرة، ولاوي، إلى غيرها، فكل ما هنا خاص باليهود، والعرب أخذوا عنهم هذه الكلم.
وأخذوا من الإرمية: برشان، وبرنساء «وقالوا فيها: برناساء وبرنشاء» وباعوث، وقالوا فيها أيضا: باغوث؛ أي إنهم إذا نطقوا بها بالعين المهملة جعلوا الثاء الأخيرة مثلثة، وإذا نطقوا بها بالغين المعجمة جعلوا الثاء الأخيرة مثناة، ذكر ذلك صاحب القاموس، وهذا غلط، والدنح (وأكثر كتاب الأخبار والتاريخ صحفوها «الذبح» أي بذال معجمة وباء موحدة تحتية) والإسكيم، والسليح، والسلاق، والسملاج، والإشبين، أو الشبين، والشماس، والمعمودية، والثالوث، والجبروت، والكهنوت، والملكوت، والطيبوت، (وكتبها كثيرون: الطيبوث بثاء مثلثة في الآخر)، والبيعة، والكنيسة، والكرح، والقلاية، والقلية، والمسيح، إلى غيرها.
فهذه الكلم أغلبها نصرانية دينية، وقد سبق الإرميون النصارى العرب المسيحيين فأخذ هؤلاء كل ما يتعلق بالديانة النصرانية عن أولئك، ولا يقال إنها عربية، وإن كان لها وجه تأويل في هذه اللغة المضرية؛ لأن أول الواضعين لها لم يكونوا عربا، بل من أبناء إرم.
ولا نريد أن نطيل النفس في هذا الفصل؛ لأن من عادتنا أن نطلق العنان لليراعة في الميادين التي لم يجر فيها فرسان العرفان، ونمسك عن الجري في المواطن التي كثر فيها البحث، ولهذا نقف عند هذا الحد من البيان.
تناظر اللغات السكسونية والعربية
ما أظن أن فكرة هذا التناحر خطر على بال أحد، ولا تعرض له باحث من أرباب اللغة، فإنه كالسحابة الرقيقة في أفق السماء، تلك السحابة بل اللطخة التي لا تكاد تراها العين لرقتها وخفتها، ومع ذلك نود أن نتعرض لهذا البحث؛ ليظهر لكل ذي عينين أنه كان العرب قد اتصلوا بقوم يمتون إلى السكسون بسبب من الأسباب هو هذا:
السكسون قبيل من الجرمان، وكان هذا الجيل متصلا أشد الاتصال بالآريين، وكانت منازل الآريين ديار إيران - وما إيران إلا مقلوب أريان - فاتصل بهم الناطقون بالضاد على صعيد العراق، والعراق رقعة قديمة من رقاع جزيرة العرب، وكان الاختلاف إليها معروفا منذ أقدم الأزمنة، فاتصل إذن آباء الجرمان بآباء العرب، فوقع إلى سلفنا من الألفاظ ما اتفق بعضه مع بعض كلامهم، وعلى ذلك نرى إلى اليوم آثارا من ذيالك الاختلاط الضارب في القدم، ونحن نذكر بعض ما يحضرنا من هذا القبيل: (1) ذن
ذكر صاحب القاموس في مادة «إذن»: «إذن: جواب وجزاء، تأويلها إن كان الأمر كما ذكرت، ويحذفون الهمزة فيقولون: «ذن» وإذا وقفت على «إذن» أبدلت من نونه ألفا.» ا.ه. قلنا «ذن» هي أقدم صورة للكلمة وأتي بالهمزة لتكون الكلمة على ثلاثة أحرف، و«ذن» تنظر إلى الإنجليزية مبنى ومعنى أي
THEN
وقد تكلمنا عليها كلاما طويلا في [فصل: إثبات ما تقدم من كلام السلف] فارجع إليه. (2) بيد
في القاموس: طعام بيد أي رديء وهو بالإنجليزية
BAD
وقد قال وبستر شاكا في هذا الأصل: لعلها من الإنجليزية السكسونية
BAEDEL
أي الخنثى، وقابلها بالكلمة
BAEDLING
أي المخنث، وأما في لغتنا فكأنما الرديء سمي به؛ لأنه أهل لأن يبيد أي يهلك، أو عرضة للتلف والهلاك، ثم لاحظ كيف أن الإنجليز لم يهتدوا إلى معرفة أصل كلمتهم معرفة تامة. (3) بيد
قال ابن مكرم: بيد بمعنى «غير»، يقال: رجل كثير المال بيد أنه بخيل، معناه غير أنه بخيل، حكاه ابن السكيت، وقيل: هي بمعنى «على» حكاه أبو عبيد، قال ابن سيده: والأول أعلى، وأنشد الأموي لرجل يخاطب امرأة:
عمدا فعلت ذاك «بيد أني»
إخال إن هلكت لم ترني
يقول: على أني أخاف ذلك، وفي الحديث عن النبي
صلى الله عليه وسلم ، أنه قال: «أنا أفصح العرب، بيد أني من قريش، ونشأت في بني سعد.» «بيد» بمعنى «غير». وفي حديث آخر: «نحن الآخرون، السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم.» قال الكسائي: قوله: «بيد» معناه: «غير» وقيل: معناه: «على أنهم.» ا.ه. كلام اللسان.
فبيد بمعنى «غير» تنظر إلى الإنجليزية
BUT
وقد تكلم عليها وبستر كلاما طويلا، وحاول محاولات عدة ليقنع القارئ بتأويله وشروحه، فنحول الباحث عليه، إلا أننا نجلب نظره إلى أن الصلة بين اللفظين العربي والإنجليزي واضحة كل الوضوح. (4) الذيل
الذيل: الذنب وآخر كل شيء، وهو ينظر إلى الإنجليزية
TAIL . قال وبستر: هو بالإنجليزية السكسونية
TEGEL,TAEGL
ويتصل بالجرمانية
ZAGEL
والأسلندية
TAGL
والأسوجية
TAGEL
والقوطية
TAGL
ومعناها الشعر، وأصل العربية أقرب إلى العقل؛ لأن معناه: آخر كل شيء، فقد يكون الذنب آخر ما في الحيوان أو السمك أو الحشرة وليس هناك شعر، فليحكم الباحث بعد هذا إلى صحة ما في لغتنا وما فيها من الحكمة وإيضاح الحقائق. (5) الملح
قال ابن الأعرابي: «الملح (بالكسر): اللبن. ابن سيده: ملح: رضع.» ا.ه (راجع اللسان في ملح، وكذلك القاموس والتاج)، فالملح ينظر الإنجليزية
MILK ، ومعلوم أن ليس لليافثيين حرف حلق، فيجعلون في مكانه أحرفا مختلفة ولا يتبعون في إبدالهم هذا قاعدة مطردة، فمرة يضعون الهاء
H
وتارة
C
أو
K ، وأخرى
CH
وحينا
KH ، وكثيرا ما يسقطونها بتاتا في كلامهم، إلى ما يتخذونه من الأسباب بلوغا إلى أمنيتهم، أو تحقيقا للفظ السامي، قال وبستر في معجمه (وفيه ترى تنقل الحاء إلى أحرف مختلفة) في
MILK
هو بالإنجليزية السكسونية:
MEOLUC, MEOLOC, MEOLC, MILC
قال: وهو يتصل بالأصل الفريسسياني القديم أي
OLD FRIESIC
الذي هو
MELOC
وبالهولندية
MELK
وبالجرمانية
MILCH ، وبالألمانية العالية القديمة
MILUH ، وبالأسلندية
MJOLK ، وبالدنيمركية
MELK ، وبالقوطية
MILUKS ، وبالجرمنية
MELKEN ؛ أي حلب، وهو بالجرمنية العالية القديمة
MELCHAN ، وباللثوانية
MILSZTI ، وباللاتينية
MULGERE ، وباليونانية (AMELGEIN) άμέλειν .
وقد نقلنا كل ذلك بحروفه عن وبستر وهو من أعظم اللغويين الأمريكيين معرفة للإنجليزية، لغرضين؛ الأول: لتقارب اللغات السكسونية بعضها من بعض، وكيفية انتقال الحرف الواحد إلى صور مختلفة باختلاف الأقوام، والثاني لتوجيه نظر الباحث إلى أن بعض المفردات العربية والسكسونية تتشابه مشابهة أو تتناسب مناسبة لا بد من القول بوجودها، ولا ينفع النكير فتيلا بعد هذا الدليل الجليل. (6) باع
باع: يفيد في لغتنا معنيين؛ معنى أعطى رجلا ما يملكه بدل ثمن يقبضه، ومعنى اشترى شيئا من رجل، فباع بالمعنى الثاني هذا يقابله بالإنجليزية
TO BUY
وهي تلفظ كالعربية ما خلا العين، فإنها ليست في لغتهم لأنها من أحرف الحلق وإلا فإنها تلفظ «باي» والمعنى واحد.
قال وبستر في
BUY : هو بالإنجليزية القديمة
BUGGEN, BIGGEN, BIEN ، وبالإنجليزية السكسونية
BYCGAN ، وهو يتصل بالسكسونية القديمة
BUGGEAN ، وبالقوطية
BUGIAN ، وهنا أيضا تقلبت العين تقلبات شتى بحسب القوم الذي نطق بها، وهذا دليل آخر على أن الحرف الحلقي لا يبقى على حالة واحدة حين انتقاله إلى لغات اليافثيين على ما يتوقع منهم.
على أن العرب أنفسهم تصرفوا في لفظ العين على حد ما تصرف فيها الأجانب، وعندنا أدلة لا تحصى ليس هنا محل إيرادها لكثرتها وخروجها عن الموضوع، بيد أننا نقول إنهم ذكروا للفعل: «باع» يبيع كالمعنيين المذكورين: «باك» يبوك، وهو غريب. (7) حس
المراد بحس هنا أحد معانيه، قال في اللسان ما هذا بعضه: حس البرد الكلأ يحسه حسا: أحرقه، فالحس: برد يحرق الكلأ، وهو اسم، وقد ذكر أبو حنيفة الدينوري أن الصاد لغة فيه، وفي كلتا المادتين في اللسان كلام طويل.
قلنا وهو يقابل الإنجليزية
TO ICE
أي: جمد تجميدا أو أجمد إجمادا، قال وبستر:
ICE
بالإنجليزية القديمة
IIS, IS ، وبالإنجليزية السكسونية
IS ، وهي تتصل بالأصل الهولندي
IJS ، وبالجرمنية
EIS ، وبالجرمنية العالية القديمة
IS ، وبالأسلندية
ISS ، وبالأسوجية
IS ، وبالدنيمركية
IIS ، ولعلها تتصل بالإنجليزية
IRON
التي معناها الحديد، كأن الجمد غدا صلبا كالحديد.
وفي هذه الألفاظ سقطت الحاء وهي من الأحرف الحلقية، ورأينا السين نقلت إلى بعض اللغات بالحرف الغربي
S ، ونقلت الصاد بحرفين غربيين أي
SS ، كما في الأسلندية.
وقد اجتزأنا هنا بمعارضة حرفين عربيين، واسمين عربيين، وفعلين عربيين، بأمثالهما من اللغة السكسونية، وعندنا غيرها، إلا أن هذه الشواهد تدل على أن هناك أمثالا عديدة تؤيد هذه الفكرة، وهي أن أجداد الناطقين بالضاد اتصلوا بآباء السكسون من قديم الزمان ولا يعرف ذلك الوقت، إلا أن الآثار اللغوية لا تبقي شكا في هذا الموضوع.
منافع معارضة العربية بغيرها من اللغات
إن منافع معارضة اللغة الضادية بغيرها من اللغات لا تقدر، ولا يمكننا أن نأتي على ذكرها كلها، إلا أننا نذكر بعضها؛ إذ ما لا يدرك كله لا يترك جله.
فأول هذه الفوائد أنها تطلعنا على معاني بعض الكلم التي لم يشرحها لغويونا الأقدمون شرحا كافيا لنقف على حقيقة المشروح وقوفا يصوره لنا تصويرا لا نرتاب فيه، فهناك ألفاظ قالوا فيها: «معروف»، ولا بد أنه كان معروفا عندهم حينئذ، وأما اليوم فإن طائر الريب والشك يحوم حوله، وهناك ألفاظ لم يذكر منها إلا بعض الشيء الذي لا يكفي لتعريفه، كقول القاموس: «الدهنة، بالضم، الطائفة من الدهن، والجمع: أدهان ودهان، وقد ادهن به، على افتعل، والمدهن بالضم آلته وقارورته، شاذ.» ا.ه. هذا كل ما ذكره في هذا المعنى، فما هو الدهن؟ فلنسأل ابن منظور، فلعله يوضح لنا معناه.
قال في مادة «دهن»: «الدهن: معروف. دهن رأسه وغيره، يدهنه دهنا: بله، والاسم: الدهن، والجمع: أدهان ودهان.» إلى آخر ما سرده من الكلام والأبيات والأحاديث؛ لكن لم يتبين من كل ذلك معناه الواضح.
وقد كتب أحد الأدباء مقالات في المقتطف في جزء أبريل (نيسان) ويونيو (حزيران) من سنة 1936، وفي جزء أبريل من سنة 1938؛ محاولا أن يقنع أدباء العرب أن المراد بالدهن: الزيت الذي يتخذ من عصر بعض الأنبتة، مخالفا بكلامه هذا ما هو شائع عند جميع أبناء الناطقين بالضاد، وهذا الشائع هو أن الدهن يراد به كل جوهر دسم من معدني ونباتي وحيواني، على ما ورد في كلام كبار لغوييهم وكتابهم، وأظن أن من يطالع هذه السطور يتهمني بأني أنسب إليه ما لم يقل، فأنقل آخر عبارة وردت في كلامه (أي في مقتطف أبريل 1938) ودونكها بنصها: «... فنجد أن
1
الأب أنستاس واهم فيما قاله؛ فالدهن لا تفرزه رءوس الناس،
2
لا نساء ولا رجالا، بل هو الدهن أو الزيت
3
كما جاء في القرآن الكريم، فالأب جعله شحما؛ رغبة منه في جعل الدهن كذلك، وهو مخالف للآية التي ورد فيها الدهن، ومن العجب
4
أن ذلك يجوز على الجوهري والفيروزآبادي والزبيدي ولاين
5
الأعجمي، ولو تبصر الأب أنستاس في عبارة التاج لما حصل له هذا الوهم؛
6
فالدهن كما ذكرت في المقالة الأولى ولا يمكن غيره،
7
وكما ذكرت في مقتطفي أبريل ويونيو
8
سنة 1936 التي قبل السنة الماضية.
9
فإذا أراد الواحد أن يقول: الدهن فليقل إنها عامية أو مولدة
10
أمنا للعثار فلا يصطدم الدهن بكتب اللغة
11
والآية الكريمة ، أما الدهن والشحم فكما ذكرت في صدر هذه المقالة والتي قبلها، ثم إن الدهن والشحم لم يردا في القرآن الكريم إلا في آيتين فقط وقد ذكرتهما، عرفت ذلك من فهرست فلوجل، اشتراه
12
لي وأنا في بغداد الأب أنستاس ا.ه كلام الكاتب.»
وكان أول اهتدائنا إلى معنى الدهن الحقيقي والأصلي بمعارضتنا إياها باليونانية التي ذكرناها في الحاشية هنا، فكتبنا في مقتطف يوليو سنة 1938 (أي المجلد 93 : 105): «هذا المعنى «الأصلي» سبق معناه الآخر الفرعي؛ أي الزيت بمعنى ما يستخرج من الأنبتة؛ إذ ورد بالمعنى الأول في الإلياذة في 32 : 501 و23 : 750، إلى غيرهما من المواطن، والعدد الأول يشير إلى رقم القصيدة بموجب ترتيبها، والرقم الثاني إلى رقم البيت بحسب ترتيبه، وجاء أيضا في الأودسة في 14 : 428 إلى مواطن عدة أخر، وكذلك في هسيودس الأسكري المتوفى بين 900 و800ق.م، في قصيدته الموسومة بثئوغونية في البيت 838، إلى غير هؤلاء الشعراء والكتبة والمؤرخين اليونانيين بما يضيق المقام عن إيراد شواهدهم، وذلك قبل الميلاد.»
وأما الدهن بمعنى الزيت فكان في أوائل النصرانية وقبيل الإسلام، فحصر العرب معنى الدهن بما ماع من الشحم، أو بما يستخرج عصرا من بعض الأنبتة الدهنية أو الدسمة، وعليه: كان العود إلى الدهن بمعنى الشحم أحمد، وهو الوجه الأوجه والأشبه، والأصل أحق أن يتبع؛ لأنه إذا جاز لنا أن نتخذ الفرع حجة لنا، فبحجة أولى أن نتبع الأصل، ويزيدنا إثباتا لذلك وأخذا به استعمال جميع الناطقين بالضاد في الربوع العربية اللسان، بلا شاذ ومن أقدم العهد، ولا يهمنا إنكار المكابرين لهذا الشيوع والتعميم، ثم قلنا: «قد قلنا سابقا: إن «الدهن» العربية تنظر إلى اليونانية (المقتطف 92 : 64)، ومعنى ذلك أنها تشبهها، وليس معناه أن اليونانية هي من العربية، ولا أن العربية هي من اليونانية، كما يتوهمه بعضهم، ولما لم يكن عندنا كلام مدون يرتقي عهده إلى ما قبل الميلاد، بخلاف ما عند الإغريق، نضطر إلى النظر في هذه اللغة اليونانية في الألفاظ المشابهة لألفاظنا فيما ورد في مدوناتهم لمعرفة قدمها عندنا؛ وعند استشارة كتبهم وجدنا أن أول معنى للدهن هو الشحم الجامد.» «وهكذا كان في لغتنا، ولو كان عندنا من المدونات القديمة، كما نرى منها عند الهلنيين، لوجدنا أول معنى كان للدهن هو الشحم الجامد، ثم انتقلوا به إلى المعنى الثاني؛ أي إلى الدهن السائل والإهالة، وبالحالة التي يكون عليها وهو في الجسم.» ا.ه. المطلوب من إيراده هنا.
وقد اهتدينا إلى معاني مئات من الألفاظ غير البينة في المعاجم باتخاذنا هذا الأسلوب اللغوي؛ أي بمعارضة ألفاظنا بألفاظهم، فكانت النتيجة من أعظم ما يحلم به فقهاء هذه اللغة المبينة.
فعرفنا أن «القنسطبط» هي خمرة معروفة عند الأقدمين، لا «شجرة» كما وردت في جميع كتب اللغة (راجع مقالتنا في جريدة الأهرام الصادرة في 3 / 9 / 37) وأصلها في اليونانية
Κονυξίιης (οίνος) (Konyzitès oinos) .
وقد حار علماء الطير في عصرنا هذا من معرفة اسم الطائر المسمى عند الفرنسيين
CYGNE
والإنجليزية
SWAN ، فمنهم من نقله إلى بجع وهم الأكثرون، وهذا خطأ؛ لأن البجع هو
pélican
بالفرنسية، و
بالإنجليزية، ومنهم من نقله إلى «أردف» وأول من ذكرها مطبوعة في كتاب هو بقطر صاحب المعجم الفرنسي العربي، وهي غير موجودة في العربية؛ إنما هي تصحيف: «أوردق» أو «أوردك» بالتركية ومعناها: البطة ويطلقها بعضهم على البجع سهوا، فنقلها عن بقطر أصحاب المعاجم الفرنسية إلى العربية، ومنهم من قال: إنه «الفون»، وهذا غير معروف في لغة الضاد، وأظن أن الأصل الحقيقي هو «القوق» أو «القيق» بقافين بينهما واو أو ياء، فصحف وهو ينظر إلى اليونانية
χύχνος, KYKNOS ، ويظن علماؤهم أن اليونانية مشتقة من الأصل
KAN ، ومعناه: رن وصقع وصلع، ونحن لا نرى هذا الرأي بل نظن أنه مقلوب «يقق» أي أبيض، وهذا الطائر معروف بلونه الأبيض الناصع، ويقال فيه: «قوق»، و«قيق»، و«يقق» (راجع لغة العرب 8 : 359) وهذا الكتاب [فصل: تصحيفات وتحريفات وتشويهات المعربات].
ولا نريد أن نتبسط في البحث هذا لاتساعه فهو كالبحر الخضم، فاجتزأنا بالإشارة إليه فقط.
هوامش
شروط الأخذ من لغة
أول شروط الأخذ:
اتصال الأمة الواحدة بالأمة الثانية؛ أي إن الأمة الآخذة كلمتها من الأمة الثانية المقتبسة منها الكلمة أن تتصل بها، وقد يكون هذا الاتصال بالجوار، أو المتاجرة، أو المعاملة، أو المصادقة، أو المكاتبة، أو المطالعة، وهاتان الصلتان من مزايا هذا العصر، فإن لم يكن ثم اتصال، فلا أخذ، ونحن نذكر لك بعض الشواهد العصرية، فالفوتغرافية والتلغراف والتلفون، وما أشبه هذه الكلم العصرية هي يونانية الأصل، لكن لا نستطيع أن نقول إننا اقتبسناها من اليونان، بل من أبناء الغرب كالفرنسيين، والإنجليز، والإيطاليين، والألمان مثلا، وهؤلاء وضعوا الكلمة نحتا من اليونانية، أو من اللاتينية، فهم اقتبسوها من كتب الهلنيين لا منهم مباشرة، وهذه مسألة لا بد من الاحتفاظ بها؛ لكي لا ينخدع الكاتب بما ينقله عن الغير، أو يدعي بأنه مقتبس من الأمة الفلانية؛ إذ يكون خاطئا في مدعاه.
الشرط الثاني:
لا يشترط في الأخذ أن تأتي الكلمة في العربية مطابقة «كل المطابقة» للكلمة الواردة في اللغة المأخوذة منها؛ بل قد يجوز أن يكون أخذ منها بعض معناها؛ أو أن العرب تصرفت في معناها بعد نقلهم إياها إلى لغتهم، وربما صحفتها أيضا، فالقرطاس مثلا يونانية من (khartès,ou) χάριης, ου (δ)
ومعناها الورقة من الكاغد، فالسلف ثلثوها، مع أنها في الأصل مفتوحة، ثم نقلوها إلى قرطس كجعفر وقرطس كدرهم، وقالوا من معانيها: «الجمل الآدم أو الجارية البيضاء المديدة القامة، والصحيفة من أي شيء كانت، وكل أديم ينصب للنضال، والناقة الفتية، وبرد
1
مصري، ودابة قرطاسية لا يخالط بياضها شية، ورمى فقرطس: أصاب القرطاس، وتقرطس: هلك» (القاموس).
فأنت ترى من هذا أن المعاني تعددت وكلها مبنية على التوسع في البياض؛ لأن اللون الغالب على الكاغد هو البياض، وكان الأولون ينصبون للنضال قطعة قرطاس، لتظهر ظهورا بينا للرامي، فسمي الغرض قرطاسا، وإذا أصيب الغرض مزق، فانتقل المعنى إلى من يصيبه سهم القدر أو الموت فيقتله، وعلى هذا الوجه ترى مئات من الكلم المعربة جارية هذا المجرى.
الشرط الثالث:
ليس من الضروري أن تعرب الكلمة لحاجة الناس إليها أو إلى معناها، كما ذهب كثير من اللغويين؛ إذ يظنون أن الكلمة الفلانية غير معربة؛ لأن الناطقين بالضاد لم يحتاجوا إليها؛ إذ معنيها موجود في بلادهم، أو لأن في لغتهم ما يغنيهم عنها، أو لعدم احتياجهم إليها، إلى ما ضاهى هذه الأسباب، لكن السلف نطقوا بألفاظ دخيلة كانوا في غنى عنها، وإنما تكلموا بها لأنهم أرادوا ذلك، أو حاولوا أن يكلموا من فهم تلك الكلمة ولا يفهم غيرها، أو أرادوا أن يطلعوا السامع أنهم يعرفون معاني بعض الكلم العجمية، أو لأن اللفظة الدخيلة طبعت في النفس طابعا لا تؤدي إليه مفردتنا؛ إذ إن حروفهم غير حروفنا، ونبرتهم غير نبرتنا، والاشتقاق من أصولهم غير الاشتقاق من أصولنا، وشعورنا بتلك الدخيلات غير شعورنا بألفاظنا الضادية، إلى غير هذه الأمور المتعددة.
فقد جاء في لسان العرب في مادة «س و ر»: «وفي حديث جابر بن عبد الله الأنصاري: أن النبي
صلى الله عليه وسلم ، قال لأصحابه: قوموا، فقد صنع جابر «سورا»، قال أبو العباس: وإنما يراد من هذا أن النبي
صلى الله عليه وسلم
تكلم بالفارسية، صنع سورا أي طعاما، دعا الناس إليه.» ا.ه.
فقد كان يستطيع الرسول أن يقول صنع طعاما، أو صنع ضيافة، أو وليمة، أو أدب مأدبة، إلى غيرها من المفردات التي تعد بالعشرات؛ لكنه عدل عنها كلها؛ لأن «سورا» بالفارسية طبعت في النفس طابعا لا يشعر به أو لا يحس به إذا قيل غيرها.
ومثل ذلك ما نقله المذكور من كلام أمير المؤمنين فقد ذكر في تركيب «ق ل ن» ما هذا نقله: «الأزهري: روي عن علي عليه السلام أنه سأل شريحا عن امرأة طلقت، فذكرت أنها حاضت ثلاث حيض في شهر واحد، فقال شريح: إن شهد ثلاث نسوة من بطانة أهلها أنها كانت تحيض قبل أن طلقت في كل شهر كذلك، فالقول قولها، فقال علي: «قالون.» قال غير واحد من أهل العلم: قالون بالرومية معناها: أصبت ... وذكر هناك مثل هذه الكلمة ونسبها إلى عبد الله بن عمر وفسرها برجل صالح.»
قلنا وقالون كلمة يونانية
χαλός, ή, ον (kalos,è,on)
ومعناها: حسن وصالح وجيد، إلى آخر ما ضاهى هذه الألفاظ، وتقال على الناس وعلى غير الناس.
الشرط الرابع:
يعرف الدخيل في لغتنا بكثرة أحرفه، وبأنه لا يمت إلى أصل عربي بما يوجه وضعه، واشتقاقه، وصيغته؛ ولهذا تكثر فيه اللغات؛ أي اختلافات الكلمة الواحدة بأوجه شتى، هذا من باب الأغلبية؛ إذ قد تكون الكلمة دخيلة وهي ثلاثية، أو قد تؤول الدخيلة بما يوجه اشتقاقها، وإن لم يرد فيها لغات، لكن كلامنا يقع على غالب ما جاء في هذا الباب، وإلا فقد ورد ما يخالفه والحكم على الغالب.
فقد عربت
ιό χήιος εος-ους (kètos)
بأوجه شتى، فقالوا ما هذا بعضه: القاطوس، والعاطوس، والقيطس، والغاطوس، والفاغوس، والقطا، وحوت الحيض، ولا نريد أن نثبت محل ورودها لئلا يسوقنا الكلام إلى أبعد ما نويناه من طيتنا، مع أن السلف كانوا في غنى عن هذه الكلمات؛ لأن عندهم «الحوت» وهو ينظر إلى الكلمة اليونانية نفسها؛ لأن
k
تقابل الحاء في لغتنا في أغلب الأحيان فتدبر.
وعربوا
φάλαινα (BALAENA)
بما يأتي: البال، والوال، والفال، والأوال، والأفال، والشال، والآل، والوالي، والأول، والأوك، والواك، وأكيال، والبالام، وقد ذكرنا في كتابنا «أغلاط اللغويين الأقدمين» مواطن ورود هذه الكلم، فلتراجع من ص268 إلى آخر ص274، وكان العرب تسميها: «جمل البحر»، فهذه اللغات الثلاث عشرة لا تتصل بأصل عربي يوجه هذه التسمية، وهذا الباب أوسع مما أن تعين حدوده، فالوقوف عند هذا الأفق أوفق وآمن.
الشرط الخامس:
إن العرب عند تعريبهم الكلمة قد يتحكمون في تعيين معانيها على ما يهوون، من غير أن يحق للأعاجم أو لبعض المتنطعين أن يردوهم عن قصدهم ويقولوا لهم أخطأتم في المعنى؛ لأن هذا المعنى ليس في الأصل، أو أن يقولوا لهم أخطأتم في إفراغ الكلمة الدخيلة بهذا القالب الذي ينكره الأجانب على الناطقين بالضاد، فكل ذلك مماحكات لا معنى لها.
