: وكنت أنا ، اجتمعت ببغداد ، في سنة نيف وخمسين وثلثمائة ، مع أبي علي بن أبي عبد الله بن الجصاص ، فرأيت شيخا طيبا ، حسن المحاضرة ، فسألته عن الحكايات التي تنتسب إلى أبيه ، مثل قوله خلف إمام قد قرأ ' بسم الله الرحمن الرحيم ' غير المغضوب عليهم ولا الضالين ' صدق الله العظيم ' ، فقال : إي لعمري ، بدلا من آمين . ومثل قوله للخاقاني الوزير : أسهرني البارحة صوت الكلاب في الحارة على بابي ، كل كلب مثلي ومثل الوزير . وقوله له ، وأراد تقبيل رأسه ، فقال : إن فيه دهنا فلا تفعل ، فقال : لو كان في رأس الوزير خرا لقبلته . ومثل قوله : قمت البارحة في الظلمة إلى الخلاء فما زلت اتلحظ المقعدة حتى وقعت عليها . ومثل قوله وقد وصف مصفحا بالعتق ، فقال : هو كسروي ، وأمثال هذا على كثرته ، وتواتر الرواية له . فقال لي : أما أمر المقعدة ، وإي لعمري ، وما كان من هذا الجنس ، فكذب ، وما كانت فيه سلامة تخرجه إلى هذا ، وما كان إلا من أدهى الناس وأخبثهم ، ولكنه كان يطلق بحضرة الوزراء قريبا مما حكي عنه ، بسلامة طبع كانت فيه ، ولأنه كان يحب أن يصور نفسه عندهم بصورة الأبلة ، ليأمنه الوزراء ، لكثرة خلواته بالخلفاء ، فيسلم عليهم ، وأنا أحدثك عنه بحديث حدثنا به ، لتعلم معه إنه كان في غاية الحزم ، وإن فاعله لا يجوز عليه مثل ما حكي عنه . فقلت : أحب أن تفعل . قال : حدثنا أبي قال : إن أبا الحسن بن الفرات ، لما ولي بعض وزاراته قصدني قصدا قبيحا ، لشيء كان في نفسه علي ، فأنفذ العمال إلى ضياعي ، وأمر بنقص معاملاتي ، وبسط لسانه بثلبي وتنقصي في مجالسه ، وأدام الغض مني إذا دخلت إليه . فوسطت بيني وبينه جماعة ، وبذلت له أشياء توجب صلاح ما بيننا ، فما نجعت ، وأقام على قصدي ، وأنا محتمل ، طامع في رجوعه . فدخلت يوما داره ، فسمعت حاجبه يقول وقد وليت عنه : أي بيت مال يمشي على وجه الأرض ؟ ألفا ألف دينار تمشي وليس لها من يأخذها ؟ فعلمت أن هذا من كلام صاحبه ، وأني منكوب ، وكان عندي في ذلك الوقت سبعة آلاف ألف دينار ، عينا وجوهرا ، سوى غيرهما مما يحتوي عليه ملكي . فضاقت علي الدنيا ، وسهرت ليلتي بأسرها أفكر في أمري معه ، فوقع لي الرأي في الثلث الأخير ، فركبت في الحال إلى داره ، فوجدت الأبواب مغلقة ، فطرقتها . فقال البوابون : من هذا ؟ . فقلت : ابن الجصاص . فقالوا : ليس هذا وقت وصول ، والوزير نائم . فقلت : عرفوا الحجاب أني حضرت لمهم ، فعرفوهم ، فخرج إلى أحدهم ، فقال : إنه إلى ساعة ينتبه ، فتجلس وتنتظر . فقلت : الأمر أهم من ذلك ، فأنبهه وعرفه عني هذا . فدخل ، فأبطأ ساعة ، ثم خرج ، فأدخلني من دار إلى أخرى ، حتى انتهيت إلى مرقده ، وهو على سرير وحواليه نحو خمسين فراشا لغلمان له ، كأنه حفظه وقد قاموا ، وبعض الفرش تنقل ، وهو جالس في فراشه ، مرتاعا ، قد ظن أن حادثة حدثت ، أو أني جئته برسالة الخليفة ، وهو متوقع لما أورده . فرفعني ، وقال : ما الذي جاء بك في هذا الوقت ؟ فقلت : خير ، ما حدثت حادثة ، ولا معي رسالة ، وما جئت إلا في أمر يخص الوزير ويخصني ، لم تصلح مفاوضته فيه إلا على خلوة شديدة فسكن ، ثم قال لمن حوله : انصرفوا ، فمضوا . وقال : هات . فقلت : أيها الوزير إنك قد قصدتني أقبح قصد ، وشرعت في هلاكي ، وإزالة نعمتي ، وفي إزالتها خروج نفسي ، وليس من النعمة والنفس عوض ، ولعمري أني قد أسأت في خدمتك ، وقد كان في بعض هذا التقويم بلاغ عندي ، وقد جهدت في استصلاحك بكل ما قدرت عليه ، ووسطت بيني وبينك فلانا ، وبذلت كذا ، قلت كذا ، فأبيت إلا الإقامة أذاي ، وليس شيء أضعف من السنور ، وإذا عاثت في دكان بقال فظفر بها ، ولزها إلى الزاوية ليخنقها ، وثبت عليه ، فخدشت وجهه وبدنه ، ومزقت ثيابه ، وطلبت الحياة بكل ما يمكنها ، وقد وجدت نفسي معك في مثل هذه الصورة ، ولست أضعف بطشا من السنور ، وقد جعلت هذا الكلام عذرا بيننا ، فإن نزلت تحت حكمي في الصلح ، وإلا فعلي وعلي ، وحلفت له بأيمان عظيمة ، لأقصدن الخليفة الساعة ، ولأحولن إليه من خزانتي ألفي ألف دينار عينا وورقا ، ولا أصبح إلا وهي عنده ، وانت تعلم قدرتي عليها ، وأقول له : خذ هذا المال ، وسلم ابن الفرات إلى فلان ، واستوزره ، وأذكر له أقرب من يقع في نفسي أنه يجيب إلى تقليده ، ممن له وجه مقبول ، ولسان عذب ، وخط حسن ، ومخرقة حادة ، ولا أعتمد إلا بعض كتابك ، فإنه لا يفرق بينك وبينهم إذا رأى المال حاضرا ، فيسلمك في الحال لهم ، ويراني المتقلد بعين من أخذه وهو صغير ، فجعله وزيرا ، وغرم عنه هذا المال الكثير ، ويعتقد أني ربه وولي نعمته ، فيخدمني ، ويتدبر بتدبيري ، في جميع أمره ، فأسلمك إليه ، فيفرغ عليك العذاب ، حتى يأخذ منك الألفي ألف دينار بأسرها ، وأنت تعلم أن حالك تفي بها ، ولكنك نفتقر بعدها ، ويرجع إلى المال ، ولا يذهب علي منه دانق ، وأكون قد أهلكت عدوي ، وشفيت غيظي ، واسترجعت مالي ، وصنت نعمتي ، وازداد محلي عظما بصرف وزير ، وتقليد وزير . فلما سمع هذا أسقط في يده ، وقال : يا عدو الله أو تستحل هذا ؟ . فقلت : لست عدو الله ، بل عدو الله من استحل مني ما أحوجني إلى الفكر في مثل هذا ، ولم لا أستحل مكروه من يريد هلاكي وزوال نعمتي ؟ . فقال : أو أيش ؟ . قلت : أو أن تحلف الساعة بما أستحلفك به من الإيمان المغلظة ، أنك تكون لي لا علي ، في صغير أمري وكبيره ، ولا تنقص لي رسما ، ولا تغير معاملة ، ولا تضع مني ، وتزيد في رفعتي ، وذكري بالجميل ، ولا تبغي لي الغوائل ، ولا تدسس علي المكاره ، ولا تشرع لي في سوء ولا نكبة أبدا ، ظاهرا ولا باطنا ، وتفعل وتفعل ، فاشترطت عليه الأمن من كل ما كنت أخافه منه . فقال : وتحلف أنت أيضا بمثل هذه اليمين على جميل النية ، وحسن الطاعة والمؤازرة . فقلت : أفعل . فقال : لعنك الله فما أنت إلا إبليس ، سحرتني والله . واستدعى دواة ، وعملنا نسخة اليمين ، فأحلفته بها أولا ، ثم حلفت له . فلما أردت القيام ، قال : يا أبا عبد الله لقد عظمت في نفسي وخففت ثقلا عني ، فو الله ما كان المقتدر يفرق بيني مع كفايتي وغنائي وموقعي ، وبين أخس كتابي - كما ذكرت - مع المال الحاضر ، فليكن ما جرى مطويا . فقلت : سبحان الله . فقال : وإذا كان غدا ، فصر إلى المجلس العامي لترى ما أعاملك به . فنهضت ، فقال : يا غلمان ، بأسركم بين يدي أبي عبد الله ، فخرج بين يدي مائتا غلام ، فعدت إلى داري وما طلع الفجر ، فاسترحت . وجئته في وقت المجلس ، فرفعني فوق جميع من كان بحضرته ، وقرظني التفريط التام ، وعاملني بما علم منه الحاضرون ، رجوعه لي ، وأمر بإنشاء الكتب إلى عمال النواحي ، بإعزاز وكلائي ، وصيانة أسبابي وضياعي وتقدم إلى كتاب الدواوين بإخراج كل ما كانوا أدخلوه إليها من تغيير رسومي ، والزيادة علي ، وأن أجرى على الرسوم القديمة . فشكرته ، وقمت ، فقال : يا غلمان بين يديه ، فخرج الحجاب يجرون سيوفهم بين يدي ، والناس يشاهدون ذلك ، ويعجبون منه ، وقد رجع جاهي ، ولم يعلم أحد سبب صلاح بيننا ، فما حدثت بذلك إلا بعد القبض عليه . ثم قال لي أبو علي ابنه : فهل كان هذا فعل ورأي من يليق به ما حكي من تلك الحكايات عنه ؟ فقلت : لا .
مخ ۱۸