الجنين يمثل تاريخ النوع الذي ينتسب إليه، وفي حياتنا الجنينية تظهر حزوز وشقوق في الوجه تمثل الخياشيم التي كنا نتنفس بها حينما كنا أسماكا، أو على الأقل من الحيوانات البحرية، والأذن في الأسماك الآن ليست أكثر من خيشوم يصل إلى الدماغ وليس فيه طبلة أو تجويف طبلي؛ ولهذا السبب تتكون الأذن في جنين الإنسان من أحد خياشيمه.
وتظهر الطبلة والتجويف الطبلي والقناة اليوستاخية الواصلة الأذن بالأنف أولا في الحيوانات البرمائية (مثل الضفادع)، وتظهر صدفة الأذن في الليونات، والغرض منها جمع الصوت بتحريك هذه الصدفة إلى جهة الصوت، كما نرى في الحمار والفرس.
ولم يعد للصدفة فائدة ما للإنسان أو القرد، ولذلك ضمرت عضلاتها وضعفت عن الحركة، إلا القليلين الذين يستطيعون تحريكها حركة ضعيفة؛ وذلك لأننا نعتمد في سلوكنا على العين أكثر مما نعتمد على الأذن أو الأنف.
حواس الحيوان وعقله
الدماغ والحواس كلاهما نشأ لتدبير مصالح جسم الحيوان، والحواس تتفاوت دقة بين حيوان وآخر، وبعض الحيوان يعتمد على إحدى حواسه دون الأخرى التي يعتمد عليها غيره.
والدماغ والحواس كلاهما أداة للعقل أو الغريزة، والعالم الحيواني ينقسم شطرين؛ بعضه جل اعتماده في حياته على غريزته، كما هو الحال في الحشرات وما دونها من الأحياء، وبعضه جل اعتماده على العقل؛ أي الرؤية والتدبر واكتساب الخبرة والتجربة، وهذا هو الحال في الإنسان، ولكن أعمال الغريزة والعقل تتداخل؛ فالطفل الإنساني يرضع أمه بغريزته، والرجل منا يغضب بغريزته، والحشرة إذا عاقها عائق في سيرها ظهر في سلوكها ما يقارب الروية والتدبر.
ولكن يمكن أن نقول على وجه الإجمال إن الدماغ الصغير هو دماغ الغريزة، والدماغ الكبير هو دماغ العقل، وهذا هو ما يمكن استنتاجه بالاستقراء؛ فكلما زاد جرم الدماغ اتجهت أعماله نحو الروية والتدبر؛ أي العقل، وخلصت من الغريزة، فأدمغة الحشرات والقشريات والعناكب؛ أي الحيوانات المفصلية، قليلة الجرم، ولذلك يبدو على أعمالها كأنها كلها غريزية، والحال كذلك في ما هو دون هذه الحيوانات، ثم يكبر الدماغ في الأسماك، ويتدرج في الكبر في الحيوانات البرمائية؛ (أي التي تعيش في البر والبحر كالضفدع)، ثم الزواحف، ثم الطيور، ثم اللبونات؛ (أي التي ترضع أطفالها)، إلى أن يبلغ أكبر جرمه في القردة العليا والإنسان، وبنسبة كبر الدماغ يكون تغلب العقل على الغريزة.
والبحث عن تطور العقل ينتهي بالطبع إلى البحث عن تطور أداتيه؛ وهما الحواس والدماغ، وما دام الغرض من العقل أو الغريزة هو تدبير مصالح الجسم والمحافظة عليه، فالبحث في تطور الحواس الخمس ودقتها وتركزها في الحيوان هو سبيلنا إلى معرفة تطور الدماغ؛ لأن هذه الحواس هي بمثابة النوافذ التي يطل منها العقل على العالم، أو هي السفير الذي ينقل رسالة العالم إلى الفرد، فهي وسيلة التعارف بين الحي ووسطه.
ويمكننا أن نعقل أن الحواس الخمس، بل أكثر من الحواس الخمس، كان موجودا في الخلية الحيوانية الأولى بشكل مبهم منتشر، لم تتخصص كل حاسة بمكان، ويمكننا أيضا أن نتصور أن الأثر الذهني الذي يحصل للأحياء الدنيا من هذه الحواس يشبه على وجه ذلك الأثر الذهني الذي يحصل لنا عندما ننظر في مكان مضيء ثم نغمض عينينا، فتبقى صورته مدة ما بعد إغماض العينين، وهذا هو أول الذاكرة التي هي أصل العقل والغريزة.
وابتدأ ظهور الحواس على سطح الجسم، ولا يزال منها ثلاث على سطح جسم الإنسان؛ وهي اللمس والنظر والسمع، ولكن يجب ألا ننسى أن الذوق نشأ على سطح الجسم، ولا يزال بعض الأسماك يذوق الأشياء بسطحه، والفم هو جزء من البشرة الخارجية ينمو معها؛ أي إنه ليس جزءا من القناة الهضمية نما حتى وصل إلى البشرة الخارجية، بل هو عكس ذلك جزء من القشرة الخارجية نما ودخل في الجسم حتى وصل إلى القناة الهضمية.
ناپیژندل شوی مخ