مثال ذلك: الأوقيانوس، وهو باليونانية
δ ωχεανός ου (okeanos) ، فإن أبناء يعرب لما أرادوا معنى «البحر المحيط» عربوه بصورة «الأوقيانوس»، أو «الأوقيانس»، أو «الأقيانس»، أو «الأقيانوس»، وقصروه بصورة (القاموس)، ثم صحفوه قليلا فقالوا: «الإفريدوس»، وقد وردت في كتب أوصاف البلدان، قال قريتغ: إنها تصحيف «الأقيانوس»، وهو عندهم بحر محيط بالأرض؛ إلا أن السفن لا تجري فيه، لأن حواشي الأرض هناك، مكفوفة كف الثياب. ا.ه.
وقصروه قصرا آخر بصورة «قينس» وزان زينب، وأرادوا به البحر الثالث من أبحر الأرض السبعة
2
ذكره صاحب قصص الأنبياء محمد بن عبد الله الكسائي (طبع ليدن في ص9).
وصحفوه بصورة «عقيون» وزان «كدبون»، وقالوا عليه: بحر من الريح تحت العرش، فيه ملائكة من ريح، معهم رماح من ريح، ناظرين إلى العرش، تسبيحهم «سبحان ربنا الأعلى.» راجع محيط المحيط في «ع ق ي ون».
الشرط السادس:
لا حق لأحد أن يعترض على أبناء عدنان أن يتخذوا اسما مفردا يضعونه هم، وقد استلوه من لفظ مجموع دخيل. مثال ذلك: النبر لبيت التاجر الذي ينضد فيه المتاع، فإنه مفرد أنبار، وأنبار تعريب اليونانية
έμπόριον (EMPORION)
بمعناه.
والفردوس للبستان، فإن جمعه فراديس، وفراديس تعريب اليونانية
δ παράδεισος, ου PARADEISOS
واليونانية من الزندية بيردايزا.
والقرميد مفرد القراميد، وهذه مأخوذة من اليونانية
χεραμίς, ίδος (keramis, idos) .
والقرن بمعنى الوقت من الزمان هو من قرون
δ χρόνος (KHRONOS) ، والكر بمعنى عشرة ملايين هو مفرد الكرور المعرب من الهندية كرور وتلفظ
CROR ، والدرب دروب وأصله في اليونانية
ΰνρώμ, (αια,ων) (thurom, (ata,όn)) .
وفي المائة الثامنة عشرة من الميلاد دخل في كلامنا الغرش أو القرش على يد الترك باختلاطنا بهم، وهم اقتبسوه من الألمان، من غروشن أي
GROSCHEN .
وهكذا يقال عن ألفاظ أخر جاءتنا عن هذه السبيل أو عن سبيل أخرى، فجرد السلف من اللفظ المجموع مفردا، والناظر إليه يظن الخلاف، والأصل ما ذكرناه.
الشرط السابع:
لا اعتراض على أبناء مضر إذا قطعوا الكلمة قطعتين صدرا وعجزا، فيحتفظون بصدرها ويلقون عجزها، أو يحتفظون بعجزها ويلقون صدرها، أو يحتفظون بكل من صدرها وعجزها ويعينون لكل من هذين الجزءين معنى مستقلا بذاته.
مثال الاحتفاظ بالصدر: نشا ستج، فإنهم قطعوا الكلمة جزأين فقالوا: «نشا»، أو «نشاء»، ورموا «ستج»، وقالوا في هزاردستان: «هزار»، وألقوا «دستان»، وقالوا في «ديك باي»: «الديك». أي الأثفية وفي
σαρχοφάγος
الشرجع.
ومثال الثاني: خرداذي فإنهم نبذوا «خر»، واحتفظوا ب «داذي». وقالوا في «أذريطوس»: «الطوس»، وقالوا في «نابهره»: «البهرج».
ومثال الثالث: «أدره قيلة»، وهي من
hydrokèlè ΰδροχηλης (ή) ، فقالوا: «أدرة»، و«قيلة»، وكل منهما يعني الفتق في إحدي الخصيين (راجع القاموس).
الشرط الثامن:
أن لا يحكم الباحث على أن اللفظة الفلانية هي تعريب الكلمة الأجنبية الفلانية لمجرد مجانسة أو مشابهة بين الاثنتين، فلا يحق له أن يقول مثلا: إن الجليد تعريب
GELIDUS
اللاتينية، وهي كالعربية مبنى ومعنى؛ لأن الرومية من فعل
GELARE ، والضادية من «جلد»، وبين الفعلين فرق بين، فالمشابهة عرضية ومن باب المصادفة لا غير.
ولا يقال: إن العتل وهو الغليظ الجافي من اليونانية
άΰήλυς, (athélus)
أي غير المخنث، فإن المشابهة ظاهرة لا غير، وأما الأصول فمتباعدة بعضها عن بعض.
وإننا نكتفي هنا بهذه الشروط، مذخرين كلاما أطول في كتابنا الموسوم ب «المعربات وفوائدها».
هوامش
الحرب بين الكلم العربية والغريبة
(1) مدخل البحث
يحارب قوم قوما ليذله ويجتاح بلاده؛ مباهاة أو توسعا في الديار التي يفتتحها، ويعارك بيت بيتا تشفيا للضغائن، أو انتقاما بينهما من إهانات وسخائم ذلت بها جماعة ورفعت رأسها طائفة أخرى.
ويقع القتال في أعضاء البيت الواحد؛ دفاعا عن عرض، أو عن حقوق صادقة أو كاذبة، حقيقية أو وهمية، لكن الخصم يعتقدها مذلة له؛ فينهض استردادا لحقوقه الضائعة، واستعادة لما أخذ منه عنوة.
لا بل قد يقع الخصام في المرء نفسه محاولا كبح نفسه السفلى الأمارة بالسوء ليكون النصر لنفسه العليا، ولذا قيل: أعدى عدو لك نفسك التي بين جنبيك، ولهذا السبب عينه يعد الصرعة (بضم ففتح) أعظم رجل في الخلق؛ لأنه يغلب نفسه عند الغضب ويقهرها، وهو أكبر نصر يفوز به المرء إذا تمكن من البلوغ إليه.
فالحرب - على ما ترى - معروفة بين الأقوام والبيوت والنفوس، وللكلم في كل لسان حرب عوان أيضا، فالحديثة الشديدة القوى تصرع الهرمة وتقتلها وتميتها، وفي لغتنا شيء كثار من الألفاظ الصرعى الميتة؛ أما إذا كان في الكلم القديمة قوة وخفة ورشاقة وتدفق حياة وحسن أسلوب وعذوبة جرس فإنها تقاوم كل لفظ يحاول زحزحتها عن مكانها، ولو كانت قديمة هرمة. (2) أي الكلم لا تموت
وفي جميع اللغى حروف قديمة لا تموت ولن تموت، ولو مضت أو تمضي عليها ألوف القرون؛ لما فيها من ضروب المناعة والمكافحة، على ما أشرنا إليه؛ فإنك إذا راجعت مثلا بعض الأصول اليونانية واللاتينية والعبرية والعربية والإرمية ترى فيها ألفاظا جمة تعد بالألوف، وهي حية إلى هذا اليوم، وإلى ما يشاء الله؛ مع أنه قام بجانبها لغة يونانية حديثة، وعدة فروع من اللاتينية كالإيطالية والفرنسية والأسبانية، وكذلك في العبرية والعربية والنبطية، فقد داهمتها كلم عامية ودخيلة؛ إلا أن الفصحى منها والسائغة والعذبة فيها بقيت على ما كانت فانتقلت كلها إلى الحديث الوضع منهن باختلاف يسير إلى اللغات البنات الحديثات، هازئة بالكلم التي حاولت أن تقتلها، فلم ترجع عنها بطائل؛ للأسباب المنيعة التي ميزتها عن سواها، وهي التي أشرنا إليها فويق هذا.
والآن يحاول «مجمع اللغة العربية الملكي» قتل بعض الكلم التي تسربت إلى اللسان المبين متدفقة من لغى الأجانب والدخلاء والعوام، ساعيا إلى قتلها ودفنها، وإحياء غيرها في مكانها، إما بنشر الممات، بل الهامد منها قبل مئات من السنين، وإما بوضع ألفاظ يشتقها من الأصول المبينة، متبعا فيها قواعد السلف وضوابطهم وأحكامهم التي جروا عليها في سابق العهد، في مثل العلوم والفنون والصنائع التي نشأت بعد الإسلام. (3) سقم تعليل بهذا الصدد
ويدعي بعض الأعضاء المحترمين أن الوضع الجديد لا يؤثر في أبناء هذا العصر الذي نشأ على فساد اللغة، فاستعذب الكلام الفاسد؛ إنما يظهر أمره في الأجيال الآتية من أبنائنا الذين في أصلاب آبائهم اليوم.
فجوابا عن ذلك نقول إن الألفاظ الحديثة، إن لم تجمع في نفسها المزايا التي تخلدها، فإنها تكون من قبيل المخلوقات المشوهة الشاذة النادة عن سنن الطبيعة، فإنها لا تولد إلا لتموت، ولا توضع إلا لتكون أعظم دليل على إثبات هذه الحقيقة، وهي «لا يعمر ولا يخلد في الكون إلا من أوتي مزايا الخلود دون غيرهم.»
وكذلك يقال عن الكلم، فكل كلمة عربية غريبة في أصولها أو صيغتها أو تركيبها، أو ثقيلة الاستعمال على اللسان أو على السمع أو على الذوق، أو شنيعة الأحرف، فإنها تولد للموت لا للحياة ولا للتعمير، فكيف للخلود؟
ونحن نبين هذه الحقيقة بسرد طائفة من الكلم التي وصلت إلينا من السلف، ولم يفدها أدوية أطباء اللغة، ولا معالجتهم إياها بالمقويات ولا باللعوقات ولا بالمصول، ولا ... ولا ... ولا ... لأنها عبرت وغبرت مع من أدبر، ولم يبق منها إلا سوء الذكرى والعقبى! (4) مقابلة بين الألفاظ الحية الخالدة وبين المائتة البائدة
أحسن دليل على ما بيناه إلى الآن المعارضة بين الكلم الحية الخالدة وبين المائتة البائدة، فإنها تطبع في ذهننا حقيقة لا يمحوها كل رأي يخالف رأينا، ولو دعموه بكل أخذة أو رقية أو طلسم. (1)
هذه كلمة «باذنجان»، فليس في العربي لفظة أفشى انتشارا فيه ولا أعرف منها، وقد جاءتنا من جيراننا الفرس الأقدمين، فحاول السلف مرارا خنقها ووأدها وهي في مهدها، فما زادوها إلا تعميما وانتشارا وبثا بين كل ناطق بالضاد، وعوضا من أن يقضوا عليها القضاء المبرم، زادوها حياة ونشاطا وسريانا وانتشارا بين الناس، لا بل عمد بعضهم إلى عمل في منتهى القسوة أنهم لم يثبتوها في معاجمهم؛ ليلجئوا الجميع إلى عدها من حوشي اللفظ، أو من العربي المستهجن، ولهذا لا تجدها في القاموس، ولا في تاج العروس، ولا في المصباح، ولا في مختاره، ولا في أساس البلاغة، ولا في كثير من كتب متون اللغة؛ خوفا من أن ينبشها أحدهم ويعيدها إلى الوجود.
ومن الغريب أنهم لم يحتاطوا لأنفسهم كل الاحتياط؛ لأنهم لما ذكروا ما يقابلها في العربية المبينة شرحوه بقولهم «الباذنجان» فجاء عملهم هذا خداجا مضحكا، والآن اذهب بنفسك إلى العراق، ومنه إلى سورية، ففلسطين، فلبنان، فديار وادي النيل، فطرابلس، فالسودان، فلبوة، فالجزائر، فالمغرب الأقصى، فإلى جميع الربوع التي ينطق أهلها بلسان معد وعدنان، فإنك لا تسمع إلا «الباذنجان»، ولا يعرفون المغد، ولا الوغد، ولا الحدق، أو الحذق، ولا الحيصل ولا الكهكب أو الكهكم أو القهقب، ولا الأنب، ولا الشرجيان، ولا الأنفحة، ولا ... ولا ... ولا سواها. (2)
المسك: وليس الباذنجان وحده هو الذي نال هذا التفوق على سائر إخوته، بل ثم عشرات من الألفاظ، وربما مئات منها، شاع دخيلها ونسي أصيلها، أو ذاع دخيلها ونسي سواه من كلام المتفصحين، هذه كلمة «المسك»، فإنها انتقلت من الفارسية إلى لغتنا، ومنها إلى ما يقارب جميع لغات العالم المتحضر، مع أن في لغتنا الفصحى ما يقوم مقامه، وهو «المشموم»، وهل يمكن أن يقوم مقامه حقيقة، أفلا يصعب علينا أن نعبر عن قولنا: «مسك» بمعنى «طببه بالمسك»، وهذا دواء ممسك، وثياب ممسكة؟ وكيف يعبر عن قوله:
ختامه مسك ؟ (3)
وهل بلغك الخبر أن «البورق» هو «الحكاك» وزان غراب؟ (4)
وعوام مصر يعرفون «الجنائني»، والعراقيون يعرفون «البغوان» أو «البغوانجي» أو «الباغبان»، وكان فصحاء العهد العباسي يقولون في هذا المعنى: «البستانبان»
1
أما «التاحي»، بالحاء المهملة، وهو الصحيح الفصيح، فيجهله أبرع اللغويين، وأبصر فقهائهم. (5)
وكلنا يعرف «النرجس» هذه الزهرة التي تشبه بها العيون الساحرة للألباب، وما منا من يعرف أنها «القهة» (راجع اللسان في قها) والقهد والعبهر. (6)
ومن يعلم أن «للإسفيداج» الفارسية كأختها السابقة عربية، وأن هذه العربية هي «الغمنة». (7)
وعلماء الطبيعيات والكيمياء يعرفون معرفة دقيقة «البلور» وهي يونانية، لكن لم أر أديبا منهم ذكره باسم «المها»، وهو اسمه الفصيح، ولا جمعه «المهوات» أو «المهيات»، مع أنه من متين اللفظ وقديمه. (8)
والأطباء جميعهم، قدماؤهم وأحداثهم، يذكرون في تآليفهم «الجوارش» أو «الجوارشن»، ولكني لم أعثر على من ذكره باسمه العربي «الهاضوم» أو «القميحة» أو «القمحة»، بل تراها مدونة في معاجم اللغة فقط. (9)
ومن غريب الاتفاق أن «الفخ» الفارسي اصطاد «الطرق» العربي، ثم هجم عليه فخنقه وقتله، ويكاد يبيده. (10)
وأظن أنك سمعت ب «اللوزينج»، إن لم تأكله وتستطبه، لكنك لم تسمع أبدا بمرادفه «الفلذخ»
2
فإنها أثقل من «الشندخ»، وقد وئد حالما ولد. (11)
ولعلك أمرت خادمك أن يشتري لك من الحلواني شيئا من «الفالوذ» أو «الفالوذج»؛ لكن هل فكرت أن يشتري لك شيئا من «الملوص»، أو «المزعزع»، أو «المزعفر»، أو «اللمص»، أو «اللواص»، أو «المرطراط»، أو «السرطراط»، إلى أخواتها، وكلها تعني بالفارسية الأولى؟ (12)
الناس يعرفون «المرداسنج» ولا سيما العراقيون، ولو قلت لهم: هاتوا لي قليلا من «المريخ» لضحكوا منك؛ لأنك المريخ هو هذا النجم من الخنس. (13)
وإخال أن الجميع يعرفون «الجوالق»، وأما «الجشير»، أو «اللد»، أو «اللبيد»، وما ضاهاها، فلا يعرفها إلا اللغويون. (14)
والخياطات العربيات يعرفن «الدخريص»، وهن لا يعرفن «البنيقة»، ولا «السبجة»، ولا «السعيدة»، ولا «اللبنة». (15)
وربما ذهبت مرارا إلى حديقة الحيوانات وشاهدت فيها حيوانا كبيرا ضخما، قيل لك إنه «الفيل»، ولم يقل لك أحد: إنه «الزندبيل»، ولا «الكلثوم». (16)
وتسمع كل يوم ب «الترياق»، ولربما سمعت به مرارا في اليوم الواحد، لكن هل قيل لك إنه «المسوس»؟ (17)
ونقرأ كل يوم في الجرائد كلاما على «القناة» و«القنوات» و«القني»، و«الترعة» و«الترع»، وكلها ألفاظ دخيلة، أما «الطبع» وهو بكسر الطاء، وجمعها «الطبوع»، فليست معروفة إلا في دواوين اللغة، قال الأزهري صاحب التهذيب: «أما الأنهار التي شقها الله تعالى في الأرض شقا، مثل دجلة والفرات والنيل وما أشبهها، فإنها لا تسمى «طبوعا»؛ إنما «الطبوع» الأنهار التي أحدثها بنو آدم، واحتفروها لمرافقهم» (اللسان). (18)
والأطباء وعلماء التشريح يعرفون «الأعور» أو «المعى الأعور»؛ لكن أيعرفون فصحاها «الممرغة»، فاسألهم، فلعلهم واقفون عليها، ولا سيما من تفرغ منهم لحوشي اللفظ. (19)
وشباننا الفلكيون يكلمونك على «النيزك» ومشتقاته، وكذلك الرياضيون من أبنائنا؛ لكن أيعرفون عربيتها أيضا وهي «المزراق»؟ (20)
إلا أني إخال أن علماء النبات والصيادلة والشجارين والأطباء وطلبتهم لا يعرفون «البحدق»
3
أبدا، وإذا قلت لهم: هو «بزر قطونا»، قالوا لك حالا هذا هو المشهور، أما ذاك فمهجور. (21)
ولا أظن كبيرا ولا صغيرا ولا غنيا ولا فقيرا ولا رجلا ولا امرأة، يجهل «العربون»، حتى أصغر الباعة، أما «المسكان» العربي الفصيح، فلا يعرفه أحد، ولليوناني «عربون» لغات عدة في لساننا بخلاف «العربان» بالضم، فليس فيها إلا لغة واحدة، فقيل في «العربون»: «العربون» محركة، وتبدل العين همزة فيقال: «الأربون» و«الأربان» و«الأربون»، وربما قالت العامة: «الرعبون»، وبعض الفصحاء يحذفون الحرف الأول فيقولون: «الربون»، وجاء في الحديث أيضا: «الريان» بياء مثناة بعد الراء، فاليونانيات على اختلاف لغاتها عرفها الناس؛ وأما العربية وهي «المسكان» فلا يعرفها إلا القليل من الأهالي.
ودونك الآن جدولا يحوي الأعجميات الحية والعربيات المنسيات، ما لم نذكره قبيل هذا:
أعجميات معروفة أو مشهورة
عربيات منسية أو مجهولة
فرند السيف
سفسقة السيف
الفرزدق
المشنق أو العجور
الساقور أو الصاقور
المقراع
المنجنيق
الخطار
السوسن
الرفيف
الصندوق (يونانية)
الصوان
الإسفاناخ
الرحى
المرزنجوش أو المردقوش
العترة
الجؤذر
القهد
الأستاذ
المخرج
الزرفين
اللز
الإفسنتين
العبد
الشاذروان
الجذر
الألماس
السامور
الكشوثا
الزحموك
الأنقليس (مجهول في العراق)
الجري (معروف في العراق)
العذيوط
الثت والثموت
البخشيش
الحلوان
الكيمخت
الزرغب
الأسطوانة
اللائطة أو السارية
الزنجفر أو السنجرف
الشقرة
السكرجة
الثقوة
البرنيطة
الكمة (والقبعة غلط بهذا المعنى)
الشرطة «يونانية»
الزاعة والذبيون
البرواز
الإطار
الفيل «فارسية»
الشمشل
البلطة
القدوم
الكرويا
النقدة
البندق
الجلوز
الكزبرة
التقدة
البرجار أو البركار أو البيكار
الدوارة
الأنقدان والإنقدان
السلحفاة
التلميذ
الخريج
الهندباء (يونانية)
اللعاعة
البادزهر أو الفادزهر
المسوس
الفسطاط (يونانية)
الروق
الباطية أو الناجود
الراووق
النسترك
البيهن
الدسكرة
الدسيعة
البرجد
الهمل
الفردوس أو البستان
الجنة
القرش أو الكوسج
اللخم
الدفلى
الحبين
الكمافيطس
العرصف
الهيولى (يونانية)
المادة
الأترج
العرف أو المتك
البيرق
العلم أو الراية
السراي أو السراية
الصرح
البلان
الحمام
الطاولة (سورية) أو الترابيزة (مصرية) أو الميز (عراقية)
النضد (والمنضدة خطأ لا وجود لها في الفصيح)
الباسابرط
الجواز
البوسطة
البريد
البيرة
الجعة أو المزر
قناة أو ترعة
طبع
جنزير (سورية) أو زنجيل (عراقية)
سلسلة
جورب
مسماة
خلقين
مرجل
دفتر
كراسة
سادة أو ساذج
بسيط
سردين
عرم
إقليد أو مقلاد (يونانية)
مفتاح
سمسار
دلال
شوربة
حساء
قندلفت
واهف أو وافه أو واقف
شنجار
كحلاء أو حميراء أو رجل الحمامة
كشتبان
قمع
كروسة
عجلة
ملفان
معلم
البقس أو البقسيس
الشمشاذ أو الشمشار
الشمعدان
المشمعة
ولو أردنا أن نجري في هذه الحلبة لذهبنا بعيدا وأحرجنا الصدور، فنجتزئ بهذا القدر؛ إدعاما لرأينا، وهو أن الحرب قد تقع بين الألفاظ، فيصرع بعضها بعضا، وربما تغلب الدخيل على الصميم من كلام العرب، وما ذلك إلا لما أودع صدر الأعجمي من الخفة والرشاقة، والشبه لفصيح الكلام العربي ومادته ووزنه.
أي الدخيل الحديث يقتل وأيه يستحيا؟
إن خفة الكلمة الأعجمية ورشاقتها ووزنها العربي وشبه مادتها للمادة العربية يخولها قوة ومناعة، ويكسبها جمالا ويلبسها ثيابا عربية، يجعل جميع الناطقين بالضاد يرحبون بها كل الترحيب، ويحلونها أعظم محل، ولا يتوهمون أبدا أنها عجمية، ولهذا يحتفظون بها ويذخرونها لجميع حاجاتهم، فيصبح محاولة قتلها من المحال؛ لأن وراءها دولة أعجمية قوية، هي دولة الاستعمال كل يوم، ودولة المال والماليين، ودولة الصفات العربية التي ذكرناها.
فمن الكلم المعربة حديثا والتي يحسن أن يستحيا بعضها ويقتل بعضها ما يأتي: «البنك» لهذا المحل الذي يتاجر فيه؛ أي يدفع فيه أموال لمن يريد الانتفاع بها، أو يقبض فيه أموال، بموجب فائدة، أو بربا مقرر. «التلفون» بشرط وزنه وزنا عربيا؛ أي كحلزون، لا «تليفون» الذي لا وزن له في صميم لغة الضاد، أو أن يقال: «تيلفون» كحيزبون، أو «هاتف»، فإنها كلمة لا بأس بها. «البرصة» وزان الغرفة، لا «بورصة»، بواو بعد الباء التي لا قياس لها في لغتنا. «الغراموفون» أو «الجراموفون» تقتل لغرابتها وقبح وزنها، ويقال في مكانها «الحاكي».
ويقال: «الترام» كسحاب، لا «ترامواي» لبعدها عن أوزان العرب ومألوف ألفاظهم، وقد أثبتها مجمع اللغة العربية الملكي.
ويقال: «الراد»، لا «الراديو» لمخالفتها الأصول العربية، وهي تؤدي أحسن تأدية عمل هذه الآلة، فإنها «ترد» على مسامع الحاضرين ما ينطق به المتكلم، ونبقي «المذياع» «للمكرفون»؛ أي للآلة التي يتكلم بين يديها الخطيب لتنشر صوته وتبثه. «فالراد» يردده في كل ناد وواد.
ويقال: «البيان» تعريبا للبيانو الغريب الوزن، فهو كالآلة التي تبين وتفصح عما يقع في النفس من أنواع حركاتها الباطنة.
ويستقبح مثل «مصرولوجية» لتركبها من إفرنجية وعربية، وهو أقبح ما جاء من هذا القبيل، وكذلك «أشورلوجية» و«سوريولوجية»، ويقال في مكانها: علم المصريات، وعلم الأشوريات، وعلم السوريات، وقد وقع مثل ذلك التركيب القبيح في عهد سقوط العربية؛ أي في عهد المماليك، فقالوا: الدويدار، والعلمدار، والجامدار، ونحوها.
1
وينبذ مثل فوتغراف،
2
وفونغراف،
3
وتلغراف،
4
وتلفزة،
5
وفسلجة،
6
وفيزياء
7
لقبحها وشناعتها وفظاعتها.
خلاصة الفصل
يؤخذ مما سردناه في هذا الفصل أن في العربية ألفاظا دخيلة قاومت العصور والبلاد والعباد وأهل العناد باقية على حالها؛ مع ما هناك من المترادفات العربية التي كان يمكن أن تقوم مقامها، لكن ذلك لم يقع؛ لأن الأعجميات التي اندست في لغتنا كانت شاكية السلاح، مقاومة لأعدائها العربيات بخفة لفظها وأحرفها، ورشاقة وزنها ولطافته، ومضارعة مادتها للمادة العربية، وكفاها ذلك لتقاوم ضرائرها وكل معاد لها، ولهذا تخلد بهذه الأسلحة الفاتكة، ما دام هنالك عربي ناطق بالضاد.
8
هوامش
موت كلم عربي وزواله واندراسه
قال ابن فارس اللغوي الشهير: «اعلم أن لغة العرب لم تنته إلينا بكليتها، وأن الذي جاء من العرب «قليل من كثير»، وأن كثيرا من الكلم ذهب بذهاب أصله» (راجع مقدمة تاج العروس ص7).
وقال المجد الفيروزآبادي في مقدمته: «ولما رأيت إقبال الناس على صحاح الجوهري، وهو جدير بذلك، غير أنه فاته نصف اللغة، أو أكثر؛ إما بإهمال المادة، أو بترك المعاني الغريبة النادة.»، ثم قال: «قال شيخنا: وصريح هذا النقل يدل على أنه جمع اللغة كلها، وأحاط بأسرها، وهذا أمر متعذر لا يمكن لأحد من الآحاد إلا الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام.»
وقال الشارح «ص26»: «فإذا عرفت ذلك ظهر لك أن ادعاء المصنف (أي المجد) حصر الفوات بالنصف، أو الثلثين في غير محله؛ لأن اللغة ليس ينال منتهاها، فلا يعرف لها نصف ولا ثلث؛ ثم إن الجوهري ما ادعى الإحاطة، ولا سمى كتابه «البحر» ولا «القاموس» وإنما التزم أن يورد فيه الصحيح عنده، فلا يلزمه كل الصحيح، ولا الصحيح عند غيره، ولا غير الصحيح، وهو ظاهر.» ا.ه.
وقال ياقوت الحموي في معجم البلدان، في مادة «يمامة» في كلامه على الزرقاء: «ولما نزل بجديس ما نزل قالت لهم زرقاء اليمامة: كيف رأيتم قولي؟ وأنشأت تقول:
خذوا خذوا حذركم، يا قوم ينفعكم
فليس ما قد أرى «مل الأمر» محتقر
إني أرى شجرا من خلفها بشر
لأمر اجتمع الأقوام والشجر
وهي من أبيات ركيكة.» ا.ه.
وقال السيد مرتضى في تركيب «ع ي ر»: «قال الحرث بن حلزة اليشكري:
زعموا أن كل من ضرب العي
ر موال لها ، وأنى الولاء
هكذا أنشده الصاغاني، وفي اللسان: موال «لنا»، ويروى الولاء بالكسر، وقد اختلف في معنى «العير» في هذا البيت اختلافا كثيرا، حتى حكى الأزهري عن أبي عمرو بن العلاء أنه قال: مات من كان يحسن تفسير بيت الحرث بن حلزة ... وها أنا أجمع لك ما تشتت من أقوالهم في الكتب؛ لئلا يخلو هذا الكتاب (أي التهذيب) عن هذه الفائدة: فقيل ... (وذكر هنا عشرة أقوال، لا ترى مجموعة في سفر واحد).» ا.ه.
وقد نقل إلينا بعض الرواة أبيات شعر عن مرثد بن سعد، وقد كان في زعمهم في أيام النبي هود (وهود عاش على ما قال أبو الفداء، وابن الأثير، وجمهرة من مؤرخي العرب، بعد نوح وقبل إبراهيم الخليل)، وأنت تعلم أن إبراهيم عاش سنة 2016 قبل المسيح، فيكون بلغنا شعر لم يبلغ إلى جميع أمم الأرض ما يماثله قدما؛ ولا يرى المحققون صحة هذه الرواية، والعرب في بدء أمرها كانوا رحلا في ذلك العهد وليس لهم من وسائل الرواية ما يضمن لنا صحتها.
