في أثناء هذا الوقت الطويل كان ضعف الأمة اليونانية قد أصبح شيئا محققا، وكانت قوة مقدونيا قد اشتدت وعظمت حتى استطاع فيليبوس ملكها أن يقهر الأتينيين وأهل طيبة مرات متعددة، وأن يكره الأمة اليونانية على أن تقبله عضوا من أعضاء الأنفكتيون، وهي جماعة دينية سياسية كانت تقوم على حراسة دلف ومعبد أبولون فيها، بل استطاع فيليبوس أن يكره اليونان على أن يتخذوه قائدا عاما لجيشهم في حرب كان يريد أن يعلنها على الملك الأعظم ملك الفرس، فأصبح منذ ذلك الوقت يونانيا، بل أصبح زعيم اليونان.
في سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة كتب فيليبوس إلى أرسطاطاليس يدعوه إليه ليكون مؤدبا لابنه الإسكندر، فسافر أرسطاطاليس إلى مقدونيا وأقام فيها سبع سنين، وليس من شك في أن ما يرويه التاريخ والأساطير من كلف الإسكندر بشعر هوميروس وأبطاله، لا سيما أخيل، إنما هو أثر من آثار أستاذه، ولا شك أيضا في أن أرسطاطاليس قد كون عقل الإسكندر تكوينا فلسفيا قويا، فإن القصص تروي لنا ميلا شديدا من الإسكندر إلى ضروب كثيرة من الفلسفة، ويقال إن أرسطاطاليس قد علم الإسكندر مذهبه الخاص في الفلسفة، وإن الإسكندر كان يحرص على أن يكون أول من يقرأ كتب أستاذه، وقد كان يحفظ الرواة كتبا مختلفة تبودلت بين الإسكندر أثناء غيبته في آسيا وبين أرسطاطاليس، ولكن المحدثين يشكون في صحة ما بقي منها.
هناك أمر لا شك فيه هو أن أرسطاطاليس عاد إلى أتينا سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة حين بدأت غارة اليونان بزعامة الإسكندر على الفرس، وأن الصلة قد استمرت قوية متينة بين التلميذ وأستاذه، فكان الإسكندر يمنح الفيلسوف من المال ما يمكنه من البحث العلمي، وكان يبعث إليه بأنواع مختلفة من الحيوان والنبات؛ وغير ذلك من غرائب الطرف التي كانت تهم باحثا يريد أن يستقصي في بحثه كل شيء كأرسطاطاليس.
على أن هذه الصلة لم تلبث أن انقطعت وفتر ما كان بين الأستاذ وتلميذه سنة خمس وعشرين وثلاثمائة.
كان لأرسطاطاليس ابن أخ أو ابن أخت يقال له كليستنيس، وكان كليستنيس هذا فيلسوفا مؤرخا، بل كان أديبا ذا حظ من الخيال، فصحب الإسكندر في رحلته وكأنه كان الصلة الحية بين الأستاذ والتلميذ، ولكن الإسكندر لم يكد يقهر الفرس ويملك بابل وغيرها من المدن الشرقية المقدسة حتى طغى وتجبر وأسخط من كان حوله من اليونان والمقدونيين لشيئين؛ الأول: أنه نسي أو تناسى ما كان له من مركز الفاتح القاهر وخيل إليه أنه يستطيع أن يجمع بين اليونان والفرس ويكون منهم أمة واحدة أو على أقل تقدير طبقة واحدة حاكمة ليست بالفارسية الخالصة ولا اليونانية الخالصة.
وقد بدأ في ذلك فاقترن إلى روكسان بنت دارا الملك المقهور، وألح على قواده وأفراد جنده أن يفعلوا فعله فيقال إنه شهر في ليلة عرسه عشرة آلاف عرس بين اليونان والفارسيات، ثم لم يكتف بذلك، بل أحسن معاملة الزعماء من الفرس ورد إليهم أموالهم وقربهم منه حتى أشفق اليونان والمقدونيون أن يغلبهم هؤلاء الزعماء على أمرهم. الثاني: أن الإسكندر أراد أن يكون ملكا شرقيا، وسلك إلى ذلك سبل ملوك الشرق من المصريين والفرس، فأراد أن يعبد ويتخذ إلها، ولم يكتف بأن يأخذ الشرقيين وحدهم بهذه العبادة، بل أراد أن يفرضها على اليونان والمقدونيين الذين كانوا قد تعودوا الحرية والأنفة، والذين كانوا يزدرون «ذلة الشرقيين» وتقديسهم لرجال مثلهم.
فلما طلب الإسكندر ذلك إلى اليونان ظنوا أنه يمزح فاستضحكوا، فلما آنسوا منه أنه جاد سخروا منه وهزءوا به، ثم أطاع بعضهم كارها وعصى بعضهم مذكرا هذا الإله الجديد بمولده ونشأته وفضل اليونان والمقدونيين عليه، ومن ذلك الوقت ساءت الصلة بين الإسكندر وأعوانه، فأتمر به بعضهم، وكان من المؤتمرين كليستنيس هذا فقتل، وكان قتله قاطعا للصلة بين الملك والفيلسوف.
نستطيع أن نعد هذا العصر الأخير الذي مكثه أرسطاطاليس في أتينا من سنة خمس وثلاثين إلى سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة عصر الإنتاج العلمي، فإن أرسطاطاليس لم يكد يستقر في أتينا حتى بدأ دروسه العلمية والفلسفية والأدبية، واتخذ لهذه الدروس بناء خارج المدينة كان ملعبا رياضيا للأتينيين يسمى لوكايوم «ليسيه»، واتخذ من هذا الملعب موضعا خاصا كان يسمى بيريبانوي؛ أي موضع المشي؛ لأن الأتينيين كانوا يمشون فيه ذاهبين جائين بعد أن يكونوا قد نظروا إلى الطلاب وهم يلعبون.
وكان أرسطاطاليس يمشي في هذا المكان مع تلاميذه متحدثا إليهم بما يريد أن يدرسه معهم، وقد قسم يومه قسمين؛ فأما الصباح فكان يلقي فيه دروسا عامة قليلة التحقيق كثيرة الوضوح يراد بها نشر العلم والفلسفة بين الجمهور الذي لا يريد أن يتخصص ولا أن يتخذهما حرفة، وأما المساء فقد خصصه للدرس الفلسفي العويص وقصره على تلاميذه الذين كانوا يتخصصون للدرس والتحصيل.
وقد انقسمت آثار أرسطاطاليس نفس هذا الانقسام، فقسم منها ألف للعامة وقسم منها ألف للخاصة كما سترى ذلك بعد حين.
ناپیژندل شوی مخ