وليس في هذا الكلام غموض كما يتوهم القارئ لأول وهلة، فإن كل شيء نذكره جيدا لا نشعر بأننا نذكره، وإنما يأتي الوجدان عند ضعف الإتقان وعدم الإجادة، فإذا كان أحدنا يعزف على الكمان عزفا غير متقن لأنه كان مبتدئا - مثلا - في تعلم هذا الفن، فإنه يحس ويشعر بحركة يده، ولا يمكنه أن يخاطبك وقت عزفه لئلا يرتبك، أما إذا كان قد قدم عهده بالعزف فأجاده، فإنه يعزف ولا يشعر بعزفه، فيمكنه أن يخاطبك، أو أن يستمع لحديثك، أو أن يفكر في أي موضوع دون أن يرتبك في عزفه.
فنحن نهضم طعامنا بذاكرة غير وجدانية، وكذلك نسير في الشارع ونعمل معظم أعمالنا المتكررة التي اعتدناها وتدربنا عليها بذاكرة غير وجدانية، وكذلك جسمنا، فإنه ينمو في الطرق التي اعتاد سلفه النمو فيها بذاكرة غير وجدانية أيضا.
وقد سبق أن قلنا إن حياة الإنسان تمتد إلى بدء ظهور الحياة في العالم منذ الخلية الأولى إلى الآن؛ ذلك لأنه قبل أن يتكون في الرحم كان بذرة حية في جسم الأبوين، وهكذا تتصل الحياة إلى الخلية الأولى، فإذا كان جسمنا ينمو على وتيرة خاصة فهو إنما يفعل ذلك بقوة ذاكرته، وهذه الذاكرة غير وجدانية؛ لأن هذا النمو كان بمثل العادة تتكرر في كل فرد.
وعلى هذا نقول إن الجنين يتحول من خلية مفردة، إلى حلقة، إلى هيئة السمكة، إلى حيوان مشعر ذي أربع، إلى إنسان؛ لأن هذه الأطوار مرت عليه فهو يذكرها، وهذه الأطوار التي يتطور فيها الجنين في بطن أمه تتفق ونظرية التطور، وليس فيها اختلاط أو تشوش؛ فهو يكون - مثلا - في تركيب السمكة، له خياشيمها دون الرئة، ثم حيوانا مذنبا مشعرا، وهذا وفق نظرية التطور القائلة بأن الحيوانات كانت مائية أولا، تستنشق الهواء من الماء بخياشم، ثم صارت إلى اليابسة فنشأت لها رئات، ولا نرى عكس ذلك في الجنين.
ثم ما معنى أن يكون له ذنب، أو أن يكون جسمه كاسيا بالشعر، لو أنه لم يكن بهيما يعيش كسائر البهائم قبل أن يتطور إلى نوع الإنسان؟
فحياة الجنين هي صورة مصغرة لحياة الأنواع التي سبقت ظهور الإنسان، وحياة الطفل تبصرنا بشيء كثير من حياتنا في العصور الماضية قبل أن نبلغ مرتبة الإنسانية؛ فهو يولد ويبقى مطروحا بهيئة السمك مدة طويلة، ثم يزحف ويتسلق كالحيوان ذي الأربع، وأخيرا ينتصب وافقا.
وفي فلتات الطبيعة ما يظهرنا على أصلنا، فكثيرا ما يولد إنسان وهو كاس بالشعر كالحيوان، وكثيرا ما يولد برأس صغير كرأس الحيوان، فيبقى أبله له عقل الحيوان، وأحيانا يولد بذنب. (كان للإنسان في الازمنة القديمة ذنب، لم يبق منه إلا العجب أو العصعص، ولكن كثيرا ما يرد الإنسان إلى أصله فيظهر طفل مذنب كما في صورة هذا الطفل الهندي)
وقد أثبتت عملية الترسيب قرابة الإنسان من الحيوان؛ وخاصة تلك القردة العليا؛ مثل الشمبنزي أو الغوريلا، فإذا نحن حقنا أرنبا بدم إنساني ثم تركناها مدة، وأخذنا بعد ذلك دمها ووضعناه في كوب، وتركناه حتى يصير مصلا وراسبا، وجدنا أن هذا الراسب يماثل في تفاعله راسب القردة دون راسب سائر الحيوان، كما أن راسب البقرة يماثل راسب الجاموسة دون راسب سائر الحيوان، وهذا يدل على القرابة النوعية بين الحيوانات؛ فالقرد والإنسان من أصل واحد، كما أن الجاموس والبقر يرجعان أيضا إلى سلف مشترك.
وليس معنى ما تقدم أن كل ما فينا قد ورثناه عن جدودنا من الحيوان؛ لأنه لو كان الابن ينشأ على غرار أبويه تماما لما حدث تطور مطلقا؛ فإن طبيعة الحي أن يخرج عن قيد الوراثة، وكأنه يجد في تحقيق ذلك ويريد أن تكون له شخصية مستقلة.
فنحن قد ورثنا عدة غرائز من الحيوان؛ بعضها نافع وبعضها مضر، وكل من حاول منا أن يربي نفسه ويسيطر على أهوائه ويكبحها يعرف مبلغ ضرر هذه الغرائز أحيانا وقوتها؛ فحين ونحن نحاول تأديب أنفسنا إنما نجاهد ذلك القرد الذي لا يزال حيا في عروقنا، ومعظم المجرمين والبله قد انتصرت فيهم عناصر القرد على عناصر الإنسان، ومعظم الأنبياء والفلاسفة والحكماء قد انتصرت فيهم عناصر السبرمان (أي الإنسان الأعلى) على عناصر الإنسان.
ناپیژندل شوی مخ