وروى لنا المسعودي شعرا لرجل كان في عهد النبي صالح، ونقل لنا من كلام الحارث بن مضاض الأصغر الجرهمي ما دونه المسعودي في مروجه.
وجاءنا كلام وأشعار من يعرب بن قحطان نفسه، وعاد بن عوص، وثمود بن عابر، وسائر رءوس الأمم والقبائل العربية البائدة، وقد ذكر كل ذلك المسعودي في كتابه المشار إليه هنا، وذكر لنا كلاما وشعرا عربيا، من أيام النبي برخيا، ومن يطالع المروج يقع على كلام وشعر من كل عصر من عصور العربية.
بل أغرب من هذا وذاك ما ورد إلينا من نظم آدم أبي البشر، ولا جرم أن أهل النقد لا يلتفتون إلى هذه الأقوال، ويعدونها ملفقة من أولها إلى آخرها، إلا أنه يؤخذ منها أن لغة الضاد قديمة، يشهد على ذلك «سفر أيوب»، فإن كثيرين من العلماء يذهبون إلى أن صاحبه وضعه بلغته العربية؛ إذ فيه عبارات وتشبيهات ومجازات واستعارات لا تعرف إلا في العربية، فلا شك أنه نقل من اللغة العربية إلى العبرية وبقيت في النقل أصول اللغة ومبانيها وصيغها على أصلها، أو يكاد.
ولا يزال مثل هذا الكلام الغريب الذي لا يعرف معناه اليوم أحد مجهولا لا يهتدي إليه أوسع اللغويين وقوفا على العربية، ويسمى مثل هذا الكلام «العقمي» أو «العقبي». قال ابن مكرم في «ع ق م»: «كلام عقمي: قديم قد درس. عن ثعلب، والعقمي من الكلام: غريب الغريب، والعقمي: كلام عقيم لا يشتق منه فعل، ويقال: إنه كعالم بعقمي الكلام، وعقبي الكلام، وهو غامض الكلام الذي لا يعرفه الناس، وهو مثل النوادر، وقال أبو عمرو: سألت رجلا من هذيل عن حرف غريب، فقال: هذا كلام عقمي؛ يعني أنه من كلام الجاهلية لا يعرف اليوم، وقيل: عقمي الكلام؛ أي قديم الكلام، وكلام عقمي وعقمي (أي بضم الأول وكسره) أي غامض.» ا.ه.
فعقمي الكلام ناشئ من قراع الكلم بعضها لبعض، ولولا هذا القراع لما مات بعضها وعاش البعض الآخر، وهو هذا الواصل إلينا، أما المنقرض فلا يعلمه إلا الله، ولعله أكثر مما وصل إلينا منه.
أمثلة من الألفاظ المماتة أو البائدة
بينا أن ألفاظا جمة، لا يعرف عددها إلا الله، ماتت من هذه اللغة لعدم تدوينها، أو لموت المتكلمين بها، أو لأنها لم تناسب البيئة التي تغيرت بتغير الأحوال والمعيشة، على أن هناك شيئا يدل على بعض تلك المنقرضات، ونحن نذكر هنا ما نظنه زال واضمحل، وأبقى له أثرا ضئيلا؛ مثال ذلك: (1)
فدع: قال في القاموس: «الفدع، محركة: اعوجاج الرسغ من اليد أو الرجل، حتى ينقلب الكف أو القدم إلى إنسيها، أو هو المشي على ظهر القدم، أو ارتفاع أخمص القدم، حتى لو وطئ الأفدع عصفورا ما آذاه، أو هو عوج في المفاصل، كأنها قد زالت عن مواضعها، وأكثر ما يكون في الأرساغ خلقة، أو زيغ بين القدم وبين عظم الساق، ومنه حديث ابن عمر: «أن يهود خيبر دفعوه من بيت، ففدعت قدمه.» وفي البعير أن تراه يطأ على أم قردانه، فيشخص صدر خفه. جمل أفدع، وناقة فدعاء ، والتفديع: أن تجعله أفدع.» ا.ه.
والمعهود في الأفعال الدالة على عيب أو مرض أن تجيء على صيغة المجهول، أو على وزن فرح وتشتق من أسماء الأعضاء نفسها، كقلب البعير - على المجهول - أصابه القلاب فهو مقلوب، والقلاب: داء للبعير يشتكي منه قلبه، يميته من يومه.
وكبد فلان - على المجهول - شكا كبده فهو مكبود.
وفئد فلان - على المجهول - فأدا، وفئد كفرح فأدا بالتحريك: شكا فؤاده أو وجع فؤاده، وأشباه ذلك كثيرة لا تخفى على الباحث.
وعليه يكون اشتقاق «فدع» من كلمة تدل على الرجل، أو القدم، وهي «الفدع» بضم الفاء أو كسرها، وهي موجودة في لغات كثيرة، بإسقاط حرف الحلق منها، فهي باللاتينية
، وباليونانية
πούς ποδός ، وبالهندية الفصحى
pada-s
أو
pad,pad ، وبالقوطية
fotu-s ، وبالإنجليزية
FOOT ، وبالألمانية
FUSS . (2) ودونك كلمة ثانية هي «الفقع»، ففي هذه المادة معان مختلفة، نلخصها لك من القاموس: «فقع لونه: اشتدت صفرته، أو خلصت وصفت، وفقع الشيء: احمر، وفقع الأديم: حمره، وتفاقعت عيناه: ابيضتا، وأحمر فاقع أو أصفر فاقع؛ أي شديد مشبع اللون، ورجل فقاع (وهو غير منصرف؛ لأنه معدول عن فاقع، ووزنه وزن فعل بزيادة الألف) أي أحمر، وأحمر أو أصفر فقاعي أي شديد، والفقيع: الأبيض من الحمام، وأبيض فقيع أي شديد البياض، والفقع: البيضاء الرخوة من الكمأة، والجمع: فقعة كعنبة، والفقع كالفقع: للكمأة المذكورة، والفقيع: الرجل الأحمر، والأفقع: الشديد البياض، والمفقعة: طائر أسود وأصل ذنبه أبيض.» ا.ه. تلخيصا.
فالمعنى السائد في هذه الألفاظ لا يخرج عن أحمر وأصفر وأبيض، فالأحمر عند السلف يدل على كل من الأصفر والأبيض. يقولون: رجل أبيض، كما يقولون: رجل أحمر.
ويسمون الذهب أصفر، كما يسمونه أحمر، وثم أدلة لا تحصى على أن هذه الألوان الثلاثة قد تتبادل عند الأقدمين من أبناء الضاد.
فلا جرم أنهم كانوا يعرفون مادة حمراء موجودة في الطبيعة، حتى جاز لهم أن يستعملوا مشتقاتها للمعاني المذكورة، وهي مفقودة اليوم في اللغة، لكنها موجودة في اليونانية وهي
φύχος εος-ους (ιό) (phukos) ، وباللاتينية
FUCUS ، وهو نبت بحري، تستخرج منه الحمرة أو الغمرة، وهي ما يصبغ به الوجه بالأحمر، واستعار ابن البيطار اسم هذا النبات من اليونانية وسماه «القوقس»، بقافين، فأخطأ، والصواب: الفوقس، بفاء مضمومة، يليها واو ساكنة، فقاف مضمومة، فسين، ولو درى أن الكلمة اليونانية نفسها سامية الأصل، كما أقر بذلك علماء الغرب من الواقفين على أصول الكلم، لقال: «الفقع»؛ لأنك لو حذفت من الهلنية السين، وهي من علامات الإعراب عندهم، لبقي «فوقو» فالواو الأولى عوض الضم؛ لأنه يصور عندهم بهذه الصورة، والثانية هي عوض العين، والعين حرف حلقي يسقط في كلامهم، لكان الحاصل: «الفقع». (3) وإليك مثلا ثالثا: جاء في اللغة: «القرم، محركة، شدة شهوة اللحم.»، وورد في تركيب عرن: «العرين: اللحم، والعرن، محركة، اللحم المطبوخ، وأعرن: دام على أكل اللحم» (ملخص عن القاموس).
وعندنا أن القرم، وهو على وزن فعل، يدل على عيب؛ كالعرج والحول، والقبل، والعيب يشتق من اسم يؤخذ منه العيب، والاسم الأصل هنا «القرم»: بفتح فسكون، وهو اللحم، والكلمة تنظر إلى اللاتينية
CARO, CARNIS
وهو اللحم.
وما العرن إلا لغة في القرم، أبدلت فيها الميم نونا والقاف عينا، وإبدال الميم نونا كثير في كلامهم (راجع المزهر طبعة بولاق 1 : 222 و225)، وكذلك إبدال القاف عينا.
فقد قالوا: القصلب: العصلب، وهو القوي الصلب. وعبا الثياب يعباها، مثل قباها يقباها، وطوعت له نفسه تطويعا، مثل طوقت له نفسه تطويقا؛ أي رخصت له وسهلت، إلى آخر ما هناك.
ولا تتعجب إذا وقع إبدالان في حرفي الكلمة الواحدة، فقد جاء في اللسان في مادة «عرف» في نحو آخرها ما هذا نقله: «وأما قوله: أنشده يعقوب في البدل:
وما كنت ممن «عرف» الشر بينهم
ولا حين جد الجد ممن تغيبا
فليس «عرف» فيه (أي في هذا البيت) من هذا الباب (أي من مادة عرف يعرف)؛ إنما أراد «أرث»، فأبدل الألف لمكان الهمزة عينا، وأبدل الثاء فاء.» انتهى.
فأنت ترى من هذا البيت أن الشاعر كان في مندوحة عن استعمال «عرف» بمعنى «أرث»؛ لأن الوزن واحد، والمعنى واحد، لكن «عرف » كانت لغة قومه، فلم يحد عنها، ومثل وقوع إبدال حرفين في الكلمة الواحدة كثيرة، وقد جمعنا منها شيئا غير قليل، وبهذه الإشارة مجزأة.
ومن لغات «قرم»: «قطم». قال اللغويون: قطم الرجل: اشتهى اللحم أو غيره، والقطامي ويضم: الصقر، أو اللحم منه كالقطام: كسحاب، فأنت ترى أن معنى «اللحم» ملازم لهذا التركيب وهو أمر عجيب غريب، وكل هذا الاختلاف حاصل عن اختلاف القبائل المبثوثة في ديار العرب. (4) ومن الكلام الممات: الجدف محركة: قال في اللسان: «الجدف من الشراب: ما لم يغط، وفي حديث عمر رضي الله عنه، حين سأل الرجل الذي كان الجن استهوته: ما كان طعامهم؟ قال: الفول، وما لم يذكر اسم الله عليه، قال: فما كان شرابهم؟ قال: الجدف، وتفسيره في الحديث أنه ما لا يغطى من الشراب، قال أبو عمرو: الجدف، لم أسمعه إلا في هذا الحديث، وما جاء إلا وله أصل؛ ولكن ذهب من كان يعرفه ويتكلم به، كما قد ذهب من كلامهم شيء كثير.» ا.ه. كلام ابن مكرم.
قلنا الذي يبدو لنا أن الجدف هنا فعل بمعنى مفعول، كما قالوا: النفض والقبض والهدم بمعنى: المنفوض والمقبوض والمهدوم، ولما كان معنى الجدف المجدوف غطاؤه أي المرمي غطاؤه، كان معناه المكشوف أو الذي لا غطاء عليه. (5) ومن قبيل الممات البائد الذي لا ذكر له في الأسفار التي بأيدينا: «البرم» بالتحريك. قال الفيروزآبادي: «البرم حب العنب، إذا كان مثل رءوس الذر، وقد أبرم الكرم.» ا.ه.
قلنا قوله مثل رءوس الذر يوجب أن يكون «البرم» في معناه الأول: الذر ثم شبه به حب العنب؛ لأن لا بد من أن يكون للمشبه أصل موجود في أصل المشبه به، إذن البرم: الذر كما في اليونانية: (myrmèx, èkos) μύομηξ, ηχος ، وهو باللاتينية
FORMICA ، وبالهندية الفصحى
vamrà-h, VAMRI (VARMA-I) .
والبيرم في العربية: البرطيل أي الحجر الطويل الصلب خلقة، ينقر به الرحى، والكلمة اليونانية تعني الصخرة التي يغطيها الماء، فبين اللفظين والمعنيين تقارب ونسب. (6) ومن الممات البائد: النهر بضم النون، وإسكان الهاء، وفي الآخر راء، بمعنى الضياء، ومنها النهار، وهو ما تظهر فيه الشمس من ساعات اليوم، ولم ينطق به العرب، بل قالوا في مكانه: «النور».
وقالوا: «الركبة »، وكان الحق أن يقال: «البركة»؛ لأنهم اشتقوا منها «برك»، ولم يقولوا «ركب» بهذا المعنى؛ لئلا يختلط بمعنى اعتلاء ظهر الحيوان.
والبحث واسع لا تحويه المجلدات، فكيف هذه الصفحات؟ ولا سيما أن العرب اختلطوا بأقدم الأمم وامتزجوا بهم امتزاج الراح بالماء القراح، فأعاروهم شيئا كثيرا من ألفاظهم، وأخذوا منهم أيضا ألفاظا لا يستقل عددها، واتصالهم بالمصريين، والحبشة، والفلسطينيين، والفنيقيين، والأشوريين، والفرس، وغيرهم، أمر غير مجهول اليوم، وقد بقي من لسان كل قوم شيء بمنزلة الذكرى، فنعمت هذه الذكرى!
ما يعمر ولا يموت في هذه اللغة
بلغت هذه اللغة عمرا، يجوز أن نسميه «الكهولة»، وهو العمر الذي تكتمل فيه قوى الحي الداخلية والخارجية، فيتمكن صاحبها من أن يدفع بها أعداء حياته من أي جنس كانوا، ومن أي طبقة.
فلقد مرت مئات من السنين على هذه اللغة، وبلغ المتكلمون بها كل غاية ومدى، حتى لم يبق لهم إلا أمر واحد، هو الاحتفاظ بما وقع في أيديهم، وأن لا يساء التصرف فيه، وإن كان قد مات من هذه اللغة شيء لا يقدر في سابق العهد، فلقد وقع في أوان كانت العوامل ضعيفة وغير مضطلعة بما عهد إليها، أما بعد هذا الحين؛ فإن اللغة أصبحت في حرز حريز من القوة والمناعة ومقارعة أعدائها، ما لا يخاف عليها البوار.
وأهم ما يعمر في هذه اللسان: أصول كلمها، وتراكيب حروفها، وأوزانها أو صيغها، ونحن نقول كلمة على كل فصل من هذه الفصول.
أصول الكلم وتراكيب حروفها
بينا في صدر هذا الكتاب أن أول ما وضعت عليه أصول هذه اللغة كان يتقوم من حرفين، ثم كسع بحرف ثالث للتثبت من تحقيق لفظ الحرف الثاني من الكلمة، ومنذ ذيالك الحين بنيت كل لفظة عربية على ثلاثة أحرف، وأصبحت لها كالأثافي، وعليها أحكم وضع أصولها، وما زيد على ذلك القدر من الأحرف ألحق بها لغايات شتى، يذكرها علماء العربية في مطاوي مباحثهم.
وقد وضع ابن فارس معجما بديعا سماه «المقاييس»، وذكر لكل مادة ما يتعلق بها من المزايا والخصائص، ولم يذكر مادة واحدة إلا نبه عليها أنها تفيد كذا وكذا، فقد قال مثلا في تركيب «د ل ك» بعد أن ذكر ما فيها من مختلف الألفاظ المشتقة منها: «إن لله في كل شيء سرا ولطيفة، وقد تأملت هذا الباب، يعني باب الدال مع اللام، من أوله إلى آخره، فلا ترى الدال مؤتلفة مع اللام إلا وهي تدل على حركة ومجيء، وذهاب وزوال من مكان إلى مكان.»
وقال صاحب العين: «اعلم أن تقاليب هذه المادة (مادة م ل ك) كلها مستعملة، وهي: «م ل ك»، و«م ك ل»، و«ك م ل»، و«ك ل م»، و«ل م ك»، و«ل م ك».» فقال الإمام فخر الدين بعد أن وقف على هذه الكلمة: «تقاليبها الستة تفيد القوة والشدة، خمسة منها معتبرة وواحد ضائع.» يعني «ل م ك». قال صاحب القاموس في البصائر: «وهذا غريب منه؛ لأن المادة الضائعة عنده، معتبرة معروفة عند أهل اللغة.» ثم ساق النقل عن العباب ما قيل في «اللمك»، قال: فإذن الستة مستعملة، معطية معنى القوة والشدة (وراجع أيضا تاج العروس في «م ل ك»).
وقال السيد مرتضى في الأصل «ن ف د»: «نقل شيخنا عن الزمخشري في الكشاف أنه لو استقرى أحد الألفاظ التي فاؤها نون، وعينها فاء، لوجدها دالة على معنى الذهاب والخروج، وقاله غيره.» ا.ه.
وقد ذكر الصاغاني في آخر تركيب «ق ن ع»: «والتركيب يدل على الإقبال على الشيء، ثم تختلف معانيه مع اتفاق القياس، وعلى استدارة في شيء، وقد شذ عن هذا التركيب «الإقناع»: ارتفاع ضرع الشاة ليس فيه تصوب، وقد يمكن أن يجعل هذا أصلا ثالثا ويحتج فيه بقوله تعالى:
مهطعين مقنعي رءوسهم
قال أهل التفسير: أي رافعي رءوسهم» (راجع تكملة الصحاح للصاغاني في قنع).
قال الأب أنستاس ماري الكرملي: نحن لا نرى في هذا التركيب شاذا؛ لأن الإقناع هنا لارتفاع ضرع الشاة إشارة إلى هيئة القنع، والذي يتخذ القنع يرفعه صعدا حين النفخ فيه، فتكون الإشارة إليه في ارتفاع الضرع من أحسن الإشارات وأبينها.
وقال الصاغاني في مادة «س ل ط»: «والتركيب يدل على القوة والقهر والغلبة، وقد شذ عنه «السليط» للدهن.» ا.ه.
قلنا ونحن لا نرى شاذا، بل داخلا في حيز المادة؛ لأن السليط بمعنى الدهن يحتاج لعصره إلى قوة وقهر، إذن فلا شذوذ.
وفي العباب في ترجمة «عرض»: «العين والراء والضاد تكثر فروعها، وهي مع كثرتها ترجع إلى أصل واحد وهو «العرض» الذي يخالف الطول، ومن حقق النظر ودققه علم صحة ذلك.» ا.ه.
وقد انتبه جمهور اللغويين إلى أصول الكلم وما بينها من المعاني، على أنهم لم ينبهوا في كل منها على ذلك الاشتراك الظاهر لكل ذي عينين، إما لوضوح الأمر، وإما لأنهم لم يروا فيه عظيم فائدة، وإما لأسباب نجهلها، وقد سبق جميع أصحاب المعاجم الليث بن نضر بن سيار الخراساني في كتابه «العين»، المنسوب وهما إلى الخليل بن أحمد الفراهيدي، فإنه نبه في صدر كل ترجمة ما يشعر أن في التركيب الفلاني المعنى الفلاني، وإن لم يصرح به تصريحا بينا، نراه يقول مثلا: «باب العين مع الباء: عبا، عبو، عيب، وعب، بوع، بعو، بيع، عاب، مستعملات.» لكن اللغوي الذي وضع معجمه مبنيا على المواد، واحدة واحدة، وذكر ما لكل مادة من المعنى الخاص بها هو ابن فارس، فإن سفره الجليل الذي لا يمكن أن يقوم هو «المقاييس» الذي يجد فيه الباحث كل ما يتمناه من خصائص الأصول وتراكيبها الأصلية.
ولقد انتبه لغويو العرب، قبل لغويي أهل الغرب، إلى هذه الفكرة البديعة، والآن ترى غير أبناء الضاد يشيرون في معاجمهم المطولة الباحثة عن الأصول إلى أصل المادة، بقولهم: وهذا الأصل يفيد كذا، وإذا عارضت هذه الأصول بأصولنا ينفتح بين يديك باب واسع يكشف لك جنات فيحا من المعاني، تصطفق أوراقها، وتغرد أطيارها، وتصطخب أمواهها، وتمرح ظباؤها، كأنك في نعيم مقيم، أشير في ذلك مثلا إلى المعجم اليوناني الفرنسي لصاحبه أناطول بابي واسمه بالفرنسية:
M. R. A. BAILLY. - Dic. Grec - Français, rédigé avec le concours de M. E. Egger. ix édition. - Librairie Hachette.
.
فقد عقد في آخر ديوانه بابا بديعا وسمه: «فهرس الأصول الواردة في المعجم مع ذكر أهم الألفاظ المتصلة بها»، وقد وقع في 26 صفحة، وكل صفحة منها منشطرة إلى ثلاثة أشطر، وذكر فيها أصل الكلمة بالحرف اليوناني مع ترجمته، وعدد بعض المفردات اليونانية مع تفسيرها إلى الفرنسية، فجاء هذا الباب من أنفس الأبواب، ونحن ننقل إلى القارئ ثلاثة من أصوله، لا أكثر؛ ليتضح الأمر بوجهه الصبيح ونهجه البديع.
ذكر في ص2203 هذه الأصول:
GAL, GEL, d’ où Glé ، وقال: معناها:
être CLAIR
أي وضح و
BRILLER
أي تلألأ، ثم أدعم قوله هذا بأكثر من عشرين مفردة، فهذا الأصل يقابله عندنا «جلا»، ويشترك معه «جهر» في بعض معانيه، كما سترى:
وجلا السيف والمرآة جلوا وجلاء: صقلهما.
وجلا البصر بالكحل: روقه.
وجلا عن فلان الأمر: كشفه.
وجلا لي الخبر: وضح.
وجلا العروس على بعلها: جلوة «مثلثة» وجلاء: عرضها عليه مجلوة. وجلاها زوجها وصيفة أو غيرها: أعطاها إياها في وقت العرض والزفاف.
وجلي الرجل يجلى جلى: انحسر مقدم شعره، أو نصف الرأس، أو هو دون الصلع فهو أجلى.
ويشتق من هذا الثلاثي مزيدات عدة وأسماء مختلفة، لو ذكرناها لتعدى قدرها المائة، فانظر هذا الاتفاق بين اليونانية والعربية!
وذكر
GAR
وقال هذا الأصل يفيد السقع والصراخ والصياح.
قلنا وعندنا نحن بهذا المعنى جأر وجهر، فمن الأول:
جأر إلى الله يجأر جأرا وجؤارا: رفع صوته بالدعاء إليه، وتضرع واستغاث وجأر الثور: صاح، وجأر النبات: طال، كأنه بذهابه إلى السماء يصرخ إليها، وجأرت الأرض: طال نبتها، وجئر الرجل يجأر جأرا. غص في صدره. وفي هذا الأصل مشتقات عديدة يتدبرها الباحث في دواوين اللغة إذا أراد التوسع في البحث.
ومن الثاني:
جهر الأمر يجهر جهرا وجهارا: علن.
وجهر الكلام وبالكلام: أعلنه.
وجهر الصوت: أعلاه.
وجهر القوم: استكثرهم حين رآهم.
وجهر الأرض: سلكها من غير معرفة.
وجهر الرجل: رآه بلا حجاب، أو نظر إليه وعظم في عينيه.
وجهر السقاء: مخضه.
وجهر الشيء: كشفه وحزره.
وجهر البئر: نقاها وأخرج ما فيها من الحمأة، أو نزحها، أو بلغ الماء، قال الأخفش: تقول العرب: جهرت الركية: إذا كان ماؤها قد غطى الطين، فنقيت ذلك حتى يظهر الماء ويصفو.
وجهر الرجل فلانا عظمه.
وجهر بالقول: رفع به صوته.
وجهر بالبسملة: نطق بها واضحا وبصوت عال عند فاتحة الصلاة.
وجهرت الشمس المسافر: أسدرت عينه.
وجهر الشيء فلانا: راعه جماله وهيئته.
وجهر القوم القوم: صبحوهم على غرة.
وجهرت العين تجهر كفرح: لم تبصر في الشمس.
وجهر الرجل يجهر، بضم الهاء ماضيا ومضارعا، جهارة فخم بين عيني الرائي.
وجهر الصوت يجهر، بالضم أيضا ماضيا ومضارعا: ارتفع.
ولو أردنا التبسط في هذا الأصل لبعدنا في شقتنا، والمادة واسعة جدا تقع مشتقاتها من أفعال وأسماء في صفحات عدة، يشترك فيها معنيان: الجلاء والصوت، كما قلنا في أول مادة «جلا».
ومن الأصول التي ذكرها العلامة اللغوي «بابي»:
GEM
وقال: «يغلب على معناها: الامتلاء والكثرة والحمل.» قلنا ويقابلها عندنا: جم. من ذلك ما جاء في كتب لغتنا:
جم الماء وغيره يجم ويجم (بالضم وبالكسر) جموما: كثر واجتمع.
وجمت البئر: تراجع ماؤها.
وجم الفرس: ترك الضراب، فتجمع ماؤه في صلبه.
وجم قدوم الغائب: دنا وحان.
وجم الجواد جما وجماما أيضا: ترك فلم يركب، فعفا من تعبه.
وجم العظم: كثر لحمه.
وجم الكيل يجمه ويجمه (بالضم والكسر) جما وجماما (وهذه مثلثة الجيم): كاله إلى رأس المكيال.
وجم الماء: تركه يجتمع.
وجم المكيال: ملأه إلى رأسه طفافا.
وأما فروع هذا الأصل فشيء كثار، ولا بد من مراجعة الأمهات للوقوف عليها.
وقد سردنا هنا ثلاثة شواهد من أصول اللغوي الفرنسوي «بابي»، وفي مكنتنا أن نتوسع في هذا البحث توسعا، لا يقوم به حق قيامه إلا سفر ضخم، ويظهر ظهورا بارزا أن أصول الهلنية والأصول المضرية متفقة، وهو أمر غريب، ولسوء الحظ لم ينبه عليه أحد؛ لذهاب أغلب أرباب اللغة أن لا مناسبة بين لغتنا ولغتهم، وهو قول فائل ينجلي فساده من أول تبصر لهذا البحث.
أوزان العربية وصيغها
نريد بأوزان العربية أو موازينها أبواب الأفعال من ثلاثية ومزيد فيها، ونريد بصيغها: أوزان الأسماء، من مشتقة وغير مشتقة، وميزنا بين اللفظين والمعنيين، أمنا للبس، وإلا فلا فرق بينهما، ولهذا لم نقيد نفسنا بهما كل التقييد، بل تساهلنا فيهما أحيانا.
فأما أوزان العربية فمن أبدع ما ورد فيها، وهي من الغنى بحيث يجد فيها الباحث ما يجزأه عن النحت والتركيب وتكثير الألفاظ والشروح، حتى إنك لا تجد ما يضارعها في سائر الألسنة، ولو كانت سامية الأصل، نعم، إنك ترى في العبرية والإرمية شيئا يشبه هذه الأوزان، لكنك لا تجدها كلها، بل بعضا منها، وهي دون العربية عددا، فالعربية سبقت أخواتها كلهن، وبزتهن بزا! ولكل وزن من تلك الأوزان مزية خاصة به؛ وربما اجتمعت فيه عدة مزايا، وربما أيضا اشتركت مزايا هذا الوزن مع مزايا الوزن الآخر.
