234

فصل في العناية وبيان دخول الشر في القضاء الإلهي

وخليق بنا إذ بلغنا هذا الموضع أن نحقق القول في العناية ولا نشك أنه قد اتضح لك فيما سلف منا بيانه أن العلل العالية لا يجوز أن تعمل ما تعمل من العناية لأجلنا. أو تكون بالجملة يهمها شيء ويدعوها داع ويعرض عليها إيثار ولا لك سبيل إلى أن تنكر الآثار العجيبة في تكون العالم وأجزاء السماويات وأجزاء النبات والحيوان مما لا يصدر اتفاقا بل يقتضي تدبيرا ما فيجب أن تعلم أن العناية هي كون الأول عالما لذاته بما عليه الوجود من نظام الخير وعلة لذاته للخير والكمال بحسب الإمكان وراضيا به على النحو المذكور فيعقل نظام الخير على الوجه الأبلغ في الإمكان فيفيض عنه ما يعقل نظاما ما وخيرا على الوجه الأبلغ الذي يعقله فيضانا على أتم تأدية إلى النظام بحسب الإمكان - فهذا هو معنى العناية - واعلم أن الشر على وجوه فيقال شر للنقص الذي هو مثل الجهل والضعف والتشويه في الخلقة. ويقال شر لما هو مثل الألم والغم الذي يكون هناك إدراكا ما لسبب لا فقد شيء فقط فإن السبب المنافي للخير المانع للخير والموجب لعدمه ربام كان لا يدركه المضرور كالسحاب إذا ظلل فمنع شروق الشمس عن المحتاج إلى أن يستكمل بالشمس فإن كل هذا المحتاج دراكا أدرك أنه غير منتفع ولم يدرك ذلك من حيث أن السحاب قد حال بل من حيث هو مبصر وليس هو من حيث هو مبصر متأذيا بذلك متضررا أو منتقصا بل من حيث هو شيء آخر: وربما كان مواصلا يدركه مدرك عدم السلامة كمن يتألم بفقدان اتصال عضو بحرارة ممزقة فإنه من حيث يدرك فقدان الاتصال بقوة في نفس ذلك العضو يدرك المؤذي الحار أيضا. فيكون قد اجتمع هناك إدراكان إدراك على نحو ما سلف من إدراكنا الأمور العدمية. وإدراك على نحو ما سلف من إدراكنا الأشياء الوجودية: وهذا المدرك الوجودي ليس شرا في نفسه بل شرا بالقياس إلى هذا الشيء - وأما عدم كماله وسلامته فليس شرا بالقياس إليه فقط حتى يكون له وجود ليس هو به شرا إذ ليس نفس وجوده شرا فيه وعلى نحو كونه شرا فإن العمى لا يجوز أن يكون إلا في العين ومن حيث هو في العين لا يجوز أن يكون إلا شرا وليس له جهة أخرى يكون بها غير شر وأما الحرارة مثلا إذا صارت شرا إلى المتألم بها فلها جهة أخرى تكون بها غير شر والشر بالذات هو العدم ولا كل عدم بل عدم مقتضى طباع الشيء من الكمالات الثابتة لنوعه وطبيعته. والشر بالعرض هو

مخ ۲۳۴