تاريخ نظرية التطور
فكرة التطور وقيمتها
فلسفة التطور
تطور العالم
أصل الحياة وغايتها
نشأة الحياة الأولى
وجهتا التطور في الحيوان والنبات
التطور في قشرة الأرض
التطور في الدواجن
التطور في الشارع
ناپیژندل شوی مخ
التطور في الإنسان
تناسل الحيوان
لماذا تتطور الأحياء؟
تنازع البقاء
وثبات في التطور
عمالقة الأرض
التطور في الحيوان
سمكة السيلاكانت
التطور في النبات
البيئة والحي
ناپیژندل شوی مخ
تطور بعض الأعضاء
حواس الحيوان وعقله
ظهور الإنسان
ارتقاء العقل البشري
نحن والقردة
حياة الأورانج أوتان
مسألة الدماغ البشري
الوجه البشري
السلالات البشرية
نشأة المجتمع البشري
ناپیژندل شوی مخ
النار والطعام
أصل اللغة
العصر الحجري
ملابسات المجتمع الأول
أصل الحضارة
أصل الدين
تطور اللباس
تنازع البقاء في عصرنا
إنسان المستقبل
تشارلس داروين
ناپیژندل شوی مخ
تاريخ نظرية التطور
فكرة التطور وقيمتها
فلسفة التطور
تطور العالم
أصل الحياة وغايتها
نشأة الحياة الأولى
وجهتا التطور في الحيوان والنبات
التطور في قشرة الأرض
التطور في الدواجن
التطور في الشارع
ناپیژندل شوی مخ
التطور في الإنسان
تناسل الحيوان
لماذا تتطور الأحياء؟
تنازع البقاء
وثبات في التطور
عمالقة الأرض
التطور في الحيوان
سمكة السيلاكانت
التطور في النبات
البيئة والحي
ناپیژندل شوی مخ
تطور بعض الأعضاء
حواس الحيوان وعقله
ظهور الإنسان
ارتقاء العقل البشري
نحن والقردة
حياة الأورانج أوتان
مسألة الدماغ البشري
الوجه البشري
السلالات البشرية
نشأة المجتمع البشري
ناپیژندل شوی مخ
النار والطعام
أصل اللغة
العصر الحجري
ملابسات المجتمع الأول
أصل الحضارة
أصل الدين
تطور اللباس
تنازع البقاء في عصرنا
إنسان المستقبل
تشارلس داروين
ناپیژندل شوی مخ
نظرية التطور وأصل الإنسان
نظرية التطور وأصل الإنسان
تأليف
سلامة موسى
مقدمة الطبعة الأولى
بقلم سلامة موسى
1928
نظرية التطور من النظريات الكبرى التي تسيطر على الثقافة الأوربية، وتصبغ عقلية المفكرين في جميع أنحاء العالم الآن، وهي قائمة في الأصل على درس التاريخ الطبيعي للإنسان والحيوان والنبات، وهذا الدرس قليل أو لا وجود له في اللغة العربية؛ ولذلك بقيت نظرية التطور - على قدمها النسبي - غير معروفة أو غير مشروحة في كتاب قائم برأسه، وليس ينكر أحد فضل مجلة المقتطف والمرحوم شبلي شميل في شرح هذه النظرية، وإيراد الأمثلة المتوالية على حقيقتها ، ولكن مع كل ذلك ليس في العربية كتاب واف سهل عنها للآن.
وقد حداني هذا النقص في لغتنا على أن أحاول في الصفحات الآتية شرح النظرية وتعميمها بلغة سهلة، مع توقي ما أشكل منها، فلست أورد إلا ما اتفق الرأي عليه، أو ما يمكن القارئ العادي أن يفهمه بلا حاجة إلى معارف بيولوجية سابقة، وكذلك تحاميت ذكر الألفاظ العلمية؛ كترتيب الطبقات الجيولوجية وأسماء دهورها، ولم أذكر من أسماء الحيوان إلا ما يعرفه القراء أو يمكنهم مشاهدته في مصر، إلا ما ندر.
والكتاب قسمان؛ نصفه الأول يحتوي فصولا خاصة بما حدث من التطور قبل الإنسان، والنصف الثاني مقصور على تطور الإنسان نفسه وبعض مؤسساته الاجتماعية الكبرى، وسيرى القارئ أننا اختصرنا أشياء اختصارا قد يكون مخلا اضطرنا إليه ترسيم الكتاب الذي بدأنا فيه بنشأة الأرض، ثم انتهينا منه بإنسان المستقبل، ولكن هذا الاختصار، إذا كان فيه ما يستاء منه المطلع، فإن غيره يجد فيه فكرة عامة عن النظرية تحثه على البحث والتنقيب عن فروعها الغامضة أو المقتضبة.
ناپیژندل شوی مخ
ويحسن بالقارئ أن ينعم نظره في الفهرست أولا، ثم يقرأ الفصول على ترتيبها بحيث تتم الصورة في ذهنه غير مشوشة بتقديم فصل على آخر، ويحسن أيضا بمن يريد التوسع في النظرية أن يقرأ «مختارات سلامة موسى» و«اليوم والغد» ففيهما عدة فصول عن التطور قد عولجت بإسهاب.
مقدمة الطبعة الثانية
بقلم سلامة موسى
1953
رأى صديقي الأستاذ إلياس أنطون إلياس، بعد أن نفدت الطبعة الأولى من هذا الكتاب، أن يعيد طبعه، وطلب إلي أن أراجعه قصد الإضافة أو الحذف أو التنقيح، وقد قمت بهذا الواجب، فزدت في الصور الموضحة، كما زدت فصولا جديدة، وفي بعض الفصول عمدت إلى تنقيح العبارة بما يجلو غوامضها، كما شرحت ما كان موجزا في الطبعة السابقة.