خذ مثلا الوزن «فاعل» ففيه من المزايا ما يدهشك: (1)
فتأتي «فاعلت للمشاركة» تقول: شاركته، وقاتلته، ودارسته، وقاومته، وجاورته، وقاولته. (2)
وتأتي فاعلت بمعنى فعلت وأفعلت. تقول: قاتلهم الله؛ أي قتلهم الله، وعافاك الله أي أعفاك، وعاقبت فلانا، وداينت الرجل أي أدنته، وشارفت بمعنى أشرفت، وباعدته بمعنى أبعدته، وجاوزته بمعنى جزته، وعاليت رحلي على الناقة أي أعليته. (3)
وتأتي فاعلت من واحد بغير معنى المشاركة، ولا بمعنى فعلت ولا أفعلت، كقولك: سافرت، وظاهرت، وناولت، وضاعفت، وسابقته، وحاربته، فلم يسابقني ولم يحاربني. (4) «وتأتي فاعلت بمعنى فعلت بلا فرق» كقولك: ضاعفت بمعنى ضعفت، وباعدت وبعدت، وناعمت ونعمت، ويقال: امرأة مناعمة ومنعمة، وربما وردت فاعلت بمعنى فعلت في أصل ولا ترى فيه فعلت. تقول: فلان ضاءل شخصه أي صغره ولا تقول: ضأله. (5) «وتأتي فاعلت للمباراة والمغالبة» تقول: شاعرته مشاعرة فشعرته؛ أي غالبته في الشعر، فكنت أشعر منه. وتقول: فاضلني فلان ففضلته أي باراني في الفضل، فكنت أفضل منه، ومثله: جاودني فجدته، وعازني فعززته أي غالبني فغلبته، وضم العين في مثل هذا مطرد في المضارع وليس في كل شيء يقال: فاعلني ففعلته، بل فيما يقبل المغالبة (راجع ما قاله صاحب اللسان في مادة «عزز»). (6) «وتأتي فاعل بمعنى تفاعل» ومنه قول اللغويين ضاءل شخصه وتضاءل أي صغره.
والتوسع في هذا البحث وأشباهه خاص بكتب الصرف، فارجع إليها إن شئت.
وأما الصيغ العربية فهي أوسع ميدانا من الأوزان، ولا نظن أن في العالم لغة تعددت فيها الصيغ كما تعددت في لغتنا، ففي لغات الغرب مثلا، ولا سيما الحديثة منها، ترى صيغا للتصغير والتكبير، للتحبيب والتحقير، للتقريب وللتبعيد، للتجديد والتعتيق، إلى أشباه هذه الفكر، ونظن أن أغلبها صيغت على أمثلة لغة عدنان، أما أن هناك صيغا خاصة، ولكل صيغة مزية خاصة بها دون غيرها، فهذا لا يرى إلا في هذه اللسان البديعة.
فعندنا صيغ تمتاز بمعان خاصة، هذا عدا الصيغ التي قررها النحاة في تصانيفهم، فهناك: فعال، وفعال، وفعال.
فعالة، وفعالة، وفعالة.
فعال، وفعال، وفعال.
فعالة، وفعالة، وفعالة.
فعلة، وفعلة، وفعلة.
فعل، وفعل، وفعل.
فعلان، وفعلان، وفعلان، وفعلان.
فعلعل، وفعلعلان، إلى غيرها وهي كثيرة، ونحن نذكر هنا بعض الشواهد للإلمام فقط، والإشارة الخفيفة إلى ما هناك من دقائق المعنى.
فالفرق مثلا بين العلاقة (بالفتح)، والعلاقة (بالكسر) هو على ما قال في الكليات: «العلاقة بالكسر، هي علاقة السوط والقوس ونحوهما، وبالفتح: علاقة المحب والخصومة ونحوهما. فالمفتوح يستعمل في الأمور الذهنية، والمكسور في الأمور الخارجية، والعلاقة أيضا هي اتصال ما بين المعنى الحقيقي والمجازي، وذلك معتبر بحسب قوة الاتصال، ويتصور ذلك الاتصال من وجوه خمسة: الاشتراك في شكل - والاشتراك في صفة - وكون المستعمل فيه، أعني المعنى المجازي، ع«باب العين مع الباءلى الصفة التي يكون اللفظ حقيقة فيها - وكون المستعمل فيه أصلا غالبا إلى الصفة التي هي المعنى الحقيقي - والمجاورة.» «فالأولان يسميان مستعارا، وما عداهما مجازا مرسلا، ووجه المجاورة يعم الأمور المذكورة، قال صاحب الأحكام بعدما عد الوجوه الخمسة، وجميع جهات التجوز، وإن تعددت، غير خارجة عما ذكرناه.» ا.ه.
قال صاحب هذا الكتاب: الفعالة، بالكسر، تدل في أغلب الأحيان على الصناعة كالحراثة، والزراعة، والمساحة، والنجارة، والحدادة، والخراطة، والحمالة، والتجارة، والسقاية، إلى نظائرها.
وتدل أيضا على الآلة، والأداة، فكأنها تأنيث الفعال الدال بنفسه على الآلة أو ما يشبهها، كالحزام، والنطاق، والبساط، واللباس، والمقاط، والشكال، والرباط، والعقال، ونحوها.
وأما نظائر الفعالة فكالإداوة، والحداجة ، والخزانة، والرحالة، والجبارة، والضبارة، والعضادة، والكنانة، والقلادة، والحمالة، والرفادة (الخرقة يرفد بها الجرح وغيره)، والسقاية (للإناء الذي يسقى به)، إلى آخر ما ذكروه من هذا القبيل، بيد أن الأمثلة الواردة بالهاء أقل بكثير من المثل الخالية منها، على أن ما ذكرناه كاف لإثبات ما نقول، وإن لم يذهب إليه إلى هذا اليوم أحد من النحاة أو اللغويين إلا أن الحقيقة لا تخفى على المتدبر.
فعلعل
من الصفات الدالة على أن صاحبها يمتاز بكثرة ما يتصف به ما جاء منها على فعلعل كغطمطم، وعنطنط، وغشمشم، وعرمرم، وعفرفرة، ودمحمح، وهجفجف، وحورور، وعركرك، وعنشنش، وحولول، وشمقمق، وعقنقل، وصمحمح، وعصبصب، وسمعمع، وهي مركبة أو منحوتة من تكرار الوصف الثلاثي فقولهم: رجل عنطنط كقولهم رجل عنط عنط، لكن عنط لم يسمع به، فاجتزءوا بقولهم: عنطنط أي عظيم الطول، أو بين الطول، ولا سيما بين طول العنق، ويراد بفعلعل المبالغة في الوصف، عظيما كان ذاك الوصف أم صغيرا، فإن كان عظيما فهو أعظم ما يكون من جنسه، وإن كان صغيرا فهو أصغر ما يكون من جنسه، ويمتاز مع ذلك بشيء خاص يبلغ به النهاية.
فقولك: رجل سمعمع، تريد به رجلا «صغير الرأس والجثة داهية غاية ما يكون» (التهذيب)، وقول القاموس: «الصغير الرأس أو اللحية والداهية.» غير صحيح، وفي اللسان: «الصغير الرأس والجثة الداهية.» صحيح، موافق لما في التهذيب، والأزهري أعظم حجة في اللغة، يتضاءل بجانبه سائر أرباب المعاجم، وقد غلط أيضا كل من نقل عن القاموس كالمعلم بطرس البستاني في محيط المحيط، والشرتوني في أقرب الموارد، والشيخ عبد الله البستاني في البستان؛
1
فقد نقل جميعهم عبارة القاموس فقالوا: السمعمع: الصغير الرأس، أو اللحية، والداهية، على أن «البستان» مسخها، فأساء في التعبير كل الإساءة فقال: «السمعمع: الذئب الخفيف السريع، والصغير اللحية، والداهية» (كذا).
وقال ابن بري: شاهده قول الشاعر:
كأن فيه ورلا سمعمعا
وقيل: هو الخفيف اللحم، السريع العمل ، الخبيث، اللبق، طال أو قصر، وقيل: هو المنكمش الماضي، وهو فعلعل (راجع أمالي الشيخ ابن بري في ترجمة سمع في نحو آخرها).
وقد اختلف العلماء في تعليل هذا الوزن؛ فمنهم من جعل أصله الأحرف الثلاثة الأولى، ثم كسعت بحرفين في عجزها، من جنس الحرفين الأخيرين من صدر الكلمة، وهذا رأي الليث، صاحب كتاب العين، فقد قال في تركيب «ع ن ط» في كلامه على العنطنط: «اشتقاقه من عنط، ولكنه أردف بحرفين في عجزه.»
وذهب الفراء إلى أنه مشتق من الفعل، فقد قال في عصبصب: «هو مشتق من قولك: عصبت الشيء: إذا شددته.» قال الأزهري: وليس ذلك بمعروف؛ إنما هو مأخوذ من قولك: عصب القوم أمر يعصبهم عصبا: إذا ضمهم، واشتد عليهم (راجع التهذيب في عصب).
على أن الأزهري نفسه ذهب مذهبا آخر في مادة أخرى تشبه اشتقاقها هذا الاشتقاق، فقال في التكملة: «بحر غطمطم وغطامط: كثير الماء، كثير الالتطام، إذا تلاطمت أمواجه، والغطمطة: التطام الأمواج، وجمعه غطامط، وغطامطه كثيرة: أصوات أمواجه إذا تلاطمت، وذلك أنك تسمع نغمة شبه غط، ونغمة شبه مط، ولم يبلغ أن يكون بينا فصيحا كذلك، غير أنه أشبه به منه بغيره، فلو ضاعفت واحدة من النغمتين، قلت: «غطغط»، أو قلت: «مطمط»، لم يكن في ذلك دليل على حكاية الصوتين؛ فلما ألفت بينهما، فقلت: غطمط، استوعب المعنى، فصار بمعنى المضاعف، فتم وحسن.» ا.ه. كلام أبي منصور.
وذهب ثعلب إلى نحو ما ذهب إليه ابن مظفر، فقد جاء في اللسان في «صمح» ما هذا نصه: «قال ثعلب: رأس صمحمح أي أصلع، غليظ، شديد، وهو فعلعل، كرر فيه العين واللام.»
وهناك رأي آخر هو رأي ابن جني؛ فقد قال في «صمحمح»: «الحاء الأولى من صمحمح زائدة، وذلك أنها فاصلة بين العينين، والعينان متى اجتمعتا في كلمة واحدة، مفصولا بينهما، فلا يكون الحرف الفاصل بينهما إلا زائدا نحو عثوثل، وعقنقل، وسلالم، وحفيفد،
2
وقد ثبت أن العين الأولى هي الزائدة، فثبت إذن أن الميم والحاء الأوليين في صمحمح هما الزائدتان ، والميم والحاء الأخيرتين هما الأصليتان، فاعرف ذلك.» ا.ه.
فيتضح من هذا أن حذاق الصناعة اختلفوا في اشتقاق هذا الوزن، والرأي الأصح عندنا أنه منحوت من نعتين متجانسين وضعا واشتقاقا؛ وإنما فعلوا ذلك تبليغا في الوصف وإشارة إلى أصل الاشتقاق.
وإذا مد فعلعل، فقيل: فعلعال، اختلفت فيه الآراء اختلافا جديدا، فمنهم من جعله فعلعالا بالتحريك، ومنهم من قال: الفعلعال بالكسر هو الفصيح، ومنهم من لم يبد رأيا في تفضيل وزن على وزن، كأنه يجيز الاثنين، أو يغلب السماع على القياس، وهو الرأي الراجح عندنا، المقبول، المعقول.
قال أبو منصور في تهذيبه: السرطراط، بالكسر، لغة جيدة لها نظائر مثل: جلبلاب،
3
وسجلاط،
4
وأما سرطراط (بالتحريك) فلا أعرف له نظيرا.
5
فقيل للفالوذج: «سرطراط، فكررت فيه الراء والطاء تبليغا في وصفه واستلذاذا لآكله إياه، إذا سرطه وأساغه في حلقه ... والسرطراط فعلعال من السرط الذي هو البلع.» ا.ه.
وأما ورود فعلعال بالتحريك فغير مجهول؛ فقد ذكر أرباب اللغة من لغات الشقراق: الشرقراق، بالكسر، والشرقراق، بالتحريك، ولم يقبحوا هذه اللغة. على أن كسر الأوليين أكثر ورودا، فقد قالوا مثلا: شنقناق، وهي بكسرتين، وهو رئيس الجن والداهية.
ولم يذكر له لغة التحريك.
بيد أنه يعترض على هذا أن وزن شنقناق فنعلال، لا فعلعال، ونظائر فنعلال ومقلوبه فعنلال معروفة كسنقطار وسقنطار.
ويقارب هذه الأوزان «فعلال» كسجلاط وسقلاط وسنمار.
6
وكذلك فنعلال، كسنجلاط. ذكره القاموس ولسان العرب في «سجلط».
وقد أطلنا الكلام على هذه الأوزان الغريبة؛ لأن أغلب النحاة لم يذكروها، والذين ذكروها أقلوا الكلام عليها، إما لندرتها، وإما لغرابتها، وإما لما فيها من العراقيل في البناء والصيغة، والصيغ في لغتنا تعد بالمئات.
هوامش
اتفاق أصول العربية مع اللغات اليافثية
اتفاق أصول الساميات أمر لا يجهله صبيان الكتاتيب، ولهذا لم نتعرض له، إنما الاختلاف بل أعظم الاختلاف هو في اتفاق الساميات واليافثيات، أهو واقع أم لا؟
فأغلب فقهاء اللغات على أن لا نسب بينهما البتة، وهذا رأي أغلب المتعصبين لقوميتهم تعصبا أعمى؛ إذ لا يريدون أن يكون أدنى صلة بين بني سام وبني يافث، وبعضهم يرى أن هناك بعض الصلة، وهذا رأي بعض العلماء الساميين الذين أتقنوا العبرية، ودرسوا اللغى اليافثية، والألمانية، والإنجليزية، والروسية، فوجدوا مشابهات بينها وبين اليافثيات، فذكروا أن هناك ألفاظا أخذت من الساميات، ولا سيما من العبرية، وأشهر من ذهب إلى هذا الرأي «موس أرنولت» أي:
MUSS-ARNOLT. On Semitic Words in Greek and Latin. Transactions of the American Philological Association. VOL. XX. III. 1892 .
والظاهر من اسم هذا المحقق أي موس أرنولت، أنه يهودي، أو من أصل يهودي؛ لأن «موس» مقطوع من «موسى»، وما بقي من اسمه هو كالرداء يلقيه على نفسه ليخفي أصله.
والثاني هو «لاوي»
LEWY
وهو يهودي صرف بلا نزاع، واسم كتابه:
DIE Semitischen Fremdworter in Griechischen. Berlin 1895 .
على أننا نصرح للجميع أننا لم نستفد من هذين الكتابين ولا من غيرهما؛ لأننا لا نفهم كلمة من الألمانية.
ثانيا: لعدم جود هذين التأليفين بين يدينا.
ثالثا: أننا عرفناهما من معجم إميل بوازاق اللغوي البلجكي أي:
EMILE BOISACQ. Dic. Etymologique de la Langue Grecque. 2e EDIT. PARIS. 1923 .
الاشتراك اللغوي واضح في مئات من الألفاظ مما يدل على أن الحقيقة لا تنكر، ولا سيما إذا أخذ الباحث بمبدئنا وهو: أن كل كلمة مركبة من هجاء واحد أو هجاءين، لا بد من أن يكون لها مقابل في اليافثيات، وهو المبدأ الذي جاهرنا به، وأنكره علينا مجانا وبلا أدنى تدبر، من يدعي الوقوف على اللغات الغربية والعربية، ولعل ذلك الوقوف هو «على الرأس لا على الرجلين»، ونحن نذكر الآن بعض الشواهد: (1) العصفور
هو اسم لكل طائر صغير الجثة يكثر الصفير، وقد قال بعضهم: إنه سمي كذلك لأنه لما أدخل الجنة «عصا» الله و«فر» (راجع تاج العروس في طفيشل). على أن اشتقاقه من «الصفير» واضح لا يحتاج إلى دليل، وصغر على وزن «فعلول» فقيل: «أصفور» أي «عصفور».
ووزن «فعلول» أو «أفعول» معروف في العربية وإن لم يصرحوا به في مهارقهم. من ذلك: «الحتروش»: للصغير الجسم، و«الزغلول»: للخفيف من الرجال والطفل، و«الملمول»: للميل الصغير الذي يكتحل به، و«الأملول»: لدويبة صغيرة تكون في الرمل تشبه العظاءة، إلى نظائرها.
والعصفور بالإرمية «صفرا» ويضيفونه إلى كثير من الألفاظ فيكون عندهم ما معناه: القبرة، والبلبل أو الهزار، والسمرمر، وعصفور الغاب، إلى آخر ما عندهم.
وللإنجليز كلمة تقرب من كلمتنا وهي:
SPARROW «وتلفظ سبارو» أي العصفور . قال وبستر: هو بالإنجليزية القديمة
SPARWE ، وبالإنجليزية السكسونية
SPEARWA . قال: وأصلها يتصل بالجرمنية العالية القديمة
SPARO ، وبالجرمنية
SPERLING ، وبالإسلندية
SPORR ، والهولندية
SPURRE, SPURV ، والأسوجية
SPARF ، والقوطية
SPARWA ، ومن المحتمل أن يكون الأصل مأخوذا من معنى المرتعش والمرتعد، وأنه يتصل بالإنجليزية
SPURN ، ومعناها: نفح أي ضرب برجله.
على أن الأصل الذي أشرنا إليه هو أقرب إلى طبيعة العصفور، وهو باللاتينية
، وبالفرنسية
، وباليونانية (STROUTHOS) στονΰός «أي صتروثس»، وبين الأصل اليوناني «ستر»، أو «صتر»، أو «صفر»، العربيات مجانسة لا تخفى على السامع، فإن بعض الأعراب كانوا ينطقون بالتاء المثناة فاء، وبالعكس كالنبيت والنفيت، ومنهم من كان يجعل الثاء المثلثة فاء، وبالعكس، فيقولون: الحثالة والحفالة، وثلغ رأسه وفلغه، واللثام واللفام.
فترى من هذه المقابلة ما يدهش كل متدبر، ومن ذلك: (2) الترعة
الترعة: الباب (اللغويون جميعا)، وهو بالإرمية «ترعا»، بمعناه، وهو مشتق عندهم من «ترع»؛ أي شق ونقب وفتح، وهو بالصابئية أو المندائية «ترأا»؛ لأن أرباب هذه اللغة يسقطون منها الحرف الحلقي، وهو بالعبرية «ترع»، وبالفارسية «در»، ومنها اللفظة التركية المركبة من الفارسية والعربية «در سعادت» أي «باب السعادة»، وهم يريدون بها «إستانبول»، أو «القسطنطينية»، وبالإنجليزية
DOOR ، قال وبستر: وبالإنجليزية القديمة القديمة
DORE, DURE ، وبالإنجليزية السكسونية
DURU ، والأصل يتصل بالسكسونية القديمة
DURA, DUR ، والهولندية
DEUR ، والجرمنية العالية القديمة
TURI ، والباب الكبير
TOR ، والجرمنية
THOR, THUR ، والإسلندية
DYRR ، والدنيمركية
DOR ، والأسوجية
DORR ، والقوطية
DAUR ، واللثوانية
DURVS ، والروسية
DVERE ، واللاتينية
FORES ، واليونانية
THURA ، والهندية الفصحى
DUR, DVARA ، فهل بعد هذا من يشك في أن اللغات تتلاقى في بعض الألفاظ كما يتلاقى الأصدقاء بعضهم مع بعض؟ (3) العد
العد، بالكسر: الماء الجاري الذي له مادة لا تنقطع كماء العين (القاموس)، وهو باللاتينية
UNDA
بإقحام نون أي
N
بين العين والدال، ومثل هذا كانت تفعل العرب، فإنهم كانوا يقولون: «الحنظ» في «الحظ»
1
إلى أمثالها وهي لا تعد، على أن اليونان أسقطوها من كلامهم وعوضوا عنها براء في الآخر فقالوا:
ΰδωο, ΰδαιος (hydor, hydatos)
وتلفظ «عدر» وفي الإضافة يحذفون منها الراء، فيقولون: عداتس، مما يدل على أن الراء عارية فيها، وقد كان للناطقين بالضاد مثل زيادة هذه الراء في الآخر، فقالوا: بحثر الشيء في بحثه، وفجر الشيء في فجه، والبتر في البت وهو القطع، إلى نظائرها.
و«العد» بالهندية الفصحى «عدان» أي
udan ، وبالإضافة
ah - udn ، والأصل
udan ، وهذه اللفظة يجانسها عندنا العدان: كسحاب، وهو ساحل البحر وحافة النهر، و
hydor
اليونانية نقلت إلى
water
الإنجليزية، ومن أراد أن يرى أخواتها في اللغات السكسونية فليراجع هذه اللفظة، فإنه يرى لغاتها المختلفة في «وبستر»، كما فعلنا في «الترعة» و«العصفور»، فبهذه المعارضة يظهر في لغتنا من الفضل العظيم والأصل الحقيقي؛ لأنه مبني على هجاء واحد لا غير على ما تقدم القول، وقد أسلفنا الكلام أن أقدم كلمة في اللغات أقربها إلى الهجاء الواحد، وهذا ما يتحقق هنا كل التحقق.
ونزيد على ما تقدم أن الكلمة اليونانية
hydor
تبتدئ بحرف عليه علامة تدل على أن ذلك الحرف يقابله في الألسنة السامية حرف حلقي كالهمزة أو الهاء، أو الحاء، أو العين أو الخاء، ولما كانت كلمتهم تلك تعني «العد» الماء الجاري، وأيضا البحر، قالت العرب في هذا المعنى الأخير «خضارة» بالضم وفي الآخر هاء وبلا «أل»؛ لأنه علم للبحر، واللفظ يكاد يكون واحدا في العربية لولا أن للعرب الخاء والضاد، فمن لا يعجب من هذه المجانسة العجيبة؟
ويقرب من «خضارة» علما للبحر: «الخضرم» والأصل واحد، إلا أنه أردف بالميم، وهم كثيرا ما يزيدونها مبالغة لما يقصد منه، قال في القاموس: «الخضرم، كزبرج، البئر الكثيرة الماء، والبحر الغطمطم.»
ويشبه «الخضرم»: الغذارم وهو الماء الكثير.
ولليونان كلمة تقارب الأصل
hydor
وهو
HYDRA, AS ، ويريدون بها ضربا من الحيات يأوي إلى الماء.
وقد اشتهر بهذا الاسم
HYDRA LERNAIA ، وهو حية كان لها أسبعة أرؤس، وكان كلما قطع منها رأس نبت في مكانه رأسان، ولهم مثل مأخوذ من هذا اللفظ، معناه: «قطع هدرة» يضربونه لمن يقارع مصاعب لا تنتهي.
وكان الأقدمون من معربي صدر الإسلام ترجموا هذه الكلمة «بالشجاع». قال في القاموس: «الشجاع كغراب وكتاب: الحية، أو الذكر منها، أو ضرب منها صغير والجمع شجعان، بالكسر والضم.» ا.ه.
وعدم تثبتهم من حقيقة هذه الحية ناشئ من وجودها في الماء، على أن في لغتنا كلمة تضاهي أصول «هدرا» وهي «العدار»، ونسب إليها صاحب القاموس رواية مصحفة الأحرف، أصلها هو هذا على ما نرى: «دابة تلكع الناس (أي تنكزهم) باليمن، ولنسغتها (أي لسعتها) دود.» والمثل العربي مبني على هذا التصحيف الوارد منذ أقدم الأزمنة، وليعذرنا القراء عن إيراده وإنما نسبوها إلى اليمن؛ لأن هذه الربوع عندهم بلاد العجائب، فلقد نسبوا إليها «النسناس»، «والفقنس»، أو «القوقيس»، إلى غير ذلك من الغرائب وشواذ الخلق وشذاذ الخلق.
ومن الأصول العربية الشبيهة باليونانية
hydor «العدر». قال المجد: «العدر: المطر الشديد الكثير، ويضم: عدر المكان كفرح، واعتدر: كثر ماؤه ... والعدار: الملاح ... وعندر المطر فهو معندر: اشتد، واعتدر المكان: ابتل من المطر.» ا.ه. وكل ذلك موافق لما في الأصل اليوناني.
على أننا نلاحظ شيئا وهو قولهم العدار هو الملاح، فكما أن «الملاح» منسوب إلى البحر «الملح». «والبحار» إلى البحر، وجب أن يكون هناك لفظ ممات هو «العدر» بمعنى البحر، حتى يؤخذ منه العدار للبحار، وإلا لما جاز أن يقال العدار: الملاح.
ومما يضارع العدر المضرس، فليس فيه سوى تفخيم الدال وزيادة السين في الآخر، وهو من الأمور المألوفة عندهم. «والعضرس: كجعفر: ... البرد، والماء البارد العذب، والثلج، والورق يصبح عليه الندى، أو اللازقة بالحجارة الناقعة في الماء، وعشب أشهب الخضرة يحتمل الندى شديدا، ويكسر كالعضارس، بالضم في الكل وجمعه بالفتح.» ا.ه. ففي هذا كله معنى الماء، وهو أصل معنى اليونانية أيضا مع فروعها المختلفة، فلا جرم أن الأصل واحد، وأن يحاول بعضهم إنكاره على غير جدوى.
وهناك مشابهات أخر لألفاظ لا تحصى، وكلها تتصل بهذا الأصل أي «العد»، وقد حلت به الغبر لغى القبائل، كالوادي والودي.
والعذب «كحذر» وهو المطحلب من الماء.
والعذي: للزرع الذي لا يسقيه إلا المطر.
ووذع الماء: سال، والواذع: المعين؛ وكل ماء جرى على صفاة.
وودف الشحم، وغيره يدف ودفا: سال يسيل سيلا.
وودك الشيء: بله ونقعه.
ووذف الشحم كودف، بالمهملة والمعجمة على السواء.
واهدودر المطر اهديدارا: انصب وانهمر.
وودن الشيء يدنه، ودنا، وودانا ، فهو مودون، وودين أي منقوع، فاتدن، إلى غير هذه المجانسات والمشابهات والمقاربات، وكلها ناشئة من أصل واحد، هو «العد» الذي وضع على أبسط وجه أمكن أن ينطق به المتكلمون، وما بقي ففروع وفروق اختلفت باختلاف القبائل، أو باختلاف الناس الذين جاورهم بنو مضر. (4) الأباءة
الأباءة: الأجمة من القصب، والجمع: أباء (اللسان في أبأ) وقال في «أبى»: الأباءة: البردية، وقيل: الأجمة، وقيل: هي من الحلفاء خاصة. قال ابن جني: «كان أبو بكر يشتق الأباءة من أبيت، وذلك لأن الأجمة تمتنع وتأبى على سالكها، فأصلها عنده أباية، ثم عمل فيها ما عمل في عباية وصلاية وعظاية، حتى صرن عباءة وصلاءة وعظاءة، في قول من همز، ومن لم يهمز أخرجهن على أصولهن، وهو القياس القوي. قال أبو الحسن: وكما قيل لها: أجمة، من قولهم: أجم الطعام: كرهه، والأباء بالفتح والمد: القصب، ويقال: هو أجمة الحلفاء والقصب خاصة ...» ا.ه.
فأصل التركيب «أبا» لا غير، فضعفها الإرميون فقالوا: «أبوبا» ويريدون بها الأنبوب؛ أي ما بين عقدة وعقدة من القصبة، أو كل مجوف مدور، ثم توسعوا في الكلمة والمعنى فقالوا: «أبوبتا» أي الأنبوبة والقصبة.
على أن المعنى الأصلي للأباء، هو البردي، كما صرح به اللغويون الأقدمون، يثبت ذلك اللفظ اليوناني وهو:
πάπΰοος “PAPYRUS” ، فإنه يعني البردي الذي كان يكتب عليه، وهم لا يدرون أصل الكلمة، ولا أول من استعملها، ويصعب أن يعرف ذلك، بيد أن الهجاء الأول من
تضعيف للثاني، فالأصل «بر أي
»، وهذا ينظر إلى أول هجاء «البردي» العربية أيضا والمعنى واحد.
وإذا بحثت في اللغة عن هذا الهجاء أو هذا الأصل الأول «بر»، أو «فر» تراه يدل على الرقة والدقة والخفة؛ فقد قالوا في مركبات «بر»: برى العود والقلم والقدح وغيرها: يبريه بريا: نحته، وابتراه كبراه.
وبراه السفر يبريه بريا: هزله (عن اللحياني في اللسان).
والبرة: حلقة من فضة أو صفر تجعل في أنف الناقة إذا كانت «دقيقة» معطوفة الطرفين (اللسان).
والبرى أيضا: التراب ولا سيما الدقيق منه، ومنه في الدعاء على الإنسان: «بفيه البرى .» كما يقال: «بفيه التراب».
وقال في القاموس في «ب ور»: «البوري، والبورية، والبورياء، والباري، والبارياء، والبارية: الحصير المنسوج .» ا.ه. وقالوا: إنها من الفارسية وهو غير بعيد، وقد اتصل العرب بالفرس فربما أخذوها منهم، لكنهم لم يتصلوا مباشرة بغيرهم، ليقال إنهم اقتبسوها من غير الفرس، والذين يزعمون يجهلون سنن اقتباس الألفاظ، والمشهور في العراق أن البواري تتخذ من القصب، والقصب يكثر في وادي الرافدين (راجع ما كتبناه في لغة العرب في 7 : 334 و335، وفي 6 : 782 و9 : 225 إلى مواطن أخر).
