ووضع محمد حرمًا لمسجد النبي في المدينة، وإنما الحرم شاع قبلًا عند اليهود حول هيكل أورشليم واتخذه النصارى لبعض كنائسهم الكبرى لامتيازها وهو الحمى كان الداخلون فيه أمان، وقد ورد في المشرق (١٣ [١٩١٠]: ٧١) اكتشاف المسيونويل جيرون نصب أي عمود ضخم من الحجر المانع في دمشق كان دالًا على حمى كنيسة دمشق قبل الفتح الإسلامي كما تبينه كتابة يونانية أثبتناها هناك.
وكان للنصارى قرب بعض الكنائس بروج للأطيار لا يجوز صيدها كحمام مكة التي يضرب المثل في أمانها فيقال آلف من حمام مكة.
وكان العرب يطوفون حول الكعبة، وكانت تلك عادة جارية بين النصارى العرب أن يطوفوا حول الكنائس قال الشاعر الجاهلي يذكر طواف النصارى حول الصليب فدعاه زورًا بالوثن (لسان العرب ١٧: ٣٣٤):
يطوفُ العفاةُ بأبوابهِ ... كطوف النصارى ببيت الوثنْ
ومما رواه في الأغاني (٧: ١٤٨) لعنترة وقيل بل لعبد قيس بن حفاف البرجمي قوله:
تمشي النَّعامُ به خلاءً حولهُ ... مشيَ النصارى حول بيت الهيكلِ
وقال الحارث بن خالد يصف بشرة أمة عائشة بنت طلحة (أغاني ١٥: ١٣٣):
وبشرةُ خودٌ مثل تمثالِ بيعةٍ ... تظلُّ النصارى حوله عيدها
(استلام الحجر الأسود) ومن المعلوم أن المسلمين إذا حجوا إلى الكعبة وطافوا حولها استلموا الحجر الأسود الذي فيها ولعلهم يفعلون ذلك احتذاء بنبيهم.
قال البخاري في الصحيح (٢: ١٤٧): "جاء عمر غلى الحجر الأسود فقبله فقال: أني اعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله ﷺ يقبلك ما قبلتك".
قلنا ولا يبعد أن العرب أخذوا ذلك عن النصارى الذي يقبلون حجارة كنائسهم تعبدوا أو كحجاجهم إلى القدس الشريف حيث يقبلون قبر السيد المسيح أو الحجر الذي صعد من فوقه إلى السماء في جبل الزيتون وعليه رسم أثر قدمه المبارك.
وقد سبق لنا ذكر حمام مكة ومأمنها من الصيد، ودونك ما روي عن حمام الكنائس روى الطبري في تاريخه (٢: ٨٦١) لرجل من بكر بن وائل ونسبه في الأغاني (٢: ٧٢) لعبد الرحمان بن الحكم:
أتتك العيسُ تنفخُ في براها ... تكشَّفُ عن مناكبها القطوعُ
كأنَّ مواقعَ الأكرار منها ... حمامُ كنائسٍ بقعٌ وقوعُ
(النذور) يروى عن عرب الجاهلية انهم كانوا ينذرون مواليدهم للكعبة.
ذكر أبو الوليد الأزرقي في أخبار مكة (ص١٢٨ ١٢٩) عن امرأة خزم بن العاص الجرهمية أنها كانت عاقرًا فنذرت إن ولدت غلامًا أن تتصدق به على الكعية عبدًا لها يخدمها ويقوم عليها فولدت من أخزم الغوث فتصدقت به عليها فكان يخدمها مع أخواله من جرهم (قلنا) أن هذه العادة اعني نذر المولود إلى الله كان سبق العرب إليها أصحاب الكتاب من يهود ونصارى، وكل يعرف كيف نذرت حنة العاقر أن ولدت غلامًا تجعله في خدمة الله فولدت صموئيل فوقت بنذرها، وقد ورد في القرآن سورة آل عمران نذر امرأة عمران (يعني القديسة حنة) بأبتها مريم العذراء فخدمته تعالى بالمحراب تحت كفالة زكريا الكاهن.
(المساجد وبناؤها على شكل الكنائس) لا مراء في أن المسلمين أول ما شيدوا المساجد لصلاتهم بنوها على صورة الكنائس فضلًا عما حولوه منها إلى جوامع عند فتحهم البلاد النصرانية كالجامع الأموي في دمشق، والجامع الأقصى في القدس الشريف وجوامع حمص وحماة وحلب فكل من يدخل هذه الجوامع من المهندسين يحتم لأول وهلة أنها من هندسة النصارى الأقدمين كما أثبتنا ذلك في فصل الفنون الجميلة (ص٣٤٣ ٣٥٠) فلما حاول المسلمون تشييد مساجد جديدة تقلدوا فيها الكنائس النصرانية وكان بناتها في الغالب نصارى من الروم والقبط وأهل الشام لا يعرفون إلا هندستهم الدينية.
وقد قابل المرحوم فان بركم (M، van Berchem) بين كل أقسام الجوامع كصحنها ورواقها وأركانها وعواميدها وسقفها وقبلتها ومحرابها ومنبرها ومقصورتها ومنارتها وبين الكنائس النصرانية وأقسامها المختلفة عند ظهور الإسلام وختم بقوله "إن وضع الجوامع يشبه شبهًا تامًا واضحًا بناء الكنائس القديمة" يريد الكنائس المعروفة بالكنائس الملكية (Basiliques) .
1 / 185