بسم الله الرحمن الرحيم اللهم يسر وأعن الحمد لله الواحد العدل، وصلى الله على محمد نبيه خاتم الرسل ، وعلى آله الطيبين ذوي الطهارة والفضل.
هذه ألفاظ تلقطتها من أفواه الرجال، وما دار بينهم في المجالس، وأكثرها مما لا يكاد يتجاوز به الحفظ في الضمائر، إلى التخليد في الدفاتر، وأظنها ما سبقت إلى كتب مثله، ولا تخليد بطون الصحف بشيء من جنسه وشكله، والعادة جارية في مثله، أن يحفظ إذا سمع ليذاكر به إذا جرى ما يشبهه ويقتضيه، وعرض ما يوجبه ويستدعيه.
ولعل قارئها والناظر فيها أن يستضعفها إذا وجدها خارجة عن السنن
المعروفة في الأخبار، والطريق المألوف في الحكايات والآثار، الراتبة في الكتب، المتداولة بين أهل الأدب، ولا سيما ما لم يعلم السبب الذي رغبني في كتبها، وهو أني اجتمعت قديما مع مشايخ فضلا، علماء أدباء ، قد عرفوا أحاديث الملل، وأخبار الممالك والدول، وحفظوا مناقب الأمم ومعايبهم، وفضائلهم ومثالبهم، وشاهدوا كل فن غريب، ولون طريف
عجيب، من أخبار الملوك والخلفاء، والكتاب والوزراء، والسادة والأمراء، والرؤساء والفضلاء، والمحصلين والعقلاء، والأجواد والبخلاء، وذوي الكبر والخيلاء ، والأشراف والظرفاء ، والمخرفين والجلساء ، والمحادثين والندماء، والأذكياء والفهماء، والأسخياء والكرماء، والسفهاء والحلماء، والفلاسفة والحكماء ، والمتكلمين والعلماء ، والمحدثين والفقهاء ، وأهل الآراء والأهواء ، والمتأدبين والأدباء، والمترسلين والفصحاء، والرجاز والخطباء، والعروضيين والشعراء، والنسابين والرواة، والحفاظ والدراة ، واللغويين والنحاة، والشهود والقضاة ، والأمناء والولاة ، والمتصرفين والكفاة، والفرسان والأمجاد، والشجعان والأنجاد، والجند والقواد،
وأصحاب القنص والاصطياد، والجواسيس والمتخبرين ، والسعاة والغمازين ، والوراقين والمعلمين، والحساب والمحررين ، والعمال وأصحاب الدواوين ، والتناء والمزارعين، وأرباب الخراج والأرضين، والأكرة
والفلاحين، والمتكلمين على الطرق ، [وأصحاب الحادور والحلق] ، والواعظين والقصاص ، وذوي التنمس والإخلاص ، وأهل الصوامع والخلوات، والسياح في الجبال والفلوات، والنساك والصالحين، والأبدال والمتفردين،
والمريدين والمخبتين ، والعباد
والمتبتلين ، والزهاد والمتوحشين ، والصوفية ، والمتواجدين ، والأئمة والمؤذنين ، والقراء | والملحنين ، والرجحاء والمبرزين ، وأهل النقص والمقصرين ، والأغنياء والمملقين ، | والأغبياء والمتخلفين ، والفطناء والمتقدمين ، والشطار والمتقين ، وأصحاب العصبية | والسكاكين ، وقطاع الطريق والمتلصصين ، والجيران والمتغربين ، وأهل الخسارة | والعيارين ، ولعاب النرد والشرنجيين ، والملاح والمتطايبين ، والمسامرين والمضاحكين ، | وأصحاب النادرة والمضكين ، والمورثين والمبذرين ، والطفيلية والمتطرحين ، والأكلة | والمواكلين ، والشراب والمعاقرين ، والمغنيات والمغنين ، والرقاصين والمخنثين ، وأصحاب | الستائر والمقينين ، والمتقاينين والمستمعين ، وأهل الهزل والمتخالعين ، والمجان والمجانين ، | والبله والمغفلين ، والمفكرين والموسوسين ، وأهل المذهب والسوداويين ، والمشعبذين | والمحتالين ، والمللحدة والمنبين ، والأطباء والمنجمين ، والكحالين والفصادين ، والأساة | والمجبرين ، ومعالجي الجرائح والقمائحيين ، وأصحاب الزجر ، والزراقين ، وأهل القرعة | والمقالين ، والطواف بالسهام والمفسرين ، والشحاذين والمجتدينن والمجدودين والمحدودين ، | والسعاة والمسافرين والمشاة والمتغربين ، والسباح والغواصين ، والبانانية والملاحين | وسلاك البحار والمفازات ، وأهل المهن والصناعات ، والمياسير والفقراء ، والتجار | والأغنياء ، والفواصل من النساء ، وحرائرهن والإماء ، وخواص الأحجار والحيوانات ، | وغريب الأدوية والعلاجات ، والرقي والنيرنجيات ، والأحاديث المفرادات ، وشاذ | الاتفاقات ، وطريف المنامات ، وشريف الحكايات ، وغير ذلك من ضروب أحاديث | أهل الخير والشر ، وبعدا وقربا .
وكان القوم الذين استكثرت منهم ، وأخذت ذلك عنهم ، يحكونه في أثناء | مذاكراتهم ، وفي عرض مجاراتهم ، وبعد انقضاء ملحهم وآدابهم ، والخوف من ملل | يلحق السامعين لعلومهم وحكمهم ، نفيا للمساكنة ، واجترارا للمثافنة ، وصلة | للمجالسة ، وفتحا للمؤانسة ، وسبرا لأحاديث الدنيا : ماضيها وباقيها ، وتواصفا | لسير أهلها وما جرى فيها ، وتمثيلا بين ما شاهدوه منها ، وسمعوه عنها ، وعابوه من | فعلها وعانوه من تقلبها ، وقاسوه من تصرفها ، وأخبروا به من عجائبها ، ويوردون | كل فن من تلك الفنون على حسب ما تقتضيه المحادثة ، وتبتغيه المفاوضة ، فأحفظ | عنهم ذلك في الحال وأتمثل به وأستفيده في أحوال .