والفارسية «بوري» من أصل عربي محض هو «برع»، أو «يرع»، أو «ورع»، ومنها اليراعة للقصبة؛ ولأن البواري تتخذ من القصب على ما أسلفنا القول، ولما لم يكن للفرس ومن كان من أصل يافثي حرف العين عوضوا عنه بحرف عليل كما هو مألوف عادتهم.
وأما مركبات «فر» فمعروفة أيضا للدلالة على الدقة والصغر والخفة، كما رأيناه في «بر»، فقد قال البصراء في الأصول العربية: إن الفرار: ولد النعجة، والماعزة، والبقرة الوحشية، أو هي الخرفان والحملان، وكذلك الفرير والفرور، والفرفور والفرفر والفرافر، ولو أردنا السير في هذا الوادي المتشعب الأطراف لأرهقنا القارئ عسرا على غير طائل ولا جدوى.
وتتبع هذه الأصول العربية ومعارضتها بالأصول اليافثية أمر متسع الأكناف، ولا يمكن تحقيقه إلا بمئات من الصفحات، إن لم يكن بالألوف، ولهذا نعدل عنه لمعالجة بحث آخر.
تكامل1 العربية بوجوهها المختلفة أو اكتهالها
(1) توضيح
المراد ب «تكامل اللغة أو اكتهالها»: تقلب أحرف تركيبها، وإفادة معنى جديد في كل تغير منها، وسهولة الاشتقاق من ذلك القلب مع استساغته، فيكون مع هذا القلب الجديد معنى جديد واشتقاق جديد في جميع الأوجه، وقد يكون قلب ولا يكون سائغا فلا يشتق منه شيء؛ لأن ذوق العربي لا يستسيغه ويأبى أن يبقيه على لسانه لغرابته أو لشناعته، فينبذه عنه نبذا قصيا لا ندم فيه ولا سدم.
مثال ذلك قولك: «مدح»
2
فتشتق منه: مدحه، وتمدحه، وامتدحه، والمدح، والمديح، والأمدوحة، والممدح.
فإذا قلبته قلت: «حمد»، ومنه: حمده، وحمد الله، وأحمد الرجل، وتحمد به، والحماد ، والحمادى، والحمادي، والحمد، والحمدة، وحمدة النار، والحمدة، والحماد، والحمود، والحامد، والمحمود، والحميد، والأحمد، والمحمدة، والمحمدة، والمحمد، والمحمود، إلى آخر ما هناك .
وإذا قلبته للمرة الثالثة نهض بين يديك «حدم» ومنه احتدمت النار، وتحدم عليه غيظا، واحتدم، والحدام، والحدم، والحدم، والحدمة، والحدمة، والمحتدم.
وإذا قلبته رابعة، انتصب بين يديك «الدحم»، فقلت: دحمه دحما، والداحوم وهو قليل الاشتقاق.
وإذا قلبته خامسة مثل نصب عينيك «دمح»، وهو قليل المشتقات لنبوته، فتقول: دمح تدميحا، والدمحمح، وهو المستدير الململم.
وأما «محد»، فلا يعرف له كلام؛ لما فيه من الجفاوة والغلظة وقبح التركيب.
وتكامل المواد العربية تكون في أغلب الأحيان على هذه الصور العجيبة من التقلب والتغير.
وكثيرا ما تشابه التراكيب العربية التراكيب اللاتينية، أو اليونانية، ويراعى فيها بعض الأحيان القلب المكاني، هذه كلمة «الشرف»، ويقال فيها: «السرف»، فأول معانيها العلو والتفوق؛ إذ ما «الشرف» على الحقيقة إلا علو أدبي أو معنوي، فهي تنظر إلى اللاتينية
SUPER
أي فوق أو
SUPERUS
أي عال، أو قائم في العلو أو مشرف، ومنها عندهم
SUPERI
أي أهل عليين أو العلويون، أو آلهة السماء، أو بعبارة مألوفة «الشرفاء»؛ لإشرافهم من فوق السماء على أهل الأرض.
فأنت ترى من هذا أن أحرف اللاتينية ثلاثة في الأصل، هي
SPR
أي «س ف ر»، وبالقلب المكاني «س ر ف»، ومنها يشتق «السرف» أو «الشرف»؛ إذ لم يكن فرق عند قدماء القبائل بين المهملة والمعجمة؛ لأن إحداهما كانت لغة قوم، والثانية لغة قوم آخرين.
ومن الكلمة اللاتينية تتركب عشرات من الكلم، وكلها تفيد العلو والسمو والشرف والإشراف، وكذلك نرى في لغتنا، «فالسرف» بالسين المهملة على ما في كتبنا: «السرف» ضد القصد، والإغفال، والخطأ، ومن الخمر ضراوتها، والشرف، ومنه الحديث: «لا ينتهب الرجل نهبة ذات سرف وهو مؤمن.» أي ذات شرف وقدر كبير، وروي بالشين والمعنى واحد.
و«سرفت» الأم ولدها: أفسدته بسرف اللبن.
و«السروف»: الشديد العظيم، ومنه السروف، وهو من أرواح السماء من زمرة الملائكة، والكلمة مشتركة في العبرية وسائر اللغى السامية، وقد اختلف الحذاق في معناها ، إلا أن للمعنى السامي مكانته العليا، فلا تنفي تآويلهم المتباينة معنى التركيب الأصلي، ويقال في «سروف»: «إسرافيل» و«إسرافين» باللام وبالنون ، والسروف ينطق بها النصارى واليهود، وأما إسرافيل وإسرافين فينطق بها المسلمون على ما هو مشهور.
ويقال: ذهب الماء «سرفا» محركة؛ أي فاض من نواحيه.
و«الإسراف»: التبذير، أو ما أنفق في غير طاعة.
واشتق الفيروزآبادي «سيراف»، وهي من مدن فارس من هذه المادة، ونحن لا نوافقه، وهذا قوله: سيراف كشيراز: بلدة بفارس، أعظم فرضة لهم، كان بناؤهم بالساج بتأنق «زائد»، فهذا أشهر ما عرف من مادة «سرف»، وذكره أرباب كتب متون اللغة.
وأما مادة «شرف» فأغزر اشتقاقا من سرف، من ذلك: «الشرف» بالتحريك وهو: العلو، والمكان العالي، والمجد. أو لا يكون إلا بالآباء، أو علو النسب، ومن البعير سنامه، والإشفاء على خطر من خير أو شر، وجبل قرب جبل شريف، وشريف أعلى جبل ببلاد العرب، وهناك عدة مواضع سميت بشرف، لعلوها على ما جاورها.
و«شرف» ككرم فهو شريف اليوم، وشارف عن قليل؛ أي سيصير شريفا، والجمع: شرفاء وأشراف وشرف، محركة.
ومنها: الشارف، والشارفة، والشرفاء، والشرف، والشوارف، ومنكب أشرف، وأذن شرفاء، وشرفة القصر، وشرفة المال، وشرفات الفرس، وناقة شرافية، والشرافي من الثياب، وأشراف الإنسان، والشرياف، ومشارف الأرض، وأشرف المربا، وشرفه، وشارفه، وتشرف، واستشرفه حقه، إلى غيرها، وكلها تدل على أن المادة من صميم العربية ومن مصاصها، ولكل ذلك مقابلات في لغة الرومان.
وأما اليونان: فيقابل مادة «سرف» أو «شرف»
ΰπεο, ΰπέο “HYPER” ، ومعناها معنى اللاتينية المتقدم ذكرها بلا فرق، ويتركب منها عشرات بل مئات من الألفاظ.
وهي بالهندية الفصحى
UPARI ، وبالزندية
UPARI ، وبالفارسية القديمة «أوباري»، ومثل هذه الكلم أو ما يجانسها يرى في سائر الألسنة السكسونية؛ مما يدل على اتفاق غريب في جميع اللغات، وهي كلها لا تبتدئ بالسين إلا ما كان في العربية أو في اللاتينية أو ما تفرع منهما، فهذه ملاحظة دقيقة يجدر بالباحث أن يحتفظ بها؛ أي إن اللاتينية والمضرية تبتدئان كلمتها بالسين، وبالعربية بالسين أو بالشين أيضا، ولو كان للرومان شين معجمة لجاروا سلفنا باتخاذهم الحرفين المتماثلين، وأما سائر اللغات فتبتدئها بحرف عليل من هذين الحرفين
Y
أو
U
وما تفرع من الأرلندية هو بالفاء أي
F .
وقد قلنا مرارا إن الكلم اليونانية أو اللاتينية المبتدئة بحرف من أحرف العلة عندهم تنظر إلى مثلها في العربية، ويكون الحرف الأول وفي لغتنا حرف حلقي في أغلب الأحيان؛ أي الهمزة، أو الهاء، أو الحاء، أو الخاء، أو العين، أو الغين؛ إذ لا وجود لهذه الحلقيات في لغتهم، وإن وجدت في سابق العهد بنوع مبهم في اليونانية، ثم سقطت مع توالي الدهور، فإذا عرفنا هذه الحقيقة اللغوية اتضح لنا أن ما يقابل اليونانية
HYPER ، هو «عفر» وبالقلب «عرف»، والحق يقال إننا إذا أنعمنا النظر في مشتقات هاتين المادتين نرى فيهما ما يفيد العلو والارتفاع.
من ذلك مشتقات ما ورد في «عفر»: العفر بالفتح: ظاهر التراب (أي وجه الأرض، أو ما كان على وجه الأرض)، ومنه قولهم: كلام لا عفر فيه؛ أي لا عويص فيه، فكأن معناه بين على وجهه أو ظاهره، وقالوا: العفر بالتحريك، ظاهر التراب، ووجه الأرض، ويطلق من باب التوسع على التراب نفسه، والعفر أيضا: السهام وهو شيء دقيق كأدق ما يكون من خيط الإبريسم يطير في الهواء لا سيما في أيام الحر، ويسمى أيضا بمخاط الشيطان، والفرنسيون يسمونه بما معناه «خيط العذراء
FIL DE LA VIERGE ».
و«العفرى» من الديك: ريش عنقه، ومن الإنسان شعر القفا، ومن الدابة: شعر الناصية، والشعرات النابتة في وسط رأس الإنسان.
و«العفر» الخبيث المنكر الذي يفوق سواه بكماله وضبطه لنفسه، وقوته، والنافذ في الأمر المبالغ فيه مع دهاء، كل هذا مأخوذ من معنى العلو والتفوق، ومثل هذا المعنى أو يكاد ترى في العفري، والعفرين، والعفرفرة، والعفرنى، والعفرناة، والعفرنية، والعفرية، والعفريت.
و«العفير»: لحم يجفف على الرمل في الشمس.
و«العفيرة» ما يدحرجه الجعل على الأرض.
و«الأعفر» من الظباء: ما يعلو بياضه حمرة.
و«اليعفور»: ظبي بلون التراب (أي وجه الأرض أو ما علاها)، أو عام، وتضم الياء، والخشف، هذا معظم ما يقال في هذه المادة.
وإذا قلبنا «العفر» قلبا مكانيا، وقلنا «العرف»، نشأ عندنا ما يأتي: «العرف»: موج البحر، وهو ما «تعالى » وارتفع من مائه عند هبوب الرياح، و«العرف» أيضا شعر عنق الفرس؛ أي الشعر النابت على محدب رقبته، و«العرف» أيضا لحمة مستطيلة في أعلى رأس الديك، و«العرف» أيضا: الرمل والمكان «المرتفعان»، و«العرف» من الرملة: «ظهرها» المشرف.
و«العرفاء»: الضبع؛ لكثرة الشعر الذي يعلو رقبتها، وناقة «عرفاء» أي سنامها صار لها كالعرف أو صار على عنقها مثل العرف.
و«العروفة» و«العريف» العالم بالشيء، والتاء في الأول للمبالغة كأن العالم بالشيء يشرف «عليه»، ويعلو سائر الناس بوقوفه «على» موطن أو مقام «أعلى» من أمكنة الخلق عامة و«العريف»: رئيس القوم.
و«الأعراف جمع عرف» وهو على ما في القاموس: سور بين الجنة والنار، ومن الرياح أعاليها، وفي اللسان: «وجبل أعرف، له كالعرف، وعرف الأرض: ما ارتفع منها، والجمع أعراف، وأعراف الرياح والسحاب: أوائلها وأعاليها، واحدها عرف، وحزن أعرف: مرتفع، والأعراف: الحرث
3
الذي يكون على الفلجان
4
والقوائد.»
5
ا.ه.
هذا هو اكتهال العربية، فهل من قائل إن في سائر اللغات مثله؟ اللهم لا؛ فإن هذه المحاسن والبدائع لا ترى إلا في لغة إسماعيل بن إبراهيم خليل الله، ولا عجب بعد هذا إذا رأينا اتصالها بأخواتها أو بنسيباتها؛ لأنها مفتاح كل مغلق مبهم.
وإنك لترى مثل هذه القربى بين هذه اللغة واللغى اليافثية، في كل لفظ تراه فيها؛ أي ذلك اللفظ المركب من هجاء أو هجاءين، وربما لا يتضح معنى الأعجمية إلا بالالتجاء إلى هذه اللسان الحية، وعندي من هذا القبيل ألفاظ جمة، ولو دونتها لملأت مجلدات من هذا الحجم والقدر، وأنا أذكر هنا شاهدا واحدا ليكون مثالا لما أريد أن أثبته.
هذه اليونانية:
ϊχοιον “IKRION”
معناها الخشبة، أو عود طويل مستعرض، أو ذاهب في العرض، وعود الشراع أو الدقل، ثم أطلقوه على بناية من خشب، والمنصة والأرض المفروشة بالخشب والمتلمظة، والسلوقية في السفينة، والمقاعد في المسارح، وقد اختلف فقهاؤهم في اللغة على أصل الكلمة الذي أخرج لهم هذه المعاني مما ذكرناه ومما لم نذكره، فإن الأستاذ بوازاق طعن في كل ما ذكر له من تلك الأصول، وأما أ. بابي فلم يجزم بأصل، ولم يعن على بال الجميع ما ورد في العربية.
فعندنا أن «إقريون»، إذا جردناها من زوائدها: الياء والنون أي
IN
يبقى بيدنا «قريو» الذي يوافقه في لساننا «قري»، أو «قرية»، في التأنيث، والقرية، على ما في القاموس، «كغنية: العصا، وأعواد فيها فرض يجعل فيها رأس عود البيت، وعود الشراع الذي في عرضه من أعلاه، أو في أعلى الهودج.» قلنا وهذه كلها اسمها أيضا في اليونانية «إقريون»، فهي مشتقة من القري أو القرى وهو الجمع، فإنه لا يخفى وجوده في جميع هذه المعاني التي عددناها، فهذا هو فضل هذه اللغة، ونحن لا نريد أن نطلق العنان في هذه الحلبة، لكي لا نحرج الصدور، ونثير البرم في النفوس. (2) المشابهة هي غير الاشتقاق، وقد تدعو إلى الاشتباه مرة، وإلى التجانس مرة أخرى
مما أوقع كثيرين في مهاوي الأضاليل، وساق جماعات من مشاهير العلماء إلى وهاد الأوهام، المشابهة بين ألفاظ وألفاظ، فإن أصابوها قالوا: هذه من تلك، وما هناك على الحقيقة إلا شبهات وظواهر كاذبة، وقد قال ابن جني في هذا الموضوع ما هذا صورته: «ليس سلمان من سلمى، كسكران من سكرى، ألا ترى أن فعلان الذي يقابله فعلى؛ إنما بابه الصفة، كغضبان، وغضبى، وعطشان وعطشى؛ وليس سلمان وسلمى بصفتين ولا نكرتين؛ وإنما سلمان من سلمى كقحطان من قحطى، وليلان من ليلى، غير أنهما من لفظ واحد، فتلاقيا في عرض اللغة من غير قصد ولا إيثار لتقاودهما، ألا ترى أنك لا تقول: هذا رجل سلمان، ولا هذه امرأة سلمى، كما تقول: هذا رجل سكران، وهذه امرأة سكرى؛ وهذا رجل غضبان، وهذه امرأة غضبى؛ وكذلك لو جاء في العلم ليلان، لكان من ليلى كسلمان من سلمى.» ا.ه .كلامه.
وأحسن دليل على أن التشابه في الظاهر لا يدل على الاشتقاق أن السلف أدخل في كلامه شيئا من كلام الأعاجم وصاغوه صيغة واحدة مع أن الأصول في كلام الأجانب مختلفة عن أصولنا، مثال ذلك: «الترتور» قال المجد الفيروزآبادي: «الترتور: الجلواز وطائر.» ا.ه. فإذا كان بمعنى الجلواز فهو من اللاتينية
TORTOR, ORIS
المأخوذ من
TORTARE ، وهذا من
TORQUERE ؛ أي أدار على نفسه، وأمال ولوى، وألوى وأحنى، وعذب، فيكون معنى الترتور للجلواز: المعذب في أصل معناه الموضوع له في أول الأمر، وقد صحفه اللغويون بصور تختلف بين ثرثور (بثاءين مثلثتين، وزان عصفور الشهير) وتؤرور (بمثناة فوقية فهمزة)، ويؤرور (بمثناة تحتية فهمزة)، والأترور، ولعل هناك غيرها ونحن نجهلها، والمادة اللاتينية التي أخذت منها «الترتور» يقابلها عندنا: «طرق يطرق طرقا» أي ضرب، أو بمطرقة أو صك، وكل ذلك يوافق ما في العجمية، ويقابلها في اليونانية
τοέπω .
وأما «الترتور» بالمعنى الثاني أي بمعنى «طائر»، فأول عيب هذا التعريف أنهم لم يحلوا لنا هذا الطائر، ولا قدره، ولا شكله، ولا جنسه، فيصعب على الباحث أن يعرف حقيقته لولا وقوفه على لفظته الأعجمية وهي
TURTUR
ومعناها: «الصلصل»، ونظن أن كلا من «ترتور» و«صلصل» مأخوذ من حكاية صوت هذا الطائر المحبوب من الجميع، فبعضهم خيل إليهم أنه يقول: «ترتور» وآخرون أنه يقول: «صلصل»، كما أن العراقيين يتوهمون أنه يقول: «كو كوووووكو»، والحقيقة أن لكل جنس من أجناس هذه الصلاصل حكاية صوت تختلف عن حكاية الجنس الآخر، أو الضرب الآخر، واسمه بالفرنسية
TOURTERELLE ، وبالإنجليزية
TURTLE-DOVE ، وبالألمانية
TURTELTAUBE ، وبالأرمنية
TATRAK .
ومن الغريب أن اللسان مع ضخامته لم يذكر «الترتور»، بل «الصلصل» فقط.
ومن هذا القبيل «البال»، ولها معان عدة؛ منها: «الخاطر، والحوت العظيم، والمر الذي يعتمل به في أرض الزرع، وبهاء «أي البالة»، القارورة، والجراب، ووعاء الطيب.» ا.ه. عن القاموس. «فالبال» بمعنى الخاطر عربي صرف.
و«البال» بمعنى الحوت العظيم، ينظر إلى
BALAENA
اللاتينية أو
φάλαινα
الهلنية.
و«البال» بمعنى المر، قديم في اللغة الفارسية، ولعلها من لغة بابلية قديمة.
6
وهي باللاتينية
، وقد ذكر لها اللغوي الألماني أ. والدي
A. WALDE
أصولا غريبة، فلتراجع عند الاحتياج إليها.
وأما «البالة» بهاء في الآخر، بمعنى القارورة فتنظر إلى الإغريقية
φιάλη ، وقد نقلها الرومان إلى
، ويقال فيها أيضا بالإغريقية:
φιέλη . قال بوازاق العلامة البلجكي إن معناها الأول كان القدر، وبرنية الموتى، ثم نقل بعد العهد الهومري إلى معنى القارورة.
و«البالة» بمعنى الجراب تنظر إلى اليونانية
πήοα ، ومنها الرومية
. قال بوازاق: الأصل المجهول، قلنا البال بمعنى الجراب ووعاء الطيب تنظر إلى الفارسية «بيله» بباء مثلثة تحتية مكسورة، يليها ياء مثناة تحتية ساكنة فلام مفتوحة، فهاء ساكنة.
فلا جرم أن في لغتنا مئات من الحروف لا تكون فيها المشابهة مأخوذة من الاشتقاق، بل من أصل آخر، وأحسن دليل بين أيدينا «الأضداد»، فإنك ترى المشابهة والمجانسة بين اللفظين، لكن المعنى قد يختلف، فيكون بضد ما يرى في الظاهر.
وقد يقع عكس هذا الأمر؛ أي قد يقع بعض الاختلاف في الصورة الظاهرة، إلا أن في المعاني تقاربا وتدانيا وتلامسا وتماسكا، وذلك لتجانس يرى في الحروف. (3) التشابه والتجانس في اللفظ والمعنى
قد قلنا إن المشابهة بين الألفاظ ربما باعدت المعاني بعضها عن بعض، حتى غدا الواحد ضدا للآخر؛ لكن قد تقع المشابهة في اللفظ والمعنى لتجانس الحروف بعضها لبعض، وقد انتبه الأقدمون لذلك وذكروها في تآليفهم وأسفارهم، قال السيد الزبيدي في شرحه لمادة «ف ل ح»: «الفلح الشق والقطع. قال شيخنا: الفلح وما يشاركه كالفلق، والفلد، والفلذ، ونحو ذلك، يدل على الشق والفتح، كما في الكشاف، وصرح به الراغب وغيره، وهو بناء على ما عليه قدماء أهل اللغة من أن المشاركة في أكثر الحروف اشتقاق يدور عليه معنى المادة، فيتحد أصل معناها ويتغاير في بعض الوجوه، كما هو صنيع صاحب التهذيب والعين وغيرها.» ا.ه.
ومن قبيل التشابه بين اللفظ والمعنى قولهم: المح، بضم الميم وشد الحاء المهملة، وهو الخالص من كل شيء، ويقرب منه لفظا بزيادة طفيفة قولهم: محت «وتقلب فيقال» حتم «وتبدل الميم باء فيقال:» بحت، ومحت، إذا فخم: قيل: محض، ويزاد على بحت حرفان فيقال: بحريت، ثم يزاد فيه حرف ويقلب فيقال: حنبريت، وتقلب ميم محت لاما، فيقال: لحت أو تقلب نونا فيقال : نحت، ويقع قلب وإبدال في لحت فيقال: حتد، ولم يخرج في كل هذا عن معنى الخالص. زد على ذلك تحمت لونه أي صار خالصا.
ويقال في مح: مص، ومنه المصاص الذي هو خالص كل شيء، ومثله: المصامص، ويقال في المصاص: المضاض أيضا أي بالضاد.
ويقارب «مص» مخرجا «نص» ومنه: الناصح والناصع والناطع والماطع والناعج، وكلها بمعنى الخالص، مع بعض تخصيصات وضعت بعد التعميم بأزمان متطاولة.
ويقال في مح: قح وكح.
ويعكس «مص» فيصير «صم»، ومنه: الصميم والصهميم وكلها بمعنى الخالص.
ومن الغريب أن الخالص نفسه يقابله عند اليونان مبنى ومعنى:
χάλις, ιχος “KHALIS, IKOS” ، ويريدون به الخمر الخالص؛ لكنهم لا يعلمون من أين جاءتهم أصول هذه الكلمة، أفنظلمهم إن قلنا إنها عربية محضة، قال بوازاق: «ومثله في اللغة المقدونية “KALITHOS” χάλιΰος ، لكن بوجود
ΰ
TH
في هذه اللغة المقدونية صعوبة.»
قلنا إننا لا نجد صعوبة؛ لأن الحرف اليوناني المذكور يقابله في لغتنا الطاء أو الثاء، وكلتا اللغتين معروفة في لساننا، فإن كانت تقابل الطاء فقد جاء عندنا: أملصت الناقة وأملطت: إذا ألقت ولدها ولم يشعر. واعتاصت رحمها واعتاطت: إذا لم تحمل أعواما، ويقال: صرفه أو طرفه عن كذا بمعنى واحد.
أما إذا كان الحرف اليوناني يقابل الثاء المثلثة عندنا، ففي لغتنا أيضا أمثلة، من ذلك: الثبرة بالضم، كالصبرة، والحصحص، بالكسر، كالكثكث للتراب، وسير حصحاص، كسير حثحاث؛ أي سريع، إلى نظائرها، فبعد هذا لا نرى فرقا بين الكلمتين العربيتين والكلمتين اليونانيتين؛ إذ المعنى واحد.
وألفاظ «الخالص» لا تنتهي فيما ذكرناه من المترادفات، فثم غيرها، وهي كثيرة، كقولهم: صرح، وصريح، وصراح، وصرد، وصرف، وصاف، ومثل صريح قريح بالمعنى نفسه.
ويستعمل اللاتين كم
CUM ، ومعناها «مع» للدلالة على ما يدل «الجمع»، وما «كم
CUM » إلا معكوس «مك» المقابل لأداتنا «مع»، وذلك أن ليس للغربيين الحرف «عين»، فيحارون في نقله إلى لغتهم، وقد نقلوه هنا إلى الكاف، فقالوا كم
CUM
وهذا النقل، نقل العين إلى الكاف، كان العرب يفعلونه أيضا إذا ما استثقلوا الحرف الحلقي المذكور، فقد قالوا: اعلندى البعير واكلندى أي غلظ، وعبله وكبله أي حبسه، والأعمه والأكمه، وباع الشيء كباكه، إلى ما يضارعها وهي كثيرة أيضا.
وإذا علمت أن
CUM
هي مثل «مع»، جاءك سيل من الألفاظ مركب منها في اللاتينية، وكذلك في العربية؛ لأن «كم» الرومية تشبه «جم» العربية، فحينئذ ترى كلما تتدفق عليك وهي مركبة من «جم»، وكلما أخر تتدفق عليك، وهي مركبة من «مع»، فتدهش مما ترى من جماعات تلك الألفاظ التي تفيض عليك من كل حدب وصوب. (4) أمثلة ما يبتدئ بالجيم والميم للدلالة على الجمع
وأول كل شيء مادة «ج م م» كلها، ففي مشتقاتها الكثيرة العدد ما يكفي الباحث الإمعان في الطلب؛ إذ فيها وحدها مجزأة.
ويقاربها كثرة، بل ربما زادت عليها بكثير، ما ورد في مادة «جمع»، ودونها «جمل» في عدد فروعها وشعبها؛ لكنها جمة العدد وفرته أيضا، ومن المواد العجيبة الفروع مادة «جمد» و«جمر» و«جمس».
وهناك الزيادة على الثلاثي زيادة تشبه الأصلية، غير الزيادات الاشتقاقية المعهودة، بل زيادات معنوية، من رباعية، وخماسية، مثل الجمهرة، والجمهور، والجمعور، والجمعد، والجمثورة، والجمجمة، والجمعلة، إلى غيرها، وهي لا تحصى كثرة، وقد تقلب «جم» فتصير «مج»، وينشأ منها ألفاظ عدة؛ منها: مجدت الإبل تمجد مجدا ومجودا: وقعت في مرعى كثير، أو نالت من الخلى قريبا من الشبع، ومجد تمجيدا وأمجده إمجادا: عظمه وأثنى عليه، ونسبه إلى المجد، ومجرت الشاة مجرا: عظم ولدها في بطنها فهي ممجر، ومثل مجرت: أمجرت، ومجع فلان مجعا: أكل التمر اليابس باللبن معا، أو: أكل التمر وشرب عليه اللبن، ومجلت يده تمجل مجلا ومجولا، ومجلت تمجل مجلا: نفطت من العمل، فمرنت، والحافر نكبته الحجارة، فبرئ وصلب، أو المجل: أن يكون بين الجلد واللحم ماء من كثرة العمل، أو المجلة: قشرة رقيقة يجتمع فيها ماء من أثر العمل.
ومجن الشيء يمجن مجونا: صلب وغلظ.
أمثلة ما يبتدئ بالجيم والعين للدلالة على الجمع أيضا:
يجوز لك أن تنظر إلى «الجمع» نظرتين، فإما أن تعتبر الحرفين الأولين من «الجمع» أصليين ثم زيدت عليهما العين، وإما أن تعتبر الجيم في الأول زائدة والحرفين التاليين أصليين، فيكون بين يديك «جم» في الأول، و«مع» في الثاني، وكلاهما يفيد الجمع.