وفي هذه الطبعة الثانية التفت إلى نقطتين لم أوفهما حقهما في الطبعة الأولى؛ وهما: (1)
تأكيد قيمة النظر في تطور الإنسان دون سائر الحواس التي تقهقرت حتى إن بعضها أوشك على الزوال؛ مثل الشم، فإن التفوق العقلي الذي نمتاز به إنما هو عقل العين التي جعلتنا نرى الأشياء رؤية كليدسكوبية متجسمة وليس رؤية فتوغرافية مرسومة؛ وذلك لأن نافذتنا إلى الدنيا هي العين التي تجعل تفكيرنا إلى حد بعيد موضوعيا مستقلا عن تأثير عواطفنا، ولو كانت نافذتنا إلى الدنيا هي الأنف أو الأذن أو اللسان لقصر إدراكنا قصورا عظيما، ولأصبح تفكيرنا ذاتيا لا ينقل صورة الدنيا على حقيقتها إلى عقولنا، بل يحرك عواطفنا فقط؛ ذلك لأن العقل العيني هو عقل منطقي موضوعي إلى حد كبير، في حين أن العقل الأنفي أو الأذني هو عقل ذاتي عاطفي، وهذا امتياز عظيم لنا على الحيوان. (2)
والنقطة الثانية التي أردت تأكيدها في هذه الطبعة الثانية هي قيمة اللغة في سيادة الإنسان على الطبيعة، وعلى سائر الحيوانات التي كانت تزاحمه على قدم المساواة تقريبا قبل اختراع اللغة؛ ذلك أن الكلمات هي أدوات التفكير التي حرم منها الحيوان، ونحن نجمع هذه الأدوات منذ أكثر من خمسين أو مئة ألف سنة، فلم نسم الأشياء فقط، بل اخترعنا أسماء العلاقات التي ما كان يمكن للإنسان فهمها لولا الكلمات؛ فكلمات الصدق والحب والكراهية والفهم والسخاء والبخل والمجد والشرف والظلم والعدل ونحوها، إنما هي كلمات تدل على علاقات بشرية بين شخص وآخر، وباختراع الكلمات لهذه العلاقات أصبح المجتمع البشري مستطاعا، وهذا أعظم نقص تعانيه القردة العليا.
فالعين واللغة هما أعظم العوامل للارتقاء البشري على الحيوان، وأرجو القارئ لهذا السبب أن يعذرني لإسهابي في هذا الموضوع في بعض فصول الكتاب.
ولو كانت لغتنا تساير اللغات المتمدنة المتطورة لكانت كتب داروين في متناول القراء العرب منذ ثمانين سنة، ولكن لغتنا - للأسف - لا تزال بدوية، تلتزم الخيام وتقنع بالعيش في الوبر، وتحلم بالغيبيات، في حين تعيش اللغات العصرية عيشة الترف والبذخ بالعلوم والفلسفات الجريئة؛ ولذلك تجد أنه في هذا الوقت الذي يؤلف فيه الأوربيون الكتب، يرسمون فيها خارطة المستقبل، ويتسلطون فيها على القدر، يعمد كتابنا إلى التأليف عن الماضي، ويحاولون أن يبعثوا الحياة في رفات التاريخ! والمتأمل لهذا الكوكب يجد أمما متطورة قد كتبت لنفسها البقاء بالتطور، وأمما أخرى جامدة قد كتب عليها الفناء بالجمود والتزام التقاليد.
ناپیژندل شوی مخ
وليست نظرية التطور معرفة فحسب؛ لأننا لا نقتصر فيها على الوقوف على تاريخ الأحياء، بل نكتسب منها مزاجا واتجاها؛ لأنها تجعل التطور مذهبا حيويا، والارتقاء ضرورة اجتماعية، ومن هنا قيمتها العالية للفرد والجماعة؛ إذ هي تشعر الفرد الذي استوعبها أنه يجب ألا يركد أو يجمد؛ لأنه بهذا الركود، أو بهذا الجمود، يناقض سنة الوجود، كما أنها تشعر الجماعة أن تقصيرها في الارتقاء هو مخالفة خطيرة، وتحطيم مدمر لأسباب وجودها؛ فالنظرية هنا ليست معرفة علمية فحسب، وإنما هي مذهب اجتماعي أيضا، يحمل الأمة على أن تطالب بحقها في التطور، وتدافع عن حريتها، وتحطم الأغلال التي تعطل ارتقاءها وحيويتها، كما هي منهج فلسفي للتفكير.
وليس شك في أن المستوعب لهذه النظرية - إذا كانت قد استحالت في نفسه مزاجا ومذهبا - يشعر بتحرره من أغلال التقاليد، ويستطيع لذلك أن ينظر النظرة البكر لشئون هذا العالم، وهو يسمو على الاختلافات الدينية التي مزقت أوربا في القرون الماضية ولا تزال تمزق أقطارا عديدة في آسيا وأفريقيا الآن؛ وذلك لأنه يرى أن فكرة «الإخاء» التي دعت إليها الأديان تجد التعليل المادي في نظرية التطور بالمعنى الأوسع والمغزى الأعم، حتى إننا لنعود بها إلى ذلك الوجدان الديني الذي أحس به القديس فرانسيس عندما كان يقول «أخي الطير».
وهو وجدان شعر به آحاد معدودون في الماضي، ولكن سوف يشعر به جميع الملايين من البشر عندما يعرفون هذه الصلة التي تربطهم بجميع الأحياء، وتجعل منهم وحدة، فيحترمون الحياة أينما كانت؛ لأن كل حي هو قريب وأخ بقرابة، إذا لم تكن رحمية، فهي تطورية.
وبهذا الوجدان الجديد ننظر إلى كوكبنا؛ فلا نلهو بنباتاته وحراجه وجباله وبحاره، نصيد فيها الحيوان أو نبدد النبات، بل نعد هذه الأمكنة كنوزا ومتاحف ومقادس، نحمي فيها هذه الأحياء، ونمنع عنها الأذى، ونحوطها بالعناية في تطورها وتكشفها، ويجب أن نحزن على كل حيوان أو نبات يؤدي اعتسافنا في اللهو به أو إهمالنا له إلى الانقراض، وقد أوشكت طيور جميلة، اقتضى التطور وجودها مئات الملايين من السنين، أن تنقرض؛ لأن نزق النساء كان يحملهن على التزين بريشها الزاهي، ولكن الحكومات الممتازة بهذا الوجدان الجديد حرمت صيدها فعاشت، وكذلك عاش الصيادون المتوحشون من الأمم المتمدنة في حراج إفريقيا وغاباتها حتى أوشكوا أن يبيدوا الأسد والفيل والزرافة، فعمدت الحكومات المتمدنة أيضا إلى حمايتها، ومنعت الصيد إلا في أماكن معينة.
