والحق أن قصة نيوتن من أروع أمثلة المنهج العلمي الحديث؛ فمعطيات الملاحظة هي نقطة بدء المنهج العلمي، غير أنها لا تستنفد هذا المنهج، وإنما يكملها التفسير الرياضي، الذي يتجاوز بكثير نطاق إقرار ما لوحظ بالفعل، ثم تطبق على التفسير نتائج رياضية تظهر صراحة نتائج معينة توجد فيه بصورة ضمنية، وتختبر هذه النتائج الضمنية بملاحظات. هذه الملاحظات هي التي تترك لها مهمة الإجابة ب «نعم» أو «لا»، ويظل المنهج إلى هذا الحد تجريبيا، غير أن ما تؤكد الملاحظات صحته يزيد كثيرا على ما تقوله مباشرة؛ فهي تثبت تفسيرا رياضيا مجردا؛ أي نظرية يمكن استنباط الوقائع الملاحظة منها بطريقة رياضية. لقد كان لدى نيوتن من الشجاعة ما يجعله يغامر بتفسير مجرد، ولكن كان لديه أيضا من الفطنة ما يجعله يمتنع عن تصديقه قبل أن يؤيده اختبار قائم على الملاحظة.
ولقد مرت نظرية نيوتن بتطورات تالية امتدت أكثر من قرنين من الزمان، وكانت كلها تنطوي على تأكيد متجدد لهذه النظرية؛ فعن طريق تجربة بارعة ابتدعها كافندش
Cavendish
أمكن اختبار قوة الجاذبية الصادرة عن كرة من الرصاص لا يزيد قطرها عن قدم، ثم أمكن فيما بعد حساب انحرافات الكواكب في مداراتها، وهي الانحرافات التي تسببها قوى الجاذبية المتبادلة، كما أمكن تحقيق هذه الحسابات بأساليب أكثر دقة في الملاحظة. وأخيرا تنبأ الرياضي الفرنسي «لوفرييه
Leverrier » (وكذلك الفلكي الإنجليزي آدامز
Adams
على نحو مستقل عنه) بوجود كوكب كان مجهولا حتى ذلك الحين، هو الكوكب نبتون، وذلك على أساس حسابات اتضح منها أن الانحرافات الملاحظة في بعض الكواكب لا بد أن تكون راجعة إلى هذا الكوكب الجديد. وعندما وجه الفلكي الألماني «جاله
Galle » منظاره إلى تلك المنطقة في السماء الحالكة، التي كان لوفرييه قد حسبها، رأى بقعة يتغير موقعها تغيرا بسيطا من ليلة إلى أخرى، وهكذا اكتشف الكوكب نبتون (1846م).
والواقع أن المنهج الرياضي هو الذي أكسب الفيزياء الحديثة قدرتها التنبئية، وعلى كل من يتحدث عن العلم التجريبي أن يذكر أن الملاحظة والتجربة لم يتمكنا من بناء العلم الحديث إلا لأنهما اقترنا بالاستنباط الرياضي؛ فالفيزياء عند نيوتن تختلف اختلافا كبيرا عن صورة العلم الاستقرائي التي رسمها فرانسس بيكن قبل جيلين من عهد نيوتن؛ إذ إن أي عالم لم يكن ليستطيع لو اقتصر على جمع الوقائع الملاحظة، كما يتمثل في قوائم بيكن، أن يكتشف قانون الجاذبية؛ فالاستنباط الرياضي مقترنا بالملاحظة هو الأداة التي تعلل نجاح العلم الحديث.
ولقد كان أوضح تعبير عن تطبيق المنهج الرياضي هو مفهوم السببية كما تطور نتيجة للفيزياء الكلاسيكية؛ أي لفيزياء نيوتن. فلما كان من الممكن التعبير عن القوانين الفيزيائية في صورة معادلات رياضية، فقد بدا كأن من الممكن تحويل الضرورة الفيزيائية إلى ضرورة رياضية. فلنتأمل مثلا القانون القائل إن حركات المد تتبع موقع القمر، بحيث يتجه جزء من المحيط صوب القمر، ويتجه الجزء الآخر في الاتجاه المضاد، على حين أن الأرض تدور تحت هذا الجزء، وتجعله ينزلق فوق سطحه. هذه واقعة ملاحظة، وعن طريق تفسير نيوتن يتضح أن هذه الواقعة نتيجة لقانون رياضي، هو قانون الجاذبية؛ وبذلك ينتقل يقين القانون الرياضي إلى الظواهر الفيزيائية. وهكذا فإن عبارة جاليليو التي يقول فيها إن قانون الطبيعة مكتوب بلغة رياضية، هذه العبارة قد أثبتت صحتها خلال القرون التالية، إلى حد يتجاوز كل ما كان يمكن أن يتخيله جاليليو ذاته. فقوانين الطبيعة لها تركيب القوانين الرياضية وضرورتها وشمولها، تلك هي النتيجة التي يؤدي إليها علم فيزيائي يتنبأ بوجود كوكب جديد بقدر من الدقة يكفي المرء معه أن يوجه منظاره نحوه لكي يراه.
ناپیژندل شوی مخ