مخ ۱
فلما تطاولت السنون ، ومات أكثر أولئك المشيخة الذين كانوا مادة هذا | الفن ، ولم يبق من نظرائهم إلا اليسير الذي إن مات ولم يحفظ عنه ما يحكيه ، مات | بموته ما يرويه ، ووجدت أخلاق ملوكنا ورؤسائنا لا تأتي من الفضل ، بمثل ما | تحتوي عليه تلك الأخبار من النبل ، فسيتغنى بما يشاهد من نظره ، عن حفظ ما | | سلف وتحبيره ، بل هي مضادة لما تدل عليه تلك الحكايات من أخلاق المتقدمين | وضرائبهم ، وطبائعهم ومذاهبهم ، حتى إن من بقي من هؤلاء الشيوخ إذا ذكر ما | يحفظه من هذا الجنس بحضرة أرباب الدولة ورؤساء الوقت ، خاصة ما كان منه | متعلقا بالكرم ، ودالا على حسن الشيم ، ومتضمنا ذكر وفور النعم ، وكبر الهمم ، | وسعة الأنفس ، وغضارة الزمان ، ومكارم الأخلاق ، كذبوا به ودفعوه ، وحصلوه في | أقسام الباطل واستبعدوه ، ضعفا عن إتيان مثله ، واستعظاما منهم لصغير ما وصلوا | إليه ، بالإضافة إلى كبير ما احتوى أولئك عليه ، وقصورا عن أن تنتج خواطرهم | أمثال تلك الفضائل والخصال ، وأن تتسع صدورهم لفعل ما يقارب تلك المكارم | والأفعال هذا مع أن في زمانهم هذا من العلماء المحتسبين في التعليم ، والحكماء | والأدباء المنتصبين للتأديب والتفهيم ، وأهل الفضل والبراعة ، في كل علم وأدب ، | وجد وهزل وصناعة ، من يتقدم بجودة الخاطر ، وحسن الباطن والظاهر ، وشدة | الحدق فيما يتعاطاه ، والتبريز فيما يعانيه ويتولاه ، كثيرا ممن تقدمه في الزمان ، وسبقه | بالمولد في ذلك الأوان ، ويقتصر منهم على الأكرام دون الأموال ، وقضاء الحاجات | دون المغارم والأثقال ، فما يرفعون به رأسا ، ولا ينظرون إليه إلا اختلاسا ، لفساد | هذا العصر ، وتباعد حكمه من ذلك الدهر ، وإن موجبات الطبائع فيه متغيرة | متنقلة ، والسنن دراسة متبدلة والرغبة في التعلم معدومة ، والهمم باطلة مفقودة ، | حاصلون فيما روى من الخبر إن الزمان لا يزداد إلا صعوبة ، ولا الناس إلا شدة ، | ولا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق ، وما أحسن ما أنشدني أبو الطيب المتنبي | لنفسه من قصيدة ، في وصف صورتنا : |
أتى الزمان بنوه في شبيبته
فسرهم أتيناه على الهرم
واتفق أيضا ، أنني حضرت المجالس بمدينة السلام ، في ستة وستين وثلاثمائة ، | بعد غيبتي عنها سنسن ، فوجدتها مختلة ممن كانت به عامرة ، وبمذاكرته آهلة ناظرة ، | ولقيت بقايا من نظراء أولئك الأشياخ ، وجرت المذاكرة ، فوجدت ما كان في | حفظي من تلك الحكايات قديما قد قل ، وما يجري من الأفواه في معناها قد اختل ، | حتى صار من يحكي كثيرا مما سمعناه يخلطه بما يحيله ويفسده ، ورأيت كل حكاية مما | أنسيته لو كان باقيا في حفظي لصلح لفن من المذاكرة ، ونوع من ' نشوار | المحاضرة ' .
مخ ۲
فأثبت ما بقي على ما كنت أحفظه قديما ، واعتقدت إثبات كل ما أسمعه | من هذا الجنس ، وتلميعه بما يحث على قراءته من شعر لمتأخر من المحدثين ، أو مجيد | | من الكتاب والمتأدبين ، أو كلام منثور لرجل من أهل العصر ، أو رسالة أو كتاب | بديع المعنى ، أو حسن النظم والنثر ، وممن لم يكن في الأيدي شعره ولا نثره ، ولا | تكرر نسخ ديوانه ، ولا ترددت معاني إحسانه ، وما فيه من مثل طري ، أو حكمة | جديدة ، أو نادرة حديثة ، أو فائدة قريبة المولد ، ليعلم أن الزمان قد بقي من القرائح | والألباب ، في ضرورة العلوم والآداب ، أكثر مما كان قديما أو مثله ، ولكن تقبل | أرباب تلك الدول للأدب أظهره ونشره ، وزهد هؤلاء الآن في هذا الأدب غمره | وستره ، ولهذه الحال ما انطمست المحاسن في هذه الدول ، وردت أخبار هؤلاء | الملوك ، وخلت التواريخ من عجائب ما يجري في هذا الوقت ؛ لأن ذوي الفضل لا | يفنون أعمارهم بتشييد مفاخر غيرهم ، وإنفاق نتائج خواطرهم ، مع بعدهم عن | الفائدة ، وخلوهم من العائدة ، وأكثر الملوك وذوي الأحوال ، والرؤساء وأرباب | الأموال ، لا يجدون عليهم ؛ فيجيد هؤلاء لهم نسج الأشعار والخطب ، وحوك | الرسائل والكتب التي تبقى فيها المآثر ، ما أقام الغابر ، فقد بخل هؤلاء ، وغفل | هؤلاء ، ورضي كل واحد من الفريقين بالتقصير فيما يجده ، والنقص فيما يعتمده ، | وإلا فقد خرج في أعمارنا وما قربها من السنين ، من مكنون أسرار العلم ، وظهر | من دقيق الخواطر والفهم ، ما لعله كان معتاصا على الماضيين ، ومتنعا على كثير من | المتقدمين ، وجرت في هذه المدة من الحوادث الكبار ، والوقائع العظام والانقلابات | العجبية ، والاتفاقات الغريبة ، والحيل الدقيقة ، والأمور المحكمة الوثيقة ، التي لا يوجد | مثلها سالفا ، في أضعاف هذه السنين مضاعفا ، ما لو قيد بتأليف الكتب ، وحفظ | بتصنيف الأشعار فيه والخطب ، أو خلد على شرحه في تواريخ السنين والحقب ، | لأوفى على ما سلف ، وتقدم في علو الراتب .