وهذا الكوكب هو كوكبنا، وهذه الأحياء هي قرابتنا التي يجب أن تجد الحرمة الدينية من كل إنسان متمدين.
وكسب آخر كسبناه من هذا المزاج التطوري، هو النظر للمستقبل والجرأة على تخطيطه في حرية تامة من التقاليد والعادات المتحجرة، وأولئك الذين ينفرون من نظرية التطور إنما يفعلون ذلك لإحساس خفي بأن هذه النظرية تحريرية في دلالتها، تفكك الأغلال وتفتح المستقبل للتفكير الجريء، كما هي موطرية في وجهتها، تحرك المجتمعات إلى التغيير والارتقاء، وتجحد الركود والجمود باعتبارهما أكبر المعاصي والذنوب.
وأرجو أن يكون في هذا الكتاب بعض التنبيه حتى لأولئك الذين يجهلون الغاية الدينية السامية لنظرية التطور التي فتحت أبوابا للرقي البشري كانت مسدودة من قبل بالغيبيات الجامدة.
مقدمة الطبعة الثالثة
بقلم سلامة موسى
1957
ناپیژندل شوی مخ
استبدلت نظرية التطور النظر المادي بالنظر الغيبي لنشأة الأحياء على أرضنا، وربطت بين جميع الأحياء؛ نباتا وحيوانا وإنسانا، برباط جديد، كما جعلتنا نفهم الحياة على أنها ليست جامدة؛ إذ هي - باعتبارها إحدى ظواهر المادة - في حركة وتحول أبديين.
وهذه الحركة، وهذا التحول، ليسا من ميزات الأحياء وحدها؛ إذ هي أيضا صفة المادة كائنة ما كانت؛ ذرة أو جزيئا أو شمسا أو كوكبا أو غازا أو سائلا أو يابسا، حتى ليصح، بل يجب، أن نقول إن كل هذه الكائنات حية؛ إذ هي في تحول وتغير أبديين مثل الإنسان أو الحيوان أو النبات.
ولم يكن داروين - لحدود المعارف التي كان يعرفها في سنة 1858 عندما ألف كتابه عن أصل الأنواع - ليستطيع بلوغ الآفاق التي بلغناها نحن في أيامنا بعد أن عرفنا الذرة؛ ولذلك كانت نظرية التطور تنطبق عنده على الأحياء فقط، أما الآن فإننا نعرف أنها تنطبق على الكون كله.
وهذا التصور الجديد للكون وللإنسان هو تحرير جديد للذهن البشري عن مستقبلنا على هذه الأرض، وربما على الكواكب الأخرى، وأيضا في تطورنا القادم الذي شرعنا نسيطر عليه بعلومنا وفنوننا؛ فقد تحقق للإنسان، بنظرية التطور، استقلال العقل والروح الذي لن ينزل عنه بعد الآن.
ولقد مضى الزمن الذي كانت تستهدف فيه هذه النظرية لنوادر الحشاشين ونكاتهم؛ لأننا قد أصبحنا نحس احتراما، بل ابتهالا، عندما ينبسط لنا موكب الأحياء منذ ألف مليون سنة إلى الآن، بما فيه من الناهض المقدم والساقط الفاشل، وفي خلال هذا الموكب نتبين فضائل الحياة، ونستكنه أسرار البقاء.
ومن سعادة حياتي أني ألفت هذا الكتاب منذ أكثر من ثلاثين سنة، واحتاجت الطبعة الأولى نحو 25 سنة حتى نفدت، أما الطبعة الثانية فقد نفدت في أقل من خمس سنوات، وفي هذا برهان على انتصار النور على الظلام، وعلى أن النظر العقلي العلمي المادي يأخذ عند جمهورنا مكان النظر الغيبي الأسطوري الخرافي.
تاريخ نظرية التطور
التطور هو النظرية السائدة في العلوم الآن، وهي الصفة التي اصطبغت بها عقول جميع المفكرين في عصرنا الراهن.
وهي الآن تتلخص في أن الحيوان والنبات، على تعدد أنواعهما التي تبلغ الآلاف، نشأت في الأصل من نوع واحد. وأن الجماد نفسه بما فيه من ذرات وجزئيات وعوالم وعناصر يرجع أيضا إلى أصل واحد.
فالتطور قانون شامل يسري على عالم الجماد وعالم الحيوان على السواء. وهو يقضي بأن الحي أو الجماد دائم التحول لا يثبت على حال واحدة.
ناپیژندل شوی مخ
فالإنسان لم يكن إنسانا منذ الأزل وإنما كان حيوانا يشبه القرد، وكان قبل ذلك يشبه الليمور، وهلم جرا، حتى تصل إلى الخلية البسيطة للحياة الأولى على الأرض. وهكذا الحال في سائر الحيوان والنبات.
والجماد نفسه في تطور مستمر، فالرصاص مثلا لم يكن رصاصا منذ الأزل وإنما كان في الأرجح «رديوما». وهكذا الحال في سائر عناصر الجماد.
وهذه النظرية ليست جديدة، فقد لمحها الإغريق، وأومأ إليها العرب ظنا وحدسا، ولكن الجديد فيها كثرة الشواهد التي استقراها العلماء للتدليل على صحتها، والبحث في أساليب التطور، والوسائل التي يتوسل بها الحي، نباتا كان أم حيوانا، في سبيل بقاء نوعه وإبادة غيره، وتحوله من حال إلى حال، أي تطوره على مدى الزمن؛ أي الإيمان بالنظرية يقينا عن بينات علمية.
والإغريق أول من لمح هذه النظرية، وكان «أرسطو طاليس» يشير إليها ويؤمن بوجود قوانين طبيعة ثابتة لا تتغير بمشيئة الآلهة. وقال عن أصل الحياة في النبات أنها نشأت قبل أن تنشأ الحيوانات.
