وقد يميل المرء إلى الاعتقاد بأن نظرية الاحتمال كانت على الدوام وقفا على المذهب التجريبي. غير أن تاريخ هذه النظرية يثبت أن الأمر على خلاف ذلك. ذلك لأن المذهب العقلي الحديث، حين أدرك مدى أهمية الأفكار الاحتمالية، قد حاول وضع نظرية عقلية في الاحتمال. ومن المؤكد أن برنامج ليبنتس الذي يهدف إلى وضع منطق للاحتمال في صورة منطق كمي لقياس درجات الحقيقة ، لم يكن يقصد منه أن يكون حلا تجريبيا لمشكلة الاحتمال. وواصل تحقيق هذه الرسالة مناطقة كانت في متناول أيديهم موارد المنطق الرمزي. وربما كان من الواجب تصنيف منطق الاحتمالات عند بول
Boole
على أساس أنه ينتمي إلى الجانب العقلي. ومن المؤكد أن نظرية كينز
Keynes
الرمزية في الاحتمال تنتمي إلى هذا الجانب، بما تنطوي عليه من محاولة لتفسير الاحتمال على أنه مقياس للاعتقاد العقلي. على أن هذه الأفكار قد اعتنقها مناطقة معاصرون لا يقبلون أن يدرجوا ضمن العقليين، وإن كانت أعمالهم تؤدي بالفعل إلى إدخالهم ضمن هذه الفئة، وذلك بالنسبة إلى تفسيرهم للاحتمال على الأقل.
إن صاحب المذهب العقلي يرى أن درجة الاحتمال نتاج للعقل في حالة انعدام الأسباب المعقولة. فإذا ألقيت قطعة نقود، فهل ستظهر الصورة أم الكتابة؟ هذا أمر لا أعلم عنه أي شيء، وليس لدى من الأسباب ما يجعلني أومن بإحدى النتيجتين دون الأخرى، لذلك أنظر إلى الإمكانين على أنهما متساويان في درجة احتمالهما، وأعزو إلى كل منهما احتمالا مقداره «نصف». وهكذا ينظر إلى انعدام الأسباب المقبولة للعقل على أنه سبب لافتراض تساوي الاحتمالات، هذا هو المبدأ الذي يرتكز عليه تفسير المذهب العقلي للاحتمال، ويرى صاحب المذهب العقلي أن هذا المبدأ، الذي يعرف باسم مبدأ السوية أو مبدأ انعدام السبب الذي يبرر الموقف المضاد، هو مصادرة منطقية. وهو يبدو له واضحا بذاته، شأنه شأن المبادئ المنطقية.
غير أن الصعوبة في تفسير الاحتمال على هذا النحو هي أنه يؤدي إلى التخلي عن الطابع التحليلي للمنطق ويدخل عنصرا تركيبيا قبليا. والواقع أن القضية الاحتمالية ليست فارغة، فعندما نلقي بقطعة نقود ونقول إن احتمال ظهور الصورة في الجانب العلوي نصف، فإننا نقول شيئا عن حوادث مستقبلة. وربما لم يكن من السهل صياغة ما نقول، ولكن ينبغي أن تنطوي هذه القضية على إشارة معينة إلى المستقبل، ما دمنا نستخدمها مرشدا للسلوك، مثال ذلك أننا نعتقد أن من المستحسن المراهنة بنسبة خمسين في المائة على ظهور الصورة، ولكنا لا ننصح أحدا بأن يراهن عليها بنسبة أعلى من هذه. والواقع أننا نستخدم القضايا الاحتمالية لأنها تتعلق بحوادث مقبلة. فكل عملية تخطيطية تقتضي معرفة معينة بالمستقبل، وإذا لم تكن لدينا معرفة ذات يقين مطلق، فإنا نقبل استخدام المعرفة الاحتمالية بدلا منها.
ويؤدي مبدأ السوية إلى إيقاع المذهب العقلي في الصعوبات المألوفة التي عرفناها من خلال تاريخ الفلسفة. فلم كان ينبغي على الطبيعة أن تسير وفقا للعقل؟ ولم كان يتعين على الحوادث أن تكون متساوية في احتمالها، إن كانت معرفتنا بها تتساوي في كثرتها أو قلتها؟ وهل الطبيعة متطابقة مع الجهل البشري؟ إن أمثال هذه الأسئلة لا يمكن الإتيان برد إيجابي عليها وإلا لكان على الفيلسوف أن يؤمن بوجود انسجام بين العقل والطبيعة؛ أي بالمعرفة التركيبية القبلية.
ولقد حاول بعض الفلاسفة أن يأتوا بتفسير تحليلي لمبدأ السوية، وتبعا لهذا التفسير لا يعني القول بأن درجة الاحتمال نصف أي شيء عن المستقبل، وإنما يعبر فقط عن أن معرفتنا عن وقوع هذا الحادث لا تزيد عن معرفتنا عن وقوع الحادث المضاد. وفي هذا التفسير يسهل بطبيعة الحال تبرير الحكم الاحتمالي، ولكنه يفقد طابعه بوصفه مرشدا للسلوك. وبعبارة أخرى، فصحيح أن الانتقال من الجهل المتساوي إلى الاحتمال المتساوي يكون عندئذ تحليليا، ولكن يظل علينا أن نفسر الانتقال التركيبي. فإذا كانت الاحتمالات المتساوية تعني جهلا متساويا، فلماذا ننظر إلى الاحتمالات المتساوية على أنها تبرر المراهنة بنسبة خمسين في المائة؟ في هذا السؤال تعود نفس المشكلة التي قصد من التفسير التحليلي لمبدأ السوية أن يتجنبها.
إن من الواجب النظر إلى التفسير العقلي للاحتمال على أنه بقية من مخلفات الفلسفة التأملية، ولا مكان له في فلسفة علمية؛ ذلك لأن فيلسوف العالم يصر على إدماج نظرية الاحتمال في فلسفة لا تضطر إلى الالتجاء إلى المعرفة التركيبية القبلية.
ناپیژندل شوی مخ