وأمثلة ما جاء في أوله «مع» قليل؛ لأن الناس تستثقل العين في الكلام، ولهذا نزعها الغربيون من كلامهم نزعا باتا لا عودة إليها، ومع ذلك فعندنا ألفاظ تبتدئ بالحرفين المذكورين كقولهم:
معث الشيء يمعثه معثا: دلكه، ولا يكون إلا بجمع أجزائه تحت اليد.
معج يمعج معجا: أسرع في السير ويكون بجمع قواه.
معد الشيء يمعده معدا: اختلسه، والجمع فيه ظاهر.
معز الشيء يمعز معزا: صلب فهو معز وماعز، والرجل كثرت معزاه.
معس الشيء: يمعسه معسا: دلكه دلكا شديدا.
معش الشيء: يمعشه معشا: دلكه دلكا رفيقا.
معص الرجل يمعص معصا: كان به معص، والمعص: التواء في عصب الرجل، كأنه يقصر عصبه فتتعوج قدمه، ثم يسويه بيده، أو خاص بالرجل، ووجع في العصب من كثرة المشي.
معك الشيء في التراب يمعكه معكا: دلكه به، أو يستعمل في غير التراب، وإبل معكى: كثيرة، والمعكاة: الإبل الغلاظ السمان.
معكوكاء، يقال: وقعوا في معكوكاء، ويضم؛ أي في عبار وجلبة وشر، ومعكوكة الماء: كثرته.
معل الشيء يمعله معلا: اختطفه واختلسه، وفلان: أسرع في سيره.
المعلط: الرجل الشديد.
معمع فلان: أكثر من قول «مع»، ومعمع القوم: قاتلوا شديدا. والمعامع الحروب، والفتن، والعظائم، وميل بعض الناس على بعض، وتظالمهم، وتحزبهم أحزابا لوقوع العصبية. قال في النهاية: ومنه الحديث: «لا تهلك أمتي، حتى يكون بينهم التمايل، والتمايز، والمعامع»، وهي شدة الحرب، والجد في القتال. والمعمع: المرأة التي أمرها مجمع، لا تعطي أحدا من مالها شيئا.
معن الفرس معنا: تباعد في عدوه، ومعن النبت يمعن معنا: روي وبلغ.
وهذه الأمثلة كافية للدلالة على أن مركبات «مع» تفيد معنى الاجتماع، وكفى بها دليلا.
وقد تقلب «مع» فتصير «عم» فيتولد منها ألفاظ جمة؛ من ذلك:
عمت الصوف يعمته عمتا: لفه مستديرا ليجعل في اليد فيغزل.
عمج الرجل يعمج عمجا: أسرع في السير وسبح في الماء.
عمد السقف يعمده عمدا: أقامه بعماد ودعمه، وهو عمد الثرى: كثير المعروف.
عمر المنزل بأهله يعمر عمرا: كان مسكونا بهم، والمكان أهله: سكنوه وأقاموا به، وعمر فلان الدار: بناها، وعمر الرجل، يعمر ويعمر عمرا وعمرا وعمارة بقي زمانا طويلا، وعمر الله منزل فلان عمارة: جعله آهلا، وعمر المال عمارة: صار عامرا؛ أي كثيرا وافرا، وهذه المادة واسعة الآفاق، منبسطة الميادين، وأغلب ما في معانيها وفروعها: الجمع، والكثرة، والوفرة، وما ضاهاها.
عمس يومنا: يعمس، وعمس يعمس عمسا وعمسا وعموسا وعماسة: اشتد واسود وأظلم، وعامس فلان فلانا: ساتره ولم يجاهره بالعداوة.
عمعم الرجل: كثر جيشه بعد قلة.
عمل الرجل يعمل عملا: مهن، وصنع، وفعل، وفي الكليات لأبي البقاء: العمل يعم أفعال القلوب والجوارح، و«عمل»، لما كان مع امتداد زمان، نحو:
يعملون له ما يشاء ، و«فعل» بخلافه، نحو:
ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ، والعمل لا يقال إلا فيما كان عن فكر وروية، ولهذا قرن بالعلم، حتى قال بعض الأدباء: قلب لفظ «العمل» عن لفظ «العلم»؛ تنبيها على أنه من مقتضاه. والتركيب واسع المدى والفضاء.
عملس في السير عملسة: أسرع.
قرب عمليص: شديد متعب.
العملط، بفتح العين والميم، وتشديد اللام المفتوحة، والعملط بالضم، وتشديد الميم المفتوحة، وكسر اللام: الشديد القوي على السفر.
عم: هذه المادة واسعة كثيرة الشعب والمشتقات وكلها تدل على الجمع، فقد قالوا: عم الشيء يعم عموما: شمل الجماعة، فهو عام، وكذا المطر الأرض أي شملها، وعم القوم بالعطية: شملهم، وعم رأسه عما، على صيغة المجهول، لفت عليه العمامة، إلى آخر ما هناك، ولا حاجة لنا للتبسط في هذا التركيب أكثر من هذا.
والعمهج والعماهج: الممتلئ لحما وشحما، والأخضر الملتف من النبات، والعمهوج: الممتلئ لحما وشحما.
العميدر: الغلام الناعم البدن الكثير المال.
العميثل من كل شيء: البطيء لعظمه وترهله، والضخم الشديد العريض، والعميثلة: الناقة الجسيمة.
تذييل في أصل الحواري
في سنة 1884 كنا قد قرأنا مقالة في إحدى الصحف العربية، يقول فيها صاحبها إنه طالع كتابا في الألمانية يذهب صاحبه إلى أن «الحواري» من أصل حبشي معناه «الرسول »، والناقل يستحسن هذا الرأي، ويفضله على ما ذهب إليه لغويو العرب القائلون بأنه من مادة عربية، وإن اختلفوا في تأويل اللفظة ، فكتبنا حينئذ مقالا في السنة نفسها، ونشرناه في إحدى الجرائد، ولا نتذكر أكان ذلك في «الجوائب»، أم «البشير»، أم «الجنان»، أم في جريدة أخرى؛ إذ كل ذلك بعيد عنا اليوم، ولا يبدو لنا إلا كالسواد البعيد عن البصر، ويصعب علينا التثبت منه، وكان ذلك في ريعان الشباب، وهذا ملخصه: لا يمكن أن العرب أخذوا هذا اللفظ عن الحبش، لأسباب ذكرناها في وقتها، إلا أننا نتذكر منها اليوم شيئا، ونظن أن الأب لويس شيخو اليسوعي، أو غيره أخذ بهذا الرأي؛ أي برأي أن الحواري مأخوذ من الحبشية، ونحن لا نوافق على هذا الرأي لأسباب؛ منها: (1)
أن النصرانية اتصلت بالعرب قبل أن تتصل بالحبشان، ودليلنا على ذلك ذهاب القديس بولس إلى موطن من مواطن العرب؛ ولا جرم أنه وعظ الناس وبشرهم بالمسيح. (2)
بعد أن حل الروح القدس على الرسل، وأخذوا يبشرون بالسيد يسوع، كان هناك أناس يسمعونهم يتكلمون بألسنتهم وكان بينهم عرب. (3)
إذا قابلنا بين قدم العربية والحبشية، لم نجد هذه أقدم من تلك، وليس لنا أدنى دليل على ذلك. (4)
أن الحبش تلقوا أصول النصرانية عن قديس ما كان يحسن إلا اليونانية، وأغلب المصطلحات الدينية الموجودة في الحبشية يونانية الأصل، وفي الكلمة «الحواري» حاء، وهو غير موجود في الهلنية إلا مبدئيا. (5)
أن أصول الكلم الحبشية والعربية تكاد تكون واحدة بتغيير طفيف لا يعتد به، فلماذا يعزى ذلك المعنى إلى الحبشية ولا يعزى إلى المضرية وهي أولى به؟
فهذه أدلة تبين استحسان الأصل العربي، وتستهجن الأصل الحبشي، لكنها ليست بالجازمة الجزم البات، ولهذا يحسن بنا أن ندرس المسألة درسا لغويا وهو الحكم في هذا الأمر، وقبل أن نأتي بما عندنا من هذا القبيل أردنا أن نجدد الذكرى بأول من ذهب إلى حبشية اللفظ، وفي أي وقت كان، وكيف أولت الكلمة؟ فالتجأنا إلى علم ثلاثة من كبار المستشرقين الغربيين أصدقائنا وهم: الدكتور فيشر ، والدكتور لتمان، وهما ألمانيان، والأستاذ ميكلانجلو وهو إيطالي، فاستفتينا كل واحد منهم بكتاب خاص، وكتبنا إليهم رأينا في أن الكلمة من أصل عربي نقل إلى اليونانية، ومن اليونانية إلى الحبشية «الجعزية»، ودونك معظم جواب الدكتور أ. فيشر:
أول من ذهب إلى أن الحواري من أصل حبشي هو العلامة الألماني الجليل «لودلف»
LUDOLF
في نحو آخر المائة السابعة عشرة للميلاد؛ إذ قال إنها من «حواريا» ومعناها: الرسول أو الفيج
MESSAGER ، وأظن أن جميع المستعربين تابعوا رأيه، والأصل «حار، يحور» معناه «ذهب» وهو فعل مألوف في الجعزية، والأصل الذي تشير إليه بديع كجميع الأصول التي تذكرها، وأظن أنا أيضا أن أصل الحواري سامي أيضا.
وقد نشر ث. نولدكي في كتابه الموسوم:
NEUE BEITRAEGE ZUR SEMITISCHEN SPRACHWISSENSCHAFT “STRASBURG 1910”
فصلا ذكر فيه الألفاظ المستعارة من الحبشية، وبينهن الحواري، ولعلك تراجعها في كتابه في ص48، وتجد الكتاب في حجرتي التي أشتغل فيها في مجمع اللغة، ومعاوني يسر باطلاعك عليها ... ا.ه.
أ. فيشر
A. FISCHER
ودونك الآن ما جاء في جواب الدكتور إنو لتمان:
تلقيت كتابك المؤرخ في 8 أيار (مايو) فأسرع بجوابي إليك
إن الكلمة الحبشية «حواري» و«حواريا» تعني: مسافر، ومشاء، وساع، و«حواريا» أيضا هي الكلمة المألوفة للرسل، وكان لودلف أول من عارض هذه الكلمة بالحواري العربية، وذلك في المائة السابعة عشرة، وآخر من قال بهذا الأصل هو على ظني الأستاذ نولدكي في كتابه:
Neue Beitraege zur Semitischen Sprachwissenschaft. P48 .
وقد ذكر نولدكي طائفة من الكلم الحبشية المعربة (من ص46-59)، ولا شك في أن كثيرا من الكلم الحبشية أخذت من اليونانية والعربية.
هذا، وأتوقع أن صحتك حسنة، وأهنئك بهذا السعي الذي لا يعرف الملل؛ حبا للعلم ...
إنو لتمان
ENNO LITTMANN
توبنجن في 16 مايو 1938
وهذا جواب الأستاذ ميكلانجو غويدي.
رومة في 2 حزيران (يونيو) 1938
أبدأ كلامي بأن أعتذر إليك لتأخري بالجواب، ولغيابي عن رومة، ثم أقول إن أول من ذهب إلى أن «حواري» تعود إلى أصل حبشي هو لودلف، ومعناه: الرسول، ونولدكي في كتابه
Neue Beitraege zur Semitischen Sprachwissenschaft. “Strasburg 1910. p. 48”
توسع في هذه الفكرة، ولا أظن أن والدي تعرض لهذا الموضوع، فإنه لم يذكر كلمة عنه في كتابه «ديار العرب في الجاهلية»، ولا في «مباحث القاهرة» على ما أتذكر.
وأرى أن الأصل الذي ذكره لودلف ونلدكي هو الحق، ولا سيما لما بين «حار» العربية والحبشية من المشابهة، أما أنها من
ίεοεύς ، فإني أقر لك بأني غير مقتنع بها، وفي الختام ...
ميكلانجيلو غويدي
MICHELANGELO GUIDI
فهذه هي الأجوبة الثلاثة التي تلقيناها من الأصدقاء المحترمين من الواقفين على اللغة الحبشية «الجعزية»، ونحن الآن نبدي رأينا في أننا غير محتاجين إلى هذه اللغة.
وأول كل شيء أن العلماء القائلين بحبشية «الحواري» ذهبوا إلى أنها مأخوذة من مادة «ح ا ر» أو «ح و ر» ومعناها: ذهب، أو راح وجاء، وهذا موجود في العربية في الفعل المذكور، فقد قالوا: «المحارة» وهي المكان الذي يحور أو يحار فيه أي يذهب أو يجاء فيه، وقالوا: «المحور» وهي الحديدة التي تدور عليها البكرة ذهابا وإيابا. وقالوا: طحنت فما «أحارت» شيئا أي ما ردت شيئا من الدقيق، والاسم منه «الحور»، ومعلوم أن الطحن لا يكون إلا بحركة يذهب بها البر ويجيء، حتى يحصل الدقيق من تلك الحركة، على أن في مادة «ح و ر» معنى مقدسا.
فالأحور عند العرب: كوكب، أو هو المشتري، والعقل (القاموس)، ومعلوم أن المشتري هو رب السماء، أو سيد أهل السماء، عند أصحاب الخرافات اليونانية والرومانية، وربما كان ذلك أيضا عند قدماء العرب، ثم أطلقه أبناء إسماعيل على العقل؛ لأنه أقدس ما في المرء، ويحكم على جميع قواه الباطنية والخارجية.
و«الحائر» و«الحيراء»: كربلاء وهو من المواطن المقدسة منذ أقدم العهد عند البابليين، وهو كذلك إلى عهدنا هذا عند الإمامية الشيعة.
و«الحيرة» من مدن العراق المقدسة منذ قديم الزمان أيضا، ويدعي الإرميون أنها من «حيرتا» في لغتهم؛ أي الحظيرة، وقولتهم هذه مبنية على مجانسة في اللفظ، وكم خدعت المجانسة علماء وأئمة!
و«الحير»: شبه الحظيرة أو الحمى، وأنت أدرى مني بأن الحمى هو كل ما يحميه الرجل، ويعتبره العرب اعتبار النصارى الشيء المقدس، ولهذا جاء في الحديث: «لا حمى إلا لله ورسوله»، وكانت الأحيار والأحماء في عهد الأقيال تسمى «محاجر»، ومفردها: محجر كمجلس، أو محجر كمنبر، ويؤخذ من اشتقاقها أنها كانت ممنوعة على الناس ومحفوظة للأقيال كما لو كانت مقدسة.
وقالوا: «لا آتيه «حيري الدهر»، مشددة الآخر، وتكسر الحاء، و«حيري دهر»، ساكنة الآخر، وتنصب مخففة (أي حيري دهر)، و«حاري دهر»، و«حير دهر»، كعنب؛ أي مدة الدهر» ا.ه. (القاموس).
وأنت خبير أن الدهر مقدس في نظر الحنفاء؛ فقد جاء في لسان العرب في مادة «د ه ر»: «فأما قوله
صلى الله عليه وسلم : «لا تسبوا الدهر؛ فإن الله هو الدهر.» فمعناه: أن ما أصابك من الدهر، فالله فاعله، ليس الدهر، فإذا شتمت به الدهر، فكأنك أردت به الله. الجوهري: لأنهم كانوا يضيفون النوازل إلى الدهر، فقيل لهم: لا تسبوا فاعل ذلك بكم، فإن ذلك هو الله تعالى.» ا.ه. المراد من نقله.
إذن معنى قول الناطقين بالضاد: لا آتيه حيري الدهر «وسائر لغاتها» لا آتيه ما دام هناك شيء مقدسا، أو محميا، أو مدافعا عنه.
ولا فرق بين «ح ور»، و«ح ي ر»؛ لأن الواو والياء تتبادلان، ولأن أصل التركيب هو «ح ر»، وقد تقلب الحاء خاء معجمة، ومنه «خير» كل شيء بمعنى «حر» كل شيء أي أصلحه.
كما أن الحاء قد تقلب جيما، والمعنى يبقى على أصله الذي وضع عليه في أول الأمر، فأصل «جيرون» و«جرابلس»: «حيرون» و«حرابلس» أي الهيكل المقدس والمدينة المقدسة، ونحو ذلك وقع في الفرنسية، فإن العالم الروماني
HIERONYMUS
صار
JEROME ، فأين هيرونمس من جيروم؟
وقد تكسع المادة الأولى؛ أي «ح ر» بميم، فينشأ منها «الحرم» و«الحرام»، ومعناهما المكان المقدس.
وقد تصدر المادة الأولى المذكورة بسين، فينشأ منها «السحر»، وكان الكهنة الأقدمون يزاولون السحر في معابدهم ومناسكهم، فكانت كلمة «الساحر» و«الكاهن»، مترادفتين عند بعض الأقوام الأقدمين، فالمجوس كانوا عند الفرس كهنة، وعلماء، ومنجمين، وسحرة، ومعالجين للعلوم الغامضة على العوام.
وربما صدروا المادة «ح ر» بالنون فقالوا: «النحر»، والتعليل الذي ذكره اللغويون لا يقنع الطفل ، فكيف الرجل والكهل، فقد قالوا: «النحر والنحرير، بكسرهما: الحاذق، الماهر، العاقل، المجرب، المتقن، الفطن، البصير بكل شيء؛ لأنه «ينحر العلم نحرا»» (القاموس).
وربما جعلت الحاء قافا أو عينا، فقد قالوا: «حيدحور»، أو «قور» أو «عور»، وهو جبل باليمن فيه كهف يتعلم فيه السحر (القاموس في حور) وأنت تدري أن الحيد هو المكان الشاخص في الجبل كأنه جناح، أو كل نتو في جبل، فالظاهر أنه كان في ذلك الحيد كهف يختلف إليه بعضهم ليتعلموا السحر، فالحور جمع حائر، اسم فاعل من حار يحور، وهم الذين كانوا يروحون ويغدون للأمور الخفية أو الغامضة، وسائر التصحيفات من «قور» و«عور»، هي من نتاج لغاتهم بموجب قبائلهم، وإذا اختلفت الكلمة في لغاتها دلت على قدمها وتعاورها بينهم.
أما إذا اعتبرت المادة الأصلية في الحواري «ح ر» على ما يجب أن تكون كل كلمة في أول وضعها، ثم حشيت «واوا» كما تقدم، أو حشيت «ياء» من باب التناوب، فهذا أيضا تقره العربية، فقد ورد في اللغة: حار الماء: تردد؛ أي راح وجاء، وما الماء هنا إلا للتمثيل والتنظير، ووظيفة الرسول التردد أي الذهاب والمجيء، فالعربية تؤدي إلى المعنى المطلوب أحسن من الحبشية بكثير، فلينصف الباحث.
ومعلوم أنك إن قدرت الأصل «حور»، فهو وال «حبر» شيء واحد، وهذا واضح جلي في لغة اليونان، فإنهم يقرءون الباء واوا، وكذلك الفرس، فإنهم يكتبون مثلا «آب» ويقرءونها «آو»، ويكتبون «زهاب» ويقرءونها «زهاو»، وهي اسم مدينة في إيران، ومنها اسم الزهاوي، وكذلك كان الأمر عند بعض قبائل العرب؛ فإنهم كانوا يجعلون الباء واوا، وكان آخرون يعكسون الأمر، مثال ذلك: البؤرة والوؤرة، لموقد النار، والشعوذة والشعبذة، لأخذ السحر، والواشق كالباشق، وجارية بكباكة ووكواكة، والبزمة والوزمة من الطعام، وقال أبو سعيد: يقال: ما له حبربر ولا حورور، إلى غيرها وهي كثيرة.
وعلى هذا المبدأ يكون الحبر من «الحور»، وقد جاء الحبر في لغتنا بعدة معان؛ منها ما ذكرها صاحب لسان العرب: «ابن سيده ... الحبر والحبر: العالم، ذميا كان أو مسلما، بعد أن يكون من أهل الكتاب ... وسأل عبد الله بن سلام كعبا عن الحبر، فقال: هو الرجل الصالح، وجمعه: أحبار وحبور ... قال أبو عبيد: وأما الأحبار والرهبان، فإن الفقهاء قد اختلفوا فيهم، فبعضهم يقول: «حبر»، وبعضهم يقول: «حبر»، وقال الفراء: إنما هو حبر بالكسر، وهو أفصح؛ لأنه يجمع على أفعال، دون فعل، ويقال ذلك للعالم، وإنما قيل: «كعب الحبر» لمكان هذا الحبر الذي يكتب به؛ وذلك لأنه كان صاحب كتب، قال: وقال الأصمعي: لا أدري أهو الحبر أو الحبر للرجل العالم، قال أبو عبيد: والذي عندي: أنه الحبر، بالفتح، ومعناه: العالم بتحبير الكلام، والعلم، وتحسينه، قال: وهكذا يرويه المحدثون كلهم بالفتح.
وكان أبو الهيثم يقول: واحد الأحبار: حبر «بالفتح» لا غير، وينكر الحبر «بالكسر»، وقال ابن الأعرابي: حبر وحبر للعالم، ومثله: بزر وبزر، وسجف وسجف. الجوهري: الحبر والحبر: واحد أحبار اليهود، وبالكسر أفصح، ورجل حبر نبر، وقال الشماخ:
كما خط عبرانية بيمينه
بتيماء حبر ثم عرض أسطرا
رواه بالفتح لا غير، قال أبو عبيد: هو الحبر، بالفتح، ومعناه العالم بتحبير الكلام، وفي الحديث: سميت سورة المائدة: المائدة وسورة الأحبار؛ لقوله تعالى فيها:
يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار ، وهم العلماء، جمع حبر وحبر، بالكسر والفتح.
وكان يقال لابن عباس: الحبر والبحر؛ لعلمه.» ا.ه. المقصود من إيراده، وقد توخينا إيراد النصوص على طولها لما فيها من الفوائد الجليلة؛ إذ تبنى عليه حقائق بديعة.
ففي مادة «ح ب ر» من الإرمية: «حبر» ومعناها: أخذ تأخيذا، وسحر سحرا، ورقى رقيا، وعزم تعزيما، وعندهم «حبارا» العراف والمؤخذ والساحر والعراف والحواء والرقاء والمعزم، ومثل المعاني العربية يرى في العبرية.
على أن المعنى الحقيقي الأول للحبر هو العالم الرباني، أو القدسي أو القسيس، بموجب عبارتنا النصرانية، أو الكاهن بحسب التعبير العام عند غير النصارى.
ومنه أخذت اليونانية
ίεοεύς, έως “hiereus, eos” ، والدليل على أن اليونانية من العربية أن الهلنية تبتدئ بحرف عليه علامة حلق؛ أي علامة تفخيم، وبالفرنسية
ESPRIT RUDE ، ثم إن معنى العربية والإغريقية واحد، وإن قيل لنا كيف أن اليونان أخذوا اللفظة عن العرب؟ نقول لا عجب، ألم يأخذوا ألفاظا يقر الهلنيون إقرارا صريحا بأنهم أخذوها من الناطقين بالضاد كالبان، والسنا ، والمر، وغيرها، فهذه من تلك.
زد على ذلك أن لليونانيين كلمة تعني البازي أو الصقر وهي “HIERAX, AKOS” ίεοαξ, αχος ، وهي «الحر» بالعربية بضم الحاء وتشديد الراء، فكأن هذا الاختلاف الموجود عند اليونانيين ناشئ من الاختلاف الموجود عند بني مضر (راجع معجم بوازاق باليونانية ومعجم الفيروزآبادي تر العجب)، فهل بعد هذا الدليل دليل أقوى؟
والذي حمل العرب على أن يروا في «الحبر» العالم بتحبير الكلام أنهم خلطوا بين «الحبر» للمداد، وبين «الحبر» للعالم الرباني، بيد أن نتيجة الوهم ليست عظيمة، ومنهم من رأى مجانسة بين «الحبر» و«البحر»، بل رأى قلبا فيهما، وهو غير صحيح هنا؛ إذ لا حاجة لنا إليه، ثم إن راء «الحبر» أبدلت لاما فقيل: «الحبل» والمعنى واحد؛ ولهذا كانت «الحبر» بالكسر أفصح من الحبر بالفتح.
بقي أننا قلنا إن كل كلمة ثلاثية لا بد من أن ترد إلى لفظ ثنائي الحرف، و«حور»، أو «حير»، ترد إلى «حر»، ثم يضعف فيقال: «حر»، ومنه «الحر» في الشرع وهو: «خلوص حكمي يظهر في الآدمي؛ لانقطاع حق الغير عنه» (عن جامع الرموز).
فالحر، أو الحرورية، أو الحرورة، أو الحرار، أو الحرية هي أثمن شيء في الإنسان؛ ومن ثم هي أقدس شيء فيه؛ إذ شيئان يميزانه عن سائر الخلق كله: العقل والحرية، فإذا عدم المرء أحدهما لم يبق له تلك القيمة التي تعلي شأنه.
والحرية، كما تعلم، نتيجة العقل وثمرته، ولا سيما ثمرة العقل السليم الصحيح، فتكون الحرية حينئذ شيئا مقدسا، وتجد تحقيق ذلك في مشتقات هذه المادة، قال اللغويون: «حرر الولد: أفرزه لطاعة الله، وخدمة المسجد، ومنه في سورة آل عمران:
رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني . قيل: معتقا لخدمته، لا أشغله بشيء، أو مخلصا للعبادة.»
ومن هذه المادة: حر فلان يحر حرية: كان حر الأصل، والحر عندهم: «الكريم وخيار كل شيء والفعل الحسن»، وهو أفضل ما يوصف به الإنسان وأفضل ما يوصف به الشيء، ولا عجب بعد هذا إذا أطلق على القسيس وهو في نظرهم أحسن رجل عندهم .
ولهذا جاءت الكلمة اليونانية
ίεοεύς, έως
بمعنى الكاهن أو القسيس عند اليهود، ثم بمعنى الكاهن الأكبر، ثم بمعنى كاهن؛ أو خادم البلية، فخادم أو كاهن الفضيلة، فالكاهن الأكبر، وفي عهد النصرانية جاءت بمعنى المطران والحواري.
فهذا تاريخ تنقل هذه الكلمة، فمن شاء أن يتبع الحق فهذا هو، ومن شاء المكابرة فليبق مصرا على رأيه، ووادي الضلال فسيح واسع.
أما الحواري، على ما ذكره المفسرون واللغويون، فمبني على أنهم اشتقوه من مادة «ح ور»، فاختلفوا فيها، على أن صاحب اللسان قال: «وأصل التحرير في اللغة، من حار يحور وهو الرجوع، والتحوير: الترجيع.» ا.ه. قلنا والرجوع والترجيع من صفات الرسول؛ إذ لا بد له من الرجوع إلى أرباب الشئون مرارا لإبرامها، وإحكامها، فالحواري أصله الحوار.
و«الحوار» من صيغ المبالغة بمعنى «الحائر»، وزادوا الياء في الآخر؛ مبالغة في الصفة، ثم نقل إلى الاسمية، كما قالوا: الشناح والشناحي أي الطويل، وقالوا: فرس شناص وشناصي أي طويل نشيط، «فالحواري» لفظ عربي فصيح صحيح، لا رائحة للعجمة فيه، وقد بينا أن معناه الأصلي هو المتردد في الذهاب والإياب، والمقدس النفس، الطاهرها، كما هو شأن كل رسول، أو الأبيض القلب النقيه، وكل ذلك من صفات الرسول، الصادق الإيمان، والعامل به.
فإذا كان هناك من يذهب إلى خلاف ما ذهبنا إليه، ويقول بعجمتها ويصر على رأيه فلا يكون حينئذ إلا من اليونانية
ίεοεύς ، وهو الكاهن أي القسيس والحبر والأسقف، وقد أخذ العرب من الهلنيين ألفاظا دينية نصرانية مثل: المطران والأسقف والبطريرك والإنجيل إلى نظائرها، على أننا ننكر ذلك كل الإنكار، أما أنها من الحبشية، فهذا بعيد، وإذا كان هناك بعض المجانسة، فالحبشة أخذوها من العرب لا العكس؛ لأن صلة العرب بالمسيحيين الأولين كانت في صدر النصرانية، ففي الإصحاح الثاني من أعمال الرسل ما يبين هذه الحقيقة، وقد قال بولس الرسول في الإصحاح الأول من رسالته إلى أهل غلاطية إنه ذهب إلى الديار العربية ثم عاد إلى دمشق، ونظن أن وجوده هناك لم يكن عبثا، فأين هذه الحقائق من خرافات بعضهم؛ إذ يقولون إن العرب اقتبسوا كلمة «الحواري» عند دخول الحبش بلاد اليمن، وعن أهل نجران تلقاها عرب الحجاز؟، فهذه أقوال مريض مصاب بالهذيان، فليرحمه الرحمن، وليعنه على قبول الحق والإذعان له كل الإذعان!