وكان «لوكريتيوس» الذي عاش حوالي سنة خمسين قبل الميلاد المسيحي أجرأ القدماء وأبعدهم نظرا في التطور، فكان يقول إن التحول هو سنة الكون، وإن ما تقوله الأديان الإغريقية عن أصل العالم خرافات، وإن الإنسان كان وحشا ضاريا هذبته المدنية، وإنه عرف النحاس، ثم عرف بعد ذلك الحديد، وإن اللغة نشأت بضرورة الاجتماع والحضارة.
وكان علماء الإسكندرية يعرفون هذه الآراء ويقولون بها. ثم حدثت فترة القرون الوسطى، فقام النقل في أوروبا مقام العقل، وطلق العلماء الاستقراء والبحث، وأخذت الأساطير والعقائد مكان البحث العلمي والمنطق.
ولكن علماء العرب في هذه الفترة كانوا يشتغلون بالعلوم، وبعثهم البحث في الكيمياء على الاعتماد على التجارب العلمية، فصارت نزعتهم في العلوم تفوق نزعة الإغريق وتمتاز عليها في الصحة.
فقد كان الإغريق يعتمدون في النظر الفلسفي على المنطق، وكأنهم كانوا يتجاهلون حقائق الحياة، كما تدل على ذلك «جمهورية أفلاطون» حيث قال فيها بشيوعية النساء والأموال، ولم يقف لينظر لحظة هل تنطبق مبادئه المنطقية على أحوال الحياة الراهنة في زمنه، وليس شك في أن «أرسطو طاليس» كان يقول باعتبار الحياة أصلا والمنطق والتفكير نتيجة، وبفائدة التجريب العلمي، ولكن روح أرسطو طاليس لم يكن الروح السائد بين الإغريق.
وقد لمح عدد كبير من علماء العرب إلى نظرية التطور، فكان الكيميائيون يقولون بتطور العناصر وإمكان تحول معدن خسيس كالرصاص أو الزئبق إلى معدن نفيس كالذهب، ثم توسعوا في النظر، فصاروا يقولون بوحدة الأصل في أنواع النبات والحيوان.
وربما كان أحسن ما كتبوه في هذا الرأي قصة «حي بن يقظان» التي وضعها ابن طفيل، ولخص فيها آراء المشارقة، وأومأ إلى نظرية التطور.
ناپیژندل شوی مخ
وفي القطعة التي ننقلها عن كتاب «عجائب المخلوقات» للقزويني إيماء إلى هذه النظرية، قال:
أول مراتب هذه الكائنات تراب، وآخرها نفس ملكية طاهرة. فإن المعادن متصلة أولها وآخرها بالنبات. والنبات متصل، أوله بالمعادن وآخره بالحيوان، والحيوان متصل أوله بالنبات وآخره بالإنسان، والنفوس الإنسانية متصلة أولها بالحيوان وآخرها بالنفوس الملكية.
وقال ابن مسكويه في «الفوز الأصغر» عن مراتب الإنسان: «إنها مراتب القرود وأشباهها من الحيوان الذي قارب الإنسان في خلقته الإنسانية، وليس بينها إلا اليسير الذي إذا تجاوزه صار إنسانا.»
وكلنا يعرف أن ابن خلدون قد عالج مشاكل الاجتماع من وجهة التطور. وهو لو كان قد تبسط في الكلام على الحيوان والنبات لكانت نظرته لا تخالف نظرتنا الآن. فقد كان يرى تأثير الوسط في الإنسان، وقد علل سواد الزنوج بشدة الحر، وقال في ذلك، بعد أن كذب القائلين بأنهم سود لأنهم أبناء حام بن سام:
فإن الشمس تسامت رءوسهم مرتين في كل سنة ... فتطول المسامتة عامة الفصول، فيكثر الضوء لأجلها، ويحل القيظ الشديد عليهم وتسود جلودهم لإفراط الحر.
فمن ذلك يرى القارئ أن القدماء، من إغريق وعرب، قد أحست نفوسهم وحدست عقولهم هذا النظام الحيوي في العالم. وكيف أن الأنواع دائمة التحول والتغير، بل إن كيمائي العرب قد أحسوا أيضا تحول الجمادات.
ولكن كل كلام القدماء في ذلك لم يكن سوى تلميح وإيماء، فلم يمسوا النظرية مساسا مباشرا ولم يجعلوها موضوع الدرس المتواصل والتجربة العملية، وهذا هو الفرق بيننا وبينهم الآن.
فإن النظرية الآن موضوع استقراء آلاف العلماء، ولها كتب خاصة تعد أيضا بالألوف. وقد بدأ البحث الجدي فيها منذ «لامارك» العالم الفرنسي المتوفى سنة 1829. فإنه قال إن جميع أنواع النباتات والحيوانات الراهنة قد نشأت من أصول قديمة متحجرة وعلل اختلاف الأحياء الحاضرة من الأحياء المنقرضة المتحجرة بتأثير العادة في الأحياء، فإذا عاش الحي في وسط جديد، واعتاد عادات جديدة، اكتسب بذلك خصالا يرثها أبناؤه عنه، وتتراكم هذه الخصال وتتجمع حتى يأتي نسل بعيد يكون فيه من الخصال والصفات البدنية ما يجعله يخالف جدوده القديمة فتنشأ الأنواع الجديدة على هذه الكيفية.
ثم جاء «داروين» العالم الإنجليزي ووضع سنة 1859 كتابه «أصل الأنواع» وقال إن «تنازع البقاء» بين الأفراد هو أكبر عامل يؤدي إلى انقراض بعض الأنواع وبقاء بعضها؛ لأن هذا التنازع يفضي إلى «انتخاب طبيعي» بينها، فكأن الطبيعة مرب يحابي بعض الأفراد فيبقيها ويمنع البعض الآخر من التناسل فتنقرض، فإذا اشتد اختلاف الأفراد صار هذا الاختلاف نقصا أو ميزة يؤديان إلى بقاء البعض وانقرض البعض الآخر، فتنشأ سلالات جديدة، ثم تتجمع الصفات الجديدة في هذه حتى تصير السلالات أنواعا جديدة.
وجاء «سبنسر» العالم الإنجليزي بعد داروين، فعمم النظرية حتى جعلها تشمل الهيئة الاجتماعية الإنسانية، وكيف انتقلت بالتدرج من الوحشية إلى المدنية، وكيف أنها دائمة التطور شأنها في ذلك شأن النبات أو الحيوان.