وقد أثبت من هذا أيضا طرفا طفيفا ، ونبذا موجزا خفيفا لئلا تخرج هذه | الأخبار عن سبيلها ، ولا تخلو مع ذلك من فنون لا توجد إلا فيها ، وليستفيد منها | العاقل اللبيب ، والفطن الأريب ، إذا طرقت سمعه ، وخالطت فهمه ، من آداب | النفس ، ولطافة الذهن والحسن ، ما يغنيه عن مباشرة الأحوال ، وتلقي مثله من أفواه | الرجال ، ويحثه على العلم بالمعاش والمعاد ، والمعرفة بعواقب الصلاح والفساد ، وما | تفضي إليه أواخر الأمور ، ويساس به كافة الجمهور ، ويجنبه من المكاره حتى لا | يتوغل في أمثالها ، ولا يتورط بنظائرها وأشكالها ، ولا يحتاج معها إلى إنفاد عمره في | التجارب ، وانتظار ما تكشفه له السنون من العواقب .
مخ ۳
فأوردت ما كتبته مما كان في حفظي سالفا ، مختلطا بما سمعته آنفا ، من غير | أن أجعله أبوابا مبوبة ، ولا أصنفه أنواعا مرتبة ، لأن فيها أخبارا تصلح أن يذاكر | | بكل واحد منها في عدة معادن ، أكثرها ما لو شغلت نفسي فيه : بالنظم والتأليف ، | والتصنيف والترتيب ، لبرد واستثقل ، وكان إذا وقف قارئه على خبر من أول كل | باب فيه ، علم أن مثله باقيه ، فقل لقراءة جميعه ارتياحه ونشاطه ، وضاق فيه توسعه | وانبساطه ولكان ذلك أيضا يفسد ما في أثنائه من الفصول والأشعار ، والرسائل | والمثال ، والفصول التي إن رتبت على الأبواب وجب أن توصل بما تقدم من | أشباهها ، وتردد في الكتب من أمثالها ، فينتقض ما شرطناه ، ويبطل ما ذكرناه ، من | أن هذه الأخبار جنس لم يسبق إلى كتبه ، وأنا إنما تلقطتها من الأفواه دون الأوراق ، | ويخرج بذلك عن القصد والمراد ، والغرض المطلوب في الاستقامة والسداد ؛ إذ | ليست الفائدة فيها التنويع ، ولا المغزى التأليف ، بل لعل كثيرا مما فيها لا نظير له | ولا شكل ، وهو وحده جنس وأصل ، واختلاطها أطيب في الآذان وأدخل ، وأخف | على القلوب والأذهان وأوصل .
وعلى أني وإن كنت أتجنب بجهدي أن أثبت فيها شيئا قد كتب قبلي ، أو | تنه على الفائدة في إثباته سواي ، إلا الشعر فإنه غير داخل في هذا الأمر ، فإني في | الأول ربما كتبت شيئا أعلم أنه موجود في الدفاتر عقيب شيء يوجبه ويدعو إليه ، | ولأجل فائدة تحببه وتحض عليه ، واعتمادا لترصيع هذه الأخبار ، بما يحببها إلى أكثر | طلاب الآثار ، وقد جعلت كل واحد من أجزائها ، وهو مائة ورقة ، واحدا قائما | بنفسه ، مستغنيا عن الباقي من جنسه ، لا يخل بفائدة لقارئه دون غيره ، ولا يضطره | إلى سواه مع حضوره ، وإن كان في غيره ضروب أخر من الفوائد لا تعلم إلا منه ، | وصدرت كل جزء برسالة تدل على جنس الأخبار الموردة في جميع الأجزاء ، | والغرض منها ، والسبب الباعث على جمعها ، مختصرة لهذا الشرح الطويل ، وموجزة | في جملة الأجزاء الأخر ما هو في معناه داخل ، ومن نوعه وفنه حاصل ، ومما ليس فيها أخ | له على حسب ما سنح وتيسر ، واتفق ولم يتعذر .
وأرجو أن لا يبور ما جمعته ، ولا يضيع ما تعبت فيه وكتبته وأثبته من ذلك | وصنعته ، فلو لم يكن فيه ، إلا أنه خير من أن يكون موضعه بياضا لكانت فائدة إن | شاء الله تعالى .
وإياه أسأل التوفيق في المقال ، والتسديد في جميع الأفعال ، والعصبة من | الزلل ، والحفظ من الخطإ والوهل ، إنه بذلك ولي ، وبالمرجو فيه منه ملي ، وهو | حسبي ، وإليه في كل أمر مرجعي ، وعليه توكلي ، ولا حول ولا قوة إلا به ، إنه | نعم المولى والوكيل .
