المطلب الثاني عشر في إبطال الكسب اعلم أن أبا الحسن الأشعري وأتباعه لما لزمتهم هذه الأمور الشنيعة والإلزامات الفظيعة والأقوال الهائلة من إنكار ما علم بالضرورة ثبوته وهو الفرق بين الحركات الاختيارية والحركات الجمادية وما شابه ذلك التجأ إلى ارتكاب قول توهم هو وأتباعه الخلاص من هذه الشناعات ولات حين مناص فقال مذهبا غريبا عجيبا لزمه بسببه نهج الحق ص : 126إنكار العلوم الضرورية كما هو دأبه وعادته فيما تقدم من إنكار الضروريات فذهب إلى إثبات الكسب للعبد فقال الله تعالى موجد للفعل والعبد مكتسب له. فإذ طولب بتحقيق الكسب وما هو وأي وجه يقضيه وأي حاجة تدعو إليه اضطرب أصحابه في الجواب عنه. فقال بعضهم معنى الكسب خلق الله تعالى الفعل عقيب اختيار العبد الفعل وعدمه عقيب اختيار العدم فمعنى الكسب إجراء العادة بخلق الله الفعل عند اختيار العبد. وقال بعضهم معنى الكسب أن الله تعالى يخلق الفعل من غير أن يكون للعبد فيه أثر البتة لكن العبد يؤثر في وصف كون الفعل طاعة أو معصية فأصل الفعل من الله تعالى ووصف كونه طاعة أو معصية من العبد. وقال بعضهم إن هذا الكسب غير معلوم ولا معقول مع أنه صادر عن العبد. وهذه الأجوبة فاسدة أما الأول فلأن الاختيار والإرادة من جملة الأفعال فإذا جاز صدورهما عن العبد فليجز صدور أصل الفعل عنه وأي فرق بينهما وأي حاجة وضرورة إلى التمحل بهذا وهو أن ينسب القبائح بأسرها إلى الله تعالى وأن ينسب الله تعالى إلى الظلم والجور والعدوان وغير ذلك وليس بمعلوم. نهج الحق ص : 127و أيا دليلهم آت في نفس هذا الاختيار فإن كان صحيحا امتنع إسناده إلى العبد وكان صادرا عن الله تعالى وإن لم يكن صحيحا امتنع الاحتجاج به. وأيضا إذا كان الاختيار الصادر عن العبد موجبا لوقوع الفعل كان الفعل مستندا إلى فاعل الاختيار إما العبد أو الله تعالى فلا وجه للمخلص بهذه الواسطة. وإن لم يكن موجبا لم يبق فرق بين الاختبار و الأكل مثلا في نسبتهما إلى إيقاع الفعل وعدمه فيكون الفعل من الله تعالى لا غير من غير شركة للعبد فيه. وأيضا العادة غير واجبة الاستمرار فجاز أن يوجد الاختيار ولا يخلق الله تعالى عقيبه ويخلق الله تعالى الفعل ابتداء من غير تقدم اختيار فحينئذ ينتفي المخلص بهذا العذر. وأما الثاني فلأن كون الفعل طاعة أو معصية إما أن يكون نفس الفعل في الخارج أو أمرا زائدا عليه فإن كان الأول كان أيضا من الله تعالى فلا يصدر عن العبد شي ء فيبطل العذر. وإن كان الثاي كان العبد مستقلا بفعل هذا الزائد وإذا جاز إسناد هذا الفعل فليجز إسناد أصل الفعل وأي ضرورة للتمحل بمثل هذه المحاذير الفاسدة التي لا تنهض بالاعتذار وأي فارق بين الفعلين ولم يكن أحدهما صادرا عن الله تعالى والآخر صادرا عن العبد. وأيضا دليلهم آت في هذا الوصف فإن كان حقا عندهم امتنع استناد هذا الوصف إلى العبد وإن كان باطلا امتنع الاحتجاج به. وأيضا كون الفعل طاعة هو كون الفعل موافقا لأمر الشريعة وكونه موافقا لأمر الشريعة إنما هو شي ء يرجع إلى ذات الفعل إن طابق الأمر نهج الحق ص : 128كان طاعة وإلا فلا وحينئذ لا يكون الفعل مستندا إلى العبد لا في ذاته ولا في شي ء من صفاته فينتفي هذا العذر أيضا كما انتفى عذرهم الأول. وأيضا الطاعة حسنة والمعصية قبيحة ولهذا ذم الله تعالى إبليس وفرعون على مخالفتهما أمر الله وكل فعلفعله الله تعالى فهو حسن عندهم إذ لا معنى للحسن عندهم سوى صدوره من الله فلو كان أصل الفعل صادرا من الله امتنع وصفه بالقبح وكان موصوفا بالحسن فالمعصية التي تصدر من العبد إذا كانت صادرة من الله امتنع وصفها بالقبح فلا تكون معصية فلا يستحق فاعلها الذم والعقاب فلا يحسن من الله تعالى ذم إبليس وأبي لهب وغيرهما حيث لم يصدر عنهم قبيح ولا معصية فلا تتحقق معصية من العبد البتة. وأيضا المعصية قد نهى الله تعالى عنها إجماعا و القرآن مملوء من المناهي والتوعد عليها وكل ما نهى الله تعالى عنه فهو قبيح إذ لا معنى للقبيح عندهم إلا ما نهى الله عنه مع أنها قد صدرت عن إبليس وفرعون وغيرهما من البشر وكل ما صدر من العبد فهو مستند إلى الله تعالى والفاعل له هو الله تعالى لا غير عندهم فيكون حسنا حينئذ وقد فرضناه قبيحا وهذا خلف. وأما الثالث فهو باطل بالضرورة إذ إثبات ما لا يعقل غير معقول وكفاهم عن الاعتذار الفاسد اعتذارهم بما لا يعلمون وهل يجوز للعاقل المنصف من نفسه المصير إلى هذه الجهالات والدخول في هذه الظلمات والإعراض عن الحق الواضح والدليل اللائح والمصير إلى ما لا يفهمه القائل ولا السامع ولا يدري هل يدفع عنهم ما التزموا به أو لا فإن هذا الدفع وصف من صفاته والوصف إنما يعلم بعد العلم بالذات فإذا لم يفهموه كيف يجوز لهم الاعتذار به. نهج الحق ص : 129فلينظر العاقل في نفسه قبل دخوله في رمسه ولا يبقى للقول مجال ولا يمكن الاعتذار بها المحال
مخ ۷۸