ناپیژندل شوی مخ
ثم ظهر حوالي أواخر القرن الماضي عنصر «الراديوم» فتبين منه أن الجماد في تطور أيضا، وأن العناصر كما نعرفها الآن ليست على حال ثابتة، فقد كانت تختلف قديما وستختلف في المستقبل عما هي الآن. وأن من الممكن مثلا أن نحول الزئبق إلى ذهب.
فنظرية التطور تشمل الآن كل شيء حتى أخذ الأوربيون يفكرون في كيفية إنشاء إنسان تكون نسبته إلينا كنسبتنا إلى القرد، وهم يطلقون عليه اسم «السبرمان» أي: الإنسان الأعلى.
وهم يتحسسون هذا الموضوع الآن، ويكتفون بالتخيل، فلا يجرؤ منهم أحد على التخطيط والترسيم. وأجرأهم يقنع الآن بالقول بمنع ذوي العاهات والبله من التناسل بتعقيمهم. وكثير من الأمم الراقية يفعل ذلك الآن.
وبعد فإن نظرية التطور قد فتحت ميدانا بل ميادين لنظر الإنسان، فقد كان المأثور قديما في كتب السلف أن الإنسان خلق كما هو الآن، وسيبقى كذلك إلى الأبد، ولكن نظرية التطور قد بسطت لنا الماضي فجعلتنا نرى الإنسان في غير حاله الآن، وبسطت لنا آفاق المستقبل فملأتنا رجاء بأنه سيكون أفضل مما هو الآن .
فنظرية التطور هي نظرية الرجاء والرقي، وهي المفتاح الذي يفتح لنا مغاليق الماضي المبهم ويرسم لنا مصير الإنسان.
فكرة التطور وقيمتها
الفرق بين الرجل قد أشرب عقله وصبغ ذهنه، بنظرية التطور، وبين الرجل يجهل هذه النظرية، كالفرق بين إنسان قد اكتشف ملكوتا رائعا عظيما، وبين آخر عاش عمره محبوسا في صومعة يظنها جماع ما في هذا الكون من خلائق ومكنونات وأسرار.
فرجل التطور يرى أنه قد عاش في الكون ملايين السنين، وأنه مرتبط وسائر الأحياء من نبات وحيوان برباط قوي متين، فعلاقته بهذا العالم، بل بهذا الكون أجمع، أشبه شيء بديانة علمية قد ارتكزت على أصول العقل والتجربة. وإذا كان أحد القديسين قد قال مرة بدافع النزعة الدينية الشريفة التي كثيرا ما رفعت رجل الدين في المسيحية والإسلام فوق نفسه: «أخي الطير» فإن رجل التطور لا يقول هذا القول فقط، بل هو يحسه في أرجاء نفسه وتلافيف دماغه ومسارب دمه. بل هو يمكنه أن يقول ويشعر بصدق ما يقول: «أخي السمك، بل أخي الشجر.»
وهو لا يعتقد هذا القول اعتقادا يقهر نفسه عليه إرضاء لسلطة خارجية، بل هو يعقله ويحس بصدقه؛ لأن هذه الحقيقة قد استبطنت عقله وصبغت تفكيره.
فالإحساس بحقيقة التطور هو نوع من الديانة الطبيعية، بها نشعر أننا وجميع الأحياء أسرة واحدة نشترك وإياها في وحدة وجودية، وهذا الإحساس يحملنا على احترام الحياة كائنة ما كانت.
ناپیژندل شوی مخ
ثم إن هذا التاريخ الذي كنا نعده بضع مئات من السنين، قد صرنا الآن نعده بمئات الآلاف من السنين. وكنا قبلا نعرف من التاريخ وقائع الحروب وأخبار الملوك، فصرنا الآن نطلب من التاريخ أن يدلنا على تطور الأسرة والقبيلة، بل تطور الزراعة والصناعة والحضارة.
وإنما اتجه نظرنا إلى هذه الأشياء لما سبق أن رسخ في ذهننا من نظرية التطور، التي جعلتنا ننظر إلى جماعات الإنسان وصناعاته وسائر ما يلابسه، كأنها أشياء تجري عليها سنة التطور، وأنها تتدرج من الحسن إلى الأحسن، ومن البساطة إلى التراكب.
والإنسان تسترقه الكلمات، بل كثيرا ما تكون اللغة بمرونتها سببا في تقدم الأمة كما تكون بجمودها سببا في تأخرها. فكلمة «التطور» لها الآن سلطان على العقول. فرجل السياسة يقول بكراهية الانقلابات والثورات، ويرى الجري على سنن التطور والتدرج. والمدنية تتطور وتترقى، واللغات في تطور، فإذا لم تتطور جمدت، وهلم جرا.
فلو لم تكن كلمة «التطور» موجودة لما نزعنا هذه النزعة في السياسة والعلوم والآداب والصناعات. فهذه الكلمة قد تملكتنا، وصبغت عقولنا، ووجهتنا في وجهات جديدة لم يكن يعرفها آباؤنا.
اعتبر مثلا كلمة «التقدم» فلست تجد في المعاجم العربية ما يدل على معناها الذي نفهمه منها الآن، فلم تكن الأمم العربية تفكر في التقدم. أي أنها لم تفكر في طريقة لتعميم التعليم بين الأهالي، أو في رفع مستوى الصحة العامة، أو في إيجاد نظام صناعي لتحسين حال العمال، أو غير ذلك، وإنما كان كل وال قانعا بأن تسير البلاد كما سارت في عهد سلفه، وكثير من هذه القناعة كان يرجع إلى أن هذه الكلمة بمعناها الحديث لم تكن معروفة؛ لأن للكلمات سلطانا على العقل، بل نحن نفكر بالكلمات.
وكذلك الحال في كلمة «التطور»، فإنها غرست في الأذهان فكرة تدرج الأحياء ورقيها جيلا بعد جيل. فصار للرقي أساس طبيعي، وصارت مخالفته من الفرد أو الأمة أو الحكومة أشبه شيء بخروج على السنن الطبيعية، وصرنا نغضب من الحكومة التي لا تفكر في ترقية التعليم أو ترقية الزراعة أو نحو ذلك، أو التي تنكر حق الأمة التطوري في الرقي الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي، لأن فكرة التطور قد جعلتنا ننزع هذه النزعة.