مخ ۴
لماذا لا يكذبون على الوزير أعزه الله
حدثني أبو العباس هبة الله بن محمد بن يوسف ، المعروف بابن المنجم النديم ، وهو أحد بني يحيى بن أبي منصور المنجم ، صاحب المأمون ، ومحل أهله وسلفه وبيته في منادمة الخلفاء والوزراء والأمراء مشهور ، وموضعهم من الكلام والنجوم والعلم والأدب وقول الشعر وتصنيف الكتب في أنواع ذلك المعروف ، ومكانهم من المنزلة في خدمة السلطان وعظم النعمة والحال متعالم ، ومحل أبي العباس في نفسه أشهر من أن يجهل في العلم والأدب وقول الشعر والمعرفة بالجدل والفقه ، وغير ذلك مما يقوم به ، وقد نادم أبا محمد المهلبي رحمه الله ، واختص به ونفق عليه سنين كثيرة ، ومن بعده من الوزراء ، وغيرهم من الرؤساء ، وهو أحد بقايا رجال أهل بيته ، قال : كنت بحضرة أبي مخلد عبد الله بن يحيى الطبري صاحب معز الدولة فجرى ذكر الكرم والكرام ، والجود والأجواد ، وما كانت البرامكة وغيرها تأتيه من الأفضال على الناس ، فأخذ أبو مخلد يدفع هذا ويبطله ، حتى قال : هذه حيل نصبها الشحاذون على دراهم الناس ، لا أصل لها . فقلت له : أيها الشيخ إن قلت ذلك ، فقد قال صاعد مثله ، فأجيب . فقال : ما قال ؟ فقلت له : حكي له جود البرامكة ، فقال : هذا من موضوعات الوراقين وكذبهم ، وكان أبو العيناء حاضرا ، فقال له : فلم لا يكذب على الوزير أعزه الله مثل هذا وهو حي يرجى ويخاف ، وأولئك موتى مأيوس من خيرهم وشرهم مثل هذا الكذاب ؟ قال : فخجل أبو مخلد .
مخ ۵
الوزير ابن الزيات يذكر البرامكة وهو في التنور
وفي معنى هذا ما أذكره ، وإن كان موجودا في الكتب ، ولكنه على سبيل الإستعادة ، وهو حسن . حدثني أبو محمد يحيى بن محمد الأزدي ، قال : بلغني أن ابن الزيات لما حصل في التنور قال له بعض خدمه : لهذا وشبهه كنا نشير عليك بفعل الإحسان ، وتقليد رقاب الرجال بالأمتنان ، واتخاذ الصنائع في حال القدرة لتجازي بها الآن عند الحاجة . فقال : لو كنت فعلت هذا ، ما حصلت منه على طائل ، لما في نفوس الناس من ضعف الإخاء ، وكثرة الغدر ، وقلة الوفاء ، وتراني كنت أفعل أكثر من أفعال البرامكة ؟ ما نفعهم لما حصلوا في مثل حالي من إسلام الزمان وجور السلطان ؟ فقال له الخادم : لو لم ينفعهم إلا ذكرك لهم في مثل هذه الحال التي أنت فيها لكان ذلك أكبر نفع .
مخ ۶
أبو الشبل يقارن في الكرم بين البرامكة وبين عبيد الله بن يحيى بن
خاقان
: وحدثني أبو الفرج علي بن الحسين بن محمد المعروف بالأصبهاني الكاتب ، قال : حدثني الحسن بن علي ، قال : حدثنا ابن مهرويه ، قال : أبو الشبل عاصم بن وهب البرجمي ، قال : حضرت مجلس عبيد الله بن يحيى بن خاقان ، وكان إلى محسنا ، وعلي مفضلا ، فجرى ذكر البرامكة ، ووصف الناس لهم بالجود ، وما قالوا في كرمهم وجوائزهم ، فأكثروا . فقمت في وسط المجلس ، وقلت : أيها الوزير ، قد حكمت في هذا الخطب حكما نظمته في بيتي شعر ، لا يقدر أحد أن يرده علي ، وإنما جعلته شعرا ليبقى ويدور ، أفيأذن الوزير في إنشادهما ؟ فقال : قل ، فرب صواب قلت ، فقلت : رأيت عبيد الله أندى أناملا . . . وأكرم من فضل ويحيى وخالد ورواه لنا مرة أخرى فقال فيه : رأيت عبيد الله أفضل سؤددا . . . وأكرم من فضل ويحيى وخالد أولئك جادوا والزمان مساعد . . . وقد جاد ذا والدهر غير مساعد
مخ ۷
الحسن المنجم عامل معز الدولة على الأهواز وحبه للعمارة
: حضرت مجلس الحسن بن علي بن زيد المنجم ، غلام أبي نافع ، وهو إذ ذاك عامل معز الدولة رحمه الله على الأهواز وقطعة من كروها ، ومحله عنده كمحل وزرائه ، وكان قد خدم أبي رحمه الله قديما ، بعد مفارقته خدمة القاسم بن دينار عامل الأهواز ، وتوكل له في داره وضيعته ، وخلفه على العيار في دار الضرب بسوق الأهواز ، ثم خلطه بخدمة أبي عبد الله البريدي ، فعلت منزلته ، ثم بلغت به الحال ما ذكرته ، فكنت إذا جئته ، وهو إذ ذاك على غاية الجلالة ، وأنا في حد الأحداث ، اختصني . وكان يعجبه أن يقرظ في وجهه ، فأفاض قوم في مدحه ، وذكر عمارته للوقوف ، والسقايات ، وإدراره الماء في ذبابة المسرقان وتفريقه مال الصدقات على أهلها ، وذنبت معهم في ذلك . فقال لي هو : يا بني ، أرباب هذه الدولة إذا حدثوا عني بهذا وشبهه ، قالوا : المنجم إنما يفعل هذا رياء ، وما أفعله إلا لله تعالى ، وإن كان رياء فهو حسن أيضا ، فلم لا يراؤون هم بمثل هذا الرياء ؟ ولكن الطباع خست ، حتى في الحسد أيضا ، كان الناس قديما إذا حسدوا رجلا على يساره ، حرصوا على كسب المال حتى يصيروا مثله ، وإذا حسدوا على علمه ، تعلموا حتى يضاهوه ، وإذا حسدوا على جوده ، بذلوا حتى يقال إنهم أكرم منه ، وإذا وعدد أشياء كثيرة ، فالآن لما ضعفت الطبائع ، وصغرت النفوس ، وعجزوا أن يجعلوا أنفسهم مثل من حسدوه ، في المعنى الذي حسدوه عليه ، عدلوا إلى تنقص المبرز ، فإن كان فقيرا شنعوا على فقره ، وإن كان عالما خطأوه ، وإن كان جوادا قالوا هذا متاجر بجوده وبخلوه ، وإن كان فعالا للخير ، قالوا هذا مراء . |
مخ ۸
الوزير حامد بن العباس يرى قشر باقلاء في دهليز داره
مخ ۹
: حدثني القاضي أبو الحسن محمد بن عبد الواحد الهاشمي رحمه الله ، قال : كان حامد بن العباس من أوسع من رأيناه نفسا ، وأحسنهم مروءة ، وأكثرهم نعمة ، وأشدهم سخاء ، وتفقدا لمروءته . وكان ينصب في داره كل يوم عدة موائد ، ولا يخرج من الدار أحد من الجلة والعامة والحاشية وغيرهم إذا حضر الطعام ، أو يأكل ، حتى غلمان الناس ، فربما نصب في داره في يوم واحد أربعين مائدة . وكان يجري على كل من يجري عليه الخبز لحما ، وكانت جراياته كلها الحواري . فدخل يوما إلى دهليز داره ، فرأى قشر باقلاة ، وأحضر وكيله ، وقال : ويلك يؤكل في داري الباقلا ؟ قال : هذا من فعل البوابين . قال : أوليست لهم جرايات لحم ؟ قال : بلى . قال : فسلبهم عن السبب ، فسألهم ، فقالوا : لا نتهنأ بأكل اللحم دون عيالنا ، فنحن ننفذه إليهم لنأكله معهم ليلا ، ونجوع بالغدوات فنأكل الباقلا ، فأمر حامد أن يجري عليهم جراية لعيالاتهم ، تحمل إلى منازلهم ، وأن يأكلوا جراياتهم في الدهليز ، ففعل ذلك . فلما كان بعد أيام ، رأى باقلاة في الدهليز أيضا ، فاستشاط ، وكان حديدا ، سفيه اللسان ، فشتم وكيله ، وقال : ألم أضعف الجرايات ، فلم في دهليزي قشور الباقلا ؟ فقال : إن الجرايات لما تضاعفت ، جعلوا الأولة لعيالاتهم في كل يوم ، وصاروا يجمعون الثانية عند القصاب ، فإذا خرجوا من النوبة ومضوا نهارا إلى منازلهم ، في نوبة استراجاتهم فيها ، أخذوا ذلك مجتمعا من القصاب فتوسعوا به . فقال : فلتكن الجرايات بحالها ، ولتتخذ مائدة في كل يوم ، تنصب غدوة قبل نصب موائدنا ، يطعم عليها هؤلاء ، ووالله ، لئن وجدت بعدما في دهليزي قشر باقلاة ، لأضربنك وجميعهم بالمقارع . ففعل ذلك ، وكان ما زاد من نفقة الأموال ، وأمرا عظيما . ا
مخ ۱۰
الوزير حامد بن العباس يخبىء أربعمائة ألف دينار في بئر مستراح
: حدثني القاضي أبو الحسين عبد الله بن أحمد بن الحارث ابن عياش الجوهري البغدادي ، وأبو الحسن بن المأمون الهاشمي : أنه وجد لحامد في نكبته التي قتل فيها ، في بئر لمستراح له ، أربعمائة ألف دينار عينا ، دل عليها لما اشتدت به المطالبة . وأخبرني غيرهما : أن حامدا كان عمل حجرة ، وجعل فيها مستراحا ، وكان يتقدم إلى وكيله أن يبتاع له الدنانير ، ويجيء بها ، فكلما حصل له كيس ، أخذه تحت ثيابه ، وقام كأنه يبول ، فدخل ذلك المستراح ، فألقى الكيس في البئر ، وخرج من غير أن يصب فيها ماء ولا يبول ، ويوهم الفراش أنه فعل ذلك ، فإذا خرج أقفل المستراح ، ولم يدخله غيره ، على رسم مستراحات السراة التي يختصونها ، وإذا أراد الدخول ، فتحه له الخادم الموسوم بالوضوء ، وذلك الخادم أيضا لا يعلم السر في ذلك ، فلما تكامل ذلك المال ، قال : هذا المستراح ضيق البناء ، قبيح ، فسدوه لأغيره ، فسد البئر ، وعطل المستراح ، فحصل ذلك المال مصونا في الموضع ، لا يعرف خبره غيره . فلما اشتدت به المطالبة ، دل عليه ، فأخرج وما ذهب منه شيء ولا عرف خبره إلا من جهته .
مخ ۱۱
مصادرة التاجر ابن الجصاص في زمن المقتدر زادت على ستة ملايين دينار
: وحدثني أبو الحسين بن عياش : أنه سمع جماعة من ثقات الكتاب يقولون : إنهم حصلوا ما ارتفعت به مصادرة أبي عبد الله بن الجصاص في أيام المقتدر ، فكانت ستة آلاف ألف دينار ، سوى ما قبض من داره ، وبعد الذي بقي له من ظاهره .