موجز هذا الكتاب
وهو خطبة ألقيتها في المعهد الحديث في الإسكندرية في 3 / 3 / 1938
يا أشبال اللغة، وفخر الوطن.
دعاني رئيس معهدكم الحديث «الوقور» أن أحاضركم في «اللغة العربية من حيث إنها تهم الشرق والغرب»، فاعتذرت إليه بأني لم أعالج في حياتي إلا قليلا المسائل التأريخية والأدبية؛ إذ كان معظم اجتهادي في معارضة العربية بسائر اللغات، لغات الأقوام التي احتك بهم العرب منذ أعرق القدم، ولا سيما معارضتها بألسنة اليونان، والرومان، والفرس، والنبط، فوجدت أمورا لم تخطر ببال؛ لأن لغتنا المبينة لم تدرس من هذا المنحى.
والسبب - على ما يخيل إلي - أن الناطقين بالضاد الذين أمعنوا في تدبر لغتهم، وتقليبها على مناح ووجوه شتى، ازدروا بكل لسان سواها، ظانين أنها فوق كل لغة، ولا يمكن أن يدانيها شيء من كلام البشر، فكان هذا الاعتزاز داعيا، بل ناعيا، كل تبحر في معارضتها بسائر اللغى والألسنة، فأهمل هذا البحث بتاتا في جميع العصور، حتى في عصر اعتزازها وازدهارها وتسنمها صهوات المعالي.
أما المستشرقون - على اختلاف قومياتهم - فإنهم أهملوا هذا الموضوع ومعالجته وقعدوا عنه، بل أقول ناموا عنه ولا نوم أهل الكهف؛ وذلك بسببين على ما يبدو لي:
السبب الأول:
أنهم أتقنوا الألسنة الغربية كل الإتقان، وعنوا بها عناية دونها كل عناية، بل عناية تقطع نياط من يحاول من الشرقيين أن يسابقهم في هذا الميدان، أما وقوفهم على أسرار الضادية ولطائفها، واستجلاء مزاياها وخفاياها، فهيهات هيهات! ووصولهم إلى مناط العيوق أقرب إليهم من البلوغ إلى الاستبضاع من هذه السوق؛ بل أجرؤ فأقول: إنهم لو وقفوا أعمارهم كلها على هذه الغاية لما استطاعوا إليها سبيلا؛ لأن الدم الذي يجري في عروقهم غير الدم الذي يتدفق ويتسلسل في عروق بني يعرب، فهذه علة لا يستهان بها.
والسبب الثاني:
أنهم يتحامون كل التحامي أن يجمعوا بين أصول لغتنا وأصول لغتهم، عملا بمبدأ لهم يجلونه ويعظمونه ويضعونه فوق كل مبدأ؛ أي إنهم لا يودون أبدا أن يقال إن بيننا وبينهم صلة رحم، أو واشجة بينة، فتكون ثم الطامة الكبرى، والداهية الدهياء على ما يتوهمونه، فظلموا أنفسهم، وما ربكم بظلام للعبيد، ومع ذلك فقد قام بعضهم حينا بعد حين ليعالج هذا الموضوع من هذا المنحى، فناهضه سائر إخوته من أهل البحث، وتناولوه بألسن حداد، فانقبع ولازم الصمت، فكره غيره أن يعود إلى هذا الموضوع، فنبذه جماعة المستشرقين، ومنذ ذلك الحين وجموا وجوما، ولا يزالون واجمين، ولعلهم يبقون كذلك إلى ما شاء ربك رب العالمين.
والآن أعرض عليكم كيف وقع في صدري الأخذ بهذا البحث: كنت في التاسعة عشرة من عمري حينما شرعت في تعلم اللاتينية، وما كدت أقف على أوائل أحكامها حتى شغفت بها كل الشغف؛ وذلك لأني رأيت فيها مشابهة، بل عدة مشابهات للغة الفصحى، وأنا أذكر المشابهة الأولى والكبرى التي أثرت في نفسي تأثيرا قصيا.
في الرومانية، كما في اليونانية، أوجه الإعراب؛ أي الرفع والنصب والخفض، وبصورة مألوفة جارية على الألسن: الضم والفتح والكسر؛ بل ثم ثلاثة أوجه أخر ليست في فصحانا وهي: وجه المنادى، ووجه المفعول له، ووجه المفعول بسببه، وهذه الأوجه تختلف في حالاتها عن حالات الأوجه العربية الثلاثة التي تعرفونها، فدهشت من هذه المعلومات وفروقها الدقيقة، وقلت في نفسي إن هذه اللغة لجد جميلة، وتضارع العربية بمحاسنها وأساليبها، فلأدرسنها ولو كلفني درسها عرق القربة.
والأمر الثاني الذي عزز في صدري درسها أني وجدت فيها ما دفعني بعد ذلك إلى التوغل فيه، وهو أني لاحظت أن اسم الجلالة في كلام أولئك القوم
DEUS ، والحرف الأخير هو من زيادتهم، ومن ملحقات علامات الإعراب عندهم، فيكون الأصل الحقيقي
DEU ، وهو يوافق كلمتنا «ضوء»، ولو أردنا أن نكتب كلمتنا بأحرف رومانية فلا نجد أحسن من هذا الرسم الصحيح، ونحن نعلم من التاريخ أن أمما شتى عبدت أو ما زالت تعبد إلى اليوم «الشمس» أو «الضوء الأعظم» وتسجد له، ومن هؤلاء العبدة: الصابئة، والمجوس، والثنوية، والديصانية، والمانوية، ولم يعبدوا «الضوء» أو يعدوه إلها إلا لكونهم رأوا فيه ثلاثة أمور لا ترى في سواه، وهي الحرارة والنور والقوة؛ أي الحياة.
ولما كان هذا الضوء يختفي عند حلول الظلمات أي إن الشمس قد تحتجب بالغيوم الكثيفة أو بالليل، أقاموا له صورا وتماثيل إكراما له، وإقرارا لفضله، وبأنه الإله الأعظم؛ إذ منه الحرارة والنور والقوة؛ أي الحياة.
أما أولئك الذين اختارهم الله ليكونوا من عباده المقربين فإنه أوحى إليهم بالحق؛ ولذا لا يرون في «الضوء» أو «النور» أو «الشمس» إلا صورة ضئيلة للرب المتعال، الرب الذي لا يصل إليه الحس من أي نوع كان؛ إذ يترفع عنه لروحانيته المحضة التي لا تصفها الألسن، بل لا يمكن أن تصفها، وإن كانت بليغة فصيحة.
فاسم الضوء إذن إلها هو باللاتينية
DEUS ، وباليونانية
ύεός ، وبالفارسية «ديو»، ولو عرضت على أنظارنا جميع الألفاظ الواردة في جميع الألسنة لما رأينا بينها إلا فرقا زهيدا، والأصل يبقى واحدا.
والأمر الثالث الذي ألقى في روعي حب هذه اللغة الرومانية أني رأيت في الوقت عينه كلمة ثانية تجانس العربية، وهي
DIES ، ومعناها النور والنهار، والضياء، فإذا حذفنا منها الحرف الأخير، أو حرف الإعراب عندهم، وجدنا
DIE
أي ضياء، وهي الكلمة العربية نفسها.
فاتضح لي من مقابلة هذين اللفظين في اللسانين المختلفين دارا، وقوما، وأصلا، ونسبا، أن هناك غير هذه الكلم تتجانس بينها وبين العربية، ولا بد من الإمعان في البحث؛ لينجلي الأمر بوجهه الصبيح، إلا أن الأمور مرهونة بأوقاتها؛ لأني كنت قد عقدت النية على السفر إلى بيروت للدخول في كلية الآباء اليسوعيين لدرس اليونانية واللاتينية على معلم، وليس على نفسي، كما كنت أفعل؛ إذ هذا الأمر الأخير شاق وطويل الأمد، وفيه إضاعة الوقت، دع عنك أني لا أصل إلى هدفي وصولي إليه على يد معلم ماهر خبير بصير.
فغادرت بغداد وكان عمري يومئذ عشرين سنة، فبقيت في بيروت نحو 14 شهرا درست فيها اللغتين المؤتمتين (أي اللاتينية واليونانية)، ثم سافرت إلى بلجكة، فواليت فيها درسهما، ومن بلجكة إلى جنوبي فرنسة، فزاد حبي لهما؛ إذ انتفح لي فيهما مهيع واسع للتحقيق والتدقيق، وألفيت من انهتاك حجب الأسرار ما زادني شغفا بهما، وأشبهت نفسي ذيالك الغني الذي يزداد حبه للمال كلما وجد ركازا، أو كنزا دفينا في الأرض الجديدة التي اقتناها.
أما الكنز الدفين الذي وفقت للعثور عليه ولم أجده في كتاب ولم أسمعه من أستاذ أيا كان، فهو أني لاحظت هذا المبدأ وهو: كل كلمة ذات هجاء أو هجاءين في الرومية أو اليونانية، ولم تكن من أصل منحوت، بل من وضع أصيل، أو توقيفي، فلا بد من أن يكون لها مقابل في لغتنا المضرية.
ولاحظوا هذا الأمر، أني قلت: كل كلمة ذات هجاء واحد (أي مقطع واحد)، أو هجاءين (أي مقطعين)؛ لأن اللفظ إذا زاد على هذا القدر يكون قد وقع في اللغتين المؤتمتين نحت، أي تركيب من كلمتين، أو أكثر؛ أي إنه أخذ من هذه الكلمة شيء ومن تلك شيء، وجعلت واحدة، فهذا هو «النحت» أو «التركيب».
وهذا النحت يتدفق تدفق السيل الجارف في لغة كيكرون وديمستينس؛ أما في لغة عدنان، فإنه قليل لا يعتد به، ولا يتقوم منه قواعد، ولا يصلح لأن يجرى عليه جريا، والذي يرد في ألفاظنا الكثيرة الأحرف أن زيادتها تدل على معان خاصة بكل حرف منها، وهي معان دقيقة تزيد المعنى الواحد معاني عدة جديدة لم تكن فيها قبل ذلك التوسيع الذي يسميه اللغويون «التفئيم».
والملاحظة الثانية التي أجلب إليها نظركم هي أني قلت «ولم تكن تلك الكلمة من أصل منحوت، بل من وضع أصيل»؛ لأنها إن كانت مركبة الأصل، فليس لها مقابل في لغتنا؛ إذ خرجت عن القاعدة المطردة، وصارت في حيز آخر هو حيز العجمة الصرفة.
وقد ذكرت لكم كلمتين لاتينيتين، وعارضتهما بأخريين عربيتين، وبينت لكم تآخيهما، والآن أذكر لكم مثالين آخرين آخذهما من الإغريقية: (1) الحداء «أي الغناء» عند أبناء صولون
ώδή “hodè” ، وهي نفس الكلمة العربية، إذا أميل في لفظها، وهي تضاف في لغتهم إلى عدة أسماء ، فيقولون مثلا: حداء حزن أو حداد، وحداء مديح، وحداء أنشودة، وحداء حرب، وحداء دين، إلى نظائرهن، كما لا يخفى، ولاحظوا هذه المجانسة بين اليونانية والعدنانية، فالكلمتان لا تختلف الواحدة عن صاحبتها بشيء البتة؛ اللهم إلا بسقوط الحاء الحلقية من كلامهم على حد ما سقطت وتسقط أغلب تلك الأحرف من جميع لغات الغربيين.
وهذا الأمر بين من الأعلام الشرقية القديمة الواردة في التوراة، ونقلها إلى لغات الغرب، فإن الحاء مثلا سقطت من قولهم:
EVA ؛ أي حواء، و
NOE ؛ أي نوح، و
BETHLEEM ؛ أي بيت لحم، و
MESSIA ؛ أي المسيح، إلى أشباهها، وهي جمة كما لا يخفى على ذكائكم، ومثل هذا الحرف جرى في الحداء، وأول ما وضع الحداء كان للإبل، وهو أقرب إلى طبيعة الحال.
قال الجوهري: «الحدو سوق الإبل والغناء لها، ويقال: بينهم أحدية وأحدوة، أي نوع من الحداء يحدون به، على ما نقله اللحياني.» ا.ه. ومثل الحدو: الحداء.
ووضع السلف هذه الكلمة لهذا المعنى أقرب إلى السليقة؛ لأن ابن الشرق الأدنى ولد وهو محاط بأنواع الحيوانات، يأكل من لحومها، ويشرب من ألبانها، ويلبس من أوبارها، ويستدفئ بجوارها، ويظعن على صهواتها، ولا سيما إذا جاز رمال القفار، فلا بد له من الإبل؛ إذ لا تعطش إلا قليلا، ثم إذا مات فهو بين جماعاتها، فكان إذن من طبع ابن البادية أن يكون أول غنائه للعيس، فخص حداءه بها، وحسنا عمل؛ إذ قام بما لتلك الحيوانات من الحق الصريح على من يعتز بها وينشأ بينها.
وأغرب من هذا وذاك أن نفس الكلمة اليونانية تستعمل لنوع من الغناء، يتغنى به الساحر في سحره، أو النفاثات في العقد؛ ثم أطلقوها على كل رقية أو أخذة أو سحر. أما أبناء عدنان فإنهم رأوا في هذا الخلط بين المعنيين، واللفظ واحد، إجحافا باللغة، ففرقوا بين معنى ومعنى، وجعلوا «الحداء» لغناء الإبل، و«العوذة» للسحر، واللفظ في الأصل واحد.
فأنتم ترون أن اللفظتين الضاديتين لا يقابلهما إلا لفظة واحدة في الهومرية، ولو حاولنا أن ننقل بأحرف يونانية كلا من «الحداء » و«العوذة»، لما استطعنا أن نصورهما بغير هذه الأحرف أي
hodè ؛ لخلو لغة الهلنيين من الحاء والعين، ثم لاحظوا أن «الذلتا» أو «الذال» اليونانية هي في «الحداء» مهملة، وفي «العوذة» معجمة وهما لغتان من لغاتهم، فمنهم من يقول: «ذال» بالمعجمة، ومنهم من يقول: «دال» بالمهملة إلى يومنا هذا، وكذلك الأمر جار على هذا الوجه عند بعض العرب إلى عهدنا هذا.
ولعل أبناء هلاس رأوا هذا الأمر عند العرب؛ أي الفرق بين «الحداء» و«العوذة»، فجاروهم هم أيضا، فوضعوا لفظين مختلفين بعض الاختلاف، فسموا «الحداء»
hodè ، وسموا «العوذة» أيضا
èpodè ، وإن لم ينبذوا الكلمة الأولى
hodè ، فانظروا إلى محاسن معارضة اللغتين السامية الكبرى أي العربية، واليافثية الكبرى أي اليونانية.
ولا بد لي من مثل ثان أدعم به هذا الرأي، وإن كان عندي عشرات، بل مئات من الشواهد:
عند بني هلاس كلمة هي
Τυννός ، ومعناها الصبي القصيع الذي لا يشب ولا يكبر، وقد حار كبار علمائهم اللغويين، من أقدمين ومحدثين، في ردها إلى أصل يشابهها في المبنى والمعنى، فلم يجدوا في جميع اللغات الغربية، حتى في الهندية الفصحى «أي السنسكريتية»، ما يجانسها، فانقلبوا عن بحثهم مقرين بكل سلامة نية، وبياض طوية، أنهم لم يهتدوا إلى ما يقابلها، وما عرضه بعض حذاق لغوييهم المحدثين، مثل يوهانصن، وصلمصن، لا يعتمد عليه، بل ليس بشيء، ولم يستحسنه بصراؤهم.
أما نحن، فإذا أخذنا بقاعدتنا في هذا البحث؛ أي إذا حذفنا علامة الإعراب التي في لسانهم، وهي
OS
وقعنا على «تن» وهي اللفظة العربية المقابلة للإغريقية أتم مقابلة مبنى ومعنى. قال ابن مكرم في لسانه: «التن، والتن: الصبي الذي قصعه المرض فلا يشب، وقد أتنه المرض. «قال» أبو زيد: يقال: أتنه المرض: إذا قصعه، فلم يلحق بأتنانه؛ أي بأقرانه فهو لا يشب.» ا.ه.
فمن هذه المعارضة الوجيزة ترون خطورة هذا البحث وما ينشأ منه من الفوائد والعوائد الجليلة، والوقوف على أسرار الألفاظ ومعانيها الأولى الأصلية وتشعبها واتصال بعضها بالبعض الآخر من سائر اللغى، وهو درس لذيذ طريف، لم يطأ أرضه البكر أحد من الإنس ولا من الجن إلى يومنا هذا، وبعبارة أخرى، لم يعالج موضوعه أحد من العرب، أو من أبناء الغرب، وعسى أن يقوم من معهدكم من يعنى بمثل هذه المباحث البديعة التي مع عقمها من جهة النفع المادي تزيد العقل نشاطا، واللغة سعة، والوطن شهرة، والصلة بالأمم توثقا، والإمعان في الحقائق جرأة واكتشافا، وتوسعا، ولعل العقم المادي هو السبب الذي حال دون التبسط في هذا الموضوع، ومعالجته معالجة صادقة.
والآن دعوني أروي لكم ما وقع لي من الأحداث بخصوص هذه المباحث اللغوية التي توخيت مزاولتها:
كان يتردد إلي في بغداد في سنة 1935 في أوقات معينة وفي مكان عزلة أحد شبان الهنود النصارى، من خريجي كلية اليسوعيين في كلكتة، من ديار الهند، وكان ممن أولعوا بدرس اللغات من حية وميتة، ومقابلتها أو معارضتها بعضها ببعض، وكان يباهي كل المباهاة بالهندية الفصحى (بالسنسكريتية)؛ لأنها أم اللغات الغربية الآرية كلها قاطبة، ولا سيما أم اللغتين المؤتمتين: اليونانية واللاتينية.
وكان قد اطلع في المقتطف، والهلال، ولغة العرب، وغيرهن من المجلات والصحف على ما كنت كتبته في هذا المعنى؛ أي «أن اللغة العربية أم اللغات» أو «مفتاح اللغات»، فكان يضحك بملء شدقيه من هذا الرأي، ويعده في منتهى السخافة، ويسخر مني؛ لأني أنا أول القائل به، ويرى أن هذا الرأي رأي شرقي غير ناضج، وهو لا يجد فيه سوى المبالغة والإغراق في الوصف، والتعظيم للغة الضاد ليس إلا.
وكان مع ذلك متأثرا من قولي؛ لأنه فعل في فكره فعل الصاعقة في جسمه، وإن كان يري أنه يستخف بهذه الفكرى، فكان جاء إلى بغداد في السنة التي أشرت إليها لأشغال تتعلق بشئون والده؛ ثم بحث عني حتى وجدني، وزارني مرارا لا تحصى، وحاول أن يقنعني أن أعدل عن فكري إلى رأيه، فألفاني كالجلمود أو أصلب في وجهه؛ وكان يقول لي ويعيد قوله مرارا إن رأيك فائل؛ أيها الأب المحترم، لا يرضى به كل لغوي، وأرجو منك أن تعدل عنه احتراما لشخصك، ولا جرم أنه لا يعمر ؛ لضعفه، وسقمه، وعدم قبول العلماء له، وقد رذله جماعة المستشرقين الذين قتلوا هذا الموضوع خبرا وخبرا ولا سبيل إلى هدمه، بل لا مطمع في الزيادة عليه قيد شعرة، إلى كلام طويل ممل لا محل لإيراده هنا؛ لأن الشاب كان مفتونا بمذاهب أهل الغرب وباحثيهم، كسائر أبناء الشرق حين يتصلون لأول مرة بأناس غير أناس وطنهم، وبأفكار غير أفكار قومهم، لا بل ما كان يريد أن يسمع برأي جديد لم يذهب إليه الإفرنج، أو لم يقل به الإفرنج، أو لم ينص عليه الإفرنج، أو لم يمر بخاطر الإفرنج؛ فهو من عبدة الإفرنج لا غير، أصابوا أم أخطئوا، ولا يريد أن يحاكمهم بأي شيء كان، وكان يقول ليس أدنى صلة بين اللغة الضادية وأي لغة يافثية قديمة أم حديثة، كالهندية الفصحى، واليونانية، واللاتينية، والفارسية القديمة، كالفهلوية، والزندية، والدرية.
فقلت له يا سيدي، إن الحقيقة ابنة البحث، فإن أنت اختلفت إلي مرارا عدة، فإنك تعدل عن رأيك هذا إلى رأيي، وعن تصلبك في مخالفتك إياي، وتنقلب آخذا بفكري، من غير أن أمنعك من أن تشايع المستشرقين في بعض آرائهم الصائبة، والتي أنا أوافق عليها أيضا.
فكان يأتيني في مكان ناء عن كل زائر، لا يدري به أحد، وكنا قد اتفقنا على الاجتماع فيه أياما وساعات معلومات، فكنا نتجاذب أطراف الجدل في جو يسود فيه الهدوء، والطمأنينة، وحرية الفكر والقول، وليس ثم من يزعجنا، أو ما يزعجنا.
ومن غريب أمر هذا الشاب المتنور أنه كان يأبى أن يزورني وأنا في الدير لأسباب لم يبح لي بها؛ مع أنه كان نصرانيا دينا، فتركته وشأنه وجاريته في هواه، فكنا نجتمع في المكان القصي عن المدينة وأهلها، وكان الحديث يجري بعض الأيام ساعات طوالا، ونحن لا نشعر بانسلالها من أيدينا.
وكان صاحبي الشاب يحسن الهندية الفصحى، والإنجليزية، كأنه أحد أبنائها، ويكتب بها، ويتكلم، ويخطب بها بسهولة عظيمة، وكذلك كان يتقن الفارسية وهي لغة أغلب علماء الهنود الذين يتفرغون للعلوم والدروس العالية، وكذلك كان يحسن العربية ويجيدها كأنه أحد أبناء العرب، إلا أنه كان في لسانه شيء من اللكنة، لا سيما في أحرف الحلق كالحاء، والعين، والقاف، ويشدو شيئا من الألمانية، واليونانية، والرومية، وهو من بيت عريق في الشرف، غني، ثري، نبيل، يمكنه من الدرس، والتفرغ له، من غير أن يخالف أوامر والده، فكان كله للتخصص في معارضة اللغات بعضها ببعض، على الأساليب الحديثة العلمية الجارية في ديار الغرب في عهدنا هذا، وعلى ما هو متعارف عند أهل البحث والإمعان في التحقيق.
وفي أول بحثه معي كان يكاد يقتلني قتلا لمخالفتي إياه في رأيه، ومخالفته إياي في رأيي، فقلت له: لا يتم التحقيق بالغضب، والتهور، والتسرع في الكلام؛ إن الحق ينجلي لمن يمتاز بالصبر والجلد، ولا يحتقر رأي من يخالفه، ولا يتهكم منه، بل يجد كل منا في إقناع صاحبه بالتي هي أحسن، فانكسرت حينئذ سورة غضبه، وزايلته حدته، وأخذنا نتباحث في الهدوء، والراحة، والسكينة، والوقار، واحترام كل منا رأي صاحبه.
وفي مطاوي بحثه معي أظهرت له أن رأيي حديث بلا شك ولا ريب؛ لكنه قائم على قواعد راسخة لا تتزعزع، وعلى أحكام هي وليدة سنن بينة واضحة المعالم، فإذا أخذ بها الباحث الصادق النية والطوية، الخالي من كل غرض وسوء قصد، ومن كل سبق في الوهم، وروح المعاداة، أدت به مساعيه إلى أحسن النتائج، وأبهجها للخاطر.
أما المستشرقون فإنهم لا يريدون أن يكون بين العربية وبين لغاتهم أدنى صلة، أو مجانسة، أو ملابسة، أو مشابهة؛ خوفا من أن يقال لهم، أو أن نقول لهم نحن العرب بيننا وبينكم يا قوم، لحمة نسب قديم، وصلة رحم؛ وهو مما يتبرءون منه، وينبذونه من مسامعهم، بل ينفضون ثيابهم عند سماع هذه الكلمات، كأنها تدنسهم، وتدنس ثيابهم، بل لا يريدون أن يتصوروا مثل هذه الفكرة الهادمة لأبنيتهم المتصدعة المتشعثة، تلك الأبنية التي أقاموها منذ أن وضع أسسها إمامهم الألماني الكبير مكس ملر.
ثم أخذت أسرد له ألفاظا لا تحصى مؤيدا له إياها بالأدلة الناصعة، والبراهين النيرة، ومبينا له أن هذه الكلمة العربية هي عين الكلم اليونانية، أو اللاتينية، وأنا لم أذكر له سوى ما كان منها أحادي الهجاء، أو ثنائيه لا غير، ولم أتجاوز هذا التركيب؛ لأني أقف عند هذا الأفق من فقه اللغة، ولا أذهب إلى أبعد منه، وكنت قد نشرت بعض ذلك في الصحف والوضائع والمجلات.
وثابرنا على عقد مجالسنا زهاء ثمانية أشهر، في جدل لا يخرج موضوعه عما توخيناه من البحث، وفي الآخر - ومن بعد أن بلغت روحي التراقي - وافقني على رأيي؛ فلم يذهب سعيي سدى، لأنه أصبح أحد كبار الدعاة إليه، بكل إخلاص وصدق نية، وبذل نفس، فنشر في مجلة دياره الهندية، وصحفها عدة مقالات، أثبت فيها صحة هذا الرأي الحديث، ودعا أهل وطنه إلى الأخذ به ودراسة العربية الفصحى؛ لأنها «أم اللغات ومفتاحها المحكم»، والتي لا يستغني عنها من أراد التفرغ لمقابلة الألسنة بعضها ببعض، والتوغل في حناياها، وخفاياها، وزواياها.
ورحل بعد ذلك إلى ديار المغرب، وجول تجويلا في فرنسة، وأسبانية، وإيطالية، وألمانية، والنمسة، وبلجكة، وهولندة، وإنجلترة، وجالس كثيرين من متقني اللغى الشرقية والغربية، فدافع عن رأيي أحسن دفاع، بل دافع عن الحق والصدق، ونافح عنه كأنه صاحب الرأي، وواضعه، ومبدعه، وليس كالآخذ برأي رجل آخر سبقه إليه أو وضعه قبله.
وقد كانت كلمة المستشرقين أو أجوبتهم - على اختلاف قومياتهم ولغاهم وديارهم - لهذا الأديب الفاضل الهندي واحدة في المآل، وإن اختلفت في المبنى، وهي أننا لا نرى أدنى صلة بين العربية وسائر اللغات اليافثية، ولا أدنى مناسبة بيننا وبين الناطقين بالضاد، فكان يجادلهم في الموضوع على حد ما كان يقارعني لما كان في بغداد، لكنه كان كمن يكلم الموتى؛ لأنهم كانوا يصمون آذانهم عن سماع أدلته، وفي الآخر أشاروا عليه تصريحا أو تلويحا بأن يقطع عنهم زيارته إياهم، أو ما يشبه هذه الإشارة، بتصرفهم مع هذا الأديب الفاضل الكامل الآداب، فعجب من آداب أولئك العلماء الأفاضل، آداب لم يكن يتوقعها منهم.
لم أستغرب ما أخبرني به الأديب الهندي، وقد عاملتني لجنة تحرير المجلة الخاصة بمجمع اللغة العربية الملكي في مصر مثل هذه المعاملة، بل أقسى منها، مع أني أحد أعضائها.
فقد كنت أنشأت ثلاث مقالات، موضوعها البحث في مقابلة اللغة العربية باللغتين المؤتمتين اليونانية واللاتينية، ودفعتها إلى رئيس لجنة التحرير، فأطلع عليها المستشرقين أعضاء المجمع، فلم يقروها، وقالوا: هذا موضوع خياله أكثر من حقيقته، أو ما يقارب هذا المعنى، فأعادها إلي رئيس اللجنة وهو لم يقرأ منها كلمة واحدة، وكذلك لم يفعل شيئا المستشرقون؛ إذ لم يقفوا على كلمة واحدة منها؛ بل اجتزءوا بمعرفة العناوين والموضوع، فلم يستحسنوا شيئا منها؛ بل سخروا من البحث ورذلوه، وهكذا نحكم الأجانب في أمورنا جميعها، ونسلطهم علينا وعلى لغتنا، وندخلهم في صميم شئوننا، ولساننا، وقوميتنا، ونسلمهم قيادنا، ثم نشكو أمرنا إلى الله وأنبيائه ورسله، ونتأسف، ونتحسر، ونطعن بذا وذاك، ونلقي الملامة على الناس، وما اللوم والعتب إلا علينا نحن الضعفاء في كل شيء.
