صاغرين، وليس معه ما يرغب فيه حتى يترك هؤلاء العظماء اباءهم وذوي الثروة منهم ويتبعوا الرسول ليأكلوا من فضل ماله، بل كان الكثير منهم واسع الثروة أكثر منه ﵊ كأبي بكر وعثمان وخالد بن سعيد وغيرهم. والذين اتّبعوه من الموالي اختاروا الأذى والجوع والمشقّات مع اتّباع الرسول، بحيث لو اتّبعوا سادتهم لكانوا في هذه الدنيا أهدأ بالا وأنعم عيشة، اللهمّ ليس ذلك إلّا من هداية الله وسطوع أنوار الدين عليهم، حتى أدركوا ما هم عليه من الضلالة وما عليه رسول الله من الهدى
الجهر بالتبليغ
مضت كل هذه المدة والنبي ﵊ لا يظهر الدعوة في مجامع قريش العمومية، ولم يكن المسلمون يتمكّنون من إظهار عبادتهم حذرا من تعصب قريش. فكان كلّما أراد العبادة ذهب إلى شعاب مكة يصلي مستخفيّا. ولمّا دخل في الدين ما يربو على الثلاثين، وكان من اللازم اجتماع الرسول بهم ليرشدهم ويعلمهم، اختار لذلك دار الأرقم بن أبي الارقم وهو ممن ذكرنا اسلامهم- ومكث ﵊ يدعو سرّا حتى نزل قوله تعالى في سورة الحجر فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ «١» فبدّل الدعوة سرا بالدعوة جهرا ممتثلا أمر ربه واثقا بوعده ونصره، فصعد على الصفا «٢» فجعل ينادي: يا بني فهر، يا بني عدي، لبطون قريش، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر الخبر، فجاء أبو لهب بن عبد المطلب قريشا، فقال ﵊: أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقيّ؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك كذبا، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب تبا لك ألهذا جمعتنا؟ فأنزل الله في شأنه تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ سَيَصْلى نارًا ذاتَ لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ «٣» والقصد من حمل الحطب المشي بالنميمة لأنها كانت تقول على رسول
_________
(١) اية ٩٤.
(٢) مكان مرتفع من جبل أبي قبيس بمكة.
(٣) رواه الإمام أحمد عن ابن عباس وهي سورة المسد.
1 / 35