مخ ۱۲
ابن الجصاص التاجر يبقى له من بعد المصادرة مليون دينار
مخ ۱۳
: سمعت الأمير أبا محمد ، جعفر بن ورقاء ، بن محمد بن ورقاء الشيباني ، يحدث في سنة تسع وأربعين وثلثمائة ، قال : اجتزت بابن الجصاص ، بعد إطلاقه إلى داره من المصادرة بأيام ، وكانت بيننا مودة ومصاهرة ، فرأيته على روشن داره ، على دجلة ، في وقت حار ، من يوم شديد الحر ، وهو حاف حاسر ، يعدو من أول الروسن إلى آخره ، كالمجنون . فطرحت طياري إليه ، وصعدت بغير إذن ، فلما رآني استحيا ، وعدا إلى مجلس له . فقلت له : ويحك ما لك ، ما الذي قد أصابك ؟ . فدعا بطست وماء ، فغسل وجهه ورجليه ، ووقع ساعة كالمغشي عليه ، ثم قال : أولا يحق لي أ ، أن يذهب عقلي ، وقد خرج من يدي كذا ، وأخذ مني كذا ، وجعل يعدد أمرا عظيما مما خرج منه ، فمتى أطمع في خلفه ، ولم لا يذهب عقلي أسفا عليه ؟ . فقلت له : يا هذا إن نهايات الأموال غير مدركة ، وإنما يجب أن تعلم أن النفوس لا عوض لها ، والعقوا والأديان ، فما سلم لك ذلك ، فالفضل معك ، وإنما يقلق هذا القلق ، من يخاف الفقر ، والحاجة إلى الناس ، أو فقد العادة في مأكول ومشروب وملبوس ، وما جرى مجرى ذلك ، أو النقصان في جاه ، فاصبر ، حتى أوافقك أنه ليس ببغداد اليوم ، بعد ما خرج منك ، أيسر منك من أصحاب الطيالس . فقال : هات . فقلت : أليس دارك هذه ، هي التي كانت قبل مصادرتك ، ولك فيها من الفرش والأثاث ما فيه جمال لك ، وإن لم تكن في ذلك الكبر المفرط ؟ . فقال : بلى . فقلت : وقد بقي لك عقارك بالكرخ ، وقيمته خمسون ألف دينار . فقال : بلى . فقلت : ودار الحرير وقيمتها عشرة آلاف دينار . قال : بلى . فقلت : وعقارك بباب الطاق ، وقيمته ثلاثون ألف دينار . فقال : بلى . قلت : وبستانك الفلاني ، وضيعتك الفلانية ، وقيمتها كذا وكذا . فقال : بلى . فقلت : وما لك بالبصرة وقيمته مائة ألف دينار . فقال : بلى . فجعلت أعدد عليه ، من عقاراته ، وضياعه ، إلى أن بلغت قيمة سبعمائة ألف دينار . فقلت : وأصدقني عما سلك لك من الجوهر والأثاثوالقماش والطيب والجواري والعبيد والدواب ، وعن قيمة ذلك ، وقيمة دارك ؟ فأخذ يصدقني ، ويقوم ، وأحصي ، إلى أن بلغت القيمة لذلك ، ثلثمائة ألف دينار . فقلت له : يا هذا ، من ببغداد اليوم من يحتوي ملكه على ألف ألف دينار ؟ وجاهك عند الناس الجاه الأول ، وهم يظنون أن الذي بقي لك ضعف هذا ، فلم تغنم ؟ . قال : فسجد لله ، وحمده ، وبكى ، ثم قال : والله ، لقد غلب الفكر علي حتى نسيت جميع هذا أنه لي ، وقل في عيني ، لإضافتي إياه إلى ما أخذ مني ، ولو لم تجيئني الساعة ، لزاد الفكر علي حتى يبطل عقلي ، ولكن الله تعالى أنقذني بك ، وما عزاني أحد ، بأنفع من تعزيتك ، وما أكلت منذ ثلاث شيئا ، فأحب أن تقيم عندي ، لنأكل ونتحدث ونتفرج . فقلت : أفعل ، فأقمت يومي عنده وأكلنا ، وتحدثنا بقية يومنا .
مخ ۱۴
حكاية تدل على دهاء التاجر أبي عبد الله بن الجصاص
مخ ۱۵
: وكنت أنا ، اجتمعت ببغداد ، في سنة نيف وخمسين وثلثمائة ، مع أبي علي بن أبي عبد الله بن الجصاص ، فرأيت شيخا طيبا ، حسن المحاضرة ، فسألته عن الحكايات التي تنتسب إلى أبيه ، مثل قوله خلف إمام قد قرأ ' بسم الله الرحمن الرحيم ' غير المغضوب عليهم ولا الضالين ' صدق الله العظيم ' ، فقال : إي لعمري ، بدلا من آمين . ومثل قوله للخاقاني الوزير : أسهرني البارحة صوت الكلاب في الحارة على بابي ، كل كلب مثلي ومثل الوزير . وقوله له ، وأراد تقبيل رأسه ، فقال : إن فيه دهنا فلا تفعل ، فقال : لو كان في رأس الوزير خرا لقبلته . ومثل قوله : قمت البارحة في الظلمة إلى الخلاء فما زلت اتلحظ المقعدة حتى وقعت عليها . ومثل قوله وقد وصف مصفحا بالعتق ، فقال : هو كسروي ، وأمثال هذا على كثرته ، وتواتر الرواية له . فقال لي : أما أمر المقعدة ، وإي لعمري ، وما كان من هذا الجنس ، فكذب ، وما كانت فيه سلامة تخرجه إلى هذا ، وما كان إلا من أدهى الناس وأخبثهم ، ولكنه كان يطلق بحضرة الوزراء قريبا مما حكي عنه ، بسلامة طبع كانت فيه ، ولأنه كان يحب أن يصور نفسه عندهم بصورة الأبلة ، ليأمنه الوزراء ، لكثرة خلواته بالخلفاء ، فيسلم عليهم ، وأنا أحدثك عنه بحديث حدثنا به ، لتعلم معه إنه كان في غاية الحزم ، وإن فاعله لا يجوز عليه مثل ما حكي عنه . فقلت : أحب أن تفعل . قال : حدثنا أبي قال : إن أبا الحسن بن الفرات ، لما ولي بعض وزاراته قصدني قصدا قبيحا ، لشيء كان في نفسه علي ، فأنفذ العمال إلى ضياعي ، وأمر بنقص معاملاتي ، وبسط لسانه بثلبي وتنقصي في مجالسه ، وأدام الغض مني إذا دخلت إليه . فوسطت بيني وبينه جماعة ، وبذلت له أشياء توجب صلاح ما بيننا ، فما نجعت ، وأقام على قصدي ، وأنا محتمل ، طامع في رجوعه . فدخلت يوما داره ، فسمعت حاجبه يقول وقد وليت عنه : أي بيت مال يمشي على وجه الأرض ؟ ألفا ألف دينار تمشي وليس لها من يأخذها ؟ فعلمت أن هذا من كلام صاحبه ، وأني منكوب ، وكان عندي في ذلك الوقت سبعة آلاف ألف دينار ، عينا وجوهرا ، سوى غيرهما مما يحتوي عليه ملكي . فضاقت علي الدنيا ، وسهرت ليلتي بأسرها أفكر في أمري معه ، فوقع لي الرأي في الثلث الأخير ، فركبت في الحال إلى داره ، فوجدت الأبواب مغلقة ، فطرقتها . فقال البوابون : من هذا ؟ . فقلت : ابن الجصاص . فقالوا : ليس هذا وقت وصول ، والوزير نائم . فقلت : عرفوا الحجاب أني حضرت لمهم ، فعرفوهم ، فخرج إلى أحدهم ، فقال : إنه إلى ساعة ينتبه ، فتجلس وتنتظر . فقلت : الأمر أهم من ذلك ، فأنبهه وعرفه عني هذا . فدخل ، فأبطأ ساعة ، ثم خرج ، فأدخلني من دار إلى أخرى ، حتى انتهيت إلى مرقده ، وهو على سرير وحواليه نحو خمسين فراشا لغلمان له ، كأنه حفظه وقد قاموا ، وبعض الفرش تنقل ، وهو جالس في فراشه ، مرتاعا ، قد ظن أن حادثة حدثت ، أو أني جئته برسالة الخليفة ، وهو متوقع لما أورده . فرفعني ، وقال : ما الذي جاء بك في هذا الوقت ؟ فقلت : خير ، ما حدثت حادثة ، ولا معي رسالة ، وما جئت إلا في أمر يخص الوزير ويخصني ، لم تصلح مفاوضته فيه إلا على خلوة شديدة فسكن ، ثم قال لمن حوله : انصرفوا ، فمضوا . وقال : هات . فقلت : أيها الوزير إنك قد قصدتني أقبح قصد ، وشرعت في هلاكي ، وإزالة نعمتي ، وفي إزالتها خروج نفسي ، وليس من النعمة والنفس عوض ، ولعمري أني قد أسأت في خدمتك ، وقد كان في بعض هذا التقويم بلاغ عندي ، وقد جهدت في استصلاحك بكل ما قدرت عليه ، ووسطت بيني وبينك فلانا ، وبذلت كذا ، قلت كذا ، فأبيت إلا الإقامة أذاي ، وليس شيء أضعف من السنور ، وإذا عاثت في دكان بقال فظفر بها ، ولزها إلى الزاوية ليخنقها ، وثبت عليه ، فخدشت وجهه وبدنه ، ومزقت ثيابه ، وطلبت الحياة بكل ما يمكنها ، وقد وجدت نفسي معك في مثل هذه الصورة ، ولست أضعف بطشا من السنور ، وقد جعلت هذا الكلام عذرا بيننا ، فإن نزلت تحت حكمي في الصلح ، وإلا فعلي وعلي ، وحلفت له بأيمان عظيمة ، لأقصدن الخليفة الساعة ، ولأحولن إليه من خزانتي ألفي ألف دينار عينا وورقا ، ولا أصبح إلا وهي عنده ، وانت تعلم قدرتي عليها ، وأقول له : خذ هذا المال ، وسلم ابن الفرات إلى فلان ، واستوزره ، وأذكر له أقرب من يقع في نفسي أنه يجيب إلى تقليده ، ممن له وجه مقبول ، ولسان عذب ، وخط حسن ، ومخرقة حادة ، ولا أعتمد إلا بعض كتابك ، فإنه لا يفرق بينك وبينهم إذا رأى المال حاضرا ، فيسلمك في الحال لهم ، ويراني المتقلد بعين من أخذه وهو صغير ، فجعله وزيرا ، وغرم عنه هذا المال الكثير ، ويعتقد أني ربه وولي نعمته ، فيخدمني ، ويتدبر بتدبيري ، في جميع أمره ، فأسلمك إليه ، فيفرغ عليك العذاب ، حتى يأخذ منك الألفي ألف دينار بأسرها ، وأنت تعلم أن حالك تفي بها ، ولكنك نفتقر بعدها ، ويرجع إلى المال ، ولا يذهب علي منه دانق ، وأكون قد أهلكت عدوي ، وشفيت غيظي ، واسترجعت مالي ، وصنت نعمتي ، وازداد محلي عظما بصرف وزير ، وتقليد وزير . فلما سمع هذا أسقط في يده ، وقال : يا عدو الله أو تستحل هذا ؟ . فقلت : لست عدو الله ، بل عدو الله من استحل مني ما أحوجني إلى الفكر في مثل هذا ، ولم لا أستحل مكروه من يريد هلاكي وزوال نعمتي ؟ . فقال : أو أيش ؟ . قلت : أو أن تحلف الساعة بما أستحلفك به من الإيمان المغلظة ، أنك تكون لي لا علي ، في صغير أمري وكبيره ، ولا تنقص لي رسما ، ولا تغير معاملة ، ولا تضع مني ، وتزيد في رفعتي ، وذكري بالجميل ، ولا تبغي لي الغوائل ، ولا تدسس علي المكاره ، ولا تشرع لي في سوء ولا نكبة أبدا ، ظاهرا ولا باطنا ، وتفعل وتفعل ، فاشترطت عليه الأمن من كل ما كنت أخافه منه . فقال : وتحلف أنت أيضا بمثل هذه اليمين على جميل النية ، وحسن الطاعة والمؤازرة . فقلت : أفعل . فقال : لعنك الله فما أنت إلا إبليس ، سحرتني والله . واستدعى دواة ، وعملنا نسخة اليمين ، فأحلفته بها أولا ، ثم حلفت له . فلما أردت القيام ، قال : يا أبا عبد الله لقد عظمت في نفسي وخففت ثقلا عني ، فو الله ما كان المقتدر يفرق بيني مع كفايتي وغنائي وموقعي ، وبين أخس كتابي - كما ذكرت - مع المال الحاضر ، فليكن ما جرى مطويا . فقلت : سبحان الله . فقال : وإذا كان غدا ، فصر إلى المجلس العامي لترى ما أعاملك به . فنهضت ، فقال : يا غلمان ، بأسركم بين يدي أبي عبد الله ، فخرج بين يدي مائتا غلام ، فعدت إلى داري وما طلع الفجر ، فاسترحت . وجئته في وقت المجلس ، فرفعني فوق جميع من كان بحضرته ، وقرظني التفريط التام ، وعاملني بما علم منه الحاضرون ، رجوعه لي ، وأمر بإنشاء الكتب إلى عمال النواحي ، بإعزاز وكلائي ، وصيانة أسبابي وضياعي وتقدم إلى كتاب الدواوين بإخراج كل ما كانوا أدخلوه إليها من تغيير رسومي ، والزيادة علي ، وأن أجرى على الرسوم القديمة . فشكرته ، وقمت ، فقال : يا غلمان بين يديه ، فخرج الحجاب يجرون سيوفهم بين يدي ، والناس يشاهدون ذلك ، ويعجبون منه ، وقد رجع جاهي ، ولم يعلم أحد سبب صلاح بيننا ، فما حدثت بذلك إلا بعد القبض عليه . ثم قال لي أبو علي ابنه : فهل كان هذا فعل ورأي من يليق به ما حكي من تلك الحكايات عنه ؟ فقلت : لا .