ثم إن لنظرية التطور فضلا آخر في فهم طبيعة الإنسان فلا يمكن فيلسوفا أن يعرف كنه النفس الإنسانية ما لم يعرف تطور الجهاز العصبي في الإنسان وعلاقته بالأحياء الدنيا، والعوامل التي جعلته يرقى إلى مستواه الحاضر. بل إن فلسفة «فرويد» مبنية كلها على أن أهم ما في خواطر الإنسان وأخلامه وهواجسه يرجع إلى الغريزة الجنسية التي هي أهم وأقوى غرائز الحيوان، فالحيوان الذي يقاتل ويموت من أجل الأنثى لا يزال حيا في الإنسان حتى في بعض طرق عبادته وفي فنونه الجميلة التي يمارسها الآن وينسبها إلى أرقى الأعمال الذهنية.
بل لا يمكن فهم بعض أمراضنا وكيفية علاجها ما لم نفهم نظرية التطور، فبعض أنواع الجنون «ردة» من الإنسان إلى الحيوان القديم، الذي لا يزال كامنا مقهورا فينا قد تغلبت عليه إنسانيتنا، فبعض المجانين يزحف ويتسلق ويقعد قعدة القردة، وقد استفاد الطب الحديث من نظرية التطور فترك علاج الأعشاب، وعمد إلى العلاج بخلاصات الحيوان، مثل الهرمونات؛ أي: مفرزات الغدد الصم، ونجح في ذلك، وذلك لأن التطور يدلنا على أن مصلحة النبات تخالف بل تناقض مصلحة الحيوانات، ولذلك كثيرا ما يحتمي النبات منه بالحسك والمرارة والسم، فلا يمكن أن نعتمد عليه في اتخاذ دواء منه. أما الحيوان فإن تركيبه هو تركيبنا، وما ينفعه ينفعنا، ولا عبرة بما يحدث اتفاقا كإمكان التعالج من الحمى بنبات الكينا، كما أنه لا عبرة بأن الحيوان يعيش على النبات؛ لأن للنبات مصلحة في ذلك لنقل بذوره من مكان إلى آخر.
وكثير أيضا من جرائم المجرمين يرجع إلى أنه «ردة» لأن أسلافنا كانوا يمارسون هذه الجرائم كأنها أعمال لا حرج فيها.
وكذلك رجل التعليم لا يمكنه أن يدرك طبيعة الطفل ما لم يفرض أنه حيوان صغير فيه غرائز القردة، وأن طبيعته تتكشف من الحيوان إلى الإنسان، ففي الطفل والقردة، كليهما، غريزة الاستطلاع، وفيهما حب التسلق والتلصص، وفي أحلام الطفل ما يذكرنا بحياة الغابة والنوم على الأشجار، إذ معظم ما يراه الطفل في نومه أنه يهوي ساقطا فيتنبه قبل أن يتردى، وهذا الحلم هو من الوساوس القديمة التي كانت تنتاب أسلافنا وهم يعيشون كما تعيش القردة الآن على الأشجار.
ناپیژندل شوی مخ
ومن العلوم التي أحدثها التطور علم «اليوجنية» الذي يقصد به إصلاح ذرية الإنسان بأساليب صناعية؛ لأنه إذا كانت الطبيعة قد عملت لترقية الإنسان في الماضي، كما هو مدلول نظرية التطور، فمن واجب المدنية أن تعمل لترقيته في المستقبل.
ففكرة التطور قد شملت جميع المعلومات البشرية تقريبا، وبها يمكن تفسير أشياء عديدة كانت قبلا غامضة لا يمكن فهمها.
فلسفة التطور
أعظم ما يعوق التفكير المثمر والرأي المدروس أن تكون هناك عقيدة مألوفة أو عادة اجتماعية يمارسهما الناس لأن العادة التي ننشأ عليها - ذهنية أم اجتماعية - تحول بيننا وبين رؤية الحقائق كما تمنعنا من الانتقاد لما هو قائم بيننا.
وكثيرا ما نقرأ مؤلفات الفلاسفة الإغريق وفقهاء الدين في المسيحية والإسلام واليهودية فنجد العقول الناضجة والآراء السديدة، ثم نعجب بعد ذلك لأنه لم يعارض مثلا واحد منهم، ولو بالنقد العابر، هذه النخاسة التي كانت تحيط به في مجتمعه حين كان يباع الصبي والرجل والمرأة كما تباع البهائم.
وقد نزهوا نحن برقينا على أسلافنا في هذه الناحية. ولكن يجب ألا نتناسى أنهم كانوا معذورين؛ لأنهم نشئوا على هذه العقيدة أو العادة ومارسوها أو رأوا غيرهم يمارسها فلم يستطيعوا التغلب على عواطف الاقتناء التي أوجدتها النخاسة.
والعقيدة تحدث عاطفة تزعجنا بل تؤلمنا مخالفتها.
وعندما نتأمل نظرية التطور وشواهدها التي لا تحصى نعجب لتأخر الجماهير المثقفة في اعتناقها، ونعجب أيضا لأن أحدا من الفلاسفة لم يقل بها إلا منذ أقل من قرن، وعندنا أن مرجع ذلك هو الإيمان بالعقيدة الدينية التي تقول بأن الأحياء قد خلقت، كل حي مستقل في خلقه عن الآخر، فإن هذه العقيدة حالت دون التفكير في كرامة الإنسان وحريته.