ثم إني فرقت تلك المقالات الثلاث على ثلاث من الصحف والمجلات، وما انتشرت بين الأدباء والعلماء، حتى جاءتني رسائل عدة تستزيدني في البحث، وتستحسن الموضوع، وتلح علي بمتابعته ونشره في كتاب قائم بنفسه، ليستفيد منه أولو العرفان، ومن لم يطالع أو لا يطالع الجرائد ولا الموقوتات.
فأين هذا الصنيع من إساءة المجمع إلي، وأنا أحد أعضائه؟ فعلى من الملامة؟ أعلى الأعضاء العرب أم على المستشرقين؟ فعندي أن اللائمة على الأعضاء العرب، أو لا أقل من أن تقع على لجنة المجلة، ولا سيما على رئيسها؛ إذ لم يفحص الأمر بنفسه، ولا على يد أحد أعضاء لجنته، ولا على استشارة أعضاء المجمع الموقر، فحكم على إهمال نشرها، من اشمئزاز المستشرقين من معالجة هذا الموضوع - وكيف لا يشمئزون منه وهم أصحاب الغرض فيه - ولا يريدون البتة أن يمسه أحد ولو من بعيد.
فلو كانوا مصيبين في رأيهم لأذنوا بنشرها ثم عمدوا إلى تزييفها أو تفنيدها، فحينئذ نؤمن بعلمهم ووقوفهم على أسرار العربية، ولكن لا حياة لمن تنادي، بعد أن أسلمنا أمورنا الخاصة بنا إلى أيدي الأجانب.
ولا أريد أن أسترسل في الكلام أكثر من هذا، وإن كان المجال ذا سعة؛ إلا أن الموضوع جاف يابس، ناشف، لمن لا يتفرغ له؛ ولهذا أقف عند هذا الحد، طالبا منكم العفو والصفح، متوقعا مع كل ذلك أن يقوم بينكم من يحاول طرق الموضوع ولو على سبيل الفضول والتبسط في الآداب واللغة، وعسى ألا يخيب في مسعاه.
خاتمة
هذا آخر ما أردنا أن نكتبه في هذا الموضوع، ونحن نتقبل بصدر رحب، وقلب شاكر، كل نقد أو تهكم يرسل به إلينا؛ إذ الكمال لله وحده.
أسماء بعض الحيوانات الواردة في هذا الكتاب
(1) البجع
كثيرا ما خلط الكتاب، والأدباء، والنقلة، والمترجمون، اسم هذا الطائر بما يشبهه بعض الشبه، «بالقوق» - راجع ما حققناه هنا في هذا الفهرس - أو «اللقلق».
ونحن نذكر هنا ما يتعلق بالبجع، فإننا لم نجد من عرف حقيقة هذا الطائر إلا النفر القليل، والسبب هو أن اسمه يختلف باختلاف الديار العربية، فأهل الشام يسمون «اللقلق» «بجعا» «كذا» وعليه درج صاحب دائرة المعارف، فإنه وصف «البجع» وصفا يوافق مرة «اللقلق»، ومرة «البجع»، فجاء هذا الطائر في تلك الدائرة يدور مع أصحاب البلاد المختلفة، أو قل جاء طائرا، لا هو «البجع» ولا هو «اللقلق».
وأهل مصر الأقدمون يسمونه «الكي» بضم الكاف وتشديد الياء (راجع ابن البيطار في «البجع» و«الحوصل») وقد ذكر نقلته إلى الألمانية والفرنسية أنه هذا الطائر العظيم الحوصلة؛ أي
pélican ، وهذه التسمية الفرنسية مأخوذة من اللاتينية
أو
، وكلتاهما من اليونانية
πεγεχάν, ανος
المشتقة من «فلقس»
πελέχυς
أي القدوم، وعندنا أن الهلنية فلقس من العربية «الفلق»؛ لأن العوام تزعم أن هذا الطائر الجليل يشق صدره شقا ليطعم فراخه، أو ليغذيها من دمه.
أما الحقيقة فأن هذا الطائر يخرج غذاء أولاده - وهو اللبأ على ما سماه الجاحظ - من صدره، على حد ما يفعله بعض الطيور؛ إلا أن هذا الأمر يبدو أظهر في البجع؛ لأنه أكبر حجما ، وحوصلته بينة لكل ذي عينين؛ فإطعام فراخه من لبئه أبين للناظرين، وأعظم تأثيرا في نفوسهم من سائر الطير.
والقول بأن «البجع» يغذي أولاده من دمه كان شائعا عند الأقدمين، من الغربيين والشرقيين، ولا سيما عند أبناء القرون الوسطى؛ ولا يزال ثم أناس على هذه العقيدة إلى وقتنا هذا، فإن صاحب المعجم المسمى «دليل الراغبين، في لغة الأراميين» في الصفحة 697، في الكلام على الطائر المسمى بالإرمية «ققا» ما هذا نقله بحروفه: «ققا: قيق. أبو زريق. بجع: طائر مائي أبيض في صدره حمرة، يحب فراخه حبا شديدا؛ فإذا مات أحدها، يشق صدره، ويرش عليه من دمه، فيعيده حيا؛ ولذا قد شبه به السيد المسيح.» ا.ه.
ففي هذا الكلام عدة أوهام؛ الأول: أن ليس في صدره حمرة. الثاني: أن حبه لفراخه كحب سائر الطير لفراخها. الثالث: لا يشق صدره، بل يخرج اللبأ من صدره كما تفعل بعض الطير؛ وإنما ذهب العوام إلى هذا الوهم؛ لأن اسمه الإرمي يشبه مادة «قاء يقيء» العربية بمعنى القيء، وهو إلقاء ما في الصدر «أو المعدة» من الطعام والشراب، كأنه عند زقه فراخه يخرج ما فيه لها. الرابع: إذا ماتت الفراخ فلا طمع في إحيائها بدم الأب ولا بسائر الأدوية. الخامس: أن القيق غير أبي زريق وهذا غير البجع.
فالإرمية «ققا» هي البجع دون سائر اللفظين، وكذلك «القات» عند العبريين.
ومن أسماء البجع التي لم نذكرها في صدر هذا المقال: «العلجوم» و«جمل الماء»، وقد وردت في بعض الكتب «حمل الماء» بالحاء المهملة، وهي غير صحيحة، و«أبو جراب» و«السقاء» وزان شداد، لحوصلته التي تشبه زق السقاء، وعوام أهل العراق يسمونه «نعيج الماء».
وكان المصريون يسمونه في سابق العهد: «بجعا» و«كيا»، وقد ذكر لي الأستاذ النابه مصطفى أفندي جواد، فكتب إلي في 20/ 1/ 1938 من باريس يقول لي: قال في مسالك الأبصار في حوادث سنة 682 للهجرة: «وفيها، رمى السلطان الملك الصالح علاء الدين علي بن عبد الملك المنصور قلاوون بجعا بجهة العباسية بالبندق.» ا.ه. ثم قال الأستاذ المذكور ما هذا نصه: «وقال مؤلف «تشريف الأيام والعصور، بسيرة الملك المنصور» في حوادث هذه السنة نفسها: «ذكر خروج مولانا السلطان الملك الصالح، والملك الأشرف، للصيد، وصرع مولانا السلطان لكي مبارك، في رابع عشري شوال من هذه السنة خرج مولانا السلطان الملك الصالح، وأخوه المتولي، الملك الأشرف للصيد إلى جهة العباسية ... صرع مولانا السلطان الملك الصالح كيا مباركا».» ا.ه.
ما نقله لنا حضرة الأستاذ المصطفى.
فهذان اسمان مختلفان لمسمى واحد، وكانا معروفين في المائة السابعة في ديار مصر، لهذا الطائر الضخم، «الحوصل»، فهما حريان بأن يقيدا لمعرفة لغة ذلك العصر. «وأما اشتقاق لفظ «البجع» نفسه، فإما أن يكون من بجعه؛ أي قطعه بالسيف، وهنا سيف الطائر منقاره؛ لأنه يشبه السيف حقيقة، فيؤيد الرواية المشهورة من شق صدره لإطعام فراخه؛ وإما تصحيف مقصود قصدا عمدا من «فجعه»؛ أي أوجعه؛ لأنه يوجع نفسه بعمله المذكور، وقد قالوا إن الفجع أن يوجع الإنسان بشيء يكرم عليه فيعدمه» (القاموس)، فتصح أيضا على هذا الطائر الرواية المذكورة، والله أعلم بالحقائق.
وأما «اللقلق» فطائر آخر معروف بالعراق بهذا الاسم حكاية لصوته، وأهل فلسطين، ولا سيما في جهات حيفا، والكرمل، والناصرة، يسمونه «أبو سعد» بفتح السين، وآخرون يصغرونه فيقولون: «أبو سعيد» لكن بإسكان السين وفتح العين، وهم كثيرا ما يصغرون بعض الأسماء على الوجه المذكور، واللقلق كان معروفا عند عوام العراقيين في عهد العباسيين ب «أبي حديج»، وكان أهل الأندلس يسمونه: «فالرغس» بالغين، وفي كتاب مفردات ابن البيطار جاءت بالعين المهملة، وأهل شمالي إفريقية يسمونه «البلارج»، وهذه الأسماء الثلاثة الأخيرة من اليونانية
، ولليونان لفظة أخرى لهذا الطائر تشبه العربية وهي
LOKALOS ، وهو بالفرنسية
CIGOGNE ، وبالإنجليزية
STORK ، وللعرب اسم طائر آخر هو اللغلغ وهو غير اللقلق على ما حققناه، بل أول من حققه بأدلة لا ترد الأستاذ الجليل مصطفى أفندي جواد. (2) القوق
أغلب الأدباء الذين كتبوا على هذا الطائر لم يهتدوا إلى حقيقته؛ ولا سيما النقلة الذين ترجموا التوراة، منذ أقدم العهد إلى عصرنا هذا، وكذلك قل عن نقلة كتب الأعاجم إلى لساننا الفصحى، فإنهم خلطوا بينه وبين «البجع»، وبينه وبين «اللقلق»، ونحن نذكر هنا ما يتعلق بالقوق:
إننا قلنا في [فصل : تصحيفات وتحريفات وتشويهات المعربات] من هذا الكتاب إن «القوق» - ونزيد عليها هنا: «الققنس» أو «الققنوس» - هو نفس الطائر المسمى باليونانية
KYKNOS ، أو الرومية
CYCNUS ، أو الفرنسية
CYGNE ، وهو طائر من بنات الماء من القواطع وقد يكون من الأوابد، طويل العنق، عريض المنقار، والنوع المشهور منه، أبيض الريش، وبياضه يقق؛ ولهذا سمي أيضا بالعربية «قيق»، مقلوب «يقق»؛ أي الأبيض الناصع البياض.
وقد اشتهر عند الغربيين ب «قوق منطو» وهو «فرجيل»، و«قوق كمبري» وهو «فنلون».
وقد عدل أغلب الكتاب من النقلة عن كتابة «القوقنس» بصورة «الققنس»؛ لمشابهته لاسم طائر آخر، لكنه خرافي: وهو «الفقنس» أي
phénix ، وقد جاء عنه في تاج العروس ما هذا نصاب نصه: «الفقنس، كعملس، أهمله الجماعة، قال الدميري في حياة الحيوان: هو طائر عظيم، بمنقاره أربعون ثقبا، يصوت بكل الأنغام والألحان العجيبة المطربة، يأتي إلى رأس جبل، فيجمع من الحطب ما شاء، ويقعد ينوح على نفسه أربعين يوما، ويجتمع إليه العالم يستمعون إليه ويتلذذون بحسن صوته؛ ثم يصعد على الحطب، ويصفق بجناحيه، فتنقدح منه نار، ويحترق الحطب والطائر، ويبقى رمادا، فيتكون منه طائر مثله.» ذكره ابن سينا في الشفاء والعهدة عليه.
وقد ذكروه في شرح قوله: «والذي حارت البرية فيه.» بيت التلخيص، وشرحه في المطول وحواشيه؛ وكأنه سقط من نسخة شيخنا فنسب المصنف إلى القصور، وهو كما نرى، ثابت في سائر النسخ.
وقال القزويني: هو «قوقيس»، ثم ذكر قصته بمثل ما ذكرها الدميري، وزاد: «فإذا سقط المطر على ذلك الرماد تولد منه دود، ثم تنبت له أجنحة، فيطير طيرا، فيفعل كفعل الأول من الحك والاحتراق.» ا.ه. كلام الشارح.
قال الأب أنستاس ماري الكرملي: إني لم أجد في كتاب القزويني والدميري إلا «القوقيس» وذكرا القصة على ما يضاهي الرواية المنقولة عن التاج.
وقد وردت «الفنقس» بصورة «بنجس» في كتاب البلدان ص207 من طبع الإفرنج، فالبنجس إذن، هي أقدم صورة للكلمة «فنقس»؛ لأن صاحب الكتاب المذكور هو ابن الفقيه، وقد أنشأ كتابه في سنة 189 للهجرة (أي 902 للميلاد).
وقد صحف أدباء الترك الأقدمون «الفنقس » أو «الفقنس» نقلا عن بعض كتاب العرب فقالوا: «ققنوس» و«قوقنوس» و«قوقنس» (راجع المعجم التركي للمستشرق الفرنسي بربيه دي مينار)، وراجع أيضا ما كتبناه في المشرق (المجلة البيروتية) 2 : 926 (أي في سنة 1899).
و«القوق» يسميه الشاميون «وز عراقي» وهو واضح الخطأ، والمصريون «التم». قال في صبح الأعشى: «التم، بفتح التاء وتشديد الميم: طائر في قدر الإوز، أبيض اللون، وهو أعظم طيور الواجب، وأرفعها قدرا.» (2 : 64).
وقد وردت روايات أخر «للققنس» باختلاف نسخ التآليف؛ منها: «القوقنوس»، و«القوقيس»، و«الفنقس»، و«الفقنس»، و«الققنوس»، و«القوقش»، والصحيح من هذه جميعها «القوق»، و«القوقنس»، و«الققنس».
وأما بمعنى «الفقنس»، فالصواب من اختلاف رواياته: «الفنقس» و«البنجس»، وأما «القفنس» فخطأ، وإن كانت مشهورة، بل أشهر من سائر أخواتها.
وكنا قد ذهبنا إلى أن «القوق» هو «البجع»، اعتمادا على ترجمة قديمة للتوراة نقلها سعيد بن يعقوب الفيومي المشهور عند الغربيين باسم سعديا المتوفى سنة 943 للميلاد، وتابعه في النقل جميع من تأثره من التراجمة والنقلة.
والآية التي ورد فيها هذا اللفظ هي هذه: «شابهت قوق البرية، صرت مثل بومة الأخربة.» (المزمور 101، الآية 7)، فأراد الناقل بالقوق هنا «البجع» أو «الحوصل»، وهو غير صحيح، والسبب هو: أن هذه الآية الزبورية نقلها الشيوخ السبعون قبل المسيح بنحو مائتي سنة أو أكثر، وسموه باليونانية
«بلكانس» وهو بالعبرية «قات»، وزان سبب، بهمزة في الوسط.
وقد أجمع أعظم فريق من علماء اللغات على أن «القأت» هذه ساقت كثيرين من المعربين إلى هذا الوهم، وكنا نحن من الهاوين في هوته (راجع لغة العرب 8 : 358 إلى 360)، أما الآن فنعدل عنه إلى الحق، تابعين فيه رأي الأستاذ الجليل «كرلو نلينو» - رحمه الله - على ما صرح به في مجلة المجمع العلمي العربي في دمشق (10 : 65 إلى 760).
ومن أسماء «القوق» التم (راجع ما حققناه في مجلتنا لغة العرب 8 : 360)، وأخذ الفرس منا اسم القوق فقالوا: «قو » و«غو»؛ والترك، فقالوا: «قوغو» جامعين بين اللفظين الفارسيين، أو أنهم صحفوا «القوق» تصحيفا يوافق لغتهم، وراجع أيضا البجع في هذا الفهرس. (3) و(4) اللغلغ غير اللقلق
على أن الأقدمين من اللغويين كانوا يجعلون الواحد الآخر، ولا يميزون بينهما؛ اعتقادا منهم أن ما كان بالغين لغة في القاف، على ما ورد في كلامهم أكثر من أن يحصى، فقد قالوا مثلا: سمعت نغية حق أو نقية حق، وامتشقه كامتشغه، وتزيغ وتزيق، إلى آخر ما عندهم، ونرى اليوم في أنحاء العراق وبعض مدن ديار إيران من لا يستطيع أن يلفظ «القاف»، بل يقول دائما: «الغاف»، فلا يمكنهم أن يقولوا: «الحق»، و«القرآن»، و«القرابة»، بل «الحغ»، و«الغرآن»، و«الغرابة»، وكل ذلك غريب؛ ولهذا كان رأينا مرة أن اللقلق هو اللغلغ.
وفي حياة الحيوان: «اللغلغ: طائر أعجمي طويل العنق، وكنيته «أبو حديج».»
وعبر عنه الجوهري بالقاف، وهو اسم أعجمي. قال: وربما قالوا: «اللغلغ» وفي القاموس في لغغ. «اللغلغ: طائر غير اللقلق.» ا.ه. وقال في لقق: «اللقلق ... طائر، أو الأفصح اللقلاق، والجمع لقالق.» ا.ه.
وفي اللسان في لغغ: «اللغلغ: طائر معروف. غيره: اللغلغ طائر معروف، قال ابن دريد: لا أحسبه عربيا.» وقال في مادة «ل ق ق»: «اللقلق واللقلاق طائر أعجمي، طويل العنق، يأكل الحيات، والجمع: لقالق، وصوته: اللقلقة، وكذلك كل صوت في حركة واضطراب.» ا.ه.
وفي محيط المحيط: «اللقلاق: طائر أعجمي نحو الإوزة، طويل العنق، وكنيته عند أهل العراق «أبو حديج»، وربما قالوا: اللغلغ «كذا»، وهو يأكل الحيات، ويوصف بالفطنة والذكاء، ومن ذكائه: أنه يتخذ له عشين، يسكن في كل واحد منهما بعض السنة، وأنه إذا أحس بتغير الهواء عند حدوث الوباء ترك عشه وهرب من تلك الديار.» ا.ه.
على أن البصراء من علماء الحيوان من أبناء هذه اللغة ميزوا بين اللقلق واللغلغ، فقد قال القلقشندي في صبحه (2 : 63): «اللغلغ: الثالث من طير الجليل أو طير الواجب، وهو دون الإوز في المقدار، لونه كلون الإوز الحبشي إلى السواد، أبيض الجفن ، أصفر العين، ويعرف بمصر بالعراقي، ويأتي إليها في مبادئ طلوع زرعها، في زمن إتيان الكراكي إليها، ومن شأنها أن يتقدمها واحد منها كالدليل لها ؛ ثم قد تكون صفا واحدا ممتدا كالحبل، ودليلها في وسطها متقدم عليها بعض التقدم؛ وقد يصف خلفه صفين ممتدين يلقيانه في زاوية حادة، حتى يصير كأنه حرف جيم بلا عراقة، متساوية الطرفين.» «ومن خاصتها: أنها إذا كبرت، حدث في بياض بطونها وصدورها نقط سود، والفرخ منها لا يعتريه ذلك.» ا.ه.
كان رأينا في السابق أن اللغلغ لغة في اللقلق، متأثرين أقوال بعض اللغويين كما ذكرنا قبيل هذا، فكتبنا بذلك إلى الأستاذ الجليل المحقق المدقق مصطفى جواد، وهو اليوم في باريس، فكتب إلينا منها في 20 / 1 / 1938 ما هذا نصه: «... وأما اللغلغ فليس بلغة في اللقلق، كالذي ذكرتم، وإنما هو طائر آخر، اشتق اسمه من لقلقته، واللقلق هو السبيطر، كما ذكرت لكم، وليس بمالك الحزين، قال شارح ديوان المتنبي، وأظنه شمس الدين ابن الخباز الإربلي في قول المتنبي:
وملمومة سيفية ربعية
تصيح الحصا فيها صياح اللقالق
ما صورته ... واللقالق جمع لقلق، وهو طائر يسكن العمران في أرض العراق، وهو كثير في قرى العراق ... وهو من طيور الجليل، والجليل أربعة عشر صنفا ... إوزة، نمر، أنيسة، صوغ، أرنوق (كذا، لعلها غرنوق)، لغلغ، كركي، عناز، مرزم، عقاب، سبيطر، وهو هذا اللقلق.» ا.ه.
ثم قال الأستاذ متمما كلامه: فهو لم يذكر كل هذا إلا ليؤكد أن اللقلق هو السبيطر «وغير اللغلغ»، ثم إن الأوصاف تمنع أن يكون السبيطر غير اللقلق، ففي قصيدة الشاعر العامي عمر بن السفت الذي هرب من الإمام الناصر لدين الله إلى حلب، وامتنع من الادعاء للإمام بعد وصفه «المرزم» في مخمسه:
وبعده السبيطر المكنى
أبيضه أسود ما ذكرنا
فيه لمن قد يتمعنى معنى
مغرزه أحسن ما وصفنا
وقال شهاب الدين محمود الكاتب الحلبي، الشاعر المشهور في كتابه «حسن التوسل إلى صناعة الترسل» في وصفه بعد المرزم: «والتحق به سبيطر، كأنه مدية مبيطر، ينحط كالسيل، ويكر على الكواسر كالخيل، ويجمع من لونه بين ضدين، يقبل بالنهار، ويدبر بالليل، يتلوى في منقاره الأيم تلوي السنا في الغيم:
تراه في الجو ممتدا وفي فمه
من الأفاعي شجاع أرقم ذكر
كأنه قوس رام عنقه يدها
ورأسه رأسها والحية الوتر
فهذا وصف اللقلق وصيده للحيات وطيرانه بها إلى عشه.» ا.ه.
ومن أعجب ما أوكد لكم به ذلك ما ورد في ديوان سبط التعاويذي، ونصه: «وقال في ناظر يلقب باللقلق، وكان جماعة من خواص الخليفة - خلد الله ملكه - يخرجون إلى معاملته للبرزة (أي للخرجة إلى الصيد) بطريق الولع به:
يا ابن عبد الحميد، إني نصيح
لك فاقبل نصيحتي ووصاتي
أنت من جملة الجليل أو ما زل
ت كثير الأصحاب والفلوات
فتخيش ففي طريق خراسا
ن رماة أكرم بهم من رماة
وتحرز حفظا لنفسك من وج
ه عشاء فهم ووجه عداة
واعتصم بالجدار لا تنأ عن
عشك في مثل هذه الأوقات
وتيقن أن السبيطر لا يق
صد إلا في مهمه أو فلاة
أو فدعها ولاية أنت فيها
غرضا للهموم والآفات»
يقول له: يا فلان اللقلق، أنت من الطير الجليل، فكيف خرجت من أعالي الجدران، وفيها عشك، فتعرضت لأن ترمى، مع أنك لو بقيت على الجدار، لم يجز للرامي رميك؛ لأن السبيطر؛ أي اللقلق، أي إياك أعني، لا يعد صيدا جليلا إلا إذا خرج إلى المهمه والفلاة، وأما وهو على الجدار فلا.
وقال الشيخ الإمام الفقيه الشافعي، محمد بن إسماعيل بن ودعة المعروف بابن البقال، من أهل الظفرية ببغداد، والمعيد في المدرسة النظامية، المتوفى سنة 588، في كتابه «المقترح في المصطلح» ما نصه: «وقد اشترطوا في الاعتداد بالسبيطر أن يصرع في موضع يكون بينه وبين الجدران خمس مقامات. وقال في موضع آخر: وأما موضع صرعه فاعلم أن لا يشترط إلا في السبيطر دون باقي الأصناف، فاشترط الرماة أن يكون بين موضع صرعه وبين الجدران خمس مقامات فما زاد ... وإنما اشترطوا ذلك؛ لأنه يتخذ الجدران سكنا، فإذا قرب «الرامي» منه توقف في الطيران توقفا يصير به كالمساعد له، لا كما إذا بعد، فإنه يجد في طلب مأواه، بخلاف ما عداه من الطيور العتيق.» ا.ه.
ثم قال الأستاذ المصطفى: أما اللغلغ فقد قال فيه عمر بن السفت في مخمسه:
والقهقريات من اللغالغ
والخزري حبي إليه بالغي
والجفن كالعسجد عند الصائغ
والقلب من حبي له بفارغ
وبعد ذا حسن المعاني اكتمل
يا حسنها تحن في صباحها
إن هبت النسمة في صباحها
حتى إذا ما نشرت جناحها
عند حواشي الفيض في مراحها
هناك يرتاح لها قلب البطل
بمقلة تشبه طرف الريم
مسودة في غنجها كالميم
في مشيها تخطر كالعظيم «إن لغلغت» في الصبح والنسيم
تهتف بالأسحار صوتا لم يمل
طول الشتا تسكن في العراق
وفي الربيع تعزم الفراق
تقتلني في حبها أشواقي
ثم يصير الدمع كالمهراق
إذا نأت عني وفي الخد هطل
وقال في قصيدة أخرى:
هل ذاك بالرق، بالغوير، أنارا
أم أضرموا بلوى المحصب نارا؟
وصبا إلى البرزات قلب كلما
طارت به خزر اللغالغ طارا!
ف «اللغلغ» يترك العراق في الربيع ويشتو به، وهو من بنات الماء، وليس من طير العمران، وليس في الجليل من طيور العمران سوى السبيطر أي اللقلق، ولذلك جعلوا لصيده المقبول الفتوي شروطا، وقد تقدم ذكرها. ا.ه. كلام الأستاذ مصطفى جواد المحقق.
ونحن نشكر له هذه الإفادات الجليلة التي لم ترد مجموعة في كتاب، وقد آثرنا درجها هنا إفادة لعلماء الطير من أهل هذه اللغة؛ لأن الكتب التي ذكرها السرسور المحقق هي من مخطوطات خزانة الكتب الباريسية، ولم ترد في مصنف مطبوع إلى يومنا.
وفي هذا الكلام تحقيق بديع للسبيطر فضلا عن اللقلق، واللغلغ، وطير الجليل، ونزيد القراء فائدة أننا سمعنا في أثناء إقامتنا على جبل المحرقة (وهو ذؤابة الكرمل)، في سنة 1924-1925، كلمة اللغلغ بضم اللامين كهدهد.
وقد سبقنا فقلنا إنهم يسمون اللقلق أو السبيطر «أبو سعد» بفتح السين والعين، أو «أبو سعيد» بإسكان السين وكسر العين لا بفتحها، ولا يعرف الفتح إلا القليلون.
وليس هنا مكان هذا المقال الطويل العريض؛ إنما دوناه للاحتفاظ به، وردا على كثير من كتبوا في هذا الموضوع، وخبطوا فيه خبط عشواء، ولا نريد أن نسمي أحدا، فإنهم في أغلاطهم الجريئة ، ومماحكاتهم الوقحة، ومجادلاتهم الفارغة، واحتقارهم للناس، غنى عن ذكرهم بأعيانهم.
فائدة في الطيور الملقمة
بقي علينا أن نذكر هنا فائدة لغوية تتعلق بعلم الطيور وهي هذه:
ذكرنا في كلامنا على «البجع» أنه يطعم فراخه، والآن نقول إن هذه الطيور التي تفعل ذلك «كاللقلق أو السبيطر، والحبارج»، والعصفور تسمى: «الملقمة»، بضم الميم، وإسكان اللام، وكسر القاف، وفتح الميم وفي الآخر هاء، وقد جاءت هذه اللفظة في لسان العرب مصحفة بصورة «الملعمة» في مادة «حبرج». قال: «ابن الأعرابي: الحبارج: من طير الماء.» ا.ه. فسألت السيد محمود السيد شكري الآلوسي عن معنى «الملعمة»، فكتب إلي يقول: الملعمة تصحيف قبيح «للملقمة»، وهي الطيور التي تلقم فراخها إلقاما ولا تزقها زقا. ا.ه. قلنا يؤيد هذا الرأي ما قاله الجاحظ في كتاب «الحيوان» ذاكرا أقسام الطير، قال: «ومنها ... والمشترك عندهم كالعصفور فإنه ليس ذي مخلب معقف، ولا منسر، وهو يلقط الحب، وهو مع هذا يصيد النحل إذا طار، ويصيد الجراد، ويأكل اللحم، ولا يزق فراخه كما تزق الحمام، بل يلقمها كما تلقم السباع من الطير فراخها وأشباه العصافير من المشترك كثير.» ا.ه.
فهذه فوائد فرائد لا يستغني عن الوقوف عليها كاتب ولا عالم أيا كان.
ناپیژندل شوی مخ