مخ ۱۸
حكاية تدل على ذكاء التاجر أبي عبد الله بن الجصاص
: حدثني أبو محمد عبد الله بن أحمد بن بكر داسة ، قال : حدثني بعض شيوخنا قال : كنا بحضرة أبي عمر القاضي ، فجرى ذكر ابن الجصاص وغفلته ، فقال أبو عمر : معاذ الله ما هو كذلك ، ولقد كنت عنده أيام مسلما ، وفي صحنه سرادق مضروب ، فجلسنا بالقرب منه نتحدث ، فإذا بصرير نعل من خلف السرادق فصاح : يا غلام جئني بمن مشت خلف السرادق الساعة ، فأخرجت إليه جارية سوداء . فقال : ما كنت تعلمين هاهنا . قالت : جئت إلى الخادم أعرفه أني قد فرغت من الطبيخ ، وأستأذن في تقديمه . فقال : انصرفي لشأنك . فعلمت أنه أراد أن يعرفني أن ذلك الوطء وطء سوداء مبذلة ، وأنها ليست من حرمه ولا ممن يصونه ، فيزيل عني أن أظن به مثل ذلك في حرمة ، فكيف يكون هذا مغفلا ؟ .
مخ ۱۹
مروءة التاجر ابن الجصاص واتساع حاله
: حدثني أبو العباس هبة الله بن المنجم ، أن جده حدثه : أنه لما قبض المقتدر على ابن الجصاص ، أنفذ إلى داره من يحصي ما فيها ويحمله . فقال لي الذي كتب الإحصاء : إن وجدنا له في جملة قماشه سبعمائة مزملة خيازر ، فما ظنك بمروءة وقماش يكون هذا في جملته ؟ .
مخ ۲۰
ثلاثون جاما في تركة يأنس الموفقي ثمنها ثلاثة ملايين دينار
مخ ۲۱
: كنت بحضرة الوزير أبي الحسن بن محمد بن هارون المهلبي رحمه الله ببغداد وقد دخل إليه أبو إسحق القراريطي بعد وروده من مصر وأبو القاسم الجهني حاضر . فقال له : يا سيدي تسل أبا إسحق عن الحكاية التي كنت حكيتها لك في أمر الجامات البجاذي ؟ فإني كنت ذكرت لك أنه كان حاضرا لأمرها وما علمت أنه قدم من مصر فأواطئه . فقال له أبو محمد : ما بك إلى هذا حاجة . فقال : بلى يا سيدي ، ثم التفت إلى القراريطي ، فقال : إني حكيت لسيدنا الوزير أن المقتدر أنفذني أيام تقلدي له المواريث لقبض تركه فلان ، فذكر أميرا جليلا ، قد أنسيت اسمه على الحقيقة ، وأظنه قال : يأنس الموفقي ، وأنفذك مستظهرا بك لتحصي التركة ، وإنها كانت هائلة عظيمة ، وإنا وجدنا فيها ثلاثين جامة بجاذي ، كل جامة فتحها شبر وكسر ، في غلف من لب الخيازر ، مبطنة بالحرير والديباج ، مضربة بالنبات ، محلاة بالذهب ، فأثبتناها ، وحملناها إلى المقتدر ، فهاله حسنها ، وأحضر ابن الجصاص ، وأمره بتقويمها ، فقال : ما أعرف لها قيمة ، ولا رأيت مثلها قط ، ولولا أني شاهدتها ، لكذبت بوجود مثلها ، ولو قلت إن قيمة كل واحدة مائة ألف دينار ، ما خشيت البعد . وإني لما حدثت سيدنا الوزير أيده الله ، بهذا الحديث ، كذبني جماعة من ندمائه ، وكنت أنت يا سيدي بمصر ، فإن رأيت أن تقيم الآن لي الشهادة . فقال القراريطي : قد صدق - أيد الله الوزير - أبو القاسم ، أنا رأيت هذه الجامات ، وقبضتها للمقتدر من هذه التركة وسمعت ابن الجصاص يقول هذا ، وقد نشي أبو القاسم شيئا جرى لم يذكره . فقال أبو محمد : ما هو ؟ . فقال : سألنا خازن الرجل عن هذه الجامات وسببها ، فقال : لا أعلم من أين وصلت إليه ، ولكن كان عنده منها ، ثمانون جامة ، فأهدى إلى جماعة من الملوك منها وبقي هذه البقية . فاستطرف أبو محمد المهلبي الحكاية واستحسنها .
مخ ۲۲