وقد أصبحت نظرية التطور بعض عاداتنا الذهنية، وقد نقلناها من الأحياء إلى المواد والعناصر، وإلى المجتمعات والنظم السياسية والاقتصادية. بل نحن نحس الحاجة؛ لأن يعم التطور البيولوجي جميع البشر حتى يتغيروا إلى أحسن وأرقى مما هم عليه، ونحن بهذه النظرية نرى هذا الكون كله بعين جديدة، إذ نعرف أنه صائر متحرك وليس كائنا جامدا
وقد تعلمنا من السيكلوجية أن من أعظم ما يؤذينا في سلوكنا الاجتماعي وتصرفنا الشخصي هو هذه العواطف التي ورثناها من أسلافنا حين كنا في أطوار حيوانية نحتاج إليها، فنحن ما زلنا نغضب ونغار ونخاف ونقسو ونشتهي ونتشكك، وهذه العواطف تلغي عقولنا أحيانا وتعذبنا. وهي لا تختلف عن الأظافر التي تنمو بلا حاجة لنا بها إلى النمو، ولكننا نقلم أظفارنا ولا نستعز بنموها. أما العواطف فلا سلطان لنا عليها سوى سلطان العقل. وهو لا يزال في بدايته لم يسد السيادة التامة. ومن هنا الأمراض النفسية إذ هي جميعها أمراض العواطف التي لا تزال عالقة بنا بعد أن أدت مهمتها وكان يجب أن تموت. (العظام تتشابه: إنسان - إنسان منقرض - قرد)
ناپیژندل شوی مخ
وعندما نتأمل أعضاءنا الخاصة بالعواطف نجد أنها لا تزال كما هي لم تتقلص أو تضمر، فنحن من حيث الجهاز العاطفي لا نختلف عن الحيوانات إلا من حيث إن لنا جهازا آخر هو الدماغ الكبير، مكان التعقل. ولذلك يغمنا جنون حين نغضب أو نخاف أو نتشكك أو نغار أو نشتهي الجنس الآخر.
ولو أن هذا الجهاز العاطفي كان قد تقلص أو ضمر، كما هو الشأن في الزائدة الدودية، التي كانت قبل ملايين السنين معى كبيرة تهضم المواد التي تحتاج إلى مدة طويلة ثم أصبحت أصغر من أصبع، لو أن جهازنا العاطفي كان قد نقص مثل هذه الزائدة، لكنا سعداء بعقولنا لا نغضب أو نخاف أو نهتم كما هي حالنا الآن.
ونحن ما زلنا حيوانات نفسا وجسما بهذا الجهاز العاطفي، ولذلك أصاب فرويد حين قال إن كلا منا يتألف من ثلاث ذوات: الذات الحيوانية نجوع بها ونشتهي الأنثى ونغضب ونبطش، ونحن في كل ذلك حيوانات. ثم الذات الاجتماعية التي نراعي فيها العادات المألوفة. ثم الذات العليا التي يحتويها ضميرنا والتي نرتفع بها أحيانا على المألوف.
وقد رسم لنا تاريخنا التطوري أننا نسير نحو زيادة الدماغ، والواقع أن وزن الدماغ في الإنسان كبير جدا بالمقارنة إلى ما هو عليه عند الحيوانات، وخاصة تلك الزواحف المنقرضة، فإن واحدا من هذه الزواحف يدعى «البرونتوسور» كان وزن دماغه لا يزيد على رطلين. ولو أن دماغه كان ينمو على قياس النمو البشري للدماغ لكان يجب أن يكون وزنه 2072 رطلا، أي نحو طن، ولو أنه كان ينمو على قياس النمو في الغوريلا لكان يجب أن يزن دماغه 370 رطلا .
ونحن صائرون نحو الزيادة الدماغية، فإن كلمات اللغة، وهذا التوسع اللغوي في المعاني الجديدة، ثم هذه الآفات التي عددت اهتمامات الإنسان، كل هذا جدير بأن يزيد خلايا الدماغ في المستقبل ويزيد بذلك فهمنا وتسلطنا على هذه العواطف الحيوانية التي تؤذينا وتردنا في أزماتنا النفسية إلى حال الحيوان.
وقد وصل الإنسان إلى حاله الحاضرة من الرقي الدماغي بقوانين الغابة، أما الآن فإنه قادر على أن يأخذ التطور البشري في يده وأن يتسلط على مستقبله بنفسه، وأن يزيد هذا الدماغ البشري إلى أكبر مقدار ممكن بالتربية أولا وبالاختبار ثانيا. (تطور الأدمغة من السمكة إلى الفقمة إلى الكلب إلى الغوريلا إلى الإنسان)
وسوف يأتي اليوم حين تحس كل أمة أن إصلاح أرضها وتحسين مبانيها وترقية مصانعها وزيادة ثرائها، كل هذا ليس شيئا يستحق العناية بالمقارنة إلى الرقي البيولوجي في أبنائها، وأعظم هذا الرقي هو زيادة الأدمغة، حتى يأخذ التعقل البصير مكان العاطفة الطائشة، وحتى يزيد الذكاء في أفراد الأمة،
وقد عرف هتلر قيمة التطور وعمل به، ولكنه أساء إذ كان يحمل في نفسه بغضاء جنونية لليهود، كما أنه كان أيضا مجنونا من ناحية الاعتقاد بأن السلالة الألمانية هي خير السلالات في العالم، وقد استعمل التطور هنا، كما استعمل الأمريكيون القنبلة الذرية، للعدوان وليس للبنيان.
ولكن إذا كان الألمان قد أساءوا باستعمال التطور في غير مكانه، كما أساء الأمريكيون باستعمال الانشقاق الذري في غير مكانه، فإن هذا لا يعني أن المجتمعات لا يمكنها أن تنتفع في المستقبل بإيجاد سلالات بشرية راقية، وأيضا باستخدام الانشقاق النووي أي الذري في إيجاد القوة لاستغلال الطبيعة.
ولن يقتصر هذا التطور المدبر على الإنسان؛ لأنه سوف يشمل أيضا الحيوان والنبات. بل الواقع أن الإنسان قد عمل كثيرا في تغييرهما لخدمته، فإن البقرة مثلا هي جهاز حي لتحويل العلف إلى لبن، والكلب هو حيوان للبيت يؤانس الأطفال. والقط قد أصبح بعض الأثاث في منازلنا. أما الفرس فإننا قد أحلناه إلى تحفة من الجمال، وإلى حيوان للجر، ثم إلى وسيلة للمقامرة في حلبات السباق.
ناپیژندل شوی مخ
وليس بعيدا أن نربي ونختار في الكلاب حتى نستخرج منها سلالة ذكية تؤدي الكثير من حاجاتنا، وأن نختلق سلالات جديدة من البقر أو الجاموس تتخصص كل منها في إدرار اللبن البروتيني أو الإكثار من الزبد. كما ليس بعيدا أن نجعل من النبات أنواعا وسلالات تختص كل منها بتزويدنا بثمار معينة للغذاء أو الدواء.
