وكان المصريون يطلقون هم والتوارة على البقعة الواقعة فوق وادي حلفا اسم كوش، وكان الرومان يطلقون عليها اسم إثيوبية، واليوم لا نعرف من نواحيها غير كردفان التي تصدر الذهب والمطاط منذ زمن طويل. والعالم يعرف أيضا أن شمال السودان ظل نصرانيا قرونا كثيرة فأسلم في القرن الرابع عشر، وأن الساميين والحاميين المطعمين بدم زنجي يقطنون في الشمال، وأن الزنوج المطعمين بدم حامي يقطنون في الجنوب، وحافظت بلاد النوبة - وهي المنطقة التي نسمي بها قسم السودان الواقع في شمال الخرطوم - على عاداتها أحسن من محافظة مصر التي غمرها الأجانب، ولم تنفذ حضارة الشمال فيها إلا في أقدم الأزمان وفي العصر الحاضر ، وعانت بلاد النوبة في تلك الفترة سلطان العرب الذين أتوا من الشمال ومن البحر الأحمر والذين اكتشفوا زنجبار قبل الأوروبيين بعدة قرون.
وعين النيل تطور تلك البقعة التاريخي؛ لأنه غير صالح للملاحة صلاحا دائما، وينقطع عمل حضارة البحر المتوسط في أسوان عند الشلال الأول. وقد حاولت جميع السلطات المتمدنة أن تجاوز المساقط مولية وجوهها شطر منابع النيل في قوارب على طول ضفافه، وذلك بقوة الحراب وضرب السياط وبين أنين أبناء البلاد الذين عبدهم الفاتح من عهد الفراعنة إلى عهد محمد علي.
ولم يسطع أحد قبل مائة سنة أن يوحد هذا البلد الكبير، وهذا التوحيد من صنع عصرنا، ويمكن أن يقضى عليه قبل أن يوطد أمره ويحقق تحقيقا تاما. ولم يبق غير آثار وضيعة مما صنعه رجال القرون القديمة في النيل الأوسط، وقد قامت ممالك في داخل البلاد حيث فسحت الغاب للسهب مجالا، وحيث لا يستطيع الملوك أن يرقبوا السهب أكثر مما تستطيعه الزرافة، فيشترك الملوك والزرائف كلاهما في السهوب إذن.
ومن هؤلاء الملوك من ملك ما بين النيل الأبيض والنيل الأزرق، ومنهم من ملك دارفور على النيل الأبيض، فكان كل منهم لا يعرف من أمر الآخرين إلا قليلا، وكانوا يختلفون دينا ولغة فلا يربط بعضهم ببعض غير نهر يتعذر عبوره، ويقيم الفونج مملكة في عصر سرفانتس
1
وليونار دفنسي
2
فيحتفظون بقسم من نوبية العليا ثلاثة قرون، ويذكرهم التاريخ لما كان من اشتمال بلاطهم على علماء من بغداد وبلاد العرب، ومن المحتمل أن تتناول الأسطورة أمر ذلك الملك العملي الظريف الذي شاد ثلاثا وثلاثين غرفة لنسوته الثلاث والثلاثين، والذي جلب إلى قصره مقدارا كبيرا من الجعة و365 من المعز ثم انزوى فيه مستريحا سنة كاملة على ألا يدخل عليه وزيره سوى مرة واحدة في كل يوم. والحق أن هذا الملك - الذي عاش في القرن الثامن عشر فكان لا يقوم بشئون الحكم غير نصف ساعة من أربع وعشرين ساعة - جعل شعبه أسعد حالا من أسلافه الفاتحين، وأسقط هؤلاء الملوك حوالي سنة 1800، ولم يغب وارثوهم اللاصقو النسب إلا سنة 1916، وتعيش ذراريهم في سنغا الواقعة على النيل الأزرق بأكواخ حسنة الترتيب تحت نخيل، وهؤلاء الذين هم بقايا سلالة لملوك أقوياء يقدمون القهوة إليكم بوقار.
ويصبح مخيم بسيط عاصمة السودان منذ قرن، ويعرف أمير مصري فاتح أهمية هذا المكان الذي يلتقي النيلان عنده فيسميه الخرطوم بسبب شكل الجزيرة الموجودة هنالك، وتقع الخرطوم على الخط الذي يصل منبع النيل بمصبه وبين النيل الأبيض ومصب النيل الأزرق فتعد مركز النهر، ويقف مكانها نظرنا حتى عند عدم قيامها عليه، وتمتد الخرطوم من ضفة النيل الخصيبة إلى حدود السهب، وهي تصل الحدائق الاستوائية برمل الصحراء وفق خيال النهر الذي أبدعها، وبها تلتقي جميع الطرق التي تجمع في ذلك العرض بين البحرين المحيطين، وكان ألوف الحجاج والتجار - قبل إنشاء الجسرين بزمن طويل - يعبرون هنا ضارعين راجين محاولين الإفلات من التبع والالتجاء إلى الصحراء القريبة، ولو نهض جميع أشباح العبيد، ولو بعث من سيقوا من كردفان إلى البحر الأحمر فهلكوا في بلاد العرب المنيعة لدام عرضهم أسابيع كثيرة، ولو كدس الذهب الذي ربحه نخاسوهم لقام منه جبل يسد النيل فيؤدي إلى إغراق البلاد وإبطال الرق، ولكن مع موت مصر عطشا.
وفي المكان الذي يتعانق فيه النيلان عناق الأخوين، وبين شعبتي النيل الأزرق، تقوم جزيرة خصيبة وارفة
ناپیژندل شوی مخ