والواقع أن التفسير الصوفي للمنهج الفرضي الاستنباطي بأنه تخمين لا عقلي، إنما ينبعث عن الخلط بين سياق الكشف وسياق التبرير. فعملية الكشف تعدو على التحليل المنطقي؛ إذ لا توجد قواعد منطقية يمكن بواسطتها صنع «آلة للكشف» تحل محل الوظيفة الخلاقة للكشف العبقري. ولكن تعليل الكشوف العلمية ليس من مهمة رجل المنطق، وكل ما يستطيع أن يفعله هو أن يحلل العلاقة بين الوقائع المعطاة وبين النظرية التي تقدم إليه زاعمة أنها تفسر هذه الوقائع. وبعبارة أخرى فالمنطق لا يهتم إلا بسياق التبرير. وتبرير النظرية على أساس المعطيات الملاحظة هو موضوع نظرية الاستقراء.
وتنتمي دراسة الاستدلال الاستقرائي إلى نظرية الاحتمالات؛ إذ إن كل ما تستطيع الوقائع الملاحظة أن تفعله هو أن تجعل النظرية محتملة أو مرجحة. ولكنها لا تجعلها ذات يقين مطلق أبدا. ومع ذلك، فحتى عندما يعترف باندماج الاستقراء في نظرية الاحتمال على هذا النحو، تنشأ ضروب أخرى من سوء الفهم؛ إذ ليس من السهل إدراك التركيب المنطقي للاستدلال الاحتمالي الذي نقوم به من أجل تأكيد النظريات بالوقائع. وقد اعتقد بعض المناطقة أنهم يجب أن يتصوروا هذا التأكيد على أنه عكس الاستدلال الاستنباطي؛ أي إنه إذا كان في إمكاننا أن نستمد الوقائع من النظرية بالاستنباط، ففي استطاعتنا أن نستمد النظرية من الوقائع بالاستقراء. فير أن هذا التفسير مفرط في التبسيط. فلكي نقوم بالاستدلال الاستقرائي، ينبغي أن تشتمل معرفتنا على ما يزيد بكثير عن العلاقة الاستنباطية من النظرية إلى الوقائع.
وهناك ظاهرة بسيطة توضح التركيب المعقد للاستدلال المؤدي إلى تأكيد النظريات. فمجموعة الوقائع الملاحظة يمكن دائما أن تدخل في أكثر من نظرية واحدة، وبعبارة أخرى فهناك عدة نظريات يمكن أن تستخلص منها هذه الوقائع. ويستخدم الاستدلال الاستقرائي من أجل إعطاء درجة من الاحتمال لكل من هذه النظريات، ثم تقبل أقوى النظريات احتمالا. ومن الواضح أنه لا بد، من أجل التفرقة بين هذه النظريات، من معرفة تتجاوز نطاق العلاقة الاستنباطية بالوقائع، وهي العلاقة التي تسري على كل هذه النظريات.
فإذا ما أردنا أن نفهم طبيعة الاستدلال التأكيدي، كان علينا أن ندرس نظرية الاحتمالات. وقد تمكن هذا المبحث الرياضي من وضع طرق تسري على مشكلة الدلالة غير المباشرة
indirect evidence
في عمومها، وهي المشكلة التي يعد الاستقراء الذي يحقق ضجة النظريات العلمية مجرد حالة خاصة منها. ولكي أضرب مثلا للمشكلة العامة، أود أن أتحدث عن الاستدلالات التي يقوم بها ضابط المباحث في بحثه عن مرتكب جريمة. فبعض المعطيات تكون موجودة، كمنديل ملوث بالدم، وأزميل، واختفاء أرملة ثرية، وتظهر عدة تفسيرات لما حدث بالفعل. ثم يحاول ضابط المباحث تحديد أقوى التفسيرات احتمالا، فيسير في أبحاثه تبعا للقواعد الاحتمالية المقررة؛ إذ يحاول، مستخدما كل الشواهد الواقعية وكل معرفته بنفسية الناس، أن يصل إلى استنتاجات، يختبرها بدورها بملاحظات جديدة خططت لهذا الغرض بالذات، ويؤدي كل اختبار، مبني على معطيات جديدة، إلى تقوية أو إضعاف احتمال التفسير، ولكن لا يمكن أبدا النظر إلى التفسير الذي تم الوصول إليه على أنه يتصف باليقين المطلق. والواقع أن المنطقي الذي يحاول أن يعبر عن الصبغة الاستدلالية التي سار عليها ضابط المباحث، يجد كل العناصر المنطقية اللازمة للحساب الدقيق للاحتمالات، فإنه يستطيع على الأقل أن يطبق صيغ الحساب بمعنى كيفي. وبطبيعة الحال لا يمكن بلوغ النتائج الحسابية الدقيقة، إذا لم تكن المادة المعطاة تسمح إلا بتقديرات احتمالية تقريبية.
ونفس هذه الاعتبارات تسري على مناقشة احتمال النظريات العلمية، التي ينبغي أن تختار بدورها من بين عدة تفسيرات ممكنة للمعطيات الملاحظة. ويتم الاختيار باستخدام البناء العام للمعرفة، الذي تبدو بعض التعريفات إزاءه أرجح من بعضها الآخر، وعلى ذلك فإن الاحتمال الأخير نتاج لمجموعة من احتمالات متعددة. ويقدم حساب الاحتمالات صيغة مناسبة من هذا النوع في قاعدة بايز
rule of Bayes
وهي صيغة تنطبق على المشكلات الإحصائية مثلما تنطبق على استدلالات ضابط المباحث أو الاستدلال التأكيدي.
لهذه الأسباب كانت دراسة المنطق الاستقرائي تفضي إلى نظرية الاحتمالات. فمقدمات الاستدلال الاستقرائي تجعل نتائجه احتمالية، لا يقينية، ولا بد أن نتصور الاستدلال الاستقرائي على أنه عملية تدخل في إطار حساب الاحتمالات. والواقع أن هذه الاعتبارات، مقترنة بالتطور الذي حول القوانين العلية إلى قوانين احتمالية، توضح السبب في الأهمية القصوى لتحليل الاحتمال في فهم العلم الحديث؛ ذلك لأن نظرية الاحتمال تمدنا بأداة المعرفة التنبئية، فضلا عن صورة القوانين الطبيعية، وموضوعها هو عصب المنهج العلمي ذاته.
ناپیژندل شوی مخ