هذا هو بعض ما تعلمناه من نظرية التطور.
تطور العالم
لم يأت الوقت بعد لإيضاح كيفية تطور المادة، أما إنها تتطور فهذا ما لا يشك فيه أحد من العلماء الآن، وكفى دليلا على ذلك ما ثبت من أن العناصر تتحول.
وقد قرر «جوستاف لوبون» بالتجربة أن المادة تفني، أي تعود أثيرا غير محسوس.
ولكن ليس أحد يمكنه الآن أن يجزم في شيء عن أصل المادة ونهايتها.
والشك أيضا لا يزال قائما عن هذا الكون، هل هو متناه أو غير متناه، وهل مصيره إلى البرودة والجمود والسكون، أو هل قانون التطور لا يزال يشمل عوالمه فيحدث فيها التجديد الدائم بحيث تبقى على الدوام في تفاعل لا يحدث الانحلال في مكان حتى يحدث التكون في مكان آخر. كذلك لسنا نعرف هل المجموعة الشمسية التي تحتوي أرضنا تكونت في الأصل من السديم أو من النيازك. وما هي دلالة البقع التي تظهر على وجه الشمس. (بقع في الشمس)
فهذا كله موضوع خلاف أو بالأحرى دراسة بين العلماء للآن. ولذلك خير لنا أن نقفز قفزة كبيرة فنترك موضوع تطور المادة كله إلى أصل الأرض وكيفية تكونها حتى صارت إلى شكلها الحاضر.
فالأرض كانت في رأي العلماء قطعة متصلة بأحد النجوم أو جزءا منها. يدلك على ذلك أن جميع العناصر الموجودة بالنجوم موجودة كلها بالأرض. وهذا يمكن إثباته بتحليل الطيف الشمسي لضوء النجوم، فإن مواد النجوم ما هو في حال غازية. فإذا قطعنا هذا الضوء (أي شعاعة منه) بمنشور من البلور تحلل الضوء إلى جملة ألوان ولكل غاز طيف خاص. وقد أمكن بذلك أن نعرف المواد المؤلفة منها النجوم ونتحقق من أنها هي نفس المواد المؤلفة منها الأرض، بل حدث مرة أننا عرفنا عنصرا يدعى الهيلوم، وهو الغاز الخفيف الذي تملأ به البلونات الطائرة في الشمس، قبل أن نهتدي إلى وجوده في الأرض.
والمتفق عليه بين معظم العلماء أن الأرض كانت كتلة ملتهبة، ثم بردت رويدا فصارت غازاتها سوائل، ثم جمد بعضها. (سديم يظن أنه أصل النجوم والكواكب)
ناپیژندل شوی مخ
ومن المعقول في هذه الحال أن تتجه أثقل المواد إلى المركز ويبقى أخفها على السطح. وإذا كان بخار الماء قد برد حتى صار سائلا وملأ محيطات العالم كما نراها الآن فإنما يكون قد حدث هذا رويدا. وكانت البحار في البدء عذبة لأنها تكونت من الأمطار.
ولكن لما تقادم العهد وصارت الأمطار تقع على اليابسة ثم تنحدر منها أنهارا إلى البحر، أخذت هذه الأنهار تكتسح أملاح اليابسة وتنزل بها إلى البحار، ثم تعود مياه البحار إلى التبخر فيبقى الملح بها وتزداد كميته بذلك عاما بعد عام.
ومما يدل على ذلك أن البحيرات المنقطعة أو التي يقل نزول المطر فيها مثل البحر الميت في فلسطين، والبحر الأحمر شرق مصر، أكثر ملوحة من المحيطات الكبيرة، فالماء يتبخر من هذين البحرين كثيرا لوقوعهما في منطقة دافئة، ويقل نزول المطر فيهما فتقل عذوبتهما.
وليست أرضنا مستوية السطح إذ فيها نتوءات نسميها جبالا في بعض الأمكنة، وفيها غئورات في أمكنة أخرى نسميها محيطات. ولكن الجبال والبحار إذا قسناها إلى حجم الأرض لم تكن إلا بمثابة خدوش بسيطة لا يحسب لها حساب.
وأهم عامل في انحدار المياه إلى المحيطات وسبب ملوحتها هو الجبال. فما هو أصل الجبال؟
في الأرض الآن عدة براكين خامدة تدل على أن حرارة باطن الأرض كانت في الزمن القديم أشد مما هي الآن. وبدهي أن مثل هذه الحرارة كانت كثيرا ما تحدث نتوءا أو غئورا في قشرة الأرض التي كانت تتقلص وتتمدد.
ولكن السبب الأهم الذي يعزي إليه الآن ارتفاع الجبال وتكونها هو الأنهار. وهي أيضا سبب العصور الجليدية التي تناوبت العالم جملة مرارا.
وكيفية ذلك أن الأمطار إذا وقعت على اليابسة حملت معها ما تذيبه من جوامد اليابسة، وشقت لها طريقا فيها حتى تصل إلى البحر فتنصب فيه. فإذا توالى هذا جملة ملايين من السنين ثقل قعر البحر الذي انصبت فيه هذه المياه.
فإذا لم يستطع قعر البحر أن يحتمل ما عليه من تراكم هذه المواد التي حملتها إليه الأنهار غار إلى تحت، وهو في غئوره يدفع باطن اليابسة إلى النتوء، فتبرز الجبال، على نحو ما يحدث إذا صنعنا كرة من العجين، إذا ضغطنا جزءا منها فغار نتأ جزء آخر يجاوره.
والجبال الحاضرة يدل بعضها على أنها كانت يوما ما مغمورة بماء البحر، بدليل ما يوجد فيها من متحجرات الأحياء مثل المحار التي لا تعيش إلا في المياه الملحة، ومع أن المقطم، شرق القاهرة، لا يكاد يعد جبلا، فإنه على كل حال يرتفع على سطح البحر بنحو 400 متر. ولكنه مع ارتفاعه هذا يحوي أحافير متحجرة من المحار الذي يدل على أنه كان في عصر قديم جزءا من البحر.
ناپیژندل شوی مخ