159

نصراني

النصرانية وآدابها بين عرب الجاهلية

ژانرونه

وقد اختلط بنو غسان في منازلهم شرقي الشام وفي جنوبها الشرقي بالرومان واليونان النصارى فجاروهم في حضارتهم وتعلموا منهم هندسة البناء فشيدوا مثلهم البيع والكنائس التي يرى بعضها حتى اليوم في جهات حوران والصفا واللجا وجولان وفي عبر الأردن وبلقاء (راجع الصفحة ٣٣) وهي من البنايات الفخيمة وعليها الرموز النصرانية والكتابات اليونانية واللاتينية. وعلى أثر منها كتابة عربية وجدت في حران سبقت الهجرة بأربع وخمسين سنة كتبت على "مرتول" أي مشهد القديس يوحنا المعمدان الذي شيده أحد شيوخ القبائل العربية المدعو شراحيل (ص ٣٤) وترى مثل هذه الأبنية الدينية في الجزيرة وديار ربيعة وديار بكر وشمالي سورية قد أشرنا إليها سابقًا (ص ٩٣ ١٠٦) فإن كتبة العرب وشعراء الجاهلية قد ذكروا نحو خمسين ديرًا منها نعتوا بعضها بأجمل النعوت كقول ياقوت في معجم البلدان عن دير الرصافة (٢: ٥٦٠) أنه "من عجائب الدنيا حسنًا وعمارة". وفي زبد شمالي سورية أقيم سنة ٥١٢ للمسيح مشهد لذكر القديس الشهيد سرجيوس عليه أول أثر من الخط العربي في تلك السنة (ص ١٠٣ ١٠٤) . ولم تخل أواسط جزيرة العرب كنجد والحجاز واليمامة من الأبنية النصرانية كالأديرة والبيع والصوامع (أطلب الفصل العاشر من القسم الأول ص ١٠٦ ١٢٣) وهناك كانت قبائل نصرانية كطيء وتميم التي افتخر خطباؤها لما وفدوا على نبي الإسلام بتشييدهم للكنائس فقال الزبرقان: نحن الكرامُ ولا حيٌّ يعادلنا ... منَّا الملوك وفينا تنصبُ البيعُ ثم ورد في كتاب الوفادات لابن سعد ذكر كنيسة بني حنيفة وراهبها (ص ١٢٩ ١٣٠) . وقد وجد أيضًا في الحجاز ونجد أديرة للنصارى في الجاهلية كدير خندف ودير غطفان وغير ذلك مما مر وصفه وقد ذكر الطبري في تاريخه (١: ٣٠٤٧) دير سلع قرب المدينة المنورة يثرب وفيه دفن الخليفة الثالث عثمان بن عفان. وما قولنا بالأبنية الجليلة التي أمر ببنائها الملك يستنيان في طور سينا ذكرًا لتجلي الرب فيه لبني إسرائيل وإكرامًا للقديسة كاترينا الشهيدة وهذه الأبنية تشهد إلى اليوم على براعة مهندسيها. *** ومما يدخل في هذا الباب ما بناه النصارى من الأبنية الدينية لغير ملتهم فمن ذلك بناء الكعبة نحو السنة ٦٠٥ للميلاد تولى بناءها رومي اسمه باقوم مع رجل قبطي كما روى النهروالي في كتاب إعلام الأعلام ببيت الله الحرام (ص ٤٩ ٥٠) قال: "إن امرأة جمرت الكعبة بالبخور فطارت شرارة من مجمرتها في ثياب الكعبة فاحترق أكثر أخشابها ودخلها سيل عظيم فصدع جدرانها بعد توهينها فأرادوا أن يشدوا ويرفعوا بابها حتى لا يدخلها من شاؤوا وكان البحر قد رمى بسفينة إلى ساحل جدة لتاجر رومي اسمه باقوم وكان بناء نجارًا فخرج الوليد بن المغيرة في نفر من قريش إلى جدة فابتاعوا خشب السفينة وكلموا باقوم الرومي أن يقدم معهم إلى مكة فقدم إليها وأخذوا أخشاب السفينة أعدوها لسقف الكعبة المشرفة. قال الأموي: كانت هذه السفينة لقيصر ملك الروم يحمل فيها الرخام والخشب والحديد مع باقوم إلى الكنيسة التي أحرقها الفرس بالحبشة. فلما بلغت قريب مرسى جدة بعث الله عليها ريحًا فحطمتها ... قال ابن إسحاق وكان بمكة قبطي يعرف نجر الخشب وتسويته فوافقهم أن يعمل لهم سقف الكعبة ويساعده باقوم". وليست هذه المرة الوحيد التي عمر النصارى ما خرب من الكعبة. أخبر الأزرقي في أخبار مكة (ص ٣٩٥ ٣٣٩٦) أنه وقع سيل جحاف في سنة ثمانين (٧٠٠ م) في خلافة عبد الملك بن مروان دخل المسجد وأحاط بالكعبة فكتب في ذلك إلى عبد الملك فبعث بمال عظيم وكتب إلى عامله على مكة لإصلاح ما خرب قال: "وبعث رجلًا نصرانيًا مهندسًا في عمل ضفاير المسجد الحرام وضفاير الدرو في جنبتي الوادي فأمر بالصخر العظام فنقلت على العجل وحفر الأرباض دون دور الناس فبناها وأحكمها من المال الذي بعث به". وكذلك جرى في عهد الوليد بن الملك فأنه أراد توسيع المسجد الحرام وزخرفته فاستقدم لذلك مهندسين نصارى. قال ياقوت في معجم البلدان (٤: ٤٦